Ma Hayat
ما الحياة؟: الجانب الفيزيائي للخلية الحية
Genres
باختصار، نحن شاهدون على حدث النظام القائم فيه لديه القدرة على الحفاظ على نفسه وإنتاج أحداث منظمة. وهذا يبدو معقولا على نحو كاف، على الرغم من أننا في إدراكنا لمعقوليته نستند بلا شك إلى خبرة خاصة بالتنظيم الاجتماعي، وأحداث أخرى تتضمن نشاط الكائنات الحية. وهكذا، قد يبدو أن هناك شيئا يشبه الدائرة المفرغة متضمنا في الأمر. (3) تلخيص الوضع الفيزيائي
أيا كان هذا الوضع، فالنقطة التي أود أن أؤكد عليها أكثر من مرة هي أن الحالة الراهنة بالنسبة للفيزيائي ليست فقط غير مفهومة لكن أيضا مثيرة للغاية؛ لأنها غير مسبوقة. فعلى عكس الاعتقاد السائد، فالمسار المنتظم للأحداث المحكوم بقوانين الفيزياء ليس أبدا نتاج تكوين واحد جيد التنظيم من الذرات؛ إذ لا يمكن أن يحدث هذا إلا إذا كان ذلك التكوين من الذرات يعيد نفسه عددا هائلا من المرات، كما هي الحال في البلورة المنتظمة أو كما هي الحال في السائل أو الغاز المكون من عدد هائل من الجزيئات المتماثلة.
حتى عندما يتعامل الكيميائي مع جزيء شديد التعقيد في المختبر، فإنه دائما يواجه بعدد هائل من الجزيئات المتشابهة التي تنطبق قوانينه عليها. من الممكن أن يخبرك، على سبيل المثال، أن نصف هذه الجزيئات قد تفاعلت بعد دقيقة من بدء تفاعل ما معين، وأن ثلاثة أرباعها قد تفاعلت بعد مضي دقيقة أخرى. لكنه لن يستطيع أن يتنبأ ما إذا كان أي جزيء محدد - بفرض استطاعتك تتبع مساره - سيكون ضمن الجزيئات التي ستتفاعل أم تلك التي لن تتفاعل أبدا. فهذا الأمر تحكمه الصدفة الخالصة.
هذا ليس بتخمين نظري خالص. وهو لا يعني أننا لا نستطيع أبدا أن نرصد مصير مجموعة صغيرة منفردة من الذرات أو حتى ذرة واحدة، فنحن نستطيع ذلك أحيانا. لكن كلما فعلنا وجدنا عدم انتظام كامل، يتعاون كي ينتج انتظاما، فقط في المتوسط. تعاملنا مع مثال على ذلك في الفصل الأول. إن الحركة البراونية لجسيم صغير عالق في سائل تكون غير منتظمة تماما. لكن لو أن هناك عددا كبيرا من الجسيمات المتماثلة، فإنها من خلال حركتهما غير المنتظمة ينبثق عنها ظاهرة الانتشار المعتادة.
يمكن ملاحظة انحلال ذرة مشعة منفردة (إذ تبعث مقذوفا يسبب وميضا مرئيا على شاشة فلورية ). لكن إذا ما أعطيت ذرة مشعة، فإن عمرها المحتمل سيكون أقل تأكيدا بكثير من ذلك الذي لعصفور دوري صغير بصحة جيدة. في حقيقة الأمر، لا شيء يمكن أن يقال عن ذلك أكثر من هذا: ما دام عمرها ممتدا (وذلك من الممكن أن يكون لآلاف الأعوام)، ففرصة انفجارها خلال الثانية القادمة، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، تبقى هي نفسها. لكن هذا الغياب الواضح للتحديد الفردي ينتج عنه القانون الأسي المنضبط لتحلل عدد ضخم من الذرات المشعة التي من النوع نفسه. (4) التباين الشاسع
في علم الأحياء، يواجهنا وضع مغاير تماما؛ إذ تنتج مجموعة مفردة من الذرات موجودة في نسخة واحدة فقط أحداثا منظمة، تنضبط على نحو رائع مع بعضها ومع البيئة طبقا لقوانين غاية في الإتقان. لقد قلت الموجودة في نسخة واحدة فقط؛ إذ إننا في النهاية لدينا مثال البيضة والكائن الوحيد الخلية. في المراحل التالية للكائن الأعلى، تتضاعف النسخ. هذا صحيح، ولكن لأي مدى؟ ما يقارب 10
14
في أي من الثدييات البالغة. أنا أدرك ذلك. لكن كم يساوي هذا؟ فقط واحد على مليون من عدد الجزيئات في البوصة المكعبة الواحدة من الهواء. وبالرغم من أن عدد تلك النسخ ضخم نسبيا، فإنها بالتحامهما معا لن تكون إلا مجرد قطرة صغيرة جدا من سائل. انظر إلى الطريقة التي ستتوزع بها فعليا. إن كل خلية تأوي واحدة منها فقط (أو اثنتان، إن أخذت في اعتبارك الخلايا الثنائية الصيغة الكروموسومية). وحيث إننا نعرف السلطة التي لهذا المكتب المركزي الصغير جدا على الخلية، أفلا تشبه تلك النسخ مراكز الحكم المحلي المتناثرة في كل أنحاء الجسم، والتي تكون على اتصال مع بعضها في سهولة عظيمة، بفضل الشفرة المشتركة بينها جميعا؟
رائع، هذا توصيف بديع، يناسب شاعرا أكثر منه عالما. على أي حال، الأمر لا يحتاج إلى خيال شعري، لكن فقط إلى تأمل علمي واضح ورزين؛ لندرك أننا هنا في مواجهة واضحة مع أحداث تتجلى على نحو منظم ومنضبط، وتوجهها في ذلك «آلية» مختلفة تماما عن «آلية الاحتمالات» الخاصة بالفيزياء. الأمر كله يكمن ببساطة في ملاحظة أن المبدأ الموجه في كل خلية يتمثل في تجمع ذري مفرد يوجد فقط في نسخة واحدة (أو اثنتين أحيانا)، وأنه من الممكن أن ينتج أحداثا تعد نموذجا مثاليا للتنظيم. وسواء كنا نرى قدرة مجموعة صغيرة لكن عالية التنظيم من الذرات على التصرف وفق ذلك الأسلوب أمرا مدهشا أو معقولا إلى حد كبير، فإن هذا الوضع غير مسبوق، وهو غير معروف في أي مكان آخر بخلاف المادة الحية. فالفيزيائي والكيميائي الباحثان في شأن المواد غير الحية لم يشهدا أبدا ظواهر عليهما تفسيرها بهذه الطريقة. إن تلك الحالة لم تظهر؛ ومن ثم فنظريتنا لم تغطها؛ نظريتنا الإحصائية الجميلة، التي كنا معتزين جدا بها لأنها سمحت لنا بالكشف عن الخبايا، لنرى النظام الرائع للقوانين الفيزيائية المنضبطة، المنبعث من الفوضى الذرية والجزيئية، ولأنها كشفت عن أن قانون الإنتروبيا الأهم والأعم والأشمل يمكن أن يفهم دون افتراض خاص؛ فهو ليس سوى الفوضى الجزيئية نفسها. (5) طريقتان لإنتاج النظام
النظام الذي نصادفه في الحياة ينشأ من مصدر مختلف. يبدو أن هناك «آليتين» مختلفتين، بواسطتهما يمكن إنتاج الأحداث المنظمة، وهما: «الآلية الإحصائية» التي تنتج «النظام من الفوضى»، وتلك الجديدة التي تنتج «النظام من النظام». المبدأ الثاني سيبدو للعقل غير المتحيز أكثر بساطة وأكثر معقولية بكثير. وهو بلا شك كذلك. لعل ذلك هو السبب في اعتزاز الفيزيائيين الشديد بمصادفتهم للمبدأ الآخر، مبدأ «النظام من الفوضى»، المتبع فعليا في الطبيعة، الذي بمفرده يقدم فهما للخط الكبير للأحداث الطبيعية؛ لاستحالة انعكاسها في المقام الأول. لكننا لا نستطيع توقع أن تكون «قوانين الفيزياء» المشتقة منه كافية على نحو مباشر لتفسير سلوك المادة الحية، التي ملامحها الأبرز تنبني على نحو واضح إلى حد كبير على مبدأ «النظام من النظام». لن تتوقع أن آليتين مختلفتين تماما ستؤديان إلى نوع القوانين نفسه؛ فلن تتوقع أن مفتاح قفل بابك سيفتح قفل باب جارك كذلك.
Unknown page