تصدير
1 - لوثر وحركة الإصلاح الديني
2 - التحول إلى إصلاحي
3 - جهود الإصلاح
4 - إنجيل لوثر
5 - المسيحية الجديدة
6 - الإصلاح السياسي
7 - من راهب إلى رب أسرة
8 - ملائكة وشياطين
خاتمة
مراجع وقراءات إضافية
تأريخ الأحداث
مسرد للمصطلحات وتراجم مختصرة
تصدير
1 - لوثر وحركة الإصلاح الديني
2 - التحول إلى إصلاحي
3 - جهود الإصلاح
4 - إنجيل لوثر
5 - المسيحية الجديدة
6 - الإصلاح السياسي
7 - من راهب إلى رب أسرة
8 - ملائكة وشياطين
خاتمة
مراجع وقراءات إضافية
تأريخ الأحداث
مسرد للمصطلحات وتراجم مختصرة
مارتن لوثر
مارتن لوثر
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
سكوت إتش هندريكس
ترجمة
كوثر محمود محمد
مراجعة
هبة عبد العزيز غانم
إحياء لذكرى
هيلمار يونجهانس (1931-2010)
مارتن لوثر، بريشة لوكاس كراناش، 1533. (Germanisches Nationalmuseum, Nuremberg. © Interfoto/Alamy)
تصدير
في عام 2010، أشير إلى كتاب «مارتن لوثر» على موقع تويتر، الذي يعد وسيلة مثالية لنشر مقدمة بالغة القصر عن لوثر؛ لأن الموقع لا يسمح إلا بكتابة 140 حرفا فقط في التغريدة الواحدة. ويسهب هذا الكتاب قليلا في حديثه عن مارتن لوثر، لكنه مع ذلك معد ليكون مقدمة موجزة لحياة وأعمال رجل كان هو نفسه ميالا إلى الإسهاب. وعلى الرغم من إسهابه، كان مارتن لوثر كاتبا مهما ومثيرا للجدل، صنعت كلماته التاريخ، الأمر الذي كان مصدر حماسة للبعض وإحباط للبعض الآخر. لم تؤثر كلماته في أساليب الحديث باللغة الألمانية والكتابة بها فحسب، بل أثرت أيضا في ديناميات الدين والثقافة في العالم الحديث. أكد لوثر على قوة تأثير الكلمات بوجه عام، وكما يليق بعالم لاهوت، فقد أكد على فعالية الكلام المقدس، على وجه الخصوص، لكن هذا الكتاب يدور بالأساس حول كلمات لوثر نفسه وتأثيرها على العالم الأوروبي في القرن السادس عشر. وعلى هذا، فإنه ليس سيرة ذاتية أو شرحا لعقيدة لوثر، بل هو سلسلة من اللقطات التي تحاول أن تصور حياته وعلاقاته وأهدافه وأعماله وتصوراته وآراءه، وتصف إيمان ومشاعر إنسان قلما أعجزه البحث عن الكلمات، وأفصح بسبب هذا عن نفسه أكثر مما جرؤ أي شخص أن يفعل.
لا يحوي هذا الكتاب أي حواش سفلية أو تعليقات ختامية، لكن مصادر الاقتباسات وشروح ما كتبه لوثر وردت بالفعل في إصدارات محلية لكتاباته يشير إليها النص، لكنني ترجمت بعض كتاباته، ويسعدني تقديم أوراق توثيقها لدى التواصل معي عبر ناشري أو عبر موقع
وقد قمت بتبسيط تاريخ مارتن لوثر في مواضع قليلة، لأغراض المساحة والتوضيح. على سبيل المثال، لم يكن لوثر قط راهبا يعتكف الأديرة، لكنه كان عضو أخوية؛ يحيا في دور أوغسطينية في إيرفورت وفيتنبرج، دور لا تشبه الأديرة بالمعنى الدقيق، غير أنه أشار إلى نفسه كراهب، وكتب نقدا للنذور الرهبانية، ولم يفصل فصلا بينا بين الرهبان الذين يعتكفون الأديرة وأعضاء الأخويات كالأوغسطينيين والفرنسيسكانيين والدومينيكيين؛ لذا كان تلافي استخدام كلمة «راهب» وكلمة «الاعتكاف» وكلمة «دير» أمرا مصطنعا وغير ضروري.
أدين بالشكر لكل من جمعت منهم معارفي عن حركة الإصلاح الديني من أساتذة وزملاء وطلاب، لا سيما من دعوني على مر السنوات أن أنظر إليها بمنظور مختلف. كما أدين بالامتنان لمن قرءوا كتابي قبل طباعته على اقتراحاتهم، لا سيما إيما ميرشانت من مطبعة جامعة أكسفورد؛ لتشجيعها الدائم لي ونصائحها المحنكة. كذلك يسرني أن أعرب عن تقديري وشكري لساندرا كيمبال، التي وضعت فهرس هذا الكتاب وكتبي الثلاثة السابقة، فمعارفها عن القرن السادس عشر ومهارتها ودقتها جعلت هذه الكتب أكثر إفادة للقراء.
أهدي هذا الكتاب إلى ذكرى هيلمار يونجهانس، الذي أمضى سنين طوالا في منصبه كمحرر لصحيفة «لوثر يار بوخ»، وهو أستاذ تاريخ الكنائس في لايبزيج؛ إذ زودني وزود آخرين بسخاء بمعارفه التي لا تضاهى عن لوثر على مدى سنوات عديدة ملأتها الصداقة والود، وقد توفي في جولة بالدراجة قبل أسبوع واحد من انتهاء هذا الكتاب.
سكوت إتش هندريكس
عيد العنصرة 2010
المواقع التي زارها لوثر بألمانيا.
الفصل الأول
لوثر وحركة الإصلاح الديني
في الرابعة من عصر الأربعاء، الموافق 17 من أبريل عام 1521، مثل مارتن لوثر الراهب المحروم كنسيا والأستاذ الجامعي البالغ من العمر 37 عاما أمام أعيان «الإمبراطورية الرومانية المقدسة»، الذين اجتمعوا لعقد مجلسهم التشريعي، وهو مجلس مكلف ومطول يناقش الشئون المالية والعسكرية الملحة والهرطقة، كما في هذه الحالة. قبل انعقاد هذا المجلس بيوم واحد ، كان لوثر قد بلغ مدينة فورمس الألمانية على نهر الراين، بعد رحلة دامت لأسبوعين، كانت أشبه بموكب للنصر منها إلى مسيرة مهيبة شعائرية قد تفضي إلى مقتله. كان الإمبراطور شارل الخامس، الذي كان عمره آنذاك 21 عاما فقط، ولم يمض على تقلده عرش الإمبراطورية الرومانية سوى عامين، قد استدعى لوثر إلى مدينة فورمس ليعترف علنا بخطأ الكتب التي كان قد كتبها؛ الكتب التي كانت آنذاك مكدسة على الطاولة أمامه في قصر ضيافة الأسقف الفخم بجوار الكاتدرائية. وعلى الرغم من أن لوثر أمل في جلسة استماع عادلة بمدينة فورمس، فقد وجد كل العوامل ضده؛ إذ أخبره المسئول عن الجلسة أنه مسموح له بالإجابة عن سؤالين فقط، هما: هل هو مؤلف الكتب التي نشرت باسمه؟ وإن كان الجواب نعم، فهل يؤيد ما كتبه أم أنه يرغب في التراجع عن أي شيء قاله؟
قد تكون قصة مارتن لوثر مألوفة إلى هذا الحد، لا سيما إن اعتبرنا أن جوابه هو رفض إنكار ما قاله أو التراجع عنه، وأنه قال كلماته الأخيرة الشهيرة: «هأنذا أقف، ولا يسعني أن أفعل غير ذلك، فليساعدني الرب. آمين.» على مدار نصف القرن الماضي، تشكك الدارسون في أن لوثر نطق حقا بعبارة: «هأنذا أقف، ولا يسعني أن أفعل غير ذلك.» التي أوحت لرولاند باينتون بعنوان سيرة شهيرة. ومع ذلك، فتلك العبارة هي سبب شهرته بأنه بادئ «حركة الإصلاح البروتستانتي» الشجاع المقدام، وهي شهرة عززها على مدار السنين الكتاب ومنتجو الأفلام والفنانون الذين صوروا هذا المشهد، وتثبيت لوثر «الأطروحات الخمس والتسعين» على جدار الكنيسة عام 1517 كأعمال صدرت عن متمرد على السلطة ومدافع عن الحرية الفردية. غير أن ذلك التصوير مضلل؛ فلو كانت «الأطروحات» قد علقت فعلا، فقد كان لوثر يهدف فقط إلى لفت الانتباه إلى مناقشة أكاديمية، وقد طلب في مدينة فورمس مهلة يوم لصياغة رده على الأسئلة المتعلقة بكتبه، وتبين أن الرد الذي تلاه على مجلس فورمس في 18 من أبريل عام 1521 أقل حدة وأكثر تعقيدا من خطاب تقريع مضاد للسلطة. وقد أقر بأن بعض كتاباته تضمنت نقدا لخصومه أشد مما يليق براهب، لكنه أضاف أن قوانين البابوية وتعليمات الكنيسة عذبت ضمائر سواد الناس، إلى حد أنه إذا تبرأ من كتاباته، فسوف «يدعم الطغيان ويفتح ليس فقط النوافذ، بل الأبواب أيضا على مصاريعها أمام شقاء عظيم». كان لوثر أيضا منتبها إلى ما يمليه عليه ضميره الذي لجأ إليه في الاستنتاج الذي كثيرا ما يستشهد به، والذي أسماه إجابة بسيطة مطلقة: «ما لم أقتنع بأدلة من نصوص الكتب المقدسة أو حجة لا جدال فيها، فأنا مصمم على النصوص المقدسة التي استشهدت بها وبما يمليه علي ضميري الذي هو أسير لكلمة الله.»
لم يؤسس مارتن لوثر تراثا غربيا للحرية الدينية، أو يسع لتحدي بابا الكنيسة الرومانية والإمبراطور للدفاع عن المفاهيم الحديثة للديمقراطية. ومن الواضح أن لوثر لم يكن يقصد نشر أفكاره إلى هذا المدى، وما كان في وسعه ذلك، مع أن نضاله من أجل الحرية المسيحية على حد وصفه لها في عام 1520 مهد بالفعل لصراعات تالية من أجل الحرية الدينية. كما أنه لم يحطم القيود عمدا، بل أكد على أن «حركة الإصلاح الديني» لم تكن حملة مبيتة، لكن جاءت كرد فعل لكتاباته. فما إن شكك لوثر علنا في العقائد التي تعلمها والمعتقدات الدينية التي كانت سائدة تلك الأيام، شعرت السلطات الدينية - التي كانت مستفيدة من ممارسات كصكوك الغفران - بالخطر. وفي روما، فتح مستشارو البابا تحقيقا أدى إلى عزل مارتن لوثر من الكنيسة، بعدما لم يجد دليلا تاريخيا أو إنجيليا مقنعا يؤيد ادعاءاتهم بالسلطة المطلقة للبابا. قال لوثر إنه لا يوجد دليل على أن الحواري بطرس، الذي زعم البابوات أنهم خلفاؤه، قد وطئت أقدامه روما، وكلمات المسيح عن بناء كنيسته على صخرة تحمل اسم بطرس لا علاقة لها بالبابوات أو بسلطتهم، لكن اقتراحات مارتن لوثر بتغيير ممارسات المسيحية لتتفق على نحو أوثق مع الكتاب المقدس أكسبته تأييد المثقفين والعامة على حد سواء. وبحلول الوقت الذي وصل فيه لوثر إلى مدينة فورمس عام 1521، كان في طريقه إلى أن يصبح أشهر كتاب ألمانيا والقائد الناجح، بعكس أسلافه، لحركة إصلاح ديني انتشرت على مستوى العالم، وظلت باقية حتى القرن الحادي والعشرين.
اقتبس باينتون في كتابه العبارة الأخيرة من خطاب لوثر، كما سجل في محضر مجلس فورمس، حيث لا يقول لوثر إلا العبارة التالية: «فليساعدني الرب. آمين.» أما الجزء الأول من عبارته «هأنذا أقف ...» فلم يظهر إلا في الرواية اللاتينية المتعاطفة لجلسة الاستماع لأقوال لوثر، التي طبعت لأول مرة في مدينة فيتنبرج، ويمكن قراءتها في المجلد السابع من طبعة فايمار. كان رأي باينتون في الجزء الأول من العبارة كما يلي: «قد تكون كلماتها مع أنها لم تسجل على التو صادقة؛ ذلك لأن المستمعين في تلك اللحظة ربما يكونون قد تأثروا إلى حد أعجزهم عن الكتابة.» (هأنذا أقف، ص185)
بعد أن غادر لوثر وأغلب نوابه مدينة فورمس، أصدر الإمبراطور شارل الخامس مرسوما يعلن أن لوثر ومؤيديه خارجون على القانون. ولما كان الناخب فريدريك (يطلق عليه هذا اللقب؛ لأنه من الأمراء المخول لهم انتخاب الإمبراطور الروماني المقدس) المؤيد للوثر والملقب بحكيم ساكسونيا قد توقع هذا المرسوم، فقد أمر باعتراض طريق جماعة لوثر في طريق عودتهم إلى الوطن، ومكث لوثر في بقعة سرية، تبين أنها قلعة «فارتبورج» القريبة من مدينة إيزيناخ على بعد ما يزيد عن 100 ميل جنوب غرب فيتنبرج؛ البلدة الصغيرة التي أقام فيها لوثر وألقى دروسه بها. كان الأمير فريدريك يقدر الشهرة التي أكسبها لوثر لجامعته الناشئة، لكنه في ذلك التوقيت كانت تواجهه مشكلة متمثلة في النحو الذي ينبغي أن يتعامل في ضوئه مع أستاذ جامعته المحروم كنسيا والخارج عن القانون. فما إن أذيع مرسوم الإمبراطور شارل الخامس حتى أصبح الأمير وأراضيه الساكسونية معرضين للخطر، ومن ثم قرر أن يبقي لوثر بمعزل عن الناس. وفي الوقت الذي توارى فيه لوثر عن الأنظار، لم يهدر زملاؤه في فيتنبرج بقيادة آندرو كارلشتادت وقتا، بل استغلوا الرأي العام لإحداث أول تغييرات ظاهرة في العبادة والحياة الدينية حولت الأفكار إلى أفعال، غير أن هذه التغييرات أثارت القلاقل وأزعجت مجلس بلدية فيتنبرج الذي حث لوثر على العودة، وعليه غادر لوثر فارتبورج مخالفا رغبة الناخب فريدريك في مارس عام 1522 ليستأنف قيادة «جماعته» في فيتنبرج، ولم يمض وقت طويل قبل أن ينحى كارلشتادت عن منصبه، ليتولى لوثر قيادة حركة الإصلاح الديني التي غيرت الثقافة الأوروبية، وجعلته إحدى الشخصيات العامة التي لا تنسى.
على مدى أعوام، عرض على زوار مقر لوثر في قلعة فارتبورج بقعة في الحائط، اصطدمت عندها محبرة ألقاها لوثر على الشيطان. يعود تاريخ أولى القصص التي تدور حول محبرة إلى نهاية القرن السادس عشر، عندما زعم أحد طلبة فيتنبرج أنه سمع أن الشيطان، مرتديا زي راهب، قد ألقى محبرة على لوثر. وظهر أول كتاب يشير إلى بقعة الحبر على الحائط عام 1650، وفيما بعد صورت القصة التقليدية لوثر وهو يلقي المحبرة على الشيطان. وشيئا فشيئا ظهرت نقطة حبر بجميع المباني التي كان لوثر قد أقام فيها، وأضحت هذه القصة أسطورة ممتعة للكثيرين. بالمثل، ثمة قصص كاذبة تذهب إلى أن لوثر، حال مكوثه بقلعة فارتبورج، قد زاره الشيطان في صورة ذبابة تطن حول رأسه، وكلب أسود كبير يرقد في فراشه.
لم يكن مارتن لوثر كمفكر سياسي أو فلسفي أول من امتلك أفكارا عصرية، لكنه كان آخر مصلح ديني شهدته العصور الوسطى؛ لأن الإصلاحات التي أجراها نجحت، بينما عجز الآخرون عن تغيير الموقف العام داخل أوروبا. فلولا قيام «حركة الإصلاح الديني» التي فاقت شخص لوثر وأتباعه الأوائل، لظل لوثر مجرد ناقد آخر عاثر الحظ للكنيسة الرومانية في العصور الوسطى، وربما كان سيعدم شأن غيره من المصلحين المخلصين الذين خلفوا ميراثا متواضعا على أفضل تقدير. ففي مدينة فورمس، يحيي النصب التذكاري الذي يخلد ذكراه، كذلك أربعة مصلحين سابقين له تم إقصاؤهم أيضا عن الكنيسة الرومانية، أحدهم من منطقة بوهيميا، وآخر من إيطاليا، وثالث من فرنسا، ورابع من إنجلترا. ويقف نصب لوثر منتصبا في المنتصف بما أنه الوحيد الذي صمد في وجه الحرمان من الكنيسة وخطر الإعدام، ليصبح بطلا في أعين بروتستانتيي القرن التاسع عشر الذين شيدوا النصب. وستوضح إشارة بسيطة إلى السابقين لمارتن لوثر السبب الذي يجعل نجاته من الإعدام ليست سوى سبب واحد من الأسباب التي جعلته الأكثر تأثيرا من بينهم جميعا؛ فلم يطلق مصلح آخر في العصور الوسطى حركة دينية بلغت المدى الجغرافي وحظيت بالتأييد السياسي الذي استأثرت به «حركة الإصلاح الديني البروتستانتي» في القرن السادس عشر.
كان أقدم أسلاف لوثر الذي احتل اسمه ركنا من النصب التذكاري هو بيتر والدو؛ وهو تاجر ثري عاش في القرن الثاني عشر من مدينة ليون الفرنسية، وتصرف والدو بناء على وازع شاع في العصور الوسطى، فتخلى عن ثرواته وأملاكه ليحذو حذو المسيح وحوارييه الأوائل كالقديس فرنسيس الأسيزي، لكنه بعكس الأخير لم يتلق قط هو وأتباعه غير الإكليريكيين (العلمانيون) إذنا بابويا بإلقاء الدروس الدينية أو تشكيل الجماعات الدينية، ومن ثم فقد استهانوا بالسلطة الكنسية، وألقوا الدروس الدينية بدون موافقتها، مستخدمين تراجم جزئية للإنجيل باللهجات المحلية، وفي غضون وقت قصير اكتسبوا أتباعا في جنوب فرنسا وإيطاليا. وأعلن أن هؤلاء الولدينيسيين - أو مساكين ليون كما لقبوا - مهرطقين بعد أن انتقدوا بذخ الكنيسة وممارساتها؛ كالدعاء للموتى وتقديم صكوك الغفران، ونبذوا من الكنيسة في عام 1184. لكن على الرغم من هذه الوصمة نجا الولدينيسيون من محاكم التفتيش التي كانت مهمتها معاقبة الهراطقة بالهجرة إلى أجزاء أخرى من أوروبا، مختبئين في وحدات صغيرة بين جبال الألب، وبتأسيس كنيسة متواضعة. وانضم أغلب الولدينيسيين فيما بعد إلى الجناح الكالفيني من حركة الإصلاح الديني البروتستانتي، لكن هذا لم يحصنهم من النفي والاضطهاد. واندلعت مذبحة غير مبررة لأتباع الحركة الولدينيسية الإيطاليين في عام 1655، امتدح على أثرها الشاعر جون ميلتون مبادئ أتباع الحركة ومعاناتهم في سونيتته الثامنة عشرة بعنوان «سونيتة مذبحة بيدمونت الأخيرة».
ثاني من احتل اسمه أحد أركان النصب التذكاري من أسلاف لوثر هو جون ويكليف، محاضر جامعة أكسفورد (الذي توفي عام 1384). كان ويكليف، الذي عد لزمن طويل أول مترجم للإنجيل إلى الإنجليزية، أقرب إلى الفلاسفة منه إلى فقهاء الإنجيل أو الناشطين الدينيين، لكن اسمه ارتبط بثورة الفلاحين التي قامت عام 1381، وبجماعات اللولارد السرية التي نشرت تراجم غير مصرحة للكتاب المقدس لم يكتبها ويكليف بقلمه. شكك ويكليف في أحقية الكنيسة في السيطرة على أملاك المواطنين، ورأى أن القس الفاسق يفقد حقه في ممارسة مهامه ويحتمل أن يقصى عن عضوية الكنيسة بمفهومها الحقيقي؛ بمفهومها كمجتمع من المؤمنين الصالحين الذين قدر لهم الرب سلفا الخلاص. واتهم لكل هذه الأسباب ولغيرها بالهرطقة، وأدان البابا وجامعة أكسفورد ومجلس كنسي عام معتقداته. ويرجح أن ويكليف أثناء عزلته في مدينة لوتروورث في العامين الأخيرين من حياته عانى من سكتة دماغية قبل أن توافيه المنية في عام 1384، ودفن في فناء الكنيسة، لكن نبش قبره وأخرجت عظامه عام 1428، بأمر من البابا مارتن الخامس، وأحرقت وألقي رمادها في نهر السويفت.
صمدت الكثير من كتابات ويكليف بعد وفاته، ويعود هذا بالأخص إلى الشعبية التي تمتعت بها أفكاره في أوساط الدارسين التشيكيين، الذين درس بعضهم في أكسفورد ونسخوا أعماله وعادوا بها إلى مدينة براج، حيث اطلع عليها جون هس ثالث أعلام حركة الإصلاح الديني الذين تظهر أسماؤهم على نصب مدينة فورمس التذكاري. كان هس دارسا وناطقا شهيرا باسم أفكار حركة الإصلاح الديني، واختير عام 1402 رئيسا لجامعة براج، ونصب الواعظ الرئيس لكنيسة بيت لحم الممولة بتمويل خاص، والتي أسست عام 1391 لخدمة الجامعة وشعب براج. ومن منبرها هاجم هس صكوك الغفران وشراء المناصب الكهنوتية والانتهاكات الأخلاقية البابوية، ورأى - شأنه شأن ويكليف - أن الكنيسة الحقة تتألف من مجتمع من المؤمنين المختارين، وتضمنت أطروحته في هذا الصدد فقرات من كتاب ويكليف، لكن لما عارضه بقوة أساتذة الجامعة الألمان، الذين شجبوا أطروحات ويكليف الخمس والأربعين، خسر في نهاية المطاف تأييد رئيس أساقفة مدينته، وأصدر البابا مرسوما بحرمانه كنسيا (طرده من المجتمع الكنسي). وفي عام 1414 استدعي للمثول أمام مجلس عام للكنيسة في مدينة كونستانس بجنوب ألمانيا، وفشل الملك سيجسموند في حمايته كما وعد، وسجن لعام بتهمة اعتناق آراء ويكليف الهرطقية التي أدانها المجلس الكنسي، وحوكم محاكمة غير منصفة أدين على إثرها، وغض الطرف عن احتجاجاته. وبعد أن تعرض للسخرية والإذلال لكونه مهرطق، أحرق على وتد في السادس من يوليو عام 1415، ونثر رماده على نهر الراين.
غير أن هس خلف زملاء مؤيدين وحركة إصلاح حقيقية في مسقط رأسه بوهيميا؛ إذ هب أتباعه التشيكيون وقد ثارت ثائرتهم لإعدامه، وألهبت نيران سخطهم مشاعر قومية ليقفوا في مجابهة ملك تشيكوسلوفاكيا والكنيسة الرومانية، واختاروا كأس العشاء الرباني شعارا يرمز لمطالبتهم بالخمر الذي حرموا منه في قداس العشاء الرباني، والذي اقتصر تقديمه على القسيسين. وأطلق على المعتدلين من أتباع هذه الحركة «الأتراكوست» (وهو اسم مشتق من اللاتينية يعني «كلا»)؛ لأن أتباعها احتفلوا بقداس العشاء الرباني بتقديم الخبز والخمر كليهما لجميع المتناولين، واستجاب مجلس بازل عام 1431 لمطالبهم، بعد سلسلة من المعارك التي فشلت في قمع ثورتهم، وصمدت جماعتهم تحت اسم الإخوان البوهيميين، مع بقاء عدد قليل من الكاثوليكيين المخلصين للكنيسة الرومانية حتى حرب الثلاثين عاما (التي امتدت من عام 1618 إلى عام 1648). اندلعت تلك الحرب بعد أن قذف بعض البروتستانتيين الساخطين مسئولين من الكنيسة الكاثوليكية ومساعدهما من نوافذ قلعة براج، متهمين إياهم بتقويض حريتهم الدينية، وعلى الرغم من أن الرجال الثلاثة هبطوا على كومة من الروث ونجوا من الموت، قادت تلك الواقعة إلى هزيمة البروتستانتيين ونهاية حركة الإصلاح الديني الهسية.
آخر أسلاف لوثر الذين صوروا على نصب فورمس التذكاري هو جيرولامو سافونارولا (1452-1498) وهو راهب دومينيكي حرمه البابا أليكساندر السادس كنسيا، ثم أعدم بعدما ارتدت عليه محاولاته لقلب فلورنسا إلى جمهورية مسيحية ملتزمة، فبعد أن طردت القوات الفرنسية أسرة ميديشي الحاكمة من إيطاليا، ليخلفها هو كحاكم فلورنسا الفعلي، بذل مع مؤيديه قصارى جهده لقمع الخطيئة والقضاء على صور العبث بالمدينة؛ فأصدر قوانين تحرم الميسر والإسراف في الملبس للاقتصاد في الإنفاق، حتى إن نساء المدينة تدفقن على ميدانها العام سنة 1497 لإلقاء أدوات الزينة والمرايا والملابس الفاخرة والحلي الباهظة الخاصة بهن في محرقة هائلة أضرمت في الخلاء، عرفت باسم حادثة «حرق الباطل». وبرر سافونارولا هذه الإجراءات في عظات حماسية ، تستند إلى رؤى خاصة به، تنبأت بميلاد عصر روحاني جديد، بعد أن تطهر العالم من آثامه من خلال المحن الهائلة التي تعرض لها. ولما رفض سافونارولا الامتثال لأوامر استدعائه إلى روما، هدد بابا الكنيسة الرومانية بحرمان فلورنسا بأسرها من تلقي القرابين المقدسة. ونظرا لحرمان شعب فلورنسا من التأييد الفرنسي، انقلب على سافونارولا، واقتحم بعض الغوغاء دير سان ماركو وأسروه مع اثنين من مساعديه، وسلموا الثلاثة إلى السلطات المدنية، حيث خضعوا للاستجواب وعذبوا وشنقوا جميعا في 23 من مايو عام 1498 في وسط المدينة، وأحرقت جثامينهم.
كان لمصممي نصب مدينة فورمس أسباب قوية لتصوير الولدينيسيون وويكليف وهس وسافونارولا كأسلاف للوثر، فقد اشتركوا معه في الكثير من السمات؛ فكان الإنجيل هو أصل دعواهم لإصلاح الحياة الدينية، وقد أيدوا ترجمة أجزاء منه إلى اللغة العامية؛ ليتسنى لعامة الناس قراءة الكتاب المقدس بأنفسهم، وشجعوا أتباعهم على أن يجعلوا تعاليم المسيح والمسيحيين الأوائل في العهد الجديد مثلهم الأعلى، وكان الوعظ الديني أداة قوية لنشر أفكارهم، وواصلوه حتى بعد أن أثنوا عنه وحرموا كنسيا. علاوة على ذلك، فقد انتقدوا سلوك رجال الدين بالكنيسة الرومانية وتحدوا السلطات البابوية، وتمتعت حركة إصلاحهم بتسامح سياسي وتأييد جعلها تصمد لفترة في فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وبوهيميا؛ فالإصلاح من المبادئ القديمة في المسيحية، وأغلب محاولات التغيير على مر تاريخها بما في ذلك التجديدات الرهبانية اتسمت بسمة أو أكثر من تلك السمات.
