إن القيام بهذا صعب في البداية في واقع الأمر. ففي حياتنا اليومية، تهيمن على عالمنا الذهني الحالات الموجهة بالأهداف سواء أكانت في شكل تجارب حسية أو في شكل أفكار وذكريات. نادرا ما نختبر حالة لا ترتبط بمحتوى محدد وتنتمي إلى حالة الوعي الطبيعية للعقل فحسب. ولذا، عندما تنخرط في البداية في هذا التأمل، ستجد أن عقلك ينجرف، وتجد الأفكار والصور تتدفق عبر وعيك المدرك، أو تجد أن ثمة ذكرى تنبثق من دون سبب واضح. عندما يحدث هذا، لا تنهمك في طاقة هذه الأفكار والصور بمحاولة قمعها أو تعزيزها. فقط راقبها ودعها تمر كأنها غيوم تظهر في السماء ثم تتوارى عن البصر، أو فقاعات تتكون في المياه وتتلاشى مرة أخرى. بمرور الوقت، ستبدأ في إدراك ومضات من الحالة الأساسية للوعي في عقلك، أو لما يمكن تسميته «إشراقة مجردة». وبينما تتقدم على هذا الطريق، ستشعر بين الحين والآخر في فترات قصيرة بما يشبه الغياب أو الفراغ لا يكون لعقلك فيها محتوى معين. وستكون نجاحاتك الأولى في هذا سريعة الزوال. ولكن مع المثابرة على مدى فترة طويلة، يمكن لما بدأ ومضة فحسب أن يزيد تدريجيا، ويمكنك أن تبدأ في فهم أن العقل مثل المرآة، أو الماء الصافي، حيث تظهر الصور وتختفي دون التأثير على الوسط الذي تظهر فيه.
من الفوائد المهمة لهذه الممارسة تلك المهارة التي تكتسبها؛ إذ تصبح قادرا على ملاحظة أفكارك دون الانهماك فيها. سوف تتعلم رؤية أفكارك على حقيقتها بصفتها بنى افتراضية في عقلك، وكأنك متفرج منفصل عنها. إن الكثير من مشكلاتنا ينشأ لأننا، في حالتنا البسيطة غير المدربة، نخلط بين أفكارنا وبين الواقع الفعلي. إننا نتمسك بمحتوى أفكارنا كما لو كانت حقيقية ونبني إدراكنا للواقع بالكامل واستجابتنا له بناء عليها. ونحن إذ نقوم بذلك نربط أنفسنا بقوة بعالم هو في الأساس من ابتكارنا الخاص ونصبح محاصرين فيه، كقطعة حبل تشابكت وصارت مليئة بالعقد. (7-3) التدريب على الرأفة والحنان الناشئ عن الحب
تتمثل إحدى الفئات الأخرى من الممارسات المفيدة للغاية في تنمية الصفات الذهنية الإيجابية، مثل الرأفة والحنان الناشئ عن الحب. وهذه الأنواع من التمارين تستخدم عمليات التفكير المتعمد. مرة أخرى، نبدأ بتمرين تنفس أولي لإراحة العقل وتهدئته. ولا نبدأ في الممارسة الفعلية إلا بعد هذا التحضير.
تفيد هذه التمارين أيضا بصورة خاصة في المواقف التي تجد فيها صعوبة بشأن توجهك أو مشاعرك تجاه شخص يمثل لك بعض المشكلات. أولا، استحضر هذا الشخص في ذهنك، واستدع له صورة حية حتى تكاد أن تشعر بوجوده. بعد ذلك، ابدأ في تأمل حقيقة أنه هو أيضا لديه آمال وأحلام، وأنه يشعر بالسعادة عندما تسير الأمور على ما يرام، وبالحزن عندما لا يحدث ذلك. في هذا السياق، لا يختلف هذا الشخص الآخر عنك مثقال ذرة. إنه مثلك تماما، يرغب في تحقيق السعادة ولا يريد أن يشعر بالمعاناة.
بعد إدراك هذا المسعى الأساسي المشترك بينكما، حاول أن تشعر بالتواصل مع الشخص وتنمي الرغبة في أن يحقق السعادة. قد يكون من المفيد أن تردد رغبتك بالكلمات في صمت، بأن تقول شيئا مثل «أتمنى ألا تتجرع شيئا من المعاناة وأسبابها. أتمنى أن تنعم بالسعادة والسلام.» بعد ذلك، استقر بعقلك في هذه الحالة من الرأفة. من بين نوعي ممارسة التنمية العقلية المذكورتين سابقا؛ الاستطرادية والاستيعابية، فإن هذه الطريقة في تنمية الرأفة تتضمن في المقام الأول عملية استطرادية، لكن من الجيد أيضا أن نستقر بالعقل بين الحين والآخر في حالة من الاستيعاب، وذلك شبيه إلى حد ما بإيضاح نقطة حاسمة في سياق نقاش ما.
ونظرا لأنني ناقشت موضوع الرأفة بالفعل بشيء من التفصيل، فلن أناقشه هنا مجددا. ذلك أن الكثير من النقاط الموضحة سابقا يمكن إدخالها في عملية التنمية المتعمدة للرأفة. وهذا الجمع بين الطرق؛ أي بين التدريب العقلي الاستطرادي والتدريب العقلي الاستيعابي، مفيد بالقدر نفسه أيضا في تنمية الصفات الداخلية الأخرى، مثل الصبر أو التحمل. (7-4) تنمية الاتزان
عند الإشارة إلى حالة الاتزان، من المهم ألا نخلط بينها وبين اللامبالاة. إنما يمثل الاتزان حالة ذهنية يتمكن المرء فيها من تفهم الآخرين وتقديرهم على نحو خال من التحيز المتجذر في المشاعر المؤذية المتمثلة في فرط الانجذاب أو النفور.
تتخذ ممارسة الاتزان شكلين أساسيين. يمكن تشبيه أحدهما بتسوية تربة الحديقة كي تنمو الأزهار التي نزرعها متساوية وبصحة جيدة. يتمثل هدف هذا الشكل من الممارسة في كبح نزعتنا المعتادة لتحديد تفاعلاتنا مع الآخرين بناء على فئات ذات مرجعية ذاتية، مثل الأصدقاء والأعداء والغرباء. أما الممارسة الثانية، فتعنى بتطوير إدراك حدسي، إن جاز التعبير، للمساواة الأساسية بين الذات والآخرين بصفتهم بشرا يطمحون إلى تحقيق السعادة ويرغبون في تجنب المعاناة.
في أولى هاتين الممارستين، نستخدم عمليات التفكير الاستطرادي. فعلى الرغم من أنه من الطبيعي أن نشعر بالقرب من أحبائنا، وبالمشاعر السلبية تجاه أولئك الذين يتمنون لنا الأذى، وباللامبالاة تجاه الغرباء، غالبا ما نفتعل المشكلات والمعاناة غير الضرورية، لأنفسنا وللآخرين، من خلال التشبث المفرط بهذه الفئات لأسباب ذاتية فحسب. ومثلما ناقشنا سابقا، هذا هو أساس نزعتنا لفهم الآخرين من منطلق «نحن» و«هم». ولهذا فإن تنمية الاتزان فيما يتعلق بالآخرين مفيد للغاية، لا سيما كوسيلة لمساعدتنا على أن نعيش حياة أخلاقية.
للقيام بهذا، مرة أخرى تبدأ بالاسترخاء وتهدئة العقل من خلال تمرين التنفس ثم تواصل على النحو التالي. استحضر صورة ذهنية لمجموعة صغيرة من الأشخاص الذين تحبهم، مثل أصدقائك المقربين وأقاربك. تخيل هذه الصورة بأكبر قدر ممكن من التفاصيل وبأكبر درجة تقارب الحقيقة. بعد ذلك تخيل بجانبها صورة لمجموعة من الأشخاص الذين تشعر تجاههم باللامبالاة، مثل الأشخاص الذين تراهم في العمل أو التسوق بالخارج لكنك لا تعرفهم جيدا. ومرة أخرى، حاول أن تجعل هذه الصورة على أكبر درجة ممكنة من الواقعية والتفصيل. وأخيرا، استحضر صورة ثالثة ستكون هذه المرة لمجموعة من الأشخاص الذين لا تحبهم، أو الذين تكون في صراع معهم، أو الذين تختلف مع آرائهم بشدة، ومرة أخرى تخيلها بأكبر قدر ممكن من الوضوح والتفصيل.
Unknown page