إن فكرة الأخلاق في حد ذاتها تصبح غير منطقية تماما، بدون تضمين الدافع. إذا اصطدم رأسنا بشجرة، فهل نلوم الشجرة؟ بالطبع لن نفعل ذلك! إن فكرة المسئولية الأخلاقية تستلزم وجود دافع داخلي. ومن ثم، فإن وصف الأخلاق دون الرجوع إلى مستوى الدافع يبدو غير مكتمل على الإطلاق من وجهة نظري.
حقيقة الأمر أن بعد التحفيز الداخلي هو أهم جانب من جوانب الأخلاق. ذلك أنه حين يكون دافعنا نقيا؛ أي موجها بصدق إلى منفعة الآخرين، فإن أفعالنا ستميل بطبيعة الحال إلى أن تكون سليمة أخلاقيا. ولهذا السبب أرى أن الرأفة هي المبدأ الأساسي الذي يمكن أن يبنى عليه نهج أخلاقي كامل. فانطلاقا من الاهتمام القائم على الرأفة بصالح الآخرين، تنشأ جميع قيمنا ومبادئنا الأخلاقية، بما في ذلك العدالة.
الفصل السادس
أهمية الفطنة
لم أزل أؤكد حتى الآن أهمية الرأفة: دافع الاهتمام الحقيقي بصالح الآخرين، باعتبارها أساس الأخلاق والرفاهية الروحية وحتى أساس فهم العدالة. ومن خلال الاعتراف بإنسانيتنا المشتركة وطبيعتنا البيولوجية ككائنات تعتمد سعادتها على الآخرين، نتعلم أن نفتح قلوبنا، وبذلك نكتسب إحساسا بالغاية والاتصال بمن حولنا. وقد أشرت أيضا إلى أن الرأفة الشاملة وغير المنحازة هي الأرضية التي تنبثق منها جميع القيم الداخلية الإيجابية، مثل الصبر والطيبة والعفو والانضباط الذاتي والقناعة وما إلى ذلك.
بالرغم من هذا، ففي حين أن دافع الرأفة السليم هو أساس الأخلاق والروحانية، فثمة عامل جوهري آخر إذا أردنا تحقيق نظام متوازن وعالمي بالفعل للأخلاق. فمع أن النية هي العامل الأول والأكثر أهمية لضمان أن سلوكنا أخلاقي، فنحن نحتاج أيضا إلى «الفطنة» للتأكد من واقعية خياراتنا وأن نياتنا الحسنة لن تذهب سدى.
على سبيل المثال، إذا أدخل السياسيون بلادهم في حرب دون اعتبار كامل للعواقب المحتملة، فحتى إذا كان دافعهم في ذلك يستند بصدق إلى الرأفة، فسوف تكون النتيجة كارثية على الأرجح. المطلوب إذن، إضافة إلى حسن النية، هو استخدام قدرتنا النقدية المتمثلة في الفطنة. ذلك أن ممارسة هذه الملكة، التي تمكننا من فهم المواقف بطريقة تتوافق مع الواقع، تسمح لنا بترجمة نياتنا الحسنة إلى نتائج جيدة.
تؤدي الفطنة أيضا دورا حاسما في تكوين المستوى الشخصي للوعي الأخلاقي. فاستخدام ذكائنا هو الطريقة التي نصل بها إلى الفهم، والفهم هو أساس الوعي. إذن فالوعي الأخلاقي؛ أي الوعي بما سيفيد المرء نفسه والآخرين، لا ينشأ فجأة بطريقة سحرية، بل يأتي من استخدام المنطق. ومن هذا الجانب، فإن تعليم الوعي الأخلاقي لا يختلف عن أي نوع آخر من التعليم. (1) إرساء القيم الداخلية
جميع أفعالنا لها عواقبها، التي يكون لها حتما تأثير على كل من أنفسنا والآخرين. ولأننا نحتاج في حياتنا اليومية على الدوام إلى اتخاذ قرارات صغيرة تتسم بهذا البعد الأخلاقي، فمن المفيد للغاية أن تكون لدينا قواعد أخلاقية أساسية، أو مبادئ توجيهية يمكن الرجوع إليها. فحتى اختيار المنتجات التي نشتريها أو نوعية الطعام الذي نأكله يستلزم قدرا من الفطنة الأخلاقية. وفي معظم الأحيان لا تتاح لنا الفرصة ونحن نتخذ هذه الخيارات، للتفكير في جميع الاختيارات المتاحة والنظر في جميع النتائج المحتملة على أساس كل حالة على حدة. الحق أننا إذا كنا سنفكر بعمق في كل خيار أخلاقي نواجهه، فلا أعتقد أنه سيتبقى لدينا الكثير من الوقت لفعل شيء آخر. ولهذا؛ فسيكون من المفيد أن تكون لدينا قواعد داخلية عامة لتوجيه أفعالنا كي تساعدنا في تلك المناسبات التي لا يتسع الوقت لدينا لتفنيد الأمور بالتفصيل.
الأديان الرئيسية في العالم جميعها غنية بمثل هذه المبادئ التوجيهية، وعندما تغرس هذه القواعد في سن مبكرة، فإنها تصبح جزءا من نظام القيم الداخلية للشخص. على سبيل المثال، في المجتمع التبتي التقليدي، كان المبدأ البوذي المتمثل في تفادي إلحاق الضرر بالحيوانات قيمة اكتسبها الناس من البيئة الثقافية. فقد تعلم الأطفال منذ الصغر أن يتجنبوا القتل حتى قتل الحشرات؛ ومن ثم أصبح هذا التجنب داخليا وتلقائيا. وإذا داسوا بالخطأ على حشرة، يقولون: «أخا، نينجي» (آه، يا له من أمر مثير للشفقة!). لقد عرفت التبت في الماضي تشريعات تحظر بالفعل الصيد البري وصيد الأسماك، إلا في بعض المناطق القليلة حيث تعتمد معيشة السكان على هذه الأنشطة. كان هناك أيضا المزيد من القوانين الخاصة بحماية الحياة البرية، مثل اللوائح المتعلقة بالطيور المهاجرة التي تعشش حول ماناساروفار وغيرها من البحيرات. وكان الحراس الموظفون يضمنون عدم المساس ببيضها. إن هذه اللوائح من أمثلة الإجراءات التي تساعد بها الثقافة السائدة في تشكيل الأولويات الأخلاقية للأشخاص.
Unknown page