ما الذي ميز لوثر إذن عن الإصلاحيين الآخرين الذين يحمل نصب فورمس أسماءهم؟ فيما يتصل بجون هس - وهو أكثر من ألم لوثر به من أسلافه في الإصلاح - فقد أجاب لوثر عن هذا السؤال أكثر من مرة؛ ففي مناظرة في مدينة لايبزيج عام 1519 اتهم رجل الدين الكاثوليكي جون إيك لوثر بأنه اعتنق ثلاثا من هرطقات هس، فكان رد الأخير هو اتهام أتباع هس بأنهم بوهيميون منشقون، غير أنه أعلن أيضا أن بعضا من تصريحات هس التي أدينت في كنيسة كونستانس؛ استمدت إلى حد كبير مصدرها من الإنجيل وتعاليم الدين المسيحي. وقد أرسل له اثنان من جماعة الأتراكوست في براج نسخة من كتاب هس عن الكنيسة في وقت لاحق من هذا العام، والراجح أنه قرأ الكتاب قراءة سريعة، ففي أوائل عام 1520 قال لوثر واصفا تأثير الكتاب:
آمنت واعتنقت إلى الآن جميع تعاليم جون هس دون أن أعرف ذلك ... باختصار، جميعنا نتبع هس دون أن ندري ... وتذهلني هذه الأحكام الإلهية المريعة التي تصدر بحقنا. أبرز حقائق الكتاب المقدس - التي أحرقت علانية قبل أكثر من مائة عام - تدان اليوم ولا يسمح لأحد بأن يقر بها.
هذه الكلمات التي تقر بأن هناك فارقا ضئيلا فقط، أو فارقا لا يذكر، بين هس ولوثر بدا كأنها تحقق نبوءة شهيرة، عزاها لوثر بعد 11 عاما إلى هس الحبيس الذي قال: «سيحرقون هذه الإوزة (فاسم هس يعني إوزة)، لكن بعد 100 عام سيضطرون رغما عنهم إلى تحمل الاستماع إلى أغنية بجعة.» لا يوجد ما يدل على أن هس قد أدلى بهذه النبوءة، لكن أتباع لوثر في كتاباتهم ورسوماتهم التي صوروا فيها بجعة إلى جانب لوثر آمنوا بأنها تحققت بالأخير.
غير أن لوثر لم يتوحد مع هس على الدوام، ففي عام 1520 زعم أن نقد هس للبابوية لم يبلغ الحد الكافي، وأن نقده هو لها بلغ خمسة أضعاف ما حققه هس. وفي كتاب «أحاديث المائدة» - وهو عبارة عن نسخ منقحة لمحادثاته على الموائد - ينتقد تشبث هس بخرافات العامة واهتمامه بانتهاج السلوكيات السليمة أكثر من اهتمامه بالتعاليم الصحيحة، فقال:
لا بد من التمييز بين العقيدة والسلوك. نحن نسيء السلوك كما يسيء البابويون، لكننا لا نحارب البابويين أو نشجبهم لهذا. لم يع ويكليف وهس هذا وهاجما البابوات لسلوكهم ... (أما مهاجمة العقائد) فهي ما أدعو إليه.
يرجح أن لوثر كان يشير إلى كتابات ويكليف وهس التي تهاجم السيمونية (شراء المناصب الكهنوتية) والفساد الأخلاقي بين رجال الدين، لكن الفارق البين الذي وضعه للفصل بين العقيدة والسلوك مغالى فيه، فمع أنه أكد على أن عقيدة المسيحية الأساسية لا تتمحور حول الفضيلة، بل حول الإيمان، فقد ذكر أيضا أن الإيمان الحق لا يتجزأ عن المحبة والرأفة، ففي عظة أدلى بها بعد عودته من مدينة فيتنبرج عام 1522 وبخ مستمعيه قائلا:
أنتم على استعداد للتمتع بكل الأطياب التي وهبها لنا الرب في القرابين المقدسة، لكنكم لا تبدون استعدادا لمنحها ثانية في صورة محبة ... وا أسفاه! لقد استمعتم إلى الكثير من الخطب الدينية عن هذا، وكتبي مليئة بالموضوعات التي تتناول هذا الشأن، والتي كتبت لهذا الغرض؛ لحثكم على الإيمان والمحبة.
اقترب لوثر من تفسير السبب الذي جعله - بعكس أسلافه - يطلق حركة الإصلاح الديني عندما قال إن كتابات هس هاجمت صكوك الغفران قبل أن يحين الأوان لذلك. ويشير نصب مدينة فورمس التذكاري إلى السبب الذي جعل الأوان مناسبا لذلك عام 1517، عندما أطلقت أطروحات لوثر الخمس والتسعون عن قوة صكوك الغفران - وهي نص لاتيني أعد للمناظرة الأكاديمية - حركة دينية مدعومة سياسيا لا يمكن احتواؤها. حملت الأركان الأمامية لقاعدة النصب اسمي أبرز زعيمين سياسيين للحركة البروتستانتية الألمانية، وهما: فيليب حاكم هيسي، وفريدريك الثالث الأمير المختار لساكسونيا الملقب بالحكيم؛ فدون حماية الأمير فريدريك وورثته، لما أمكن للوثر أن يفلت من المرسوم الذي صدر ضده وضد أتباعه في فورمس، ودون النفوذ العسكري والسياسي الذي تمتع به فيليب - المناصر للحركة البروتستانتية من بدايتها - لما أمكن للبروتستانتيين صد محاولات الإمبراطور شارل الخامس لعرقلة حركة الإصلاح الديني. يحمل النصب أيضا رموزا لثلاث مدن ألمانية، هي: ماجديبورج، وشباير، وأوجسبورج. ليرمز للدور الحاسم الذي لعبته مدن الإمبراطورية الألمانية الحرة التي تبنت حركة الإصلاح الديني ودعمتها بثبات. ففي أوجسبورج عام 1530 نشر اللوثريون دفاعا عن عقيدتهم فيما صار يعرف باسم «إقرار أوجسبورج»، لكن الإمبراطور شارل الخامس رفض قبول الإقرار. مع ذلك، في عام 1555، منح البروتستانتيون الألمان الذين والوا الإقرار وضعا شرعيا في الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وتخلى شارل الخامس عن حملته ضدهم.
أما الأركان الخلفية لنصب مدينة فورمس فتضم تمثالا لفيليب ملانكتون - وهو زميل أصغر سنا للوثر، وعالم لغة إغريقية شارك في قيادة الحركة اللوثرية - وتمثالا ليوهانز ريوكلين، وهو معلم فيليب ملانكتون وعالم عبرية شهير، ويمثل الرجلان معا أثر الحركة الإنسانية الألمانية على حركة الإصلاح الديني. كان هس وويكليف بدورهما عالمين، لكنهما لم ينتفعا من حركة دراسة اللغات المكثفة والارتفاع المفاجئ في عدد المواد المطبوعة اللذين أعقبا ابتكار طباعة جوتنبرج في خمسينيات القرن الخامس عشر. درس أغلب مصلحي القرن السادس عشر العلوم الإنسانية، وأمكنهم قراءة الإنجيل باللغة العبرية والإغريقية، وبفضل علماء كإراموس من مدينة روتردام أتيحت للوثر طبعات منقحة من الإنجيل لكتاب كلاسيكيين ولرجال الدين الأوائل التابعين للكنيسة الرومانية مثل أوغسطين.
كما كانت أعمال زملائه وغيره من المصلحين ضرورية لنشر حركة الإصلاح الديني. فتصور رسوم على ميداليات على نصب مدينة فورمس التذكاري أربعة من زملاء لوثر. جون بوجنهاجن - الذي كان راعي أبرشية وأستاذا في فيتنبرج - نقل الحركة البروتستانتية إلى شمال ألمانيا والدنمارك؛ لأنه انحدر من مدينة بوميرانيا، وألم باللهجة الألمانية السفلى التي كانت مستخدمة في الشمال، واستطاع أن يضع دساتير للكنائس اللوثرية الجديدة في هذه المناطق. أما يوستوس يوناس، الذي كان زميل وصديق لوثر في فيتنبرج، فقد نقل حركة الإصلاح إلى بلدات أخرى عبر خطب الوعظ الديني التي ألقاها، وبقدرته على ترجمة اللاتينية التي كتب بها لوثر إلى الألمانية لجمهور أكبر من القراء. فيما ألقى أولريخ زفينجلي عالم الإنسانيات السويسري خطب الوعظ الديني، مستندا مباشرة إلى الإنجيل باللغة الإغريقية، وأتى إلى مدينة زيوريخ بحركة إصلاح ديني منفصلة عن الحركة اللوثرية الألمانية، اتحدت فيما بعد بحركة جون كالفن المصلح الفرنسي الأصل من جنيفا، الذي تأثرت به الكثير من أنحاء أوروبا. كانت الحركة الكالفينية أكثر تأثيرا من الحركة اللوثرية على حركة الإصلاح الديني في إنجلترا؛ إذ حولتها إلى دولة بروتستانتية بعد عام 1559.
لا ترجع جميع أسباب نجاح حركة الإصلاح الديني التي شهدها القرن السادس عشر إلى لوثر أو فيتنبرج مباشرة، مع أن من المستحيل الجزم بما إن كان الإصلاح الديني ليتحقق على مدى واسع دون لوثر. لكن لا شك أن مارتن لوثر لم يكن ليظهر في هذه السلسلة لولا الثورة الدينية التي تجاوزت أي حركة إصلاح تخيلها، وكان لها آثار أكبر على العالم الحديث من مبادرات أسلافه.
الفصل الثاني
التحول إلى إصلاحي
بحلول الوقت الذي اختطف فيه لوثر اختطافا وديا بعد انعقاد مجلس فورمس كان - بسنوات عمره السبع والثلاثين - قد جاوز أواسط العمر، وقد أخذ - دون أن يعي ذلك - يسلك مسارا مهنيا جديدا إلى جانب منصب الأستاذية الذي شغله، هذا إذا كان مسموحا له أن يحتفظ به. ملأ لوثر وقته في العشرة شهور التي أمضاها في قلعة فارتبورج (من مايو 1521 إلى مارس 1522) بالدراسة والكتابة والتأمل، مما أقنعه بأن يأخذ على عاتقه مهمة جديدة؛ فلم يعد راهبا، وإنما خادما تقوده العناية الإلهية لإعادة صورة أصدق للمسيحية إلى ألمانيا، عوضا عن مسيحية العصور الوسطى التي بدت له مليئة بالفساد والخرافات. فكيف استطاع ابن مقاول المناجم القادم من بلدة صغيرة في ألمانيا أن يجد مثل هذه الثورية في نفسه؟
وصف لوثر والديه بأنهما من الفقراء، ووصف نفسه بأنه ابن فلاح، لكن هذه الكلمات توحي بانطباع خاطئ عن طفولته. كان والده هانز ابن أحد المزارعين في قرية موهرا الصغيرة، التي لا تبعد بمسافة كبيرة عن بلدة آيزيناخ مسقط رأس والدته مارجريت ليندمان، لكن أقارب مارجريت ليندمان كانوا من أعيان البلدة، ومع أن هانز والد لوثر تزوج من طبقة اجتماعية رفيعة، إلا أنه شق طريقه في صناعة المناجم ليصبح صاحب مصهر؛ أي وكيلا لشركات النحاس، وهو ما تطلب منه استثمار أمواله الخاصة في العمل. ولد مارتن لوثر وتوفي في مدينة آيسلبن، لكنه أمضى طفولته في بلدة مانزفيلد الأصغر حجما، والتي انتقل إليها والداه عقب مولده بوقت قصير. ازدهرت أعمال هانز وجعلته أحد مواطني البلدة البارزين، وتشير الاكتشافات الحديثة إلى أن أسرة لوثر كان لديها زاد كاف من الطعام، وعاشت حياة موسرة في منزل كبير، شيد حول فناء ربما لعب فيه مارتن في طفولته بكرات زجاجية صغيرة عثر عليها هناك تعود إلى القرن السادس عشر. نمت ثروة هانز والد مارتن وتقلصت مع تذبذب سعر النحاس، لكن مارتن وإخوته - الذين ضموا على الأقل أخا يدعى ياكوب وثلاث أخوات - لم يعرفوا قط الفقر بمعناه الحقيقي، وأصبح ياكوب - الذي جمعت بينه وبين لوثر علاقة وثيقة - صاحب مصهر بدوره، وعاش في منزل الأسرة بعد أن توفي والده.
ربما كان هانز ابن فلاح، لكن مارتن نفسه - على حد أقصى ما بلغه علمنا - أقام في المدينة ولم يجرب قط الحياة الريفية، ورغم أنه شكا فيما بعد من أنه تلقى تعليما سيئا للغاية، عانى فيه الأمرين، فإن هذا المستوى التعليمي لم يعده للالتحاق بالجامعة وحسب، بل للعمل أيضا كمدرس وكاتب ومترجم وواعظ. ارتاد لوثر حتى الرابعة عشرة من العمر مدرسة لاتينية في مانزفيلد، لقن فيها قواعد اللغة، وتعلم مبادئ المنطق والخطابة. وفي عام 1497 تقريبا أرسل مع صديقه هانز راينيكي إلى مدينة ماجديبورج الكبيرة - مقر إقامة رئيس الأساقفة - حيث يرجح أنهما التحقا بمدرسة كاتدرائية البلدة، وأقام لدى جمعية إخوة الحياة المشتركة، وهي جمعية غير رهبانية، يشبه مقرها الدير، آوت الطلاب ودرست لهم في بعض الأحيان. واجهت مدينة ماجديبورج لوثر الشاب القادم من بلدة صغيرة ببيئة حضرية ودينية متشددة، لكننا لا نعرف الكثير عن أثرها فيه، فبعدها بعام أرسل لوثر إلى مدينة آيزيناخ للالتحاق بمدرسة قريبة من أقارب والدته، وأقام هناك مع هاينز شالبي، وهو أحد مواطني البلدة البارزين وراع لديرها الفرنسيسكاني، وارتاد مع ابن شالبي؛ كاسبار مدرسة أبرشية سان جورج، حيث نشأت صداقة وثيقة بينه وبين جون براون، وهو قس مسن دعاه لوثر فيما بعد إلى قداسه الأول. غير أن لوثر لم يدر بالطبع أنه سيختبئ بعد عشرين عاما في قلعة فارتبورج المطلة على البلدة.
كانت الخطوة التالية للوثر الطالب النابغة هي الجامعة، فاختار عام 1501 مدينة إيرفورت، وهي مدينة تجارية تقع على بعد 60 ميلا جنوب مدينة مانزفيلد، والتي كانت مزدهرة في عام 1392 بما يكفي لتأسيس جامعة خاصة بها. أقام لوثر لعشر سنوات من الأحد عشر عاما التالية من حياته في إيرفورت، وأمضى هناك أربعة أعوام بالجامعة وستة أعوام بالدير، وقيد شأنه شأن الطلاب المقبلين على الدراسة الجامعية في كلية الفنون الحرة؛ حيث اجتاز اختبار البكالوريا عام 1502، لكنه استغرق وقتا أطول للتأهل للتدريس، وتعين عليه دراسة أعمال أرسطو دراسة مكثفة، وأنهى الدراسة محتلا الترتيب الثاني على صف من سبعة عشر طالبا في أوائل عام 1505، وتسلم أوسمة المعلمين بالجامعة، وهي بريتة (قلنسوة مربعة الشكل) وخاتم إصبع، وهو ما أهله لإلقاء المحاضرات وعقد المناقشات، فضلا على أنه صار مؤهلا للدراسة في الكليات المهنية، ككليات القانون والطب وعلوم الدين، فعكف مباشرة على خوض المرحلة الأخيرة من تعليمه سيرا على خطة أبيه، الذي ارتأى أن دراسة القانون هي أفضل الطرق للوصول إلى وظيفة مرموقة آمنة، لكنه واصل الدراسة لأقل من شهرين، وبعد العودة إلى دراسته من زيارة إلى بلدته في يوليو عام 1505، أقلع فجأة عن دراسة القانون وجمع أصدقاءه - الذين ذهلوا من جراء ذلك - لحفل وداع بهيج، والتحق بدير أوغسطينيان المجاور.
يبدو أن التقوى كانت دافعا حاسما قاد لوثر إلى هذه النقلة المفاجئة؛ فعندما شارف على الوصول إلى مدينة إيرفورت عند عودته، أفزعته عاصفة عاتية إلى حد أنه أقسم على أن يصبح راهبا إن نجا سالما. ولكن لكي يقطع على نفسه هذا العهد الذي قد يغير حياته كلها - حتى في مواجهة الموت - لا بد أن لوثر كان له مآخذ على الاشتغال بالقانون، وأنه درس احتمال أن يهب حياته للدين بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ أن يهبها للدير. كما أن الدين كان يحيط به في كل مكان عاش فيه وتعلم فيه، ولا سيما في مدينة ماجديبورج وآيزيناخ وفي مدينة إيرفورت التي امتلأت بالكنائس والأديرة ومجالس رجال الدين. وكان بمقدوره أن يدرس علم اللاهوت دون أن يصبح راهبا، لكنه لم يسع إلى تغيير مسار دراسته، بل إلى حياة مختلفة.
شكل 2-1: لوثر كراهب، بريشة لوكاس كراناش، 1520.
عندما تأمل لوثر هذا القرار بعد أربعين عاما، تذكر أنه عاش حياة راهب مستقيمة دون تأنيب، لكنه ظل يشعر أمام الرب بأنه «كان آثما مؤرق الضمير إلى أقصى حد»، وقد كرر رأيه هذا عن الستة عشر عاما التي قضاها كراهب؛ فقد حاول أن يكون مثالا للراهب ، لكن ضميره لم يهدأ قط، رغم طمأنة معلمه يوهان فون شتاوبيتس له؛ النائب الأسقفي العام للمتشددين للمذهب الأوغسطيني في ألمانيا. لكن قلقه - رغم ذلك - لم يمنعه من الترقي في المناصب الكنسية؛ فبعد إتمامه فترة الإعداد للرهبنة وإعلان نذوره، درس ليصبح قسيسا، ووسم قسا في 3 من أبريل عام 1507 بعد أقل من عامين من التحاقه بالدرجة الكهنوتية، وبعدها بشهر احتفل بقداس العشاء الرباني للمرة الأولى في حياته؛ فقدم والده هانز لوثر إلى الحفل مع عشرين فردا من أصدقائه وأقاربه، وقدم هدية سخية إلى الدير، رغم أنه لم يكن قد تناسى تماما الإحباط الذي سببه له قرار لوثر بأن يصبح راهبا. أكد لوثر أثناء محادثته مع والده أنه لم يقسم طواعية على أن يصبح راهبا، وإنما أجبرته على ذلك ظروف عصيبة؛ إذ تشكك والده في أنه يعاني وهما، وذكره بوصية طاعة الوالد، في هذا أشار لوثر عندما تذكر هذا اللقاء مع والده أن كلمات والده تلك كانت أكثر كلمات آلمته ولازمته لوقت طويل.
بدأ لوثر بعد أن أصبح قسا في دراسته لعلوم الدين التي استمرت - بمقاطعات تخللتها - حتى عام 1512، الذي منح فيه لوثر درجة الدكتوراه، وخلف شتاوبيتس كأستاذ علم اللاهوت في جامعة فيتنبرج الجديدة. كان لأتباع المذهب الأوغسطيني في إيرفورت مدارس بمعلمين تابعين للجامعة، ومع أن لوثر كان قد أصبح بالفعل أستاذا بالجامعة تعين عليه الوفاء بمتطلبات منهج علم لاهوت تحكمه الفلسفة المدرسية أو السكولاتية؛ التي أسميت بذلك الاسم لاستخدامها في المدارس والجامعات. أطلق على هذا المقرر الثابت للجامعة - الذي أعده بيتر لومبارد في القرن الثاني عشر - «الأحكام»؛ لأنه بني على التصريحات العقائدية التي استقى منها لومبارد حججه من المراجع القديمة كمذهب أوغسطين، وقد تعين على جميع حاملي درجة الدكتوراه في علم اللاهوت إلقاء المحاضرات عن هذه الأحكام التي خضع الكثير منها للمراجعة وتم تداولها كتفاسير. وفي القرن الثالث عشر، كان توما الإقويني قد ألقى في شبابه هذه المحاضرات، ودرس لوثر فيما بعد تفسير الأحكام لجابريال بيل، وهو عضو بجمعية أخوة الحياة المشتركة ، درس علم اللاهوت في جامعة توبنجن وعاصره لوثر في طفولته. أسمي مذهب بيل بالمذهب الإسماني أو الأوكامي نسبة إلى الراهب الفرنسيسكاني الإنجليزي ويليام الأوكامي، الذي اعتنق لوثر مذهبه فيما بعد كما أقر؛ أسوة بمعلمه الأول في إيرفورت الذي تدرب على هذا المذهب.
أكد علماء اللاهوت من أتباع المذهب الأوكامي - بعكس توما الإقويني - أن الإيمان والعقيدة يعتمدان على إلهام الكتاب المقدس أكثر مما يعتمدان على المنطق والمعرفة الطبيعية. وعلى الرغم من أنهم فصلوا فصلا بينا بين الفلسفة وعلم اللاهوت، فقد أيدوا دراسة أعمال أرسطو التي أتمها لوثر في وقت سابق مع دراسة الإنجيل. ومن ثم، كان لوثر قادرا وراغبا في إلقاء محاضرات حول كتاب أرسطو «علم الأخلاق» والإنجيل وكتاب لومبارد «الأحكام». وألقيت في جامعة فيتنبرج المحاضرات عن أرسطو عام 1508 و1509؛ حيث عمل لوثر بأمر من شتاوبيتس كبديل مؤقت في أول منصبين خصصا لأتباع المذهب الأوغسطيني؛ محاضر فلسفة وأستاذ في علم اللاهوت. وظل لوثر في فيتنبرج لعام قبل أن يعود إلى الدير الأوغسطيني في إيرفورت ويلقي محاضراته عن «الأحكام». وفي أواخر عام 1510 قاطع هذه المحاضرات بالقيام بالرحلة الأهم في حياته؛ رحلته إلى روما التي قام بها ليقدم طلبا نيابة عن أتباع المذهب الأوغسطيني المتشدد.
رفض طلبه لكن روما خلفت انطباعا عميقا على هذا الراهب الشاب الجاد الذي لم يكن يعلم شيئا عن أمور العالم - كما أقر هو فيما بعد. بث فيه ما رآه في هذه المدينة المقدسة والبلدات الواقعة على الطريق إليها الرهبة والاستياء، حتى إنه وصف «زيارته إلى روما» بعد عشرين عاما، كما بدت له من منظور إصلاحي، فأطلق على نفسه «القديس المتشدد الذي اندفع بين الكنائس وسراديبها مصدقا كل مظاهر الكذب والتزييف البغيضة بتلك الأماكن». فقد أسف في ذلك الوقت؛ لأن والديه كانا لا يزالان على قيد الحياة؛ إذ اعتقد أن صلوات القداس في روما - شأنها شأن صكوك الغفران التي تقدم هناك - قادرة على تخليصهم من آثامهم. فقد شاع في روما مثل قائل: «بوركت الأم التي يقرأ ولدها القداس يوم السبت في سانت جونز.» عن ذلك قال لوثر: «كنت أود أن أبارك أمي، لكن المكان كان مزدحما للغاية فلم أستطع الدخول؛ فتناولت سمك الرنجة المدخن بدلا من ذلك.» رغم هذه النبرة المتطاولة، تنم كلمات لوثر عن صدق تقوى الرهبان التي تمتع بها وإحساسه بالواجب، وهو الصدق الذي تمتع به في وصفه لذاته قبل حركة الإصلاح الديني ك «كاثوليكي متحمس» متشرب بأفكار الرهبنة.
في أواخر عام 1511 نقل لوثر إلى الدير الأوغسطيني في فيتنبرج، حيث أقام لما تبقى من حياته كراهب في البداية ثم كزوج وأب، وعين في العام التالي أستاذ جامعة، وهو المنصب الوحيد الذي تقاضى فيه راتبا ثابتا، حيث أقنعه شتاوبيتس بالسعي للحصول على درجة الدكتوراه في علم اللاهوت، ووافق ناخب ساكسونيا على دفع المصروفات المتعلقة بذلك. كان الحصول على الدكتوراه إجراء شكليا كلل دراسته لعلم اللاهوت، وضمن تمتعه في فيتنبرج بالمزايا التي يحصل عليها أستاذ الجامعة في إيرفورت. أشرف الأستاذ آندرو بودينشتاين - الذي لقب بكارلشتادت؛ نسبة إلى البلدة التي ينحدر منها - على القسم الذي تعهد فيه لوثر بألا يدرس أي شيء تدينه الكنيسة ويؤذي أسماع المتقين. وبالإضافة إلى بريتة أخرى وخاتم إصبع آخر، منح لوثر كتاب إنجيل مفتوح وإنجيل مغلق. وتخلى شتاوبيتس عن منصبه بالكلية، كما كان مخططا، ليخلفه لوثر في منصب أستاذ علم اللاهوت. وكانت وتيرة الأحداث المتسارعة تلك هي أفضل دفاع للوثر أمام الاتهامات التي زعمت أنه لا يملك الحق لاعتناق الآراء التي آمن بها، فقد رأى لوثر أنه ملزم كأستاذ لعلم اللاهوت أدلى بقسمه علانية بأن يدرس ما يجده في الإنجيل، حتى إن خالف تعاليم الكنيسة الكاثوليكية وممارساتها. وهكذا أعد شتاوبيتس، دون علم، لوثر لبدء حركة إصلاح لم يستطع أن يحمل نفسه على الانضمام إليها.
في أول مقرر درسه لوثر، اختار أحد أسفار الإنجيل التي كانت تسمع وتنشد يوميا بالدير، والتي حفظها عن ظهر قلب تقريبا، ألا وهو سفر المزامير؛ لكن لأنه درسه آية آية - كما فعل أسلافه بالعصور الوسطى - لم ينه المقرر إلا بعد حلول عام 1515. وبعدها خصص عاما لتدريس كل رسالة من رسائل العهد الجديد؛ الرسالة إلى أهل رومية، والرسالة إلى أهل غلاطية، والرسالة الإنجيلية إلى العبرانيين، لتنتهي هذه المقررات عام 1518، الذي كان أول عام يشهد على مداره جدلا حول صكوك الغفران؛ مما أضاف إلى مهامه المزيد من الرحلات والكتابات. ولعله قرر إلقاء المحاضرات عن كتاب المزامير مجددا لهذا السبب، أو لأنه كان أكثر استعدادا لتدريسه هذه المرة، كما قال، غير أنه لم يتم المقرر قط، وبحلول الوقت الذي غادر فيه فيتنبرج متجها إلى مدينة فورمس في أبريل عام 1521، لم يكن قد وصل إلا إلى المزمور الثاني والعشرين، فقد تولى مسئوليات أخرى في المجتمع الكنسي، بالإضافة إلى إلقاء المحاضرات في الجامعة، حتى إن لوثر شكا لصديقه وأخيه في المذهب الأوغسطيني جون لانج انشغاله الشديد بكتابة الرسائل، وإلقاء العظات، والإشراف على دراسة الرهبان الآخرين، وإلقاء المحاضرات عن الحواري بولس، وزيارة الدور الأوغسطينية، بصفته راعي الأبرشية المحلي لها.
وفوق ذلك، كان لوثر يعد أطروحات للنقاش في الجامعة، تكونت مجموعة منها من ثمان وتسعين أطروحة انتقدت المذهب المدرسي أو السكولاتي، الذي انتقل إليه من معلميه من أتباع المذهب الإسماني وجابريال بيل. كان هذا النقاش العقائدي في منظور السواد الأعظم - بما في ذلك رجال الدين الأعلى مقاما - أكاديميا ومن ثم محمودا، وهذا على عكس مجموعة الأطروحات الثانية التي كتبها لوثر أيضا باللاتينية، وعلقت على الأرجح على باب كنيسة جميع القديسين في فيتنبرج في 31 من أكتوبر عام 1517. ولو أن هذه الأطروحات - المكونة من خمس وتسعين أطروحة عن قدرة صكوك الغفران - قد نشرت ذاك اليوم، عشية يوم عيد جميع القديسين، لاستقبلت الحشود التي حضرت العرض المهيب لآثار الأمير فريدريك الحكيم؛ أملا في نيل صكوك الغفران التي ستختصر إقامتهم في المطهر.
روج أيضا لصكوك الغفران على أنها ضمان بغفران الخطايا، رغم أنها كانت تغني وحسب عن العقوبات المفروضة على الخطايا (الكفارة) بعد الاعتراف بالخطايا للقس. أكد لوثر بعدها بأعوام أنه لم يحسب قط أنه سيمضي إلى الحد الذي ذهب إليه ، فيقول: «لم أعقد العزم إلا على مهاجمة صكوك الغفران، ولو أخبرت في مجلس فورمس بأنه سيكون لي في غضون بضعة أعوام زوجة ومنزل خاص بي، لما صدقت ذلك.» في الواقع، لم تهاجم أطروحات لوثر الخمس والتسعين الدعاة لصكوك الغفران وحسب، بل هاجمت أيضا بابا الكنيسة الرومانية لسماحه بمنح هذه الصكوك نظير أموال رصدت لتشييد كاتدرائية سانت بيتر الجديدة في روما، وقد اتسمت بعض هذه الأطروحات بالجرأة؛ فكتب لوثر أنه «من الغرور الثقة في نيل الخلاص بصكوك الغفران، حتى إن وهب البابا روحه ضمانة لذلك». وتساءل لم لا يشيد البابا الكاتدرائية بأمواله الخاصة بدلا من أموال المسيحيين الفقراء؟ فكان يجب أن يعلم المسيحي أن إخراج الصدقات للفقراء والمحتاجين خير من شراء صكوك الغفران.
صورت العديد من الرسوم لوثر كراهب ثوري يعلق أطروحاته الخمس والتسعين على باب كنيسة قلعة فيتنبرج في 31 من أكتوبر عام 1517، لكن لوثر نفسه لم يرو أنه ارتكب هذا العمل المعارض ... يعود وصفه وهو يعلق الرسائل على باب الكنيسة إلى فيليب ميلانكتون، الذي لم يشهد تلك الأحداث وسجل تلك الواقعة بعد وفاة لوثر، لكن في عام 1961، شكك المؤرخ الروماني الكاثوليكي إروين إيزرلوه في تعليق هذه الأطروحات. وقد أثار تحديه اعتراضات العلماء البروتستانتيين، وما تزال هناك محاولات لإثبات تعليق لوثر لتلك الأطروحات، حتى إن لم يكن قد فعل هذا إلا للدعوة إلى إعلان مناظرة. وقد اكتشف مارتن تروي عام 2006 كتابات (تعود إلى عام 1544) خطها جورج رورار مساعد لوثر على عجل، زعم فيها أن لوثر علق الأطروحات على أبواب كنائس فيتنبرج عشية يوم عيد جميع القديسين في عام 1517.
أثار نقد لوثر اللاذع مشاكل لم يكن يتوقعها؛ إذ أرسلت أطروحاته إلى روما على يد رئيس الأساقفة ألبرت، مطران مدينة ماينتس، الذي كان يتربح أيضا من صكوك الغفران التي خصصت أموالها لكاتدرائية سانت بيتر في منطقة نفوذه. وسرعان ما غطت قضية السلطات البابوية على قضية صكوك الغفران، واستدعي لوثر عام 1518 إلى روما، إلا أنه سافر بدلا من ذلك - بناء على طلب ناخب ساكسونيا فريدريك - إلى مدينة أوجسبورج؛ حيث أمر الكاردينال توماس كاييتان بأن يدفعه إلى إنكار آرائه، لكن لوثر رفض التراجع عنها، وعندما طالب كاييتان بتسليم لوثر إلى السلطات أو نفيه من ساكسونيا، رفض الناخب فريدريك ذلك، وحسمت المسألة؛ فأصدر البابا ليو العاشر أمرا رسميا يدعم التعاليم البابوية عن صكوك الغفران، ودافع رجال الدين الذين يدينون بالولاء للبابا عن أصول السلطة البابوية السماوية. ونشأ جدل حول هذا الصدد في مدينة لايبزيج في عام 1519 بين لوثر وجون إيك، الذي استفز الأول للدفاع عن هس وصار أعند خصومه. وفي بداية عام 1520، أعيد فتح قضية لوثر مجددا في روما، وهدد لوثر في يونيو بحرمانه كنسيا بأمر رسمي بابوي، أحرقه هو ومؤيدوه في ديسمبر، وأعقب ذلك مباشرة أمر رسمي بحرمانه كنسيا في 3 من يناير عام 1521.
كان لوثر قد حشد في غضون هذا الوقت قطاعا عريضا من المؤيدين، وألف الكثير من الكتابات باللغة الألمانية واللاتينية، فجعلته منشوراته باللغة الألمانية عن القرابين المقدسة والصلوات من الكتاب المشهورين في شئون الدين في وقت قصير. وحتى أطروحاته الخمس والتسعين، فقد نشرت في أرجاء ألمانيا وقرأتها جماعات الإنسانيين، الذين عدوا تجارة صكوك الغفران أداة بغيضة استغلت بها روما أتقياء ألمانيا. وفي عام 1520، عندما تناول لوثر هذا الاستغلال الذي تمارسه الكنيسة الرومانية وإساءاتها الأخرى في مقاله «خطاب إلى النبلاء المسيحيين»، زاد التأييد السياسي له. وبحلول ذلك الوقت كان يلقى دعما وتأييدا من زملائه في هيئة التدريس، وأيضا من متبعي المذهب الأوغسطيني؛ فقد اشترى كارلشتادت جميع نسخ أعمال أوغسطين التي كانت قد نشرت لتوها في مدينة بازل، وأشعل الجدل الذي دار بين لوثر وإيك في مدينة لايبزيج بطرح 380 نقطة تتحدى حجج الأخير. كما صحب نيكولاس فون آمسدورف - وهو من زملاء لوثر الأوائل الذين انضموا إلى الإصلاحيين - لوثر إلى مدنية لايبزيج، وحضر اجتماع المجلس الكنسي بفورمس. وقدم فيليب ميلانشتون إلى فيتنبرج عام 1518 لتعليم اللغة الإغريقية، ولم يلبث أن انضم إلى مؤيدي لوثر. وكان ميلانشتون العالم الأبرع بينهم جميعا، وكان مناصرا للحركة الإنسانية من الأجيال الشابة التي أيدت حركة الإصلاح الديني.
علاوة على تمتع لوثر بالدعم من مصادر خارجية، صار أيضا إصلاحيا بفعل تجليين تبينا له ونبعا من حياته ودراساته. اتضح التجلي الأول له قبل مجلس فورمس، فيما تبين له الثاني فيما بعد في قلعة فارتبورج، وأصبح الأول الأساس العقائدي لحركة الإصلاح الديني، ويشار إليه في العموم باسم «تجلي حركة الإصلاح»، على الرغم من أن لوثر لم يتحدث عنه بالتفصيل حتى العام السابق على وفاته. ووفقا لما رواه عندما تذكر هذا التجلي، أدرك أخيرا بعد محاولات عديدة ما الذي عناه الرسول بولس عندما كتب إلى أهل رومية (17:1) أن بر الله أو عدله يتجلى في الكتاب المقدس وليس في الناموس. وبما أن الآية السابقة على هذه الآية عرفت البشارة - التي تعني حرفيا الخبر السار - بأنه قدرة الرب التي خلصت المؤمنين، فلم يستطع لوثر أن يتفهم كيف يكون عدل الرب خبرا سيئا؛ بمعنى كيف يكون معيار البر، الذي حاول تحقيقه دون طائل، مخيفا. فلم تكن المشكلة عقائدية وحسب بالنسبة للوثر، بل كانت شخصية أيضا، وبدا حلها له وكأنه ميلاد جديد، فهو يقول:
بدأت أرى أن بر الرب يعني أن الأبرار يحيون بهبة منه، وهي البر السلبي الذي يرانا الله من خلاله أبرارا كما ورد: «أما البار فبالإيمان يحيا.» (حبقوق 4:2). شعرت بأنني ولدت من جديد، وبأنني دخلت الجنة من أوسع أبوابها.
الإيمان المقصود هنا هو الثقة في وعود الرب التي تحققت بيسوع المسيح. ونظرا لأن الإيمان حل محل الصوم والحج والصلوات إلى القديسين والقداسات الخاصة، وغيرها من الطرق التي بر بها مسيحيو العصور الوسطى الرب وتقربوا إليه، لم تنتقص رؤية لوثر من أهمية النظام اللاهوتي السائد وحسب، بل من أغلب مظاهر التقوى التي ميزت المسيحية في العصور الوسطى.
أشارت السير القديمة للوثر إلى اكتشافه ما عناه الرسول بولس بالبشارة باسم «تجربة البرج» الخاصة بلوثر؛ لأن هذا الاكتشاف ربما يكون قد حدث في برج الدار الأوغسطينية في فيتنبرج. وفي كتاب «أحاديث المائدة»، ذكر أن لوثر قد حدد المكان الذي وصل فيه إلى هذا الاكتشاف في برج الدار وفي حمام الدير. ويفسر بعض العلماء، الذين يؤثرون إعطاء تفسير مرتبط بالتحليل النفسي، كلمة حمام بأنها تشير إلى دورة مياه الدير، وصوروا مشهدا يربط اكتشاف لوثر بالتنفيس أو الراحة الجسمانية والعاطفية، لكن الأبحاث الأخيرة في هذا الصدد انصرفت عن فكرة تجربة البرج على وجه العموم. ويؤكد لوثر في نهاية روايته لمشهد الاكتشاف على الوقت الطويل والجهد الذي بذله لفهم الكتاب المقدس، وليس أنه وجد الإجابة فجأة. ولعل دورة المياه كانت رمزا يحقر الحياة الدنيا بوجه عام، أو رمزا لعذاب العيش دون أمل في إرضاء الرب.
ثاني تجل للوثر وصف في خطاب وضح به لوثر لأبيه أسباب رفضه للنذور الرهبانية. بدد هذا الخطاب، الذي كتبه لوثر في فارتبورج في نوفمبر من عام 1521، الندم الذي شعر به لوثر إزاء إفساد خطط والده له، فيما يتعلق بالزواج والعمل باتخاذه قرارا بالرهبنة. كان لقاء لوثر الصعب بأبيه عقب القداس الأول له قد أثقل كاهله، ولكنه الآن، وفقا لما كتبه، أدرك أن خيبة أمل أبيه لم تكن إلا تعبيرا عن حرصه على ولده الذي أحبه، وأنه أدرك أن والده كان محقا؛ وكان يتعين عليه أن يطيع الوصية الرابعة التي تنص على أن يكرم والديه. لكن نظرا لأن والده لم يستطع أن يستدرجه إلى ترك الدير، تدخل الرب ليحرره ويجعله مخلوقا جديدا «لا يتبع البابا بل المسيح»، غير أن هذا ليس كل شيء، فقد آمن لوثر أنه دعي لقيادة حركة ستجلب الحرية التي صار يتمتع بها لغيره من الأبناء؛ فكتب إلى والده معربا عن ذلك قائلا:
آمل أن يكون المسيح قد انتزع منك أحد أبنائك ليأخذ بيد العديد من أبنائه الآخرين، وأنا واثق أنك لن ترتضي هذا وحسب - كما ينبغي لك - بل ستسر بهذا سرورا عظيما!
حثت هذه الدعوة لوثر على تحدي ناخب ساكسونيا فريدريك والعودة إلى فيتنبرج ليضطلع بقيادة حركة إصلاح وليدة، شكلت فيما بعد حركة الإصلاح الديني الأوروبية.
الفصل الثالث
جهود الإصلاح
عاد لوثر إلى فيتنبرج في 6 مارس عام 1522، في اليوم نفسه الذي قرر فيه مجلس بلدية المدينة أن يمنحه ثوب قماش ليصنع منها زي الراهب الجديد الخاص به. واتساقا مع هذا التناقض الذي تعبر عنه عبارته التي قالها قبل ذاك بأربعة أشهر «لست راهبا لكنني ما زلت راهبا»، ارتدى لوثر ثياب الرهبانية حتى عام 1524، في الوقت نفسه الذي أصبح فيه قائد الحركة الإنجيلية البروتستانتية. ولم يكن يتوهم أنه سيحقق الإصلاح الديني بنفسه، ففي خطاب كتبه في فارتبورج حث ميلانشتون وزملاء آخرين على أن يحملوا رسالتهم إلى خارج فيتنبرج، فكتب يقول:
أنت تلقي المحاضرات، وآمسدورف يلقي المحاضرات، ويوناس سيلقي المحاضرات، لكن هل تودون أن تعلن مملكة الرب في بلدتكم فقط؟ ألا يحتاج الآخرون إلى الكتاب المقدس؟ ألن تنجب أنطاكيتكم سيلا أو بولس أو برنابا لمهمة روحانية أخرى؟
تبين الإشارة إلى هؤلاء المبشرين البارزين الواردين في «سفر أعمال الرسل»، وتشبيه مدينة فيتنبرج بأنطاكية؛ أن لوثر تصور حركة الإصلاح الديني كمهمة تبشيرية تنبثق من فيتنبرج؛ حيث تعين عليه أن يرسخ قيادته ويرسم معالمها. وفي 9 من مارس عام 1522، ألقى في كنيسة البلدة أول عظة دينية من العظات الثمانية التي تصف الكيفية التي سيغير بها وتيرة واتجاه حركة الإصلاح التي مهد لها زميله كارلشتادت. دعت عظات الصوم الكبير الثمانية تلك (التي أطلق عليها هذا الاسم نسبة إلى أحد الصوم الكبير في تقويم الطقوس الدينية) إلى إبداء تعاطف أكبر مع العامة الذين أزعجتهم وأربكتهم التغيرات المفاجئة التي طرأت على طقوس العبادة والطاعة، وهذا تطلب آنذاك أن تأخذ حركة الإصلاح وتيرة أبطأ. دافع كارلشتادت بقوة عن موقفه في هذا الشأن، لكنه لم يملك خيارا إلا ترك تلك المبادرة للوثر.
إلا أن لوثر لم ينو الإبطاء كثيرا، فوفقا لمنظوره الديني إلى التاريخ، يجب اغتنام لحظة الإصلاح؛ فكتب أن كلمة الرب وفضله كانا دائما كسيل المطر العابر الذي لا يعود قط إلى مكان مر به. وبين عامي 1522 و1530 دفعه هذا الشعور بالعجلة إلى البحث مع زملائه في فيتنبرج عن إجابات لقضايا مهمة، منها: السرعة التي يجب أن تلغى بها صلوات القداس الخاصة (التي تضم رجال الدين وحدهم)، والتي يجب أن يقدم بها الخمر والخبز معا إلى العامة في العشاء الرباني، وتبنى بها طقوسا دينية عامة جديدة؛ والكيفية التي يجب أن ينظم بها الزواج، وتوضيح حدوده في ضوء أن عزوبية رجال الدين لم تعد شرطا، وأن المحاكم الأسقفية لم تعد موجودة للفصل في الخلافات الزوجية؛ وحدود طاعة المسيحيين للسلطات المدنية، بالأخذ في الاعتبار أن الأمراء ومجالس المدن تحديا الإمبراطور ودعما حركة الإصلاح؛ وهل يجب أن تمنع النذور الرهبانية؛ والشروط التي يجب أن توضع للرهبان والراهبات الذين يرفضون ترك أديرتهم؛ والكيفية التي يجب أن يجري بها العامة معاملاتهم الشخصية والمالية مع اقتراب نهاية العالم - كما اعتقد لوثر؟ للإجابة على القضية الأخيرة لجأ لوثر إلى عظة الجبل، وخلص منها إلى أن المسيحيين يجب ألا يطالبوا بفوائد. أما فيما يتصل بالسلوكيات المجتمعية فكان لوثر أكثر واقعية؛ حيث خفف تعاليم المسيح التي تنهى عن مقاومة الشر بالإصحاح الثالث عشر من رسائل العهد الجديد إلى أهل رومية التي أوصت بطاعة الحاكم. وكتب أن المسيحي الحق لا يحتاج إلى الحكومات؛ لأنه لن يرتكب الشر أو يقاوم وقوعه عليه، غير أنه أدرك أن القليل من مخلصي الإيمان يحيون حياة مسيحية نموذجية، ومن هنا كانت السلطات المدنية ضرورية لإحكام السيطرة على الشرور. وحث لوثر المجتمعات المسيحية عام 1523 مدفوعا بحبه للدين المسيحي، وليس فقط بشعوره بواجبه الوطني، على أن تعيد توجيه ثروة مجالس الرهبان والأديرة لإغاثة الفقراء وإلقاء العظات والتعاليم البروتستانتية.
سيرت الأحداث الجارية آنذاك لوثر وقادته إلى اتخاذ مواقف خلافية، فوضعته ثورة الفلاحين، التي قامت عام 1525، بين شقي رحى، فأعلن من ناحية أن تظلمات العامة مشروعة، لكنه رفض من ناحية أخرى العنف الذي عمدوا إليه لتحقيق غاياتهم. وعندما دافع عن السبل القاسية التي استخدمها أمير فيتنبرج وغيره من الحكام لإخماد الثورة، اتهم بأنه تابع خنوع للحكام. وبعد أن هزمت الجيوش العثمانية التركية الجيش المسيحي في المجر عام 1526، وحاصرت فيينا عام 1529؛ رأى لوثر أن للمسيحيين الحق في الالتحاق بالجندية، وأن الحرب ضد الأتراك مبررة ما دامت لا تعد حربا صليبية، وطالما وعى الجنود المسيحيون أن مهمتهم تنحصر في الدفاع عن جيرانهم وأحبائهم. ووصف لوثر في رسالته «حرية المسيحي» - التي كتبها في أواخر عام 1520 وأرسلها إلى البابا ليو العاشر قبل أن يحرمه الأخير كنسيا بوقت ليس بطويل - أن المسيحي المثالي يجعله إيمانه سيد الأحرار، لا يخضع لأي كان، لكن حبه يجعله أكثر الخدام برا. غير أن تطبيق هذا المبدأ على النزاعات غير المتوقعة التي شهدتها عشرينيات القرن السادس عشر؛ مثل للوثر تحديا مليئا بالصعاب.
انشغل لوثر طوال هذا العقد بالانقسامات التي نشأت داخل دائرته وخارجها. أتت التحديات التي واجهها من زميله كارلشتادت وأولريش زفينجلي والدعاة إلى تجديد العماد؛ إذ تبنت جميع هذه الفرق تفسيرا مختلفا للقرابين المقدسة ومارسوها بطرق لم يقبلها لوثر. بعد أن غادر كارلشتادت فيتنبرج تخلى عن منصبه بالجامعة، واستقر في بلدة أورلاموند، ليجعلها المجتمع المسيحي الذي تصوره من أجل فيتنبرج، وتوقف عن عماد الأطفال، واحتفل بالعشاء الرباني بطقوس بسيطة باللغة الألمانية بدون ارتداء زي الرهبان، وأسس في كتيبات وجهها للوثر عقيدة روحانية دينية، تنكر أن الخلاص الذي تحقق على الصليب يجب أن ينقل بوساطة القرابين المقدسة. إزاء هذا، دافع لوثر عن إلقاء العظات في العشاء الرباني، وعن القرابين المقدسة بوصفها وسائل خارجية لنيل مباركة الرب، وتنقل من خلالها كنوز الصليب بطريقة علنية وشخصية على حد سواء. رأى كارلشتادت أيضا أن كلمات المسيح التي أسست طقس العشاء الرباني لم تعن حرفيا أن خبز المناولة هو جسد المسيح، وأن خمر العشاء الرباني هو دمه. في هذا الصدد تبنى زفينجلي نظير لوثر في زيوريخ رأيا مغايرا؛ لاعتقاد الأخير بأن المسيح يتجسد حقا في الخبز والخمر؛ إذ رأى أن المسيح عنى أن تفهم كلماته بالمعنى الروحاني والمجازي لها، بمعنى أن الخبز والخمر يرمزان فقط إلى جسده ودمه اللذين قدما لخلاص الجميع، وعد القرابين المقدسة توحدا روحانيا مع الصليب، لكنها لا تنطوي على أي حضور مادي غامض للمسيح فيها، ولم يمنح الخلاص من خلالها. من ثم لم يستطع زفينجلي ولوثر أن يتفقا حول هذه النقطة في اللقاء الوحيد الذي جمع بينهما في ماربورج عام 1529، وقاد اختلافهما إلى شقاق دائم بين الشق اللوثري والشق الإصلاحي من حركة الإصلاح البروتستانتية.
لكن المعسكرين الإصلاحيين اتحدا في معارضة دعاة تجديد العماد الذين انشقوا عن مذهب زفينجلي عام 1525، حول الوتيرة التي يجب أن تتقدم بها حركة الإصلاح في مدينة زيوريخ. اتهم زفينجلي من قبل نقاده بالمغالاة في الحذر، واتهم عماد الأطفال - الذي عده أتباع زفينجلي المتشددون منافيا لتعاليم الإنجيل - بأنه جعل الكنيسة تابعا لحكومة المدينة وأخضعها لحكامها. أما لوثر فقد نشر عام 1528 رفضا لعماد المؤمن، وامتدح عماد الأطفال، واصفا إياه بأنه ملمح طيب من ملامح المسيحية قبل مولد حركة الإصلاح؛ إذ إن رهن العماد باتخاذ قرار متعمد باعتناق الإيمان، يجعل الخلاص قائما على القرارات البشرية المزعزعة ويبخس نعمة الله حقها. شكلت حدود اختيار الإنسان حجة لوثر أيضا أمام إراسموس، رائد الحركة الإنسانية، الذي هاجم رفض لوثر لإرادة الإنسان الحرة عندما يتعلق الأمر بالفضل الإلهي والخلاص؛ فأوضح لوثر في رسالة كتبها عام 1525 بعنوان «الإرادة المقيدة» أن قوة الخطيئة سيطرت على الإرادة البشرية قبل أن يحررها الروح القدس لتثق بالرب، وبعد العماد يظل المؤمن يستند إلى قدرة الروح القدس على الإبقاء على إيمانه ووقاية إرادته من الوقوع مجددا في الخطيئة. عرضت هذه الفكرة في منظور لوثر جوهر المسيحية الذي وصفه بأنه البشارة للخطر؛ فالسبيل الوحيد إلى الخلاص هو الإيمان بالمسيح، وهذا الإيمان هو هبة من الروح القدس، وليس خيارا يتخذ بالإرادة المحايدة التي أنكر لوثر وجودها. كانت المخاوف نفسها تقف وراء جدل لوثر مع خصومه الكاثوليكيين حول صلوات القداس الخاصة والحج والصوم وصكوك الغفران والنذور الرهبانية وعزوبية رجال الدين وإخراج الصدقات والتضرع إلى القديسين؛ حيث امتدحت تلك الأعمال على أنها متممة للإيمان، أو أعمال صالحة يمكن أن تستخدمها إرادة الإنسان الحرة في إسعاد الرب ونيل الخلاص بسهولة أكبر من الوصول إليه بالإيمان وحده. وشعر لوثر وزملاؤه أن من الأهمية بمكان نبذ هذه الأعمال أو تقويمها، ولكن تعين عليهم أيضا إيجاد طرق جديدة يغذي بها المؤمن إيمانه ويعبر عنه.
شكل انتشار حركة فيتنبرج الإصلاحية الدينية السريع بألمانيا وخارجها وصولا إلى بلاد أوروبا الشرقية وإسكندينافيا قوة دافعة تهيئ لذلك. فعندما تتحول بلدة أو منطقة إلى المذهب البروتستانتي، تمنع السلطات المدنية صلوات القداس على طريقة العصور الوسطى، مؤثرة طقوس العبادة اللوثرية، وتسحب من المناطق الخاضعة لسلطتها الأساقفة الكاثوليك، وتسمح للرهبان والراهبات والقسيسين بالزواج، وتحرم علنا أغلب مظاهر العبادة القديمة، وتوضع قوانين لهذه الإجراءات لكل إمارة في هيئة دساتير دينية جديدة، وصفت بأنها أوامر كنسية. اضطلع زميل لوثر جون بوجنهاجن آنذاك بجزء كبير من هذه المسئولية في شمال ألمانيا والدنمارك. وقد خلفت ثورة الفلاحين في ساكسونيا وحولها في آثارها أبرشيات مهملة، يشعر رعاتها بالحيرة ويحتاجون إلى إرشاد ومواد جديدة، يتمكنون من خلالها من تحويل رعاياهم إلى المذهب البروتستانتي. وقدم لوثر نفسه أهم الأدلة الإرشادية في هذا الصدد؛ أدلة عن إلقاء العظات الدينية حول النصوص الإنجيلية وطقوس العبادة البروتستانتية في كتابه «القداس الألماني» (عام 1526)، بالإضافة إلى الترانيم الدينية وتراجم الكتاب المقدس، وكتب تلخيص العقيدة المسيحية (الكبيرة والصغيرة في عام 1529) التي تفسر لعموم الناس ورجال الدين الوصايا العشر وقانون الإيمان والصلاة الربية والقرابين المقدسة. وكتب مع ميلانشتون أمرا كنسيا لمقاطعة ساكسونيا عام 1528، استخدمته فرق التفتيش البروتستانتية لتقييم حال أبرشيات ساكسونيا، ونصح رعاتها بوسائل تدريس الرسالة البروتستانتية وإعادة تنظيم الكنائس.
أوى حصن كوبورج على أطراف ساكسونيا الجنوبية عام 1530 لوثر الخارج عن طاعة الإمبراطور أثناء انعقاد مجلس أوجسبورج، الذي رفض فيه شارل الخامس الإعلان العقائدي، الذي كان قد طلبه من الإصلاحيين الألمان والسويسريين، وأصبحت المواد الثماني والعشرون التي قدمها إصلاحيو فيتنبرج وحلفاؤهم - والتي شاعت تسميتها باسم إقرار أوجسبورج - الوثيقة المؤسسة للكنائس التي استخدمت تدريجيا اسم لوثر للتمييز بين حركتها النامية من روما ومن الكنائس البروتستانتية المتأثرة بحركة الإصلاح التي ظهرت في زيوريخ وجنيف. أرضى انضمام المناطق الخاضعة لدوق ساكسونيا (النصف الذي ظل على ولائه لروما) إلى قائمة المناطق المدينة بالمذهب اللوثري؛ لوثريي فيتنبرج إلى حد هائل. وفي عام 1539، احتفل لوثر بالمناسبة بإلقاء عظة في مدينة لايبزيج؛ حيث تناظر هو وكارلشتادت قبل عشرين عاما مع جون إيك أمام عيني الدوق الكاثوليكي جورج، دوق ساكسونيا المعادي لهما. افتتح لوثر هذه العظة التي ألقاها يوم سبت بالإقرار بأنه لم يشعر بأنه على ما يرام، وبأنه يحتاج إلى الالتزام بدرس الكتاب المقدس المخصص لليوم التالي، الذي تصادف أنه يوافق عيد الخمسين. بدأ النص (إصحاح جون 14 من الآية 23 إلى 31) بالتوكيد على أن المسيح وأباه سيسكنان مع من بلغتهم كلمة المسيح وحافظوا عليها. وجد لوثر هذا النص مطمئنا، لكنه وجد فيه أيضا أن مفهوم الكنيسة الحقة (هؤلاء الذين حافظوا على كلمة المسيح) يتنافى مع مفهوم البابا وكنيسته، اللذين وجد في نفسه عزما كبيرا على انتقادهما، وألقى في عصر اليوم التالي عظة دينية في كنيسة سانت توماس، التي اشتهرت فيما بعد بفضل الموسيقي باخ، ثم غادر يوم الإثنين من الأسبوع نفسه إلى مسقط رأسه برفقة يوناس وميلانشتون والدوق البروتستانتي الجديد هنري الذي صاحبهم للعشرين ميلا الأولى من رحلتهم.
مثلت الرحلة إلى لايبزيج المرحلة الأكثر إمتاعا في حياة لوثر للسنوات القادمة، لكنها كانت كغيرها من الرحلات القصيرة التي سافر فيها إلى الوجهات القريبة من فيتنبرج في ثلاثينيات القرن السادس عشر؛ إذ قام سنويا - باستثناء عام 1535 - برحلة أو أكثر من تلك الرحلات، رغم أنه كان يعاني بين الفينة والفينة خلالها من أمراض مؤقتة. وقد حملت أغلب تلك الرحلات - كزياراته إلى مقار الإقامة الأخرى لأمير ساكسونيا جون فريدريك - أهدافا سياسية، لكن في أكتوبر عام 1538 اصطحبه يوناس وإراسموس شبيجيل قائد حرس فيتنبرج في رحلة صيد قصيرة، سقط فيها جواد الأخير أثناء ملاحقته أرنبا بريا ولقي حتفه، فاعتقد لوثر أن الأرنب البري كان شبحا شيطانيا، وعندما دعي للعودة إلى فيتنبرج لأن ناخب المدينة أراد مقابلته، رفض المغادرة لأن زميله يوناس أصيب بنوبة ألم شديدة جراء الإصابة بحصوات في الكلى. استقبل لوثر آنذاك في بلدته الكثير من الزوار البارزين ، من بينهم الإصلاحيان مارتن بوسر وفولفجانج كابيتو، وزملاؤهما من جنوب ألمانيا الذين سعوا للتوصل إلى اتفاق حول طقوس العشاء الرباني لتعزيز التحالف البروتستانتي. كان لوثر قد طلب من هؤلاء القدوم إلى فيتنبرج لاعتلال صحته، لكنه لم يبد عند وصولهم إلا ميلا ضعيفا للتفاوض، والمدهش رغم ذلك هو أنهم توصلوا إلى اتفاق حقيقي لم يتطلب إلا تنازلات لا تذكر من كلا الطرفين؛ فقبل لوثر من ناحية بتصريح بوسر بأن جسد المسيح ودمه كائنان في الخمر والخبز ويقدمان للمؤمن، كما اتفق كلاهما على أن جسد المسيح ودمه يتلقاهما غير الجديرين بهما، على الرغم من أن كليهما ربما لم يتفقا على معنى كلمة «غير الجديرين». وأعلن أستاذا علم اللاهوت أنهما أخوان، واحتفلا معا بالعشاء الرباني، لكن اتفاقهما لم يفض إلى جبهة بروتستانتية موحدة؛ إذ لم يقبل السويسريون به، غير أنه أتاح للمزيد من سكان جنوب ألمانيا، الذين تحيروا ما بين اختيار مذهب زفينجلي ولوثر، الانضمام لأتباع الحركة اللوثرية في شمال ألمانيا.
في أواخر عام 1535، بلغ فيرجيريو السفير البابوي، مدينة فيتنبرج للتعرف على أفكار لوثر حول نية البابا بعقد مجمع كنسي، وتساءل - وقد انتابه فضول أثناء إفطاره مع بوجنهاجن ولوثر في قلعة فيتنبرج - عن الشعائر الكنسية اللوثرية كتنصيب الكهنة، فأكد له لوثر أن شعائر تنصيب رعاة الكنائس استمرت رغم عدم وجود أساقفة لتأديتها. وانخرط الثلاثة في تبادل المزحات الساخرة بود، ووعد لوثر بحضور المجمع الكنسي إن عقد. وفي عام 1536 دعا البابا بولس الثالث بالفعل إلى عقد مجمع كنسي يبدأ في العام التالي في مانوتا، فاجتمع كل من الحكام وعلماء اللاهوت في فبراير عام 1537 في مدينة شمالكالد للبت في إرسال مبعوثين إلى المجمع الكنسي من عدمه، ثم رفضت الدعوة التي قدمها المبعوث البابوي لحضور المجمع الكنسي بوقاحة من قبل جون فريدريك ناخب ساكسونيا، الذي تشبث بعناد برفضه لحضور البروتستانتين المجمع، رغم نصح لوثر له بقبول الدعوة. وظل لوثر يذكر هذه المقابلة جيدا؛ لأنه ابتلي حينها بانسداد في المسالك البولية، ورفض الاستجابة للعلاجات الطبية إلى أن استجاب لها أخيرا في طريق عودته إلى المنزل. اشتدت معاناته من المرض في شمالكالد، حتى إن النقاشات الدينية قوطعت اضطرارا آنذاك، وتخوف الجميع من أن يلقى حتفه. واستغرقت صحبته أسبوعين في طريق الرجوع عبر إيرفورت وفايمار للوصول إلى فيتنبرج، حيث كانت تشق طريقها بحذر.
شكل 3-1: فيليب ميلانشتون، بريشة لوكاس كراناش، 1537.
1
استأنف لوثر لدى عودته إلى فيتنبرج برنامج عمل مزدحم بالكتابة وإلقاء المحاضرات والعظات والعمل كعميد لجامعة فيتنبرج الدينية، فيما عني أصدقاؤه وزملاؤه الآخرون كميلانشتون وبوجنهاجن ويوناس وآمسدورف بالإصلاحات في المناطق الأخرى، وما تزال محاضراته عن أهل غلاطية التي ألقاها عام 1531 (التي نشرت عام 1535 و1538) ودورته عن سفر التكوين، التي بدأت عام 1535 واستمرت لعقد، من أهم مصادر نظريته اللاهوتية؛ إذ شعر لوثر وهو يخاطب جيلا أصغر من الطلاب أن عليه أن يذكرهم بالسبب الذي يجعل حركة الإصلاح ضرورية، وبمدى أهمية حماية ما تم إنجازه، وقدم عام 1538 أسبابا مماثلة للاجتهاد لأخيه الأوغسطيني جيمس بروبست الطالب لديه، والذي كان آنذاك أحد مناصري حركة الإصلاح بمدينة بريمن. ورغم أن لوثر كان بحلول هذ الوقت عجوزا منهك القوى، أضنته الجهود الجهيدة الكثيرة التي بذلها؛ تجدد شبابه كل يوم نظرا لظهور طوائف جديدة لمناوءته. بعد ستة أعوام، سر لوثر بإهداء كنيسة صغيرة جديدة في مقر إقامة حاكمه الساكسوني في تورجاو، حيث صممت الكنيسة - التي تعد من أولى الكنائس التي شيدت كأحد أماكن العبادة اللوثرية - حول منبر الوعظ للتوكيد على أن العظات هي محور العبادة اللوثرية، وزينت أطرافها الأنيقة بلوحات من أعمال صديق لوثر؛ لوكاس كراناش، ووضع عند الحائط الموجود بنهاية الكنيسة أعلى مائدة الاحتفال بالعشاء الرباني آلة الأرغن الموسيقية، ليعزف عليها يوهان فالتر قائد جوقة ناخبو ساكسونيا ومؤلف موسيقى حركة الإصلاح في بدايتها. أكد لوثر أن المسيح منح أتباعه حرية التجمع للعبادة في الوقت والمكان الأنسب لهم، ومن ثم لم تكن كنيسة تورجاو كنيسة مخصصة لحاشية البلاط، بل كانت مكان عبادة لكل من يرغب في زيارتها، حتى إنه قال إن من الممكن كذلك إلقاء العظات عند النافورة الموجودة خارج الكنيسة.
كانت الخسارة من فقدان كل شيء تقف خلف النبرة الحادة التي ميزت الكثير من كتاباته الأخيرة، ففي عام 1544 حث زميل له على الدعاء بلا توقف من أجل الكنيسة؛ لأنها واجهت خطرا كبيرا. ومن ناحية كانت بعض مخاوفه مبررة؛ ففي أربعينيات القرن السادس عشر أعرب مجلس ترينت الكاثوليكي عن صدق رغبة روما في إصلاح نفسها؛ مما جعل صبر الإمبراطور شارل الخامس ينفد، ودعاه إلى أن يقرر أن يجبر البروتستانتيين الألمان على الخضوع لسلطة البابا من جديد. لكن من ناحية أخرى غالى لوثر في تقدير بعض التهديدات التي شكلها خصومه الذين حشرهم جميعا في زمرة أعداء الإنجيل، واتهم الأتراك واليهود ومؤيدي السلطة البابوية ومن يؤمنون بمجازية القرابين المقدسة (البروتستانتيون المعارضون لنظرته إلى القرابين المقدسة) بأنهم عملاء الشيطان في عزمه على تدمير الحقيقة التي استعادتها الحركة اللوثرية. لقد سبب زحف الأتراك العثمانيين على أوروبا الوسطى مخاوف حقيقية، لكن قلق لوثر والإصلاحيين الآخرين من الكيان اليهودي في أوروبا كان غير منطقي. نبع هذا القلق من خيبة أملهم التي تشي بسذاجة لفشل الرسالة البروتستانتية في إقناع اليهود بالتحول إلى البروتستانتية بأعداد كبيرة، ومن المناخ المعادي لليهود في أواخر العصور الوسطى بأوروبا الذي قاد إلى طرد اليهود واضطهادهم. ونظر لوثر في عام 1546 - كما فعل عام 1521 - إلى حركة الإصلاح الديني على أنها من عمل الرب، وأنه هو نفسه أداة الرب في صراعه العظيم مع الشيطان.
شكل 3-2: منبر الوعظ في الكنيسة اللوثرية بقلعة تورجاو، 1544.
2
في باكورة صباح 18 من فبراير عام 1546، توفي لوثر في آيسلبن، في البلدة نفسها التي ولد بها، بعد أن نجح في تسوية خلاف بين كونتات مانزفيلد. أقام هناك في منزل للدكتور فيليب دراتشتيدت، الذي كان كوالده صاحب مصهر بارز في مانزفيلد، ودرس القانون وأصبح مستشارا بالمحكمة، ووفقا لشاهدين - صديق لوثر يوستوس يوناس، وراعي أبرشية مانزفيلد مايكل كوليوس - رحل لوثر عن العالم بهدوء بعد أن أقر بإيمانه. وقبل أن يعاد جثمانه إلى فيتنبرج، صب قالب من الشمع لوجهه ورسمت لوحات له بعد وفاته . ودفن لوثر بالقرب من منبر كنيسة القلعة، بعد خطبة ألقاها بوجنهاجن وخطاب تأبين رثائي ألقاه ميلانشتون، وقال فيه للمعزين: «نحن كالأيتام حرمنا من أب صالح مخلص.» كان ميلانشتون قد أعلن في وقت سابق وفاة لوثر لطلاب الأخير، مشبها وفاته بعروج إيليا إلى السماء في مركبة النيران قائلا: «رحل قائد مركبة إسرائيل الذي وجه الكنيسة في الأيام الأخيرة لهذا العالم.»
هوامش
الفصل الرابع
إنجيل لوثر
لم يكن مارتن لوثر ليعزو الإنجيل لنفسه قط، لكن ثمة أسباب وجيهة لتسمية هذا الفصل بهذا الاسم؛ «إنجيل لوثر». لقد أمضى لوثر وقتا أطول في ترجمة الإنجيل مما أمضاه في تأليف أي كتاب آخر، وظلت ترجمته إلى اللغة الألمانية بمساعدة زملائه (التي ما تزال تدعى إلى الآن بإنجيل لوثر) رمزا ثقافيا لقرابة 500 عام. وكانت ترجمة لوثر للعهد الجديد التي أتمها في غضون ثلاثة أشهر في فارتبورج الأكثر مبيعا آنذاك، فبعد أن نشرت في سبتمبر عام 1522 - لتعرف من ثم ب «عهد سبتمبر» - نفد ما بين 3000 و5000 نسخة منها في غضون ثلاثة أشهر، وصدرت في ديسمبر طبعة جديدة منها، ثم ظهرت طبعات أخرى يقارب عددها المائة طبعة على مدى الاثني عشر عاما التالية، حتى بلغ عدد نسخ ترجمة لوثر للعهد الجديد، التي وزعت في البلاد بحلول الوقت الذي صدر فيه إنجيل فيتنبرج الكامل قبل عام 1534؛ حوالي 200 ألف نسخة.
على الرغم من ذلك، لم ير لوثر قط أن ترجمته هي الترجمة الوحيدة المقبولة للإنجيل؛ فلم يستهزئ بمحاولات العلماء الآخرين لمساعدته، ولم يثبط عزمهم على إصدار تراجم لهم. وبعد أن صدرت الطبعة الإغريقية والنسخة اللاتينية من العهد الجديد لإراسموس عام 1516 وعام 1519، استخدمهما في دراساته وتراجمه. وكاتب من قلعة فارتبورج، التي أوى إليها في أواخر عام 1521، جون لانج أخاه في المذهب الأوغسطيني قائلا:
سأظل مختبئا هنا حتى عيد الفصح، وأنوي أثناء تلك الفترة أن أكتب تعليقات توضيحية على الإنجيل، وأن أترجم سفر العهد الجديد إلى العامية كما يرغب أصدقاؤنا. سمعت أنك تقوم بالمثل. واصل ما بدأت. آه لو أن لكل مدينة مترجمها الخاص، وأمكن العثور على هذا الكتاب بكل اللغات، ووصل إلى جميع الأيدي والأبصار والأسماع والقلوب.
تشير التعليقات التي يذكرها لوثر هنا، إلى إرشادات القراءة والوعظ عن النصوص الإنجيلية من أجل أيام الآحاد والأعياد في العام الكنسي. وقد أوفى لوثر بعهده، وصدرت أول ثلاث مجموعات لعيد المجيء الثاني للمسيح وعيد الميلاد في عام 1521 و1522، ثم نشر قبل وفاته سبع مجموعات من التعليقات التوضيحية، بعضها احتوى على تكرارات ومراجعات لم يكتبها لوثر وحررت ونشرت. لم يهدف لوثر إلى أن تكون هذه المجموعات خطبا نموذجية؛ فقد تباينت تباينا كبيرا في أسلوبها وطولها، ولم تكن مناسبة لقراءتها على الحشود المجتمعة بالكنيسة، غير أن بعض الفقرات القصيرة بها تتسم بالخيال الخصب وبالقوة، كالتعليق التالي للوثر على قصة الميلاد:
عندما قدما [مريم ويوسف النجار] إلى بيت لحم كانا من المستتفهين المزدرين. كان عليهما أن يفسحا للجميع حتى اقتيدا إلى إسطبل، اضطرا فيه إلى مشاطرة الحيوانات في الإقامة والطعام والنوم، فيما احتل الكثير من الأوغاد بالحانة مناصب الشرف وعوملوا كالأسياد. لم ينتبه أحد أو يفهم ما الذي يفعله الرب في إسطبل للحيوانات. ترك المنازل الكبيرة والغرف الباهظة خاوية، لكن سمح لهم أن يأكلوا ويشربوا وأن يبتهجوا، إلا أن هذا العزاء - وهذا الكنز [في المزود] - خفي عن أهل بيت لحم. لا شك أن ظلام بيت لحم كان حالك السواد حتى يخفي معه هذا النور.
حفظ لوثر أيضا جزءا كبيرا من الإنجيل عن ظهر قلب، لا سيما سفر المزامير الذي أنشده هو وغيره من الرهبان يوميا، وتمتلئ محاضراته عن أسفار الإنجيل على مدى أربعة وثلاثين عاما بإشارات لفقرات من الإنجيل استشهد بها من ذاكرته، ولكن ليس كما وردت بالضبط باللغة العبرية أو الإغريقية أو اللاتينية أو الألمانية، بل إن لوثر لم يترفع عند ترجمة الإنجيل عن إضافة كلمة إلى النص الأصلي لتعزيز معنى الفقرة. ومن الأمثلة الواضحة، والمثيرة للجدل، على ذلك هو إضافته لكلمة «وحده» إلى نص رسالة رومية في الآية الثامنة والعشرين من الإصحاح الثالث التي تقول: «رأينا إذا أن الإنسان يتبرر بالإيمان [وحده]، بدون أعمال الناموس.» وقد أوضح ردا على نقد هذه الإضافة أنها لا تعبر وحسب عن روح النص، ولكنها كذلك من أساليب الألمانية الفصيحة، وتجعل النص المترجم أكثر وضوحا وقوة. فقد رأى أن ترجمته يجب أن تعبر عن روح اللغة الألمانية لا الإغريقية أو اللاتينية، وعلى المترجم ألا يسأل النص اللاتيني كيف يتحدث بألمانية فصيحة، بل يجب أن ترشده «لغة الأم في المنزل، والأطفال في الشارع، والعامة في الأسواق».
على الرغم من أن نص الإنجيل لم يترجم دائما حرفيا، فقد ظل مأخوذا على محمل الجد. ورفض لوثر فكرة أن الكتاب المقدس ك «أنف من الشمع» أو «ضلع أعوج» يمكن أن يطوع لدعم الآراء الشخصية، فتعزيز المعنى الأصلي للفقرة الواردة باللغة الإغريقية أو العبرية بجعلها تتحدث باللغة الألمانية؛ يختلف عن تحميلها معنى خارجا عن نصها لكون هذا يتفق مع آراء المترجم. وعندما يتعذر فهم النص العبري أو الإغريقي، وتتعارض المخطوطات القديمة بهاتين اللغتين بعضها مع بعض؛ قد يصبح المعنى الدقيق للفقرة ملتبسا، ولاكتشاف المعنى لم يعتمد لوثر على مهارته اللغوية وحسب، حتى عندما ترجم رسائل العهد الجديد، وهي مهمة - حسبما أقر - فاقت قدرته. ففضلا على الاسترشاد بنسخة إراسموس اللاتينية، استعان على أقل تقدير بإنجيل أو اثنين من الأناجيل الألمانية الثمانية عشرة المطبوعة التي كانت متوفرة قبل عام 1522، وأرسل قبل عودته إلى فيتنبرج جزءا من ترجمته إلى سبالاتين الذي أرسلها بدوره إلى ميلانشتون أستاذ اللغة الإغريقية الجديد بجامعة فيتنبرج، والذي نقح معه المسودة الأولى للترجمة في الفترة ما بين عودته إلى فيتنبرج في مارس ونشر العهد الجديد بالألمانية في سبتمبر.
برز المزيد من جهود التعاون تلك أثناء ترجمة العهد القديم، فكان لوثر في عشرينيات القرن السادس عشر جزءا من فريق ضم ميلانشتون وماثيو أوروجالوس، الذي قدم إلى مدينة فيتنبرج عام 1521 لتدريس العبرية، وبلغ المدينة في الوقت المناسب للعمل على الترجمة. كان كل من ميلانشتون وأوروجالوس أكثر إلماما بالعبرية من لوثر، لكن إجادة الأخير لها كانت قد تحسنت مع إلقائه المحاضرات عن سفر المزامير مرتين، وإعداده ترجمة وشرح لمزامير التوبة السبع، والتي ظهرت في عام 1517. غير أنه تبين أن ترجمة العهد القديم تستغرق وقتا طويلا حتى مع أداء فريق من العلماء لها، فكانت مهمة ترجمة سفر أيوب بالغة الصعوبة، حتى إنه كان بالإمكان ترجمة 3 أسطر فقط من السفر كل 4 أيام، وبعض أسفار العهد القديم ظهرت وحدها قبل تضمينها في الإنجيل الألماني الكامل الذي نشر في فيتنبرج عام 1534. وبحلول ذلك الوقت كان سفر المزامير قد ظهر بالكامل في عدة طبعات، نشرت أفضلها عام 1531، بعد أن اجتمع فريق الترجمة لستة عشر عصرا وليلة لعمل التعديلات النهائية على الترجمة. وقال لوثر دفاعا عن ترجمته: «كانت ترجمتنا في بعض الأحيان حرفية، رغم أنه أمكننا أن نترجم المعنى على نحو أوضح بطريقة أخرى؛ لأن كل شيء يتوقف على الكلمات نفسها.» وساق مثالا على ذلك الآية الثامنة عشرة من الإصحاح الثامن والستين من سفر المزامير التي تقول: «قد صعدت إلى الأعالي، وسبيت الأسر.» والتي جرت طقوس العبادة الكنسية على الربط بينها وبين صعود المسيح إلى السماء، فرأى لوثر أن الألمانية الفصحى تقضي بترجمة الآية كالآتي: «قد أطلقت الأسرى.» لكن هذه الترجمة لا تعبر عن ثراء وجمال معنى العبرية الذي يدل على أن المسيح لم يطلق الأسرى وحسب، بل هزم قدرة الخطيئة على أسر الآثمين وأتى بالخلاص الأبدي.
طبعت أول نسخة كاملة من الإنجيل بالألمانية عام 1534 في ورشة هانز لوفت في فيتنبرج، وكانت طبعة عام 1541 هي أكثر طبعة أخضعها لوثر وفريقه للمراجعة الدقيقة من بين الاثنتي عشرة طبعة الإضافية التي أصدرتها مطبعة لوفت قبل عام 1546. ذهب الفضل الأكبر على هذه التراجم للوثر قبل وفاته وبعدها، فبعد وقت قصير من صدور الطبعة الأولى أعرب الإصلاحي أنتون كورفينوس عن حماسته لظهور إنجيل ألماني بترجمة منقطعة النظير «على يد لوثر العزيز»، وامتدح ميلانشتون لوثر في رثائه للأخير في جنازته؛ لأنه نقل الكتاب المقدس إلى الألمانية بهذا الوضوح الذي يهتدي به المزيد من القراء في المستقبل أكثر مما يهتدون بالشروح . وضم هذا الإنجيل الكامل أيضا مقدمات لوثر التمهيدية للعهدين القديم والجديد وأسفار الأبوكريفا، وللأسفار المتعددة في كلا العهدين القديم والجديد والأبوكريفا. وتشمل هذه المقدمات الكثير من أفضل تعليقاته حول قراءة الكتاب المقدس وتفسيره، وقد أتيحت لكل من اطلع على الكتاب المقدس، كما وجدت في الحواشي تعليقات بليغة، كتبها لوثر دفاعا عن ترجمته، وقدمت تفسيرا للنص، وأسهمت ورشة لوكاس كراناش في هذا الإنجيل الكامل بأكثر من 120 صورة توضيحية مطبوعة بكليشيه محفور على الخشب، وتظهر ملونة يدويا على نحو جميل في نسخة عام 2003 من إنجيل لوثر المكون من مجلدين.
شكل 4-1: العهد القديم والعهد الجديد. صفحة العنوان في الإنجيل الصادر باللغة الألمانية، 1545.
تتصل عبارة «إنجيل لوثر» أيضا بفهم الكيفية التي فسر بها لوثر الكتاب المقدس ونظر بها إلى سلطته، فقد ورث نهج القرون الوسطى في استنتاج المستويات المختلفة للمعنى من فقرات الإنجيل، غير أنه لم يطبق هذا النهج على الدوام. ففي بعض الأحيان كان يتبنى تفسيرا مجازيا، لكنه في الأغلب كان يتأرجح بين التفسير الحرفي والروحاني، وتتجلى تفسيراته الروحانية في إشارته - شأنه شأن كتبة أسفار العهد الجديد - إلى أن فقرات الكتاب المقدس بالعبرية كانت تشير إلى يسوع المسيح، وهذا التفسير ينبئ عن مذهب جليل في تناول كلا العهدين على أنهما كتاب مقدس واحد، لكنه لم يقدم إرشادات محددة عن الكيفية التي يجب أن يستجيب بها المسيحي لأوامر العهد القديم، كالأوامر الواردة في سفر اللاويين. فكان جوابه العام على ذلك منمقا وبسيطا؛ فيجب إجلال كلمات العهد القديم وردها إلى المسيح في المواضع التي تقدم فيها وعودا إلهية بالرحمة والخلاص، ويجب الالتفات إليها في المواضع التي تقدم فيها الأمثلة على الإيمان والكفر، أما في المواضع التي تقدم فيها الأحكام والقوانين، فيجب أن يتساءل القارئ هل تنطبق على المسيحيين، وأن يستخدمها كما يرتضي وفقا لمصلحته؟ وفيما يتصل بالتقاليد المسيحية رأى لوثر أن الوصايا العشر تتفق مع ناموس الطبيعة، وتمثل مرآة للحياة يرى الجميع فيها مواضع قصورهم، من ثم كانت الوصايا العشر موضوع عدد من عظات لوثر ، وشكلت شروحه لها الجزء الأول من الملخصات التي وضعها للعقيدة المسيحية في قالب سؤال وجواب.
كان المعيار الذي استخدمه لتفسيره للكتاب المقدس هو الإنجيل؛ الذي عرفه بأنه - «بمنتهى الاختصار» - «حديث عن المسيح، وعن كونه ابن الرب، وعن أنه صار بشرا من أجلنا، ومات وبعث ونصب سيدا لجميع الأشياء». كان الإنجيل هو «دليلنا ومرشدنا في الكتاب المقدس»، وقد استخدمه لوثر لتقدير مدى نفع الأسفار في كلا العهدين الأخرى، فصنف في مقدمته للعهد الجديد إنجيل يوحنا ورسائل بولس وبطرس في مرتبة تعلو على مراتب الأسفار الأخرى؛ إذ كشفت عن المسيح، وعلمت كل ما هو ضروري عن الخلاص. وفي هذه المقدمة نفسها وصف لوثر رسالة يعقوب بأنها «ليست ذات أهمية»؛ لأنها لا تمت للإنجيل بصلة. لكن رغم هذا التعليق المشين، لم يكن لوثر على استعداد لنبذ رسالة يعقوب من الإنجيل؛ فقد امتدح في المقدمة المخصصة لسفر يعقوب ويهوذا هذا السفر؛ لأنه أعلن بقوة قوانين الرب واشتمل على العديد من الأقوال الطيبة المأثورة، إلا أنه لم ير أن رسالة يعقوب كتبت على يد أحد حواريي يسوع، ولم يحصها من بين أسفار الإنجيل الرئيسة؛ ومن ثم فصل فهرس العهد الجديد الألماني، الذي صدر عام 1522، بين سفر يعقوب وثلاثة أسفار أخرى من جهة - هي سفر الرسالة إلى العبرانيين وسفر رسالة يهوذا وسفر رؤيا يوحنا - وبين الثلاثة والعشرين سفرا الأوائل من العهد الجديد من جهة أخرى، بمسافة كبيرة في أسفل صفحة الفهرس، وكان هذا الفصل هو أكثر ما أبرز بقوة العبارة التي اقتبست كثيرا عن لوثر: «كل الأسفار الأصيلة المقدسة تتفق في هذا الجانب: جميعها يعظ عن المسيح ويرسخه في الأذهان.»
لكن رغم ثقة لوثر الكبيرة ويقينه الظاهر حيال الكيفية التي يجب أن يفسر بها الكتاب المقدس؛ بدا أحيانا أنه مزعزع الثقة، ولين الجانب؛ فعندما نشرت أولى محاضراته عن رسالة أهل غلاطية بعد الكثير من المراجعات، أرسل إلى شتاوبيتس التعليق التالي:
حضرة الأب المبجل، أرسل إليك نسختين من ترجمتي الخرقاء لرسالة أهل غلاطية. لست راضيا عنها كما كنت في بادئ الأمر، وأعتقد أنه كان بإمكاني أن أقدم لها شرحا أكثر وضوحا ووفاء، لكن من ذا الذي يستطيع أن يفعل كل شيء في وقت واحد؟ ليس هناك في الواقع من يمكنه أن يقدم الكثير على الدوام، رغم هذا أنا واثق من أن رسالة بولس ترجمت بوضوح أكثر من ذي قبل، مع أنها لم ترق لذوقي بعد.
في عام 1521، كتب لوثر تعليقا مماثلا إلى ناخب ساكسونيا الأمير فريدريك حول محاضراته عن المزامير الاثنين والعشرين الأولى من كتاب المزامير، والتي وصفها بأنها مهمته الجارية. ومقرا بأنه لا يدري إن كان قد وقع على الدوام على التفسير الصحيح، رأى لوثر أن معاني المزامير لم يفها مفسر حقها تماما من التفسير من قبل، مهما بلغت شهرته، فكل شارح للإنجيل قصر عن ذلك رغم أن بعض الشارحين تفوقوا على غيرهم؛ فانتبه لوثر في كتاب المزامير إلى ما لم ينتبه إليه أوغسطين، وانتبه بعده آخرون إلى ما لم يكتشفه هو. كان السبيل الوحيد لشارحي الإنجيل هو أن يساعد أحدهم الآخر، وأن يغفروا لمن يقصر منهم، فالجميع - بما في ذلك لوثر - يقصرون في نهاية المطاف عن التفسير الوافي؛ فمن ذا الذي يجرؤ حقا على أن يزعم أنه فهم مزمورا واحدا فهما تاما؟ في هذا يقول لوثر - هنا وفي مواضع أخرى: «حياتنا تتألف من بداية ثم ازدهار، ولكن لا تصل أبدا إلى الاكتمال.» ولخص في مقدمته للمجلد الأول من أعماله الألمانية المجمعة لعام 1539 منهجه في تفسير الإنجيل في ثلاث كلمات تكشف تكوينه الرهباني: الدعاء والتأمل ثم التجربة؛ أي على المرء قبل الشروع في تفسير فقرات الإنجيل أن يتوجه بالدعاء إلى الروح القدس طلبا للإرشاد، وأن يرسخ في ذهنه كلمات النص بالتأمل، وألا يفر من أعبائه الشخصية أو نقد الآخرين له. أما التجربة، فسوف تعلمك «ليس فقط أن تعرف وتفهم، بل أن تختبر مدى صحة وحقانية وعذوبة وجمال وقوة وتشجيع كلمة الرب، إنها حكمة لا تضاهى». كان لوثر هنا يقصد تجربته مع البابوية وعلماء اللاهوت في النظام البابوي؛ إذ زعم أنه مدين لهم بشدة لهجومهم واضطهادهم وتضييقهم الشديد عليه إلى الحد الذي جعله «عالم لاهوت جيد إلى حد ما»، ولولا هذا لما كان كذلك.
بدا بفعل هذه التعليقات أن أحكام الكتاب المقدس خاضعة إلى حد ما للأهواء الشخصية، وقد كانت كذلك بالفعل؛ فعبارة «بالكتاب المقدس وحده» (
sola scriptura ) - التي أصبحت بالنسبة للبعض شعارا للبروتستانتية - لم تعن للوثر قط أن الإنجيل هو المرجع الوحيد في الشئون كافة، أو أنه يقدم جوابا قاطعا موضوعيا لجميع المسائل، لكنها عنت أنه المرجع الرئيس في جميع مسائل الكنيسة الخلافية. برز مذهب «بالكتاب المقدس وحده» في صراع لوثر مع النظام البابوي كتعبير عن رجحان سلطة أحكام الإنجيل على آراء علماء اللاهوت الأوائل، والقوانين الكنسية وأوامر المجالس الكنسية والبابوات، فقد استعان كلا الطرفين بهذه السلطات في وقت أو آخر، فاقتبس لوثر في دفاعه عن موقفه أمام الكاردينال كاييتان في عام 1518 أقوال أوغسطين، وأقوال برنارد راهب دير كليرفو، وبعض فقرات الكتاب المقدس، إلا أن لوثر رأى أن الدليل القاطع المؤيد لموقفه يأتي من الكتاب المقدس، فيقول: «الحقيقة الإلهية ممثلة في الكتاب المقدس تعلو فوق البابا، ولا أرتقب أحكام البشر بعدما عرفت أحكام الرب.» وقد فسر في مناظرته مع جون إيك كلمات المسيح إلى الحواري بطرس في إنجيل متى في الإصحاح السادس عشر، وإنجيل يوحنا في الإصحاح العشرين كدليل قاطع في قضيته، ينفي انحدار البابوية من أصول إلهية. وفي فورمس، اختتم لوثر خطبته بالاحتكام، ليس فقط إلى الكتاب المقدس، بل إلى الحجج المقنعة أيضا وإلى ضميره. إذن ما المرجعية الحقيقية التي استند إليها هنا؟ هل هي الكتاب المقدس، أم الحجج المنطقية، أم الضمير؟ الإجابة الصحيحة هي كل ما سبق؛ إذ رأى أن الإنجيل في المواضع التي تتصل بمنبع الخلاص وكيفية الفوز به اتسم بالوضوح المطلق، إلا أنه أيضا وعى أن الحجج المقنعة يجب أن تبين هذا الوضوح في جميع المسائل الخلافية؛ حتى ينحاز الضمير إلى الاستقامة. فبالنسبة للإصلاحيين، مرجعية الكتاب المقدس لها شق ذاتي وشق موضوعي.
شكل 4-2: صفحة العنوان، «حرية المسيحي»، 1520.
1
من المهم بالقدر نفسه أن تقترن مرجعية الكتاب المقدس بمبدأ الحرية المسيحية الذي فسره لوثر بتبسيط بليغ في مقاله عام 1520 عن الموضوع ذاته، وفي عظاته بفيتنبرج عام 1522. عنت الحرية المسيحية - وفقا لما جاء في الكتاب المقدس - أن الإيمان بالمسيح يجب أن يكون شرط الخلاص الوحيد، وفيما عداه لا يفرض على المسيحي شيء آخر. فلو كان الإنجيل ليستخدم - على سبيل المثال - كسلطة وهمية لعزل واستبدال كبير أساقفة روما، لما كان لحركة الإصلاح الديني غاية. وكما فطن لوثر وزملاؤه أثناء تنظيمهم للكنائس البروتستانتية، كان من الضروري وضع بعض القواعد والسياسات التي يقوم مبدؤها الرئيس، لا على اتباع الآيات والتقاليد الإنجيلية بحذافيرها، بل على تيسير الحرية المسيحية وحمايتها. ويقول لوثر بوضوح شديد: «أنا أعلم الناس ألا يثقوا إلا في يسوع المسيح وحده، لا في الدعاء أو فضائلهم أو حتى أعمالهم.» لعل الكتاب المقدس كان في حد ذاته المرجع الرئيس للبروتستانتيين الآخرين، إلا أنه لم يكن كذلك للوثر؛ كان مرجعا لأن قصته عن الوعد والخلاص عرفت الحرية المسيحية وأصرت عليها.
كان مفهوم مرجعية الكتاب المقدس لدى لوثر واسعا، واتسمت مبادؤه في التفسير بالمرونة؛ بأنها مزيج من الأشياء التي يميل المفسرون المعاصرون إلى الفصل بينها، مثل ما عناه النص المقدس في الماضي على سبيل المثال، وما الذي يجب أن يعنيه اليوم. ففي بعض الأحيان كان يطبق حكما إنجيليا تطبيقا حرفيا على صفه الدراسي أو على رعايا كنيسته في القرن السادس عشر، فيما رفض في أحيان أخرى الالتفات إلى بعض فقرات الإنجيل لأنها اتصلت بالماضي ولم تجمعها علاقة مباشرة بالحاضر. بل كانت كلمة «اليوم» إحدى الكلمات المفضلة لديه في عظاته ومحاضراته التي بدت أحيانا بدورها شبيهة بالعظات. وكان الإنجيل إلى حد كبير هو عالمه، فالتقويم الذي اتبعه هو التقويم الكنسي، والتاريخ الذي اعتنقه هو تاريخ الخلاص البشري وتمامه يوم البعث، أما معلموه فهم البطاركة والرسل والحواريون والمعلمون على مر تاريخ المسيحية، وعنت الكنيسة له جموع المؤمنين في مختلف أنحاء الأرض. والإنجيل هو كتاب كنيسته، ولم يؤمن بعكس ما كان سائدا في هذه الأيام بأن للأفراد وحدهم أن يفسروا الإنجيل كيفما شاءوا، ليفرضوا تفسيرهم بعدئذ على من سواهم في الكنائس والمجتمع؛ إذ عاش في عهد سابق على إتاحة شراء الأناجيل واستخدامها كمرجع مستقل لكلم الرب يكفي في حد ذاته بدون الكنيسة، ومن ثم لم يكن قادرا على تخيل سيناريو كهذا رغم أن المطبوعات والتراجم التي صدرت عنه وعن غيره من أنصار حركة الإصلاح الديني جعلت هذا السيناريو واقعا. لكن آخر الأقوال التي نسبت إليه عارضت مباشرة الفصل بين الإنجيل والكنيسة، فيقول:
لا يستطيع أحد أن ينغمس في الكتاب المقدس كليا، ما لم يكن قد حكم الكنائس لألف عام، مع الرسل. نحن فقراء إلى الكنيسة. إنها الحقيقة.
هوامش
الفصل الخامس
المسيحية الجديدة
لم يجد لوثر - شأنه شأن غيره من المصلحين الدينيين - الكثير من مظاهر الصلاح الديني التي مارسها المسيحيون من حوله في الإنجيل. وكانت إحدى هذه الممارسات - وهي الحصول على صكوك الغفران لتجنب دفع كفارة الخطايا واختصار الإقامة في منطقة المطهر - موضع انتقاده في أطروحاته الخمس والتسعين التي أشعلت فتيل حركة الإصلاح الديني. بحلول الوقت الذي حرم فيه كنسيا بعد أربعة أعوام، اقترح لوثر طريقة بديلة لممارسة شعائر المسيحية، وهي طريقة اعتمدت على ما آمن أن مسيحية أواخر العصور الوسطى أهملته وحرفته، لكن لم تكن المسيحية التي أتى بها جديدة تماما بالطبع، فعندما انبرى له الإصلاحيون الأكثر تطرفا عام 1540 قال مقرا:
نقر من جانبنا أن الكثير من ملامح المسيحية ومما هو خير قائم تحت النظام البابوي؛ فنجد بالفعل كل شأن من شئون المسيحية والخير قائما في ظل النظام البابوي ونبع منه. على سبيل المثال ... النصوص المقدسة الحقيقية، والتعميد الحق، وقرابين المذابح الحقة، ومفاتيح غفران الخطايا الحقيقية، ودور الدير الصحيح، وخلاصة العقيدة الحقيقية متمثلة في الصلاة الربية، والوصايا العشر، وقوانين الإيمان.
لماذا إذن انتقد لوثر الكنيسة الرومانية، وعد البابا المسيح الدجال؟
لأن [البابا] لا يتشبث بكنوز المسيحية التي ورثها عن الحواريين، بل هو يلحق بها إضافات من الشيطان، ولا ينتفع بهذه الكنوز لإصلاح الكنيسة، بل يسعى لخرابها بإعلاء أوامره فوق أوامر المسيح. إلا أن المسيح حفظ مسيحيته حتى في غمرة هذا الخراب ... كلاهما يبقى في الواقع؛ فالمسيح الدجال يجلس في هيكل الله (الإصحاح الثاني من رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل تسالونيكي، الآيتان 3 و4)، بينما يظل الهيكل إلى الأبد معبد الرب بقوة المسيح.
لم يعتزم لوثر تأسيس كنيسة جديدة، بل تمثلت خطته، التي تبلورت بعد أن قرر أن يصبح إصلاحيا دينيا، في استعادة المسيحية الحقة التي فقدت، ومع ذلك انطوت خطته على تغييرات ثورية في مظاهر وطقوس العبادة إلى حد دفع ببعض رجال الدين والعامة إلى مقاومة هذه التغييرات. فهؤلاء الذين اعتنقوا المذهب البروتستانتي قد مارسوا شعائر مسيحية مختلفة تماما عما عهدوه؛ لأنها لم تكن مذهب أجدادهم.
كان منظور لوثر إلى مظاهر صلاح العذراء مريم في أواخر العصور الوسطى من النماذج التقليدية المعبرة عن خطته؛ فرفض أن تستخدم أي طقوس أو ألقاب تعبر عن حب مريم إذا كانت تنتهك دور ابنها؛ فهي لم تكن شريكا للمسيح في منح الخلاص، ولم تكن الأم الرحيمة التي تقي المؤمنين من قسوة الحساب. كان لقبها «ملكة السماء» مناسبا لها من ناحية، إلا أنه «لا يجعلها إلهة تمنح الهبات وتقدم يد العون كما يفترض البعض عندما يتضرعون ويفرون إليها بدلا من اللجوء إلى الله»؛ فأعظم لقب يمكن أن يدعوها المؤمن به هو لقبها القديم «أم الله»، ومن ثم حذر لوثر أن من يود إجلال السيدة مريم عليه ألا يفردها بذلك:
بل عليه أن يتأملها في وجود الله، وفي منزلة أدنى بكثير منه، وأن يجردها من كل مراتب الشرف، وأن يعدها في مرتبة «متواضعة» (سفر لوقا، الإصحاح الأول، الآية الثامنة والأربعون)، ثم عليه أن يتعجب من فيض نعمة الله الذي نظر إلى هذه الفانية المزدراة واحتضنها وباركها ... إنها لا تريدكم أن تلجئوا إليها، بل تريدكم أن تلجئوا من خلالها إلى الله.
لم يعترض لوثر على مكانة مريم كقديسة شافعة في كنيسة بلدة فيتنبرج ، أو يسع إلى إزالة صورتين لها من بوابة الكنيسة الغربية؛ فوفقا لأحد المصادر زينت صورة للعذراء أحد جدران مكتبه، وألهمته بقول العبارة التالية: «ينام الطفل يسوع على ذراع مريم ليستيقظ يوما ما ويسألنا كيف أدرنا حياتنا.» وقد قبل بتقاليد مقبولة في إجلال السيدة مريم في المسيحية، تقاليد وجب أن تتطهر من صور المغالاة التي أضفيت إليها.
استهدف لوثر كثيرا صور المغالاة تلك وغيرها من ملحقات العصور الوسطى، ففي عظة ألقاها في أوائل ثلاثينيات القرن السادس عشر عرف «فاعلي الإثم» والرسل الكاذبين الذين يشير إليهم سفر متى (في الإصحاح السابع، في الآيتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين) بأنهم خصومه في الكنيسة الرومانية، وعلل استنكاره لهم قائلا:
تعرضون علي تعاليمكم وبراهينكم التي ترشدني إلى تسابيح ورحلات حج وعبادة قديسين وصلوات قداس ورهبنة وغيرها من الأعمال الخاصة التي اخترتم بأنفسكم القيام بها، لكنني لا أجد فيها شيئا عن المسيح، عن الإيمان، عن المعمودية، أو عن القرابين [المذابح] المقدسة أو الأعمال الصالحة التي علمني المسيح أن أمارسها في موقفي تجاه الآخر.
لا يحدد هذا الاتهام الذي وجهه لوثر «الإضافات» التي رفضها وحسب، لكنه يوضح من جديد «كنوز» المسيحية التي أراد أن يطهرها ويحفظها، ألا وهي تمجيد المسيح وحده فوق كل شيء، والإيمان الحق والأعمال الصالحة الحقيقية، والاستخدام السليم للقرابين المقدسة، وسيوضح تناول كل هذه الموضوعات على الترتيب المسيحية المجددة التي أراد لوثر إعادتها لألمانيا.
أول هذه الموضوعات - وهو تمجيد المسيح وحده - شكل المبدأ الرئيس لحركة الإصلاح الديني؛ لأنه كان المعيار الذي أصدر به لوثر حكمه على عقائد الكنيسة الرومانية ومظاهر العبادة بها في أواخر العصور الوسطى، ووظيفة هذا المعيار هي حماية تفرد المسيحية بمنع أي فرد كان من انتزاع مكانة المسيح كالمخلص الأوحد للعالم. وقد كان التهديد الأقرب لمكانته هو رفع مكانة السيدة مريم إلى مكانة شريكه في منح الخلاص، لكن عبادة القديسين بوجه عام كانت مرفوضة بسبب بعض الشعائر المتصلة بها كالتضرع إلى القديسين بدلا من الرب ، وإسناد معجزات وقوى حارسة خاصة بالقديسين الشافعين - كالقديسة أورسولا والقديس كريستوفر - وكجمع الآثار المقدسة وإيداعها في الأضرحة المحلية، وتقديم الوعود بحصول المعجزات وبالغفران للمسيحيين الذين يحجون إلى تلك الأضرحة، وإضافة مذابح لأضرحة بعض القديسين التي تجذب نساكا مخلصين أكثر من المذبح الرئيس الذي يحتفل فيه بالقداس، وتسمية الأخويات وكنائسها الصغيرة بأسماء القديسين، وتأجير القساوسة لتلاوة صلوات خاصة لأنفسهم ولأقاربهم. رغم هذا تمتعت عبادة القديسين بشعبية؛ لأنها أتاحت للمؤمن منفذا مباشرا ومحددا وشخصيا إلى عالم القوى المقدسة بدلا من الثالوث المهيب المنفصل عنه، ومن هنا لم يتقبل العامة على الدوام فكرة تمجيد المسيح وحده أو يتفهموها حتى، فلم يضطرون إلى ترك منفذهم المباشر المادي إلى العون الإلهي لآخر لا يلمسونه بالقدر نفسه؟ بل لم يتخلوا عن قناة الوصل تلك حتى عندما تحولوا إلى البروتستانتية، وعليه أتاح لوثر والإصلاحيون الآخرون اللجوء إلى ملائكة حارسة بدلا من القديسين (ولو ببهرجة أقل وقوى أضعف)، فتقبلها المسيحيون البروتستانتيون بسرور.
واجه لوثر والإصلاحيون الآخرون التحدي نفسه لدى تدريس تعاليم الإيمان الحق والأعمال الصالحة؛ ففهم الفروق الدقيقة التي ميزت مبدأ «الإيمان وحده» كان أصعب على العامة من فهم مبدأ «تمجيد المسيح وحده»، فكان مبدأ «الإيمان وحده» في مسيحية لوثر الجديدة يعني أن الرب يتقبل المؤمن لإيمانه بالمسيح وحسب، وليس لتمام إيمانه وتفعيله بالأعمال الصالحة التي تستأهل الثواب. ومع ذلك، يتوقع من المؤمن عمل الصالحات؛ لأن الأعمال الصالحة تترتب دائما على الإيمان الحقيقي. كتب لوثر في مقدمته عن سفر أهل رومية في الإنجيل الألماني أن الإيمان «شيء نابض بالحياة مفعم بالحركة والنشاط والقوة»، ينجز على الدوام الأعمال بدون أن يسأل عما إذا كان إنجازها ضروريا أم لا. فهو يقول: «الفصل بين الأعمال والإيمان مستحيل بقدر ما يستحيل الفصل بين الحرارة والنور اللذين ينبعثان من النار.» فكان مفاد رسالته التي وصلت إلى سامعيه وقراء كتاباته أن: «الإيمان وحده يخلصكم، لا الأعمال الصالحة، لكن مع ذلك عليكم بعمل الصالحات؛ فهي لا تمنحكم الخلاص، لكن لا غنى عنها للعيش كمسيحيين.» كان هذا هو أول الفروق الدقيقة التي ميزت مبدأ «الإيمان وحده»؛ الأعمال الصالحة ضرورية، ولكنها ليست ضرورية للفوز بالخلاص.
ثاني الفروق الدقيقة التي ميزت هذا المبدأ هو تعريف الأعمال الصالحة. كانت الأعمال الصالحة في عرف العصور الوسطى هي بالأساس أنشطة دينية تستأهل الثواب كالأنشطة الدينية التي عددها لوثر أعلاه. وكانت هذه الأعمال موجهة للرب؛ لأن فاعليها حسبوا أنها تكسبهم الخلاص. وبالنسبة للوثر، كان هذا هو النوع الخاطئ من الأعمال الصالحة التي يختارها المسيحي بنفسه؛ ولكن كان ثمة نوع صائب فسره في رسالة رائعة (نشرت عام 1520) تطرح مقدمة مباشرة لعقيدة لوثر ومنطقه لحركة الإصلاح الديني. يتألف النوع الصائب من الأعمال الصالحة في منظوره من الالتزام بالوصايا العشر، التي توصي أولاها بالإيمان نفسه الذي يفي بوصية عدم إشراك إله مع الله، وقد فسر ببساطة متناهية في ملخصه القصير للعقيدة المسيحية كيف يفي الإيمان بهذه الوصية قائلا: «علينا أن نتقي الرب ونحبه، ونثق به فوق كل شيء.» نقيض الإيمان هو الشرك، وهو الثقة في آلهة أخرى من أي نوع، سواء الأوثان التي تصنع بالأيدي، أو غيرنا من البشر، أو المثل العليا أو السلع المادية. فكان الإيمان كأول الأعمال الصالحة الحقة موجها للرب، وكذلك كان إجلال اسم الرب في (الوصية الثانية)، وتذكر يوم السبت (في الوصية الثالثة) ولكن ليس لأن اتباع هذه الوصايا الثلاث الأولى يمنح الخلاص، بل الإيمان بالله هو مصدر جميع الأعمال الصالحة الحقة التي توجه للخارج نحو إخواننا في الإنسانية في طاعة سائر الوصايا، فهذه الأعمال ليست من تعاليم الدين، ولكنها تكريس من المرء لحياته العامة والخاصة للأعمال الخيرية والصدق والتعاطف، وتقديم التشجيع والدعم والعون والإنصاف. ويوجز لوثر الاختلاف بين الأعمال الصالحة حقا وغير الصالحة كالآتي:
أي عمل لا يمارس فقط لإخضاع الجسد للسيطرة أو لخدمة إخواننا في الإنسانية (ما داموا لا يطالبون بما يخالف مشيئة الرب)؛ غير مجد وليس من تعاليم المسيحية؛ لذا أخشى أن القليل فقط من الجمعيات الكهنوتية والأديرة والمذابح والطقوس الكنسية القائمة اليوم، إذا وجدت، تعد حقا من تعاليم المسيحية، ويدخل في ذلك الصيام والصلوات الخاصة التي تتلى في بعض أيام أعياد القديسين؛ لذا أكرر أنني أخشى أننا في جميع هذه الأعمال لا نهدف إلا إلى صالحنا؛ اعتقادا منا بأننا عبرها نتطهر من آثامنا وننال الخلاص.
لكن يرجح أن الكثيرين حسبوا رغم هذه التحذيرات المتكررة بعدم إهمال إخواننا في الإنسانية أن «الأعمال الصالحة لا تستأهل الثواب، ومن ثم لا داعي لعمل الصالحات من أي نوع».
لا شك أن لوثر والوعاظ الذين حاولوا إقناع عوام الناس بغير ذلك لم يهدفوا إلى دفعهم لإهمال الكنيسة أو الأعمال الخيرية، فمع أن الأنشطة الدينية لم تعد تستأهل الثواب وانتقصت أهميتها، احتاج البروتستانتيون لتغذية الإيمان في القلوب إلى مصادر دينية، كالعظات والترانيم والقرابين المقدسة وملخصات العقيدة والصلوات الموجهة لله، والإلمام بالكتاب المقدس، ومن هنا شرع لوثر وزملاؤه في توفير ذلك، فأصبحت العظات الطويلة حول النص المقدس - عوضا عن العظات القصيرة - هي محور العبادة البروتستانتية، حتى في الكنائس اللوثرية والأنجليكانية التي تبنت نسخا معدلة من طقوس العبادة التاريخية. فاستخدمت جميع المذاهب البروتستانتية المزامير والترانيم لإثراء عبادتها وللتعبير عن تقواها. ووفقا لكريستوفر براون كان أكثر المظاهر إفصاحا عن نجاح حركة الإصلاح الديني في بلدة يوخيمستال الألمانية هو إنشاد الترانيم اللوثرية في المنازل. وبعض الترانيم كانت أدوات لتلخيص العقيدة، فكانت ترنيمة الإصلاحي بول شبيراتوس «أتانا الخلاص» ملخصا للتعاليم البروتستانتية. وقد عبرت كاثارينا شوتس زيل عام 1534 عن أهمية الموسيقى في مقدمة طبعتها عن كتاب أناشيد استخدمته الأخوية البوهيمية قائلة: «علي بشدة أن أصف هذا الكتاب بأنه كتاب تعاليم وصلوات وتسابيح، لا كتاب أناشيد، رغم أن كلمة «أناشيد» البسيطة جيدة ومناسبة، فأعظم مديح للرب عبر عنه في الأناشيد.» لتعليم الناس المسيحية الجديدة، نشر لوثر عام 1529 ملخصات عقائدية صغيرة وكبيرة استخدمت في النهاية للإرشاد في أغلب الأبرشيات البروتستانتية، مع أنه شجع رعاة تلك الأبرشيات على كتابة الملخصات العقائدية لأبرشياتهم بأنفسهم، وشملت ملخصاته شروحا لثلاثة نصوص موروثة؛ هي الوصايا العشر وقوانين الإيمان والصلاة الربية، غير أن هذه النصوص أوضحت أيضا الشكل الجديد الذي اتخذته شعائر القرابين المقدسة التي أدخلت على الكنائس البروتستانتية.
أوضح لوثر في رسالة كتبها عام 1520 بعنوان «السبي البابلي للكنيسة» أن الأسرار المقدسة السبعة لكنيسة أواخر العصور الوسطى، يجب أن ينخفض عددها إلى ثلاثة؛ هي العماد، والعشاء الرباني، والكفارة. وأسمى السر الأخير من هذه الأسرار بسر الاعتراف والإبراء؛ فالأسرار المقدسة في عرفه يجب أن يأمر بها الكتاب المقدس، وأن تتصل بوعد روحاني وعنصر مادي يرى ويسمع بوضوح عند أدائها. كما رأى لوثر أن العماد والعشاء الرباني وحدهما يفيان بلا شك بهذه الشروط؛ فالماء يستخدم في العماد، ويتم تناول الخمر والخبز في العشاء الرباني، أما الاعتراف والإبراء فلم يدخل فيه عنصر مادي؛ ومن ثم في غضون وقت قصير لم يعد من أسرار الكنيسة - لا سيما أنه لم يكن له دور سوى تجديد وعد الغفران والخلاص الأبدي الذي يمنح في العماد. كان طقس الكفارة قد أصبح في العصور الوسطى أهم طقوس الأسرار المقدسة؛ لأن العماد لم يمثل إلا بداية حياة المسيحي، وما أن ترتكب الخطيئة بعد العماد يجب أن يعترف بها المؤمن وأن تغتفر وأن يعوض عنها بكفارة يحددها القس. أبقى لوثر في مذهبه على الاعترافات العلنية ولم يرفض الاعترافات الخاصة، لكنه منع الكفارة لأنها دعمت طقس استحقاق الثواب؛ فالآثمون التائبون لا يغفر لهم تماما إلا بدفع ما يدينون به لخطيئتهم عبر الكفارة التي يحددها القس، أو بالحصول على صكوك الغفران التي تبرئهم من الإثم، في حين رأى لوثر أن الإبراء من الخطايا سواء سرا أو علنا يسري فورا؛ لأن الغفران غير المشروط كفله العماد؛ إذ إن الوعد بالغفران والخلاص الذي يمنح في العماد يسري إلى الأبد، ويصبح عماد حياة المسيحي أيا كان عمر من يعمد، ولهذا السبب أبقى لوثر على عماد الأطفال وعده أهم الأسرار المقدسة.
رفض لوثر تفسير العصور الوسطى للعشاء الرباني، بكل ما ينطوي عليه من تداعيات، على أنه شبه تجديد لتضحية المسيح على الصليب لغفران الخطايا، وكان يبغض الممارسات التي تسيء إلى هذه المناسبة، كالإكثار من صلوات القداس التي أباحها هذا التفسير. كان من السهل عد صلاة القداس - بوصفها قربانا مقدسا يتوجه به القس إلى الرب - عملا صالحا إعجازيا، يمكنه أن يثيب العامة الذين يشاهدون أداء القداس أو يدفعون المال للقساوسة لتلاوة صلاة القداس بانتظام لهم ولأحبائهم بعد موتهم، فالبعض حسب أنه سيجمع ثوابا أكبر كلما حضر المزيد من صلوات القداس في يوم محدد، وقيل لآخرين إن العمر لا يتقدم بهم في الوقت الذي يمضونه في صلوات القداس.
أما لوثر فرأى أن العشاء الرباني (الذي يدعى أيضا بالقداس والقربان المقدس والعشاء الإلهي) ليس قربانيا بل مقدسا؛ أي إنه ليس طقسا لتقديم القرابين إلى الله، بل هو هبة الله إلى متلقي هبته، وقد أسسه المسيح في العشاء الأخير، وعفا فيه باستمرار عن الخطايا بتجديد وعد المعمودية بالخلاص وتعزيز الإيمان. وللتأكيد على أنه هبة من الله أدخل لوثر وغيره من البروتستانتيين تغييرات جذرية على أسلوب الاحتفال به؛ فأولا: كانت الصلاة تتلى باللغة العامية لا اللغة اللاتينية. وثانيا: حلت كلمات المسيح البسيطة (كلمات التأسيس) في العشاء الأخير محل الصلوات الطويلة التي صاحبت تقديم القرابين، عندما قال: «هذا الخبز هو جسدي الذي يبذل عنكم، وهذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عن الناس أجمعين لمغفرة الخطايا.» وثالثا: بناء على هذه الكلمات لم يقتصر تقديم الخمر على القسيسين فقط، ولكنه قدم بعد الخبز للحاضرين من العامة، وكان منح الخبز والخمر (كليهما) هو أكثر التغييرات تحريكا لمشاعر بعض العامة الذين تناولوا كأس الخمر التي لم يلمسوها من قبل بأيد مرتعشة، ولم يعد القداس عرضا يشاهد، بل وجبة تتلقاها الأرواح المشتاقة لها بالتوبة والشكر والسرور؛ ومن ثم لم يكن من المتوقع أن يحصل الجميع المشاركون في القداس على الأسرار المقدسة، ليس في الكنائس اللوثرية على الأقل. فكان طقس الاعتراف والإبراء - سواء العلني أو السري - يسبق في العادة العشاء الرباني، ولا يشارك في وجبة الأسرار المقدسة إلا من يودون الحصول عليها. ولم يعد تلقي الأسرار المقدسة فرضا كما كان منذ مجمع اللاتيران الرابع (الذي عقد عام 1215)، بل صار عطية إلهية تسكن الضمائر ولا تثقلها بعبء، كما لم يعد طقسا رسميا. كتب لوثر هذا قائلا: «إن كان المرء يصبح مسيحيا لمجرد أنه تلقى الأسرار المقدسة (الخمر والخبز معا)، فلن يكون هناك ما هو أبسط من التحول إلى المسيحية، فيصبح حتى ممكنا أن يوسم خنزير بأنه مسيحي.» أكل الخبز وشرب الخمر لا يكفيان لذلك، بل يجب أن يستمع متلقو الخمر والخبز بعناية إلى وعد الغفران، وأن يؤمنوا به بقلب يملؤه الامتنان.
كانت رسالة «طقس القداس والعشاء الرباني» التي صدرت عام 1523 هي أولى مراجعات لوثر لطقوس القداس، ومثلت نقلة في سياساته. كان قد استعان إلى تلك النقطة بالكتب والعظات فقط للدعوة للعدول عن «الآراء المشينة للدين» فيما يتصل بالعبادات، أما سياسته الجديدة فلم تهدف إلى التأثير في القلوب بالكلمات وحسب، بل إلى إعمال الأيدي وتحقيق نتائح ملموسة، فنشر عام 1526 طقوسا أخرى للقداس - بالألمانية تماما هذه المرة - وأعد طقوسا دينية أخرى للعماد والزواج ولمناسبات أخرى، كما ترجم وألف أكثر من 35 ترنيمة، أشهرها هي ترنيمة «الرب قلعتنا الحصينة».
ظهرت أولى النسخ التي ما تزال قائمة إلى اليوم لترنيمة «الرب قلعتنا الحصينة» مطبوعة في عام 1531، إلا أن تاريخ كتابتها قد يرجع إلى عام 1528. قامت هذه الترنيمة على المزمور السادس والأربعين من سفر المزامير، واقترحت العديد من المناسبات في تفسير الدافع إلى تأليفها؛ كالتهديد التركي، وبناء الحصون في أرجاء فيتنبرج المختلفة، وتفشي وباء في هذا الإقليم، ووفاة ابنة لوثر إليزابيث. ونشر ترنيمة جديدة في عام 1529، وتوفرت لهذه الترنيمة بحلول عام 1900 ما يزيد عن 80 ترجمة ب 53 لغة، ويمكن اليوم إنشادها بمائتي لغة، أما ترنيمة «بعيدا في الإسطبل» الخاصة بعيد الميلاد، والتي تنسب كثيرا إلى لوثر، فقد ظهرت للمرة الأولى في أمريكا في القرن التاسع عشر.
غير أن لوثر رفض أن تكون طقوس العبادة التي وضعها ملزمة، فمع أن الطقوس الشكلية الصحيحة - كتلقي الخمر والخبز معا - كانت مهمة، إلا أن انتهاجها لم يكن ملزما، فكانا يتبعان الإيمان والحب في المنزلة. يقول لوثر :
قدمت تعاليمي بحيث تقود أولا وآخرا إلى معرفة المسيح؛ إلى الإيمان الخالص الصحيح والحب الصادق، ومن ثم إلى الحرية في جميع السلوكيات الظاهرة، كالمأكل والمشرب والملبس والصلاة والصوم، وفي شئون الأديرة والقرابين المقدسة، وجميع السلوكيات الظاهرة أيا كانت، ويستخدم هذه الحرية من يحمل في قلبه الإيمان والحب؛ أي المسيحي الحق، ولا يمكننا ولا ينبغي لنا أن نفرض على هذا المسيحي أي قانون بشري يقيد ضميره أو أن نسمح لأي شخص آخر بذلك.
كانت صورة المسيحية الجديدة كما تراءت للوثر صورة لمدينة فاضلة، وذكرته الخلافات التي أثارتها تلك الرؤيا بذلك كل يوم، فلم ينتقده خصومه في الكنيسة الرومانية وحسب، بل انتقده أيضا زملاء سابقون له وآخرون ممن حسبوا أنه تمادى في التغييرات التي أدخلها إلى المسيحية أو لم يحدث تغييرات كافية فيها. لقد أجمع أغلب البروتستانتيين - من حيث المبدأ - على وجوب تغيير صورة القداس، ولكنهم لم يتمكنوا من الإجماع على طبيعة العشاء الرباني، فنظر إليه لوثر على أنه قربان مقدس بجسد المسيح ودمه الحقيقيين، فيما رأى إصلاحيون آخرون - أشهرهم كارلشتادت وأولريش زفينجلي وجون كالفن - أن الإيمان بتمثل المسيح بجسده ودمه فعليا في الخمر والخبز يشبه عقيدة استحالة الشكلين التي سادت العصور الوسطى، والتي تعني تحول مادة الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. رفض لوثر تلك العقيدة، لكنه آمن بأن المسيح يتمثل حقا في الخبز والخمر؛ لأنه قال إن الخبز هو جسده، والخمر هو العهد الجديد الذي يكتبه بدمه. أما زفينجلي بالأخص فرأى أن لوثر يتبنى منظورا ماديا قد يشجع الخرافات الشائعة، كسرقة خبز القربان المقدس، وعزو قدرات خارقة إليه؛ فرأى كارلشتادت وزفينجلي أن المسيح عنى أن يرمز الخبز والخمر إلى جسده، وأن يلفتا المؤمن إلى الصليب الذي ضحى عليه المسيح لخلاصه، في حين أصر لوثر على أن العشاء الرباني لا يذكر وحسب بموت يسوع تضحية، بل يعبر في الواقع عن الغفران الذي فازت به تضحية المسيح. لم ينته هذا الخلاف بين لوثر وزفينجلي قط، وانقسم أتباعهما تدريجيا بين الكنائس اللوثرية وكنائس حركة الإصلاح الديني، التي سيطر نفوذها على أجزاء مختلفة من أوروبا.
لم يختلف البروتستانتيون إلا نادرا بشأن الصلوات، لكن تعديلاتهم على أساليبها السائدة في أواخر العصور الوسطى اتسمت بالصرامة وبأنها مثيرة للجدل؛ فقد تضرع مسيحيو أواخر العصور الوسطى كثيرا مستعينين بالتسابيح والوسائل التذكيرية إلى السيدة مريم والقديسين، وأثيبت صلوات بعينها بصكوك الغفران، كما جاء في بعض كتيبات العبادة ككتاب صلوات «حديقة الروح الصغيرة» الذي طبع للمرة الأولى عام 1498 في مدينة ستراسبورج، وتوفر بعدها بوقت قصير بالنسخة الألمانية، التي زينت بصور توضيحية جميلة، واحتوى على العديد من الصلوات المناجية لكثير من الشخصيات المقدسة من أجل الكثير من المناسبات الشخصية والشعائرية. وانتقد لوثر هذا الكتيب وغيره من الكتيبات المشابهة في مقدمته لكتابه «كتاب الصلوات الشخصي» الذي صدر عام 1522 قائلا:
أرى أن كتب الصلوات الشخصية ليست بلا شك أقل الكتب إثارة للاستهجان بين الكتب والعقائد العديدة الضارة والخادعة التي تضلل المسيحي، وتؤسس عددا لا حصر له من الاعتقادات الخاطئة. ترسخ هذه الكتب في رءوس البسطاء إحصاء الخطايا التعس والذهاب للاعتراف، وسخافات أخرى ليست من المسيحية في شيء عن الصلوات إلى الله وقديسيه! بالإضافة إلى ذلك، فهذه الكتب تمتلئ بوعود بالغفران، وتصدر بزخارف بالحبر الأحمر وعناوين جميلة. يجب إدخال تعديلات أساسية شاملة على هذه الكتب ما لم يجب محوها تماما.
طرح لوثر كتيبه عن الصلوات معللا ذلك بأنه لا يملك الوقت لإجراء مثل هذه التعديلات، ومؤكدا على أن الصلاة الربية تكفي في جميع الأوقات، وعلى أن التوجه بصدق على الدوام إلى الله أكثر أهمية من الاسترسال في كلمات الدعاء. إلا أنه - وهو نفسه يشتهر بالاسترسال في الحديث - تطرف في حثه على ذلك إلى حد قد يؤذي أسماع المتقين، حتى إنه طلب من أحد النبلاء النمساويين توفيت زوجته، في خطاب عزاء أن يتوقف عن دفع المال نظير جميع صلوات المساء والقداس والصلوات اليومية من أجل زوجته، ونصحه بدلا من ذلك قائلا:
يكفي لسموك أن تتضرع بإخلاص مرة أو مرتين من أجلها، فقد وعد الرب أن كل ما تطلبه منه وتؤمن بأنك ستناله فستناله حتما (سفر لوقا الإصحاح الحادي عشر، الآية التاسعة والعاشرة). أما إن كررت الدعاء مرة بعد أخرى من أجل الشيء نفسه، فهذا ينم عن عدم تصديق الله، فلا تزيد الرب بصلاتك التي يعوزها الإيمان إلا سخطا. لا شك أن علينا أن نتضرع على الدوام إلى الله، ولكن علينا أن نفعل ذلك موقنين ومؤمنين بأنه يسمع دعاءنا، وإلا كان دعاؤنا غير مجد.
أعرب لوثر في الأعوام الأخيرة من حياته عن رضاه عن المسيحية الجديدة الناشئة بفضل جهوده، وإحباطه منها. لكن كان من المحتم أن يولد مشروع هائل بحجم حركة الإصلاح الديني كلا الشعورين. فعلى الرغم من إصرار لوثر على أن المؤمن الذي يتبرر بإيمانه فقط وبإخلاصه في حب الرب، يظل مذنبا بحاجة إلى الغفران، فقد تصور عالما مسيحيا مليئا بقديسين أكثر من المذنبين، لكن - كما أثبتت الأجيال اللاحقة - تبين أن تلك غاية متعذرة التحقيق.
الفصل السادس
الإصلاح السياسي
في 25 سبتمبر عام 1513، أصبح المستكشف الإسباني فاسكو نونييز دي بالبوا أول مستكشف أوروبي شهير يتطلع إلى المحيط الهادي من شاطئ العالم الجديد من إحدى قمم برزخ بنما. كان لوثر قد ألقى قبلها بأربعين يوما في ألمانيا أولى محاضراته عن سفر المزامير، ومنذ ذاك اليوم ترقى في مساره المهني بالتوازي مع توسعات الإمبراطورية الإسبانية في الأمريكتين. وفي الفترة ما بين عامي 1519 و1521، عندما بدأ الصراع بين لوثر والكنيسة الرومانية يصعد حتى وصل إلى حرمانه كنسيا وانتقاده بعنف في فورمس، كان هرنان كورتيس آنذاك يتقدم في زحفه على المكسيك كي يضع نهاية لإمبراطورية الآزتيك، ناقلا أخبار غزوته للملك شارل ملك قشتالة، الذي أصبح بعد انتخابه عام 1519 إمبراطورا على الإمبراطورية الرومانية المقدسة وملكا يأتمر به لوثر أيضا. وعلى الرغم من أن حركة الإصلاح الديني بدأت في ألمانيا كحركة دينية معارضة، فقد كانت منذ ولادتها حركة سياسية يحدد مصيرها الإمبراطور شارل الخامس لا لوثر؛ فمع أن شارل - الذي كان أحد أنصار الكنيسة الرومانية - فرض عام 1521 مرسوما يحرم لوثر كنسيا، ظل بحاجة إلى تأييد البلدات البروتستانتية ودعم أمرائها لحماية ألمانيا من التهديد العثماني، ومن ثم سعى إلى إعادة الوحدة الدينية إلى إمبراطوريته، وسمح في سعيه نحو ذلك للحركة البروتستانتية بأن تحيا وتنمو. وقد لعب لوثر في تلك الأحداث السياسية المؤثرة دورا ملموسا، ولكن بعد عام 1529 سيرته أحداث تلك الفترة أكثر مما تحكم هو في سيرها.
ضلع لوثر وزملاؤه في الأحداث السياسية على جميع المستويات، بدءا من المستوى المحلي امتدادا إلى الإمبراطورية الرومانية بأسرها؛ لأن تأييد حركة لوثر في ألمانيا كان إما يصرح به أو يحظر من قبل الأمراء ومجالس البلديات. فكان النهج التالي هو المسلك التقليدي للحركة الإصلاحية في بلدان ألمانيا، سواء كبرت أو صغرت: يأخذ القس المتأثر بمنهج لوثر في تدريس الرسالة البروتستانتية التي مفادها أن الخلاص بالإيمان وحده، ويبدأ في تغيير أساليب الاحتفال بالقداس، وقد يدين أيضا صكوك الغفران والتضرع إلى القديسين وقواعد الصيام والنذر الرهبانية وامتناع رجال الدين عن الزواج باعتبارها غير واردة في الإنجيل، فإن جذب هذا القس عددا كبيرا من الأتباع تصدى له رجال الدين المناصرون للكنيسة الرومانية في البلدة، وأبلغوا أسقف الأبرشية عنه، بعد ذلك يرفع الواعظ قضيته لمجلس بلدية البلدة، ويطلب منها التصديق على عظاته والتعديلات التي أدخلها على القداس. وقد يعقد مجلس البلدية في بعض الحالات جلسات استماع أو مناظرات بين الواعظ البروتستانتي وبين ممثل عن رجال الدين المناصرين للكنيسة الرومانية، وقد ينظم مؤيدو كلا الجانبين مظاهرات عامة. ففي مدينة جوتنجن عام 1529 على سبيل المثال، أثناء مسيرة عبر المدينة نظمها الكاثوليكيون حاملين خبز القربان المقدس، اعترض مؤيدو البروتستانتية ملتقى طرق بالمدينة، وأنشدوا نسخة ترنيمية من المزمور رقم 130، كان لوثر قد كتبها قبل ستة أعوام، ولما بلغ الكاثوليكيون في نهاية مسيرتهم كنيسة البلدة وأنشدوا ترنيمة «نشكر الله»، وهي ترنيمة قديمة في تمجيد الله، عاود البروتستانتيون الضغط عليهم من الخلف، وحاولوا حجب أصواتهم بإنشاد ترنيمة ألمانية أخرى. كانت مجالس بلدية المدن في الحالات التي تحكم فيها لصالح المذهب البروتستانتي تسمح بالاستمرار في إلقاء العظات البروتستانتية ، وتتبنى في أغلب الحالات نظاما أو قانونا كنسيا يجعل إلقاء العظات البروتستانتية وممارسة شعائرها هو التقليد المتبع في هذا المجتمع.
كانت السياسات التي انتهجتها حركة الإصلاح الديني في فيتنبرج أثناء غياب لوثر (من أبريل عام 1521 إلى مارس عام 1522) شائكة وغير منسقة، فتولى زمام المبادرة زميل لوثر المناصر للمذهب الأوغسطيني جابرييل زفيلينج وزملاؤه في الجامعة آندرو كارلشتادت وفيليب ميلانشتون؛ فجاهر كارلشتادت بدون الحصول على موافقة ناخب مدينة فيتنبرج أو مجلس بلديتها بمعارضة تبتل رجال الدين، وبالاحتجاج على النذر الرهبانية. وعلى الرغم من أنه كان قسا وكبير شمامسة مجلس رجال كنيسة جميع القديسين، ففي يناير عام 1522 تزوج وهو في عمر الخامسة والثلاثين من آنا فون موخاو، وهي شابة لا يضاهي عمرها نصف عمره. أما ميلانشتون الذي لم يكن قد وسم كاهنا بعد، فتناول مع بعض من الطلاب الخمر والخبز معا في كنيسة المدينة، وقدم كارلشتادت في عيد الميلاد الخمر والخبز معا للعامة في صلاة القداس، واستبدل بالصلاة الربانية (صلاة القرابين المقدسة) اللاتينية بكلمات التأسيس الألمانية، لكنه بعكس ميلانشتون وزفيلينج رأى أن العامة الذين يرفضون شرب الخمر يعدون من الآثمين، الأمر الذي عارضه لوثر بقوة في كتاباته التي كتبها في قلعة فارتبورج. في الوقت نفسه، طلب زفيلينج من العامة أن يمتنعوا عن تقديم الهدايا إلى الدير الأوغسطيني ليجبر رهبان الدير على تركه، وعليه ترك بالفعل ثلاثة عشر راهبا أوغسطينيا الدير في نوفمبر عام 1521، وتزوجوا وعملوا بالحرف اليدوية. وفي أوائل ديسمبر من العام نفسه احتج حشد من الطلاب وأهالي فيتنبرج على تلاوة صلوات القداس الخاصة في كنيسة المدينة، بانتزاع كتب صلوات القداس وإجبار القساوسة على مغادرة منصات المذابح، وفي اليوم التالي، اقتحمت مجموعة من ثلاثة عشر طالبا الكنيسة الفرنسيسكانية في اليوم التالي وفككت المذبح الخشبي. أراد ناخب ساكسونيا الأمير فريدريك معاقبة المقتحمين، لولا تدخل بعض شخصيات فيتنبرج البارزة في عمل مجلس بلدية المدينة الذي وجد نفسه عندئذ محاصرا بإرادة ناخب ساكسونيا من ناحية، ومواطني فيتنبرج من ناحية أخرى.
في الوقت نفسه تقريبا، زار لوثر فيتنبرج سرا، متنكرا في هيئة فارس يدعى جورج ، وأعلن رضاه عن كل ما رآه في المدينة، لكنه لدى عودته إلى قلعة فارتبورج دعا إلى ضبط النفس في كتيب قصير عبر عنوانه عن مضمونه تعبيرا صادقا؛ فقد كان عنوان الكتيب: «نصيحة خالصة من مارتن لوثر لجميع المسيحيين: احذروا العصيان والتمرد»، وبعد أن توقع فيها «سقوط البابا وانهيار نظامه المخالف للمسيحية» بسخط من الله وكلمة المسيح لا بالعنف البشري، استنكر استخدام العنف، ونصح مؤيديه بانتهاج الاستراتيجية التالية:
اعكفوا على العمل الآن؛ انشروا الكتاب المقدس وساعدوا الآخرين على نشره. درسوا وتحدثوا واكتبوا وعظوا بأن قوانين البشر لا قيمة لها. وحثوا الناس على هجر مناصب القسيسين والأديرة والرهبنة وامنعوهم منها، وحثوا من لم يتركها منهم على تركها. ولا تخرجوا المزيد من أموالكم لأوامر [بابوية] أو شموع أو أجراس أو ألواح [نذر] أو كنائس، بل أذيعوا أن الحياة المسيحية قوامها الإيمان والحب.
لكن لم يلتفت كل من كارلشتادت وزفيلينج لنصح لوثر؛ فأمر الأخير، بعد اختتام مناقشة اجتماع أنصار المذهب الأوغسطيني في فيتنبرج، بإخلاء الكنائس من المذابح والصلبان وصور القديسين وأدوات المذابح التي لم تعد ضرورية لطقوس العبادة البروتستانتية، وفي الوقت نفسه صاغ كارلشتادت - الذي حصل على درجات علمية في القانون المدني والكنسي - ترتيبا كنسيا يشمل جميع التغييرات التي استحدثها هو وزملاؤه إلى تلك النقطة، إلا أن الناخب فريدريك رفض التصديق على هذا الترتيب الكنسي الجديد؛ نظرا لأن الحكومة التابعة للإمبراطورية الرومانية قد أمرته بمعارضة كل الأمور المستحدثة في فيتنبرج. وبعد أن أشعلت عظة كارلشتادت التي انتقدت الصور المعلقة بالكنائس أعمال شغب في كنيسة البلدة، استدعى ميلانشتون ومجلس البلدية لوثر إلى فيتنبرج ليأخذ بزمام حركة الإصلاح، فأذعن لوثر لطلبهما رغم أن الناخب فريدريك رفض أن يمنحه الإذن، وطلب منه أن يوثق هذا الرفض، فأبرأ لوثر ذمة فريدريك في هذا الشأن، إلا أنه أكد على أن فيتنبرج هي أبرشيته «جماعتي التي عهد لي بها الرب»، ولا يسعه التخلي عنها، وخشي أن يبتلي الرب ألمانيا ب «ثورة حقيقية »؛ لأن شعبها لم يعرف كيف يستخدم الكتاب المقدس على الوجه الصحيح.
تحققت مخاوف لوثر بعد ثلاثة أعوام في حرب الفلاحين أو ثورة عام 1525 - إن أردنا الدقة - لكونها انتفاضة شاملة امتدت إلى جميع الطبقات الاجتماعية والاقتصادية. كانت هذه الثورة قد اندلعت بالفعل في جنوب ألمانيا، عندما قرأ لوثر مطالب الفلاحين الاثني عشر في سوابيا، وكان الهدف الذي نصت عليه هذه المطالب «هو مغفرة عصيان الفلاحين وتمردهم سيرا على نهج المسيحية»، بإثبات أن الكتاب المقدس يدعم شكواهم ومطالبهم. ورد لوثر على هذه المطالب في منشور سمي وفاقا ب «نصح من أجل السلام»؛ إذ ظل مثار خوفه الأكبر هو احتمال اندلاع ثورة تتمخض عن فوضى أو - على حد تعبيره - عن «دمار ألمانيا إلى الأبد بالإطاحة بكلمة الله والسلطات المدنية»؛ من ثم ألقى لوثر اللوم على كل من الحكام ورعاياهم، فوبخ الأمراء والأساقفة لأن دورهم اقتصر على «غش وسرقة» الشعب لينعموا بحياة «البذخ والترف»، إلا أن شرورهم وإجحافهم لا يبرران فوضى العامة وتمردهم؛ لأن مسئولية معاقبة الشر وفقا للكتاب المقدس تقع على جهة الحكم الشرعية. بالإضافة إلى ذلك، إن كان الفلاحون مسيحيين مخلصين كما يزعمون، فعليهم أن يذعنوا لوصية المسيح بأن يديروا الخد الآخر؛ «المسيحي لا يذود عن نفسه بالسيوف والبنادق، بل بالصليب والمعاناة». من ثم خلص لوثر في النهاية إلى أن كلا الطرفين لم يعدلا أو يسلكا النهج المسيحي، وأوصى بمفاوضات تقضي بإقلاع الحكام عن ممارساتهم القمعية الطاغية، وأن يخفف العامة من حدة مطالبهم.
شكل 6-1: الناخبون فريدريك الحكيم، وجون المخلص، وجون فريدريك ناخب ساكسونيا. لوحة ثلاثية بريشة لوكاس كراناش، عام 1535 تقريبا.
1
لكن بدلا من المفاوضات امتدت الثورة بخطى ثابتة إلى الشمال لتدنو أكثر من محيط لوثر، حيث حشد عالم اللاهوت المتطرف توماس منتسر - الذي أيد محو الحقبة الضالة التي تسبق حكم يسوع الذي امتد لألف عام (سفر الرؤيا، 20 :4-6) - أتباعه لمعركة حاسمة في فرانكنهاوزن. لكن في مواجهة اتحاد القوى التابعة للأمراء، لم يملك هو وأتباعه أدنى فرصة للنصر، وسحقوا سحقا، وأجبر منتسر الذي عثر عليه مختبئا تحت فراش على توقيع إقرار بذنبه ثم أعدم. قبل ذلك بأسابيع قليلة، وبعد أن شهد لوثر الخراب الذي حل على أيدي عصابات الفلاحين المتجولة، كتب أنه يحق للأمراء ذبح تلك العصابات إن اقتضي الأمر لوقف غاراتهم، لكن بعد تلك المذبحة وجهت له انتقادات حادة، وحث على كتابة تراجع عن أقواله. لكن تبين أنه كتب بدلا من ذلك دفاعا عن رأيه، فقال إن العامة تمردوا، وأنهم يستحقون الموت لخروجهم على السلطة وهدمهم للنظام الاجتماعي. كما أكد لوثر على زعمه أن الأمراء طغاة لا يشبعون من إراقة الدماء، لكن غض الطرف عن هذا الجزء من بيان تراجعه عن أقواله، واستهزئ به ل «تملقه» الأمراء، وهي وصمة لازمته رغم إصراره على أنه قصد فقط أن يرشد العامة والحكام كليهما لواجبهم كمسيحيين.
توفي الناخب فريدريك في أوائل مايو عام 1525، بعد أن سمح للوثر ضمنيا بالمضي قدما في الإصلاح الديني، وكانت وفاته بروتستانتية على نحو جلي، فقد توفي بعد تلقي الخمر والخبز معا في آخر عشاء رباني شارك به. وخلفه أخوه جون، الذي دافع بقوة عن حركة الإصلاح الديني، وعمل جنبا إلى جنب مع مواطني فيتنبرج لتأسيس كنيسة بروتستانتية في ولاية ساكسوينا، وطلب منه لوثر - بعدما وجد أن الأبرشيات قد حلت بها الفوضى بعد الثورة، وأنه لم ينضم إليه أي أساقفة يضطلعون بأداء مهامهم التقليدية في الكنائس - أن يعين أربعة مفتشين لمعاينة أوضاع الأبرشيات الاقتصادية والدينية. وبدأ هذا التفتيش - أو هذه الزيارت الرسمية بالتعبير الذي وصفت به - عام 1527، وأعد ميلانشتون ولوثر مجموعة من التعاليم العقائدية والإجرائية، التي شكلت معا أول دستور للأبرشيات البروتستانتية المعاد تنظيمها في منطقة لوثر، إلا أن مواطني فيتنبرج لم يؤسسوا كنيسة خاضعة لسلطة الدولة. فقد فصلت التعاليم فصلا واضحا بين النظام الكنسي والحكومة المدنية، فجاء فيها:
يجب أن تطاع جميع السلطات المدنية، لا لأنها تمثل وسيلة جديدة لطاعة الله، بل لأنها تتيح حياة منظمة يسودها الحب والسلام؛ لذا يجب أن تطاع في كل شيء، إلا إذا أمرت بما يخالف ناموس الله؛ كأن تأمر على سبيل المثال بإهمال الكتاب المقدس أو أجزاء منه. ففي هذه الحالة سنتبع القاعدة الواردة في الآية 29 من الإصحاح الخامس من سفر أعمال الرسل، التي تنص على أنه «ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس».
لكن اتساع حركة الإصلاح الديني الألمانية وترسخها نبع في الواقع من التعاون الوثيق بين الحكام البروتستانتيين وعلماء اللاهوت؛ إذ كان تهديد الإمبراطور شارل الخامس ومستشاريه الكاثوليكيين بالقمع له أبعاد سياسية ودينية. ففي عام 1526 شكل سبعة أمراء بروتستانتيين اتحاد تورجاو الدفاعي، الذي أصبح مع خلفائه عماد مقاومة مساعي الإمبراطورية الرومانية لإجبار المقاطعات البروتستانتية (المدن والأقاليم الحرة التي تبنت حركة الإصلاح الديني) على الخضوع مجددا للسلطة البابوية. وأتيحت لتلك المقاطعات مساحة من الحرية، عندما سمح اجتماع شباير الأول (الذي عقد عام 1526) لكل مقاطعة بإدارة شئونها الدينية كما ترتضي، إلى أن يفصل في تلك الشئون مجلس كنسي. لكن في عام 1529 طالبت الولايات الكاثوليكية التي هيمنت على مجلس شباير الثاني بإلغاء اتفاق عام 1526، ونادت بتنفيذ المرسوم الصادر ضد لوثر وأتباعه في مجلس فورمس عام 1521، فعارضت المقاطعات البروتستانتية التي شكلت الأقلية في ذلك الوقت هذا المرسوم، وألفت اتحاد شباير البروتستانتي.
أتيحت لحركة الإصلاح الديني فترة راحة أخرى عندما زحف الأتراك العثمانيون على أوروبا الوسطى؛ إذ احتاج الإمبراطور شارل للدعم العسكري والمالي من الأقاليم البروتستانتية والكاثوليكية على حد سواء، من أجل الدفاع عن الإمبراطورية. فطلب شارل، بعد حصار الأتراك لفيينا في خريف عام 1529، من أتباع المذهب البروتستانتي والكاثوليكي أن يقدموا بيانا بتعاليم مذهب كل منهما وشعائره في اجتماع العام التالي في أوجسبورج، راميا إلى تحقيق وحدة دينية بين أصحاب المذهبين. تجاهل الكاثوليكيون مطلبه، أما مؤيدو لوثر من أتباع المذهب البروتستانتي فأعدوا في اجتماع بساكسونيا مجموعة من المواد المتصلة بالممارسات البروتستانتية، وألحق فيليب ميلانشتون، الذي ترأس علماء اللاهوت اللوثريين الحاضرين الاجتماع، المواد العملية بلائحة للتعاليم البروتستانتية، ووقع هذه المواد، البالغ عددها ثمانيا وعشرين مادة، سبعة من أمراء ألمانيا وممثلون عن مدينتين ألمانيتين في اجتماع أوجسبورج في يونيو عام 1530، بعد مناقشة علماء اللاهوت ومراجعتهم لها، وقدمت للإمبراطور شارل كبيان ديني وإعلان سياسي في الوقت نفسه. وأصبحت تدريجيا بعد أن رفضها علماء اللاهوت الكاثوليكيون - ليطلق عليها من ثم إقرار أوجسبورج - ميثاقا للمدن والأقاليم البروتستانتية التي بدأت تنسب نفسها إلى المذهب اللوثري. وانسحبت أغلب الفصائل البروتستانتية من اجتماع أوجسبورج، قبل أن يصدر مرسوم باسم شارل يعلن مجددا خروج لوثر عن القانون، ويمهل البروتستانتيين ستة أشهر لإلغاء جميع المبتدعات الدينية في المناطق التابعة لهم.
لم يسمح للوثر بحضور اجتماع أوجسبورج؛ لأنه لم يثق بتمتعه بالحصانة إلا في ساكسونيا فقط، إلا أنه أبقى على تواصله مع ميلانشتون وغيره من علماء اللاهوت عبر مكاتبات شبه يومية، مدركا أن ذلك الاجتماع يمثل نقطة فاصلة في تاريخ حركة الإصلاح الديني. كان لوثر قلقا من نتيجته وحث زملاءه على الثبات، وبمجرد انتهاء الاجتماع، لم يضع لوثر وقتا ورد على المرسوم، فأصدر عام 1531 رسالة بعنوان «تحذير للشعب الألماني الحبيب»، أجاز فيها المقاومة المسلحة في حال سريان المرسوم الصادر ضد البروتستانت. وكان لوثر قد أوصى من قبل بطاعة الإمبراطور شارل، ودعم حربه الدفاعية ضد الأتراك، لكن بعد عام 1530 عدل لوثر عن رأيه، وأوضح أن الحفاظ على الكتاب المقدس يأتي فوق طاعة أي حاكم مدني قد يسعى إلى طمسه:
إن اندلعت الحرب - معاذ الله - لن أنتقد من يدافعون عن أنفسهم ضد الكاثوليكيين القتلة المتعطشين للدماء، ولن أسمح لأي شخص باتهام من يذودون عن أنفسهم بأنهم محرضون على الفتن، بل سأقبل أفعالهم وأتغاضى عنها باعتبارها دفاعا عن النفس.
وقبل ختام الرسالة نفسها رسم لوثر صورة حالكة السواد لما سيئول إليه الوضع إن لم يقاوم أتباعه الإمبراطور:
سيكون عليكم أن تساعدوا في استئصال وتدمير كل [منجزاتنا] ... وأن تحرقوا جميع الكتب الألمانية، وأسفار العهد الجديد، والمزامير وكتب الصلوات والتراتيل وكل الأشياء الجيدة التي كتبناها ... سيكون عليكم أن تبقوا على جهل الجميع بالوصايا العشر والصلاة الربية وأسس العقيدة؛ فتلك كانت الحال من قبل. وسيتعين عليكم أن تمنعوا الجميع من معرفة حقيقة المعمودية، والقربان المقدس ، والإيمان، والحكومة، والزواج والكتاب المقدس. سيكون عليكم أن تمنعوا الجميع من معرفة الحرية المسيحية، وتمنعوا الناس من الثقة بالمسيح واستمداد السلوى منه. فكل هذا لم يكن موجودا من قبل؛ كله مبتدع.
لكن لم يقع أي مما أشار لوثر إليه حتى عام 1548، بعد أن هزم الإمبراطور شارل في نهاية المطاف قادة المذهب البروتستانتي، واستولى على مدينة فيتنبرج. وبدلا من كل هذا، في نهاية عام 1530، عقد جون ناخب ساكسونيا وفيليب حاكم هيسي اجتماعا للأمراء ومسئولي المدن في بلدة شمالكالد لتشكيل اتحاد دفاعي سمي باسم تلك البلدة، ووافق الإمبراطور شارل عام 1532 على عقد هدنة حتى انعقاد مجلس كنسي عام، وسمحت هذه الأزمة التي تجددت عام 1539 للاتحاد بالاتساع سريعا ليشكل كتلة بروتستانتية عسكرية وسياسية هائلة في الإمبراطورية.
خلال الأربعة عشر عاما الأخيرة من حياته، خضع لوثر لناخب جديد في ساكسونيا هو جون فريدريك، الذي خلف أباه الناخب جون بعد وفاة الأخير عام 1532. لم يحاول جون فريدريك أن يكبح لسان لوثر اللاذع في الشئون السياسية، بل حثه على أن يوظف موهبته الشهيرة في مجادلة الخصوم الكاثوليكيين لاتحاد شمالكالد. وسعد لوثر بالامتثال لهذا الأمر، لا سيما أن القضية الأساسية التي واجهت الاتحاد في ذلك الوقت تمثلت في الاختيار بين حضور المجلس الكنسي العام الذي أمر البابا بولس الثالث بعقده من عدمه. ورأى الناخب جون فريدريك أن الحضور سيكون تصرفا غير حكيم، وقد اجتمع أعضاء اتحاد شمالكالد وبعض البروتستانتيين الآخرين في شمالكالد في أوائل عام 1537 لمناقشة الأمر. طلب من لوثر آنذاك أن يكتب ميثاقا لاهوتيا يدرج فيه الموضوعات التي يمكن أو لا يمكن مناقشتها في المجلس القادم، وقد أعرب لوثر عن رأيه في العديد من المنشورات الدينية في أن المجلس لا يمكن أبدا أن يكون ندوة حرة وصريحة ما دام قد انعقد بدعوة من البابا، غير أنه شدد في هذا الميثاق الذي عرف باسم مواد شمالكالد على أن البابا هو المسيح الدجال، وعلى أن النظام البابوي وهم بشري لا يجدي الكنيسة نفعا قائلا: «لو لم يرفع الشيطان مثل هذا الرأس، لكان هذا أفضل كثيرا.» إلا أن مشهد المجلس قاد لوثر إلى صياغة رسالة تاريخية وسياسية مهمة نشرت عام 1539 بعنوان «المجالس والكنيسة»، وحاول لوثر أن يوضح من تاريخ الكنيسة، أن المجالس الكنسية قد ناقضت نفسها؛ ومن ثم لا تصلح كأساس يمكن الوثوق به لإصلاح الكنيسة؛ فقد كانت وظيفتها الأولى هي الحفاظ على العقائد الإيمانية العريقة التي صححتها حركة الإصلاح الديني بناء على الكتاب المقدس، ومن ثم إن عقدت بدعوة من البابا فيستحيل أن تصب في مصلحة المسيحية الحقة التي يجددها المصلحون الدينيون.
ثمة صراعان آخران ورطا لوثر في جدل سياسي حرج قبل وفاته. أولهما تسبب فيه زواج فيليب حاكم هيسي - أحد أنصار البروتستانتية الأقوياء منذ عام 1524، وقائد اتحاد شمالكالد المحنك الذي اتهم بتعدد الزوجات - إذ تزوج عام 1540 من مارجاريته فون دير زاله دون تطليق زوجته كريستينا أميرة ساكسونيا التي أنجب منها عشرة أطفال. سعى فيليب تحت إصرار مارجاريته إلى الحصول على تأييد علماء اللاهوت الثلاثة: مارتن بوسر ولوثر وميلانشتون؛ على زواجه الثاني، بدعوى أن الجمع بين زوجتين هو وسيلته الوحيدة للخلاص الأخلاقي من خطيئته، وبالتهديد بتأييد الإمبراطور شارل إن لم يبارك الإصلاحيون زواجه الثاني، فجاءت موافقة لوثر وميلانشتون على الزواج على مضض في هيئة نصح سري أثناء اعتراف فيليب بخطاياه في الكنيسة، لكن فضح أمر الزيجة وألقي اللوم على جميع من تورطوا فيها، على اعتبار أنهم ارتكبوا خطأ فادحا. وتراجع بعض حلفاء فيليب البروتستانتيين عن تأييدهم له، عندما تنامى إلى علمهم أمر زواجه الثاني، ودمرت مصداقيته السياسية ما إن أعلن أنه وعد الإمبراطور شارل بالتزام الحياد لتلافي محاكمته بموجب القانون الإمبراطوري.
تولد الصراع الثاني عن نزاع طويل الأمد بين دوق فولفينبوتيل الكاثوليكي هنري من ناحية، والقائدين البروتستانتيين فيليب وجون فريدريك من ناحية أخرى؛ إذ فاقمت مجموعة من الأحداث في عام 1938 النزاع بين الفريقين، حتى لجأا إلى هجاء أحدهما الآخر في المواد المطبوعة التي زخرت بالسخرية والإهانات الفجة والألفاظ البذيئة، وطلب من لوثر آنذاك الرد على إحدى مقالات هجاء جون فريدريك، الذي صوره هنري على أنه وحش وكافر وسمين وكاذب وسكير ومهرطق، واتهمت الرسالة لوثر أيضا بأنه وصف أميره بأنه مهرج يرتدي النقانق حول عنقه، فنفى لوثر ذلك، وقلب الطاولة على هنري بوصفه بالمثل، وندد به باللغة الفجة البذيئة نفسها التي استخدمها الأخير ضد الناخب جون فريدريك.
لم يجد منشور لوثر «ردا على المهرج» في إنهاء الصراع بين الأمراء المتنازعين أو تعزيز سمعة لوثر كناقد سياسي ساخر، لكنه أظهر تداخل السياسة مع الدين في حياة لوثر بأسرها، والترسيخ المبدئي لحركة الإصلاح الديني في ألمانيا في عام 1555. منحت شروط حركة الإصلاح الديني الأمراء ومجالس بلديات المدن التي التزمت بإقرار أوجسبورج حق تبني المذهب اللوثري على أراضيها دون تدخل الإمبراطور أو أي سلطة أخرى، و«أن تتمتع بمعتقداتها الدينية وطقوسها وشعائرها وغيرها من الحقوق والمزايا الأخرى في سلام». وكفلت الشروط للمقاطعات والأمراء الذين تشبثوا «بدينهم القديم» الحقوق نفسها، بالإضافة إلى ذلك لا يسمح لمقاطعة «بمحاولة دعوة رعايا المقاطعات الأخرى لنبذ دينهم». ولم تكن ألمانيا المنقسمة على نفسها بسبب الدين هي النتيجة التي تخيلها لوثر عندما أعلن أن كل ما يريده هو «إيقاظ وإعمال فكر من يستطيعون ويبغون مساعدة الأمة الألمانية على أن تعود حرة ومسيحية من جديد، بعد حكم البابا التعس الوثني المخالف لتعاليم المسيحية». كما لم تكن ألمانيا هذه جزءا من المملكة العالمية المجيدة التي خططت للإمبراطور شارل على يد مستشاره الأكبر السابق ميركورينو من منطقة جاتينارا. كان شارل بحلول عام 1556 قد فاض به من السياسة، وبدأ يتخلى عن أراضي إمبراطوريته المتفرقة واحدة تلو الأخرى، وانتقلت إدارة ما تبقى من إمبراطوريته إلى أخيه الدوق فيرديناند حاكم النمسا، فيما تقاعد هو عام 1557، وعاش في منزل في قشتالة قريب من دير يوست، وأمضى شارل الثمانية عشر شهرا المتبقية من حياته في العناية بحديقته، وإشباع نهمه للأطعمة الشهية، وعزف الفلوت والتباهي بمقتنياته والصيد.
هوامش
الفصل السابع
من راهب إلى رب أسرة
أطلقت الخلافات حول الممارسات الدينية حركة الإصلاح الديني. ففي إنجلترا أطلقتها رغبة الملك هنري الثامن في أن يخلف وريثا ذكرا ، وفي فيتنبرج استفزت المبالغ الباهظة المطلوبة لشراء صكوك الغفران لوثر وحثته على كتابة رسالاته الخمس والتسعين. أما في مدينة زيوريخ فقد أطلقها انتهاك طقوس الصيام، فيما أطلقها في مدينة ستراسبورج الخلاف الذي نشأ حول حق رجال الدين في الزواج. وكان الخلاف الأخير مهما بقدر الخلافات الأخرى، إن لم يفقها أهمية؛ ففي أوروبا الغربية، لم يفرض بإصرار شرط امتناع القساوسة (غير المترهبنين) عن الزواج إلا منذ القرن الثاني عشر، رغم أن أقدم الأنظمة الرهبانية فرضت على الرجال والنساء أن يأخذوا على أنفسهم وعودا بالعزوبية، ولم يكن الدافع وراء مطالبة الإصلاحيين بحق رجال الدين في الزواج هو الرغبة في الرفقة والممارسة الجنسية والإنجاب وحسب، فقد تمتع القساوسة الذين أقاموا مع الخليلات بكل ذلك، وكان عددهم كبيرا بما يكفي لأن يبيح الأساقفة لهم ذلك بعتاب يسير. وقد رأى الإصلاحيون أن منح رجال الدين حق الزواج سيحول دون هذا النفاق، وأنه لا يوجد في الكتاب المقدس ما يمنع الزواج؛ فالزواج مؤسسة يباركها الله ويتيحها لكل من يرغب، ولا تستطيع إلا قلة قليلة، في رأيهم، أن تحتفظ بعزوبيتها وتمتنع عن العلاقات الجنسية. من ثم اعترف إصلاحي زيوريخ أولريش زفينجلي وعشرة من زملائه في التماسهم الذي قدموه عام 1522 لأسقف قسطنطين للحصول على إذن بالزواج:
بما أننا حاولنا وفشلنا للأسف في أن نطيع قانون العزوبية، اكتشفنا أننا حرمنا من تلك النعمة، وأمعنا تأمل أنفسنا كثيرا لنتوصل إلى طريقة نعالج بها محاولاتنا البائسة لإدراك العفة.
كان زواج رجال الدين وفقا لأنصار حركة الإصلاح الديني من الأدلة العلنية التي تشهد على الحرية المسيحية وعلى الرسالة الأساسية لحركة الإصلاح، والتي أوضحوها بلا شك. إن الشيء الصادم في زواج آندرو كارلشتادت من آنا فون موخاو - الذي أشرنا إليه في الفصل السابق - لم يكن أن عمر كارلشتادت تجاوز ضعف عمر آنا، بل الصادم هو أن الزيجة تمت من الأساس. أعلنت خطوبتهما في حضرة زملاء كارلشتادت؛ يوستوس يوناس وفيليب ميلانشتون، اللذين صاحبا كارلشتادت إلى قرية خطيبته، وأوضح إعلان الخطوبة، الذي أرسله إلى الناخب فريدريك، الرابط بين الحرية المسيحية والزواج. كما احتفل أولرايش زفينجلي وآنا راينهارت - وهي أرملة لها ثلاثة أبناء، خطبها الأخير سرا لعامين - بزفافهما علنا عام 1524 في كاتدرائية زيوريخ، وأبقيت الخطبة، التي تعد مكافئة للزواج، سرا لأسباب سياسية وعائلية حساسة. أما الإصلاحي مارتن بوسر فوصل إلى ستراسبورج متزوجا، بعد أن ترك مجتمع الرهبان الدومينيكي وتزوج من راهبة سابقة تدعى إليزابيث زيلبرأيزن عام 1522. وفي عام 1524 أشرف على طقوس زواج ماثيو زيل أول الوعاظ البروتستانت بالبلدة من كاثارينا شوتس، وهي نفسها من أنصار حركة الإصلاح، وقد نشرت دفاعا جريئا عن زواجها من ماثيو، ذكرت فيه أنها تمجد الرب بزواجها من قس، وتدعم غيرها من النساء اللائي قمن بالمثل، متبعة ما أباحه الله صراحة، وموضحة بديلا مقدسا للسلوك الفاضح الذي تبناه بعض القساوسة باتخاذهم عشيقات. وقد جذب حفل زفافهما حشدا كبيرا من المؤيدين لهما من مواطني البلدة وممن انتابهم الفضول. وفي عام 1523، أصبح زميل لوثر الأوغسطيني السابق فينسيل لينك راعي الأبرشية البروتستانتية في بلدة ألتنبورج التي تقع على بعد حوالي 75 ميلا جنوبي فيتنبرج، ثم أعلن أنه سيتزوج، فألغيت محاضرات علم اللاهوت في فيتنبرج أثناء حضور لوثر وكثير من زملائه الزفاف.
شكل 7-1: كاثارينا فون بورا، بريشة لوكاس كراناش، 1528.
1
في يونيو عام 1525، عندما تزوج مارتن لوثر من كاثارينا فون بورا (1499-1552)، كانا قد تأخرا في الزواج، فأقرب الزملاء إلى لوثر كانوا قد تزوجوا بالفعل عدا سبالاتين الذي تزوج بعده بستة أشهر، وآمسدورف الذي ظل عزبا. وكانت كاثارينا قد بلغت فيتنبرج قبلها بعامين، وكانت حكايتها معروفة للجميع.
ولدت كاثارينا في عزبة والدها جنوب مدينة لايبزيج، ورغم أن والديها انحدرا من أصول نبيلة، إلا أنهما لم يكونا من الأثرياء. والتحقت كاثارينيا بعد وفاة والدتها بمدرسة بنديكتية، وبعدها بخمسة أعوام، عندما كانت في العاشرة من عمرها، التحقت بدير مارينثرون السسترسي بالقرب من مدينة جريما في الأراضي الساكسونية الخاضعة لحكم الدوق جورج، الذي وقف في وجه حركة الإصلاح الديني. وبعدما اشتهرت أفكار لوثر في مارينثرون أرادت الكثير من الراهبات ترك المناخ المعادي للوثرية المحيط بهن، ودبرت مغادرتهن بالاتفاق مع التاجر ليونارد كوب - الذي اعتاد نقل بعض الأغراض للدير بصفة منتظمة - لتسهيل فرارهن، وفرت اثنتا عشرة راهبة ليلة أحد عيد الفصح عام 1523 من دير مارينثرون، في عربة كوب إلى تورجاو في ولاية ساكسونيا الانتخابية، ويعتقد أن ثلاثا منهن عدن إلى أسرهن، أما التسع الأخريات فقد تمت مرافقتهن إلى فيتنبرج في مراسم احتفالية، حيث يعتقد أن كاثارينا أقامت في منزل لوكاس وباربارا كراناش الكبير. ولم يمض وقت طويل حتى وقعت في غرام جيروم باومجارتنر، وهو طالب سابق في فيتنبرج، التقته عندما زار البلدة مجددا عام 1523، لكن بعد أن عاد باومجارتنر إلى أسرته المرموقة في نورمبرج أنهى علاقته مع كاثارينا، وأخيرا تزوج من امرأة أصغر سنا من أسرة أفضل، فحاول لوثر وآمسدورف أن يجمعا بين كاثارينا وكاسبار جلاتس، وهو رجل أكبر سنا كان راعيا لأبرشية أورلاموند، إلا أن كاثارينا رفضت الزواج منه وأخبرت آمسدورف أنها تؤثر الزواج منه أو من لوثر إن كان هذا هو خيارها الوحيد.
فكان أن تزوجت من لوثر. لا يدري أحد الكيفية التي تم التوصل بها إلى هذا الاتفاق بالضبط، لكن في الفترة ما بين تلاوة لوثر وكاثارينا لنذور زواجهما لأحدهما الآخر، وحفل الزواج الذي جاء بعد أسبوعين من تلاوة النذور؛ كشف لوثر لآمسدورف عن الدوافع التي اضطرته إلى اتخاذ هذه الخطوة قائلا له:
الشائعات بأنني تزوجت من كاثارينا فجأة لأضع حدا للقيل والقال اللامتناهي الذي انتشر حولي؛ هي شائعات صحيحة بالفعل ... كما أنني لم أرد أن أفوت هذه الفرصة الجديدة لألبي رغبة أبي في أن أصنع لنفسي ذرية، وأردت في الوقت نفسه أن أؤكد على ما وعظت به بالممارسة؛ إذ أجد الكثيرين ما يزالون يتخوفون من هذه الخطوة رغم هذا النور العظيم الذي يأتينا من الكتاب المقدس. لقد شاء الرب هذه الزيجة وأتمها. لست مغرما أو متيما بزوجتي، ولكنني أعتز بها.
كان عامان قد مضيا على معرفة لوثر وكاثارينا أحدهما بالآخر عندما أقيم زفافهما في 13 يونيو 1525، لكن مراسم الزواج البسيطة ، التي عقدت في المجمع الأوغسطيني الذي أقام فيه لوثر، فاجأت أغلب مواطني فيتنبرج، فأشرف بوجنهاجن راعي أبرشية كنيسة البلدة على مراسم الزواج، وشهدها أربعة شهود آخرين هم: يوستوس يوناس (الذي روى فيما بعد أنه لم يستطع أن يمنع نفسه من البكاء)، ويوهان آبل (أستاذ القانون الكنسي الذي تزوج من راهبة)، ولوكاس، وباربارا كراناش. وشاهد الأربعة أيضا طقس الزينة: الذي تمدد فيه لوثر وكاثارينا على فراش الزوجية معا لوقت قصير. ويرجح أن خاتم زفاف كاثارينا كان هو الخاتم الذهبي الذي أهداه لها ملك الدنمارك الملك كريستيان الثاني، عندما زار منزل آل كراناش عام 1523. وقد أقيمت مأدبة الزفاف التقليدية بعد أسبوعين؛ إذ دعا لوثر والديه وأصدقاءه وآخرين من خارج البلدة، بمن فيهم لينك وليونارد كوب اللذين ساعدا الراهبات الاثنتي عشرة في الهروب، وأهدت جامعة فيتنبرج العروسين كأس الحب الفضي الذي يشرب منه العروسان يوم زواجهما، ووهبهما ناخب ساكسونيا جون فريدريك 100 جيلدر وسمح لهما بالإقامة في الدير.
غير أن تصريح لوثر لآمسدورف بأنه ليس متيما بكاثارينا ولكنه يعزها ويقدرها، لا يعني أنه تزوج بلا حب ليبرهن على وجهة نظره؛ فقد أعرب كثيرا عن حبه وتقديره لها، ودعته أسباب قوية للوثوق بها، فهي لم تنجب له ستة أطفال وحسب، بل كانت ربة منزل كبير مجدة، وهو منزل احتضن الكثير من الأقارب، وتردد عليه الكثير من الضيوف والطلاب، وشاركت أحيانا في المناقشات التي سجلت في كتاب «أحاديث المائدة»، ودعمت بحماس جهود حركة الإصلاح، كما كانت سيدة أعمال حصيفة أشرفت على العديد من الأملاك، من بينها منزل بمدينة زولسدورف بالقرب من مسقط رأسها جنوب لايبزيج، اشترته من أخيها عام 1540، وكان وجهتها المفضلة، حيث كانت تمضي فيه أسابيع في هذه الآونة. من هنا بعث لها لوثر - بعد شرائه - خطابا يمازحها فيه قائلا: «إلى سيدة زولسدورف الثرية، السيدة حاملة الدكتوراه؛ كاثرين لوثر المقيمة جسدا في فيتنبرج وروحا في زولسدورف، إلى معشوقتي.» وكهدية لكاثارينا دبر لوثر تزيين مدخل منزلهما - الذي ما يزال يعرف إلى اليوم باسم البوابة الكاثرينية - بنقوش أكثر تعقيدا كهدية لها عام 1540.
كانت كاثارينا قد أتمت لتوها السابعة والأربعين من العمر، عندما توفي مارتن بمنأى عن بلدته عام 1546، وقد وصفت لزوجة أخيها كريستينا فون بورا مدى حزنها العميق على وفاته قائلة: «إن كانت لي إمارة أو إمبراطورية لما شعرت بكل هذا الحزن لفقدها، كما شعرت بالحزن يوم أن أخذ مني الله - وليس مني وحسب، بل من العالم أجمع - هذا الرجل العزيز النبيل.» عاشت كاثارينا بعد وفاة لوثر قرابة سبعة أعوام، غير أنها كانت أعواما قاسية، جابت فيها أرجاء البلاد مع أطفالها الأيتام منفية إبان الحرب التي أعقبت وفاة لوثر في غمرة مخاطر وظروف قاسية، ففرت بأطفالها إبان الحرب الشمالكالدية التي هزم فيها البروتستانت (والتي استمرت من عام 1546 إلى عام 1547) من فيتنبرج مرتين؛ كانت المرة الثانية إلى مدينة براونشفايج مع ميلانشتون وزميل آخر للوثر. ولم يستجب ملك الدنمارك لمناشداتها بمنفى دائم، لكنه وفر لها ولأطفالها دخلا سنويا بعد أن أعادت افتتاح دير فيتنبرج كنزل إقامة. فلما هدد الطاعون فيتنبرج عام 1552، فرت إلى تورجاو، إلا أنها أصيبت عندما انطلقت بها الجياد فجأة، ومكثت طريحة الفراش لثلاثة أشهر قبل أن توافيها المنية في ديسمبر عام 1552 وهي في الثالثة والخمسين من العمر، ودفنت في كنيسة تورجاو، حيث خلدت ذكراها بنحت شاهد قبر منتصب لها يصورها مرتدية ملابس شتوية وهي تحمل الإنجيل.
خلف لوثر وكاثارينا أربعة أبناء من الستة، أكبرهم هو هانز (1526-1575) والذي سمي تيمنا باسم جده، ودرس القانون في فيتنبرج وفي كونيجسبرج برعاية دوق بروسيا الدوق ألبرت، الذي كان من أوائل مؤيدي حركة الإصلاح. عاد هانز إلى فيتنبرج قبل عام فقط من وفاة والدته، وعمل فيما بعد في محاكم فايمر وبراندنبورج كقاض، وقد أرسل له لوثر خلال اجتماع أوجسبورج (عام 1530) خطابا، وكان وقتها قد قارب بلوغ الرابعة من العمر، يحثه فيه على الاجتهاد في الصلاة والدراسة، ويعده بأنه إن فعل هذا فسيسمح له بدخول جنة سحرية مليئة بمهور ذات لجم ذهبية وأسراج فضية ، وفاكهة لذيذة، وصافرات وطبول ذهبية، وأقواس فضية جميلة . أما إليزابيث ثانية أطفالهما فقد ولدت إبان انحسار الطاعون في فيتنبرج، لكنها توفيت بعد ثمانية أشهر.
قبل مرور عام على وفاة إليزابيث، أخبر لوثر آرمسدورف أن كاثارينا قد أتاها المخاض، وأنجبت بعد ثلاث ساعات دون صعوبات «ابنة تتمتع بصحة جيدة» هي ماجدالينا لوثر (عام 1529-1542)، التي طلب لوثر من آرمسدورف أن يكون الأب الروحي لها؛ لهذه «الصغيرة لتساعدها على اعتناق المسيحية المقدسة عبر طقس العماد السماوي النفيس». وأثناء اجتماع أوجسبورج عام 1530 تلقى لوثر من زوجته صورة لماجدالينا الصغيرة وهي لم تبلغ إلا عاما، وشكرها في المقابل بتزكية اقتراحات لفطام ماجدالينا تلقاها من أرجولا فون جرومباخ، وهي إحدى النساء القلائل اللائي ما تزال كتاباتهن لتأييد حركة الإصلاح الديني قائمة، لكن في عام 1542 توفيت ماجدالينا بين ذراعي والدها بعد صراع طويل مع المرض. وتشهد خطابات لوثر وكتاب «أحاديث المائدة» على أن فترة وفاتها كانت فترة عصيبة على والديها وأخيها الأكبر هانز، الذي استدعي إلى منزل الأسرة ليكون مع أخته في لحظاتها الأخيرة، فيقول لوثر مغالبا مشاعره وهو ينقل ليوناس نبأ وفاتها:
أعتقد أن نبأ انتقال ابنتي ماجدالينا إلى مملكة المسيح الأبدية قد بلغك، وعلي أن أشكر أنا وزوجتي الرب بسرور على هذا الرحيل السعيد والنهاية المباركة التي نجت بها ماجدالينا من سطوة الجسد، والحياة الدنيا والعثمانيين والشيطان، لكن حبنا الفطري لها شديد القوة، حتى إننا عاجزون عن أن نفعل هذا دون أن نبكي ونشعر بالأسى في قرارة أنفسنا، أو حتى دون أن نقاسي الموت أنفسنا. ما تزال ملامح ابنتنا الفقيدة الحية في قلوبنا، وكلماتها وحركاتها محفورة بعمق في قلوبنا، وحتى ذكرى وفاة المسيح ... لا يمكنها أن تذهب عنا كل هذا؛ لذا أشكر الرب نيابة عنا، فقد أنعم علينا بنعمة عظيمة عندما كرم أجسادنا هكذا، فقد اتسمت ماجدالينا (كما تعلم) بطابع لين مبهج، وكانت محبوبة من الجميع ... عسى الرب أن ينعم علي وعلى جميع أحبابي وأصدقائي بميتة مماثلة، أو بالأحرى حياة مماثلة.
تبقى لمارتن وكاثارينا أربعة أبناء، هم هانز وثلاثة أطفال آخرون ولدوا بعد ماجدالينا، هم: ابن يدعى مارتن (1531-1565)، وآخر سمي بول نسبة إلى بولس الرسول (1533-1593)، وابنة تدعى مارجاريته (1534-1570) كادت أن توافيها المنية بسبب مرضها بالحصبة، وكانت في الثامنة عشرة فقط من العمر عندما توفيت والدتها، وتزوجت بعدها بثلاثة أعوام من جورج فون كونهايم، وهو نبيل وموظف حكومي في مقاطعة بروسيا الشرقية، وقد احتفظت مارجاريته بأصول خمسة خطابات مكتوبة بخط يد أبيها وموجهة إلى والدتها، وأودعت تلك الرسائل في مدينة كونيجسبرج. أما بول لوثر فقد درس الطب وأصبح أستاذا وطبيبا خاصا لأدواق ساكسونيا، فيما درس مارتن علم اللاهوت وتوفي في الثلاثينيات من عمره. وقد صحب الأبناء الثلاثة لوثر في رحلته الأخيرة، وكانوا على مقربة منه في بلدة مانزفيلد عندما توفي في آيسلبن، وساروا خلف والدتهم وأختهم في الموكب الذي تبع نعشه من بوابة مدينة فيتنبرج إلى كنيسة القلعة حيث دفن.
بدت أسرة لوثر - وفقا للمصادر - أسعد ما أمكن، بالأخذ في الاعتبار أنها كانت أسرة مفرطة الكبر، رأسها راهب وراهبة سابقان في دير سابق، وقد صورها المعلقون الذين نظروا إليها بإعجاب على أنها مثال لأسرة القس البروتستانتي، لكن تلك لم تكن الحال بالطبع، أيا كان مفهوم أسرة القس المثالية. فتظهر مراسلات لوثر أن علاقة الوالدين بالأبناء وعلاقتهما ببعضهما البعض اتسمت بالصدق والمودة والمرح، كما أن المنزل لم يمتلئ بالناس وحسب، بل بالموسيقى أيضا، فقد عشق لوثر الموسيقى، ووصفها بأنها هبة إلهية رائعة لا تقل مرتبة إلا على علم اللاهوت. وروى زوار آل لوثر أنه كان يمضي بعض الأمسيات في إنشاد الأغاني مع أبنائه وطلابه وضيوفه، وأشار يوهان فالتر، الذي عمل معه لوثر جنبا إلى جنب، والذي أنشد «ساعات عديدة» معه؛ إلى أن حب لوثر للغناء لم يعرف الحدود.
إن كانت أسرة لوثر قد تمتعت بالسعادة لأغلب الوقت، فلعل السبب هو أن مارتن وكاثارينا نظرا إلى الزواج بعين الجد، رغم أنهما ما عادا يعدانه من الطقوس المقدسة. ومعارضة للعزوبية التي تطلبتها منظومتا الرهبان والقساوسة، وصف لوثر الزواج بأنه أحد المنظومات الصادقة التي أوجدها الله للبشر إلى جانب الحكومات والكنائس. وأسمى هذه المنظومات الثلاث من المجتمع بالمنظومات المسيحية الحقة؛ لا لأنه حسب أن الزواج للمسيحي وحسب، بل لأن الزواج والعمل الحكومي والعبادات العامة أرفع منزلة من العزوبية واعتزال الحياة العامة والانعزال في نخبة مترهبنة. فاستاء لوثر من تحريم كنيسة العصور الوسطى للزواج بين المسيحيين وغير المسيحيين، وقال في ذلك:
اعلموا إذن أن الزواج شأن دنيوي جسدي كشئون الدنيا الأخرى. وكما يجوز لي أن آكل مع الوثني أو اليهودي أو التركي أو المهرطق، وأن أشرب وأنام وأسير وأركب الخيل معهم، وأشتري منهم وأتحدث إليهم وأتعامل معهم، يجوز لي أيضا أن أتزوج منهم وأستمر في هذا الزواج. لا تأبهوا لهؤلاء الحمقى الذين يحرمون ذلك، فستجدون الكثيرين من المسيحيين - بل في الواقع الغالبية العظمى منهم - أسوأ بإسرارهم عدم الإيمان من أي يهودي أو وثني أو تركي أو مهرطق. فالوثني شأنه شأن أي رجل أو امرأة، من مخلوقات الله المكرمة، كالقديس بطرس والقديس بولس والقديسة لوسيا، ناهيك عن المسيحي المتقاعس والكاذب.
لم يشمل وصف «الحمقى» هنا أعضاء الكنيسة الرومانية وحسب، بل شمل أيضا في نهاية المطاف جون كالفن.
وبما أن الزواج للجميع، لم يستخدم لوثر إلا نادرا تعبير «الزواج المسيحي»، لكنه نصح المؤمنين بكيفية عيش حياة مفعمة بالتقوى وطاعة الله «في مؤسسة الزواج». وكان الزواج من القضايا الملحة بالنسبة لأغلب أنصار حركة الإصلاح الديني؛ لأنهم أجمعوا على أنه واجه أزمة في ألمانيا القرن السادس عشر، حتى إن أحد الكتاب صرح بأن الوضع قد خرج عن السيطرة «مع تفشي حالات الطلاق والهجر ... التي يهجر فيها أحد طرفي العلاقة الزوجية الآخر في الساعات الحرجة التي يكون فيها الطرفان في أمس الحاجة لأحدهما الآخر». وفي عام 1522 كتب لوثر:
انثلمت سمعة مؤسسة الزواج إلى درجة رهيبة في جميع الأنحاء. فهناك الكثير من الكتب الوثنية التي لا تتحدث عن شيء إلا عن انحطاط جنس المرأة وفسادها، وتعاسة الحياة في مؤسسة الزواج، حتى إن البعض حسب أنه حتى لو تجسدت الحكمة ذاتها في شكل امرأة فلن يتزوجها .
أما المسيحي المؤمن فعليه بأن يسلم بأن الزواج هبة من الله ونظام وضعه، ويجب أن يبادل الزوجان المسيحيان أحدهما الآخر الاحترام، وأن يأخذا على عاتقيهما أعباء ومسرات إنجاب الأطفال وتنشئتهم. وسمح بالطلاق وفقا لشروط محددة، لكن على الزوجين أن يغفر كل منهما للآخر الإهانة، وأن يحتمل شريك حياته وإن كان صعب المراس، قبل أن يتخذ الخطوات لإنهاء الزواج. لم تحرم المتعة الجنسية، لكن لوثر اعتنق المفهوم الأوغسطيني القائل بأن الجماع لا يخلو من الذنوب، لكن «الله يغفرها بفضل منه؛ لأن مؤسسة الزواج هي من صنيعه، وهو يحافظ في هذه الذنوب ومن خلالها على كل النعم التي رسخها وباركها في الزواج». تبرز أفكار لوثر هذه بوضوح في خطابه إلى جورج سبالاتين، الذي تزوج من امرأة تدعى كاثارينا أيضا، وبعد تهنئة سبالاتين على الزواج وإخباره بأنه كره تفويت حفل الزفاف، طلب لوثر منه أن يبعث أرق تحياته إلى زوجته، ثم أردف قائلا:
لتقم بهذا أيضا: عندما تعانق كاثارينا في الفراش، وتقبلها أرق القبلات، فكر أيضا بهذا: «لقد وهبني المسيح هذه المرأة؛ أفضل مخلوقات الله، فله الحمد والمجد.» وسأتنبأ باليوم الذي تتلقى فيه هذا الخطاب، وأبادل زوجتي الحب بالطريقة نفسها متذكرا إياك.
لاقت آراء لوثر عن الحياة الأسرية والعلاقات ردود فعل متباينة، فهو لم يؤكد على سبيل المثال على استقامة حياة التبتل؛ والسبب على وجه التحديد هو أنه هدف إلى استرداد كرامة الزواج من إعلاء التبتل باعتباره حالة اجتماعية أفضل، غير أنه أكد أنه من الممكن أن يحيا المرء بشرف وهو عزب، ما دام لا يقصد بتبتله «إنكار نعمة المسيح وفضله». وعكس ميله إلى قصر حياة المرأة في نطاق الحياة المنزلية وانتقاداته الحادة، التي وجهها للأزواج والزوجات الذين يرفضون الإنجاب؛ تأثره بالثقافة البطريركية السائدة في ألمانيا القرن السادس عشر، والتهديد الذي شكلته وفاة الأزواج والأطفال المبكرة على جميع الأسر. كما لم يؤيد لوثر، كمعظم نظرائه، الزواج المثلي الذي وسم ازدراء في هذا العصر ب «الخطيئة المسكوت عنها»، أو «اللواط» أو «الزواج الإيطالي». ظهرت هذه الأوصاف بصفة رئيسة في السياقات التي تلقي باللائمة على اشتراط العزوبية في رجال الدين لتسببه في ممارساتهم الجنسية المشينة. وقد تشكلت آراء لوثر في هذه المواضيع كافة من التوجهات التقليدية المجحفة السائدة، ومن تفسيره للإنجيل، غير أنه أدلى ببعض آرائه كمقولته التالية بحماس:
وعظ الأطباء القدامى وعظا سديدا بأن الزواج فضيلة محمودة؛ لأنه يثمر الأطفال والإخلاص والحب. لكن فائدته الجسدية أيضا من المنافع الثمينة، وتوصف استحقاقا بأنها أعظم فضائل الزواج؛ بمعنى أن كلا من الزوجين يستطيع أن يعتمد على الآخر، وأن يعهد إليه بكل ما له على الأرض، حتى يطمئن إلى زوجه كما يطمئن إلى نفسه.
هوامش
الفصل الثامن
ملائكة وشياطين
لم تكن وفاة طفلين في أسرة لوثر أمرا غير معتاد في أوروبا القرن السادس عشر؛ إذ ساد مناخ قاس وظروف صحية عامة سيئة وانتشرت الأوبئة. وعلى الرغم من أن المؤرخين عدوا هذا القرن على مشارف حقبة مبكرة من العصر الحديث من حيث الظروف المعيشية والوعي الثقافي، فإنه لا يزال يندرج تحت أواخر العصور الوسطى، ومارتن لوثر كان ينتمي للعصور الوسطى. كانت الأمريكتان قد اكتشفتا، وجمع الأوروبيون على مدى قرون بعض المعارف عن آسيا وشمال أفريقيا، لكن لوثر كغالبية معاصريه ظل يحيا في حدود إطار المسيحية الأوروبية الضيق، كما أنه لم ينظر إلى القرن الذي عاش فيه على أنه من العصور الحديثة أو الوسطى، ولم يقسم المسيحية إلى طوائف كاثوليكية وبروتستانتية كما صنفت فيما بعد. فبالنسبة له، كانت حركة الإصلاح الديني نقطة تحول فاصلة؛ لأنها نقلت المسيحية الغربية من فترة طويلة، ظلت بها رهينة لسيطرة البابا، إلى عهد جديد تحرر من هذه السيطرة. وقد آمن لوثر منذ عام 1520 بأن الكنيسة الغربية يجب أن تتحرر من بابوية روما، التي أصرت على أنها هي الكنيسة الوحيدة، واتسع مفهوم الكنيسة على يد لوثر ليشمل كل تجمع من المؤمنين الذين يحيون في «الإيمان الحق والأمل والحب».
لكن للأسف استثنى تصوره المهيب لكنيسة عالمية ومسيحية محررة ، جميع غير المؤمنين والمسيحيين بالاسم الذين لم يتفقوا مع تعريفه «الإيمان الحق والأمل والحب». ورأى أن مسيحية أوروبا كانت مهددة من الداخل والخارج من قبل «البابويين» أو «الكاثوليكيين»، الذين ظلوا رعايا مخلصين للبابا، ومن قبل جماعات الإصلاح الديني غير الكاثوليكي - الذين وصفهم لوثر بالمتحمسين والدعاة إلى مجازية القرابين (القائلين بتجديد العماد والإصلاحيين السويسريين) - ومن قبل أتباع اليهودية والإسلام. وكان كل من اليهود والأتراك - كما كان لوثر يطلق عليهم - ينظر إليهم بالفعل على أنهم تهديدات للمسيحية في العصور الوسطى، لكن الشعور بحدة خطر هذه التهديدات تزايد مع طرد اليهود من العديد من البلدان، وإطباق الجيوش التركية على أوروبا الوسطى. وقد نظر لوثر إلى هذه التهديدات على أنها محاولات من الشيطان لعرقلة حركة الإصلاح الديني والقضاء على الكتاب المقدس قبل أن ينقذ ألمانيا من يوم الحساب الذي اقترب بلا شك، بل رأى لوثر أنه كلما زادت معارضة الإصلاح الديني، ازداد يوم الحساب قربا، وازدادت الحاجة إلى المزيد من المقاومة والصلاة؛ لإنقاذ عدد قليل على الأقل من الأرواح. من هنا كان إيمان لوثر بالشيطان أقوى مما آمنت به الخرافات الشائعة؛ لأن الكثير كان على المحك؛ لا ثروات الدنيا وحسب، بل أيضا الخلاص الأبدي وبقاء المسيحية.
آمن لوثر كذلك بالملائكة، وتحدث عنها في 29 من سبتمبر عند الاحتفال بعيد القديس ميخائيل وجميع الملائكة، فأشار في عظته في هذا اليوم من عام 1530 إلى أن هذا الاحتفال - كغيره من أيام أعياد القديسين الأخرى - احتفل به بطقوس وثنية، اختلقت الأكاذيب والخرافات عن الملاك ميخائيل، بدلا من تعليم الناس تقدير حماية الملائكة جميعا لهم. وأيد لوثر الاعتقاد الشائع بأن الشيطان - شأنه شأن ميخائيل - خلق ملاكا، لكنه تحول إلى طاغية، استخدم قواه في الإضرار بالبشر، بعكس رئيس الملائكة ميخائيل، الذي لم تخدم قواه الخارقة إلا في خير البشر. فالناس الذين اعتقدوا أن الشيطان بمنأى عنهم، ولا يشكل تهديدا شخصيا عليهم؛ عجزوا عن تقدير أهمية الملائكة، ومن ثم حذرهم لوثر بأن عليهم أن يدركوا أن «الشيطان أقرب إليهم من لباسهم أو قميصهم، وأنه يحيط بهم بإحكام أكثر من جلودهم »، وواجب الملائكة هو حماية المؤمن من الشيطان الدائم الحضور والدمار، الذي قد يجلبه على منزله وزوجته وأطفاله. ومن حسن الحظ أن كل مؤمن عين له ملاك حارس وفقا لنصوص الكتاب المقدس التقليدية (إنجيل متى، الإصحاح 18: الآية 10) وجميع الملائكة ترغب في سلام البشر. إلا أن المؤمن البروتستانتي لا يعبد الملائكة أو يصلي لهم، ولكنه يشكر الله ويحمده؛ لأنه بفضل الملائكة، يرى الخير أكثر مما يرى الشر، والنهار أكثر إضاءة من الليل، وعدد الأحياء يربو على عدد الأموات، والأمن يعم المنازل والمجتمعات.
لكن رغم أهمية الملائكة كرس لوثر أغلب خطبه لتكون عن الشيطان، وهو فارق كاشف؛ فلأنه شعر على الدوام بأنه محاصر من الشيطان، طغى قلقه منه على اطمئنانه إلى حماية الملائكة، فرأى أن الشيطان قد صنع مملكة له، وقيد البشرية بالخطايا ليملأ العالم بالظلم وإراقة الدماء، فلا يبرأ شخص من الإثم ويفر من الحساب. وآمن أن البشرية محكومة بثالوث الشر المقيت: الخطيئة والموت والشيطان، وسيستمر هذا الحكم ساريا حتى يضعف الإنجيل قبضته ويحرر الإيمان البشر. لكن حتى عندئذ يبقى المؤمن مهددا بالإغواء وفقا لتفسير لوثر للدعوة السادسة في الصلاة الربانية («ولا تدخلنا في تجربة»)، فيقول:
مع أننا نلنا المغفرة وسلام الضمير وتحررنا تماما من خطايانا، لكن هكذا هي الحياة أن ينهض المرء على قدميه اليوم ويتعثر غدا؛ لذا حتى إن كنا نقف اليوم أمام الله على أقدامنا بضمير سليم، فعلينا أن نطلب منه مجددا ألا يتركنا نسقط وننهار تحت وطأة هجمات الشيطان والإغواءات.
ولما نظر لوثر إلى كيان المسيحية على أنه هش للغاية، ومعرض على الدوام لقوى الشر، رأى الخطر محدقا من كل جانب، وعزا تأثير الشيطان الخبيث إلى كل من عارضه، وبدا أنه يهدد أهدافه. فوق ذلك كان العالم مشارفا على نهايته، ولم يعد أمام ألمانيا إلا اللحظة الراهنة للتشبث بالإنجيل الذي كان أملها الوحيد. بعبارة أخرى عد لوثر كل ما هدد أهدافه رفضا للسماح لله بأن ينقذ ما تبقى من المؤمنين ؛ من ثم سيطرت النزاعات بينه وبين خصومه على حياته، وصارت مرتبطة بفكرة قرب نهاية العالم. فلما تأمل لوثر حياته قبل وفاته بعام، وجدها في الأساس عبارة عن سلسلة من الخلافات والمناظرات؛ ففي البداية جاءت مسألة صكوك الغفران التي ذكرها في مقدمة كتاباته اللاتينية، ثم تلتها - حسبما كان لوثر يذكر - مسألة مجازية الأسرار المقدسة والدعوة إلى تجديد العماد. فبدا أن عدوا تلو الآخر يهب ليتصدى له، وأن يد الشيطان تحرك الجميع، وفي مواجهتهم جميعا أطلق لوثر بعضا من أشرس المجادلات التي سجلت في القرن السادس عشر.
استخدم لوثر في كتاباته الأخيرة بالأخص لهجة شرسة وفظة في بعض الأحيان في مواجهة خصومه، سواء خصومه الفعليين أو من تصور فيهم الخصومة، ولا سيما في مواجهة البابوية واليهود. وتتجلى لهجته الاستفزازية في العنوان نفسه في اثنين من أعماله الأخيرة هما: «ضد اليهود وأكاذيبهم» (1543)، و«ضد بابوية روما التي أسسها الشيطان» (1545). حتى إن صديقه الأقرب ومعينه فيليب ميلانشتون - الذي كان رثاؤه للوثر مفعما بالثناء على فضائله - شعر بضرورة تبرير لهجة لوثر المقذعة، فاستعان ردا على من أشاروا إلى أن لوثر كان أكثر حدة مما دعت الحاجة بمقولة إراسموس، التي يزعم أنه قال فيها: «منح الله هذا العصر الحديث طبيبا قاسيا؛ نظرا لعظم حجم أمراض هذا العصر.» إلا أن لوثر برع في استخدام البلطة لا المبضع، وقد وصف نفسه بدقة بأنه حطاب خشن، مهمته هي اقتلاع جذور الأشجار المجتثة وجذوعها واستئصال الأشواك وردم البرك الموحلة وتمهيد الطرق. ومن الواضح أن المحاولات الأخيرة لتبرير قسوة لوثر قد ازدادت تعقيدا؛ بفعل الأحداث التي شهدها القرن العشرين. فبعد أن حث البابا يوحنا الثالث والعشرون ومجلس الفاتيكان الثاني على إظهار النوايا الطيبة، بدت اتهامات لوثر العنيدة للبابوية غير مبررة، رغم أن العقائد والممارسات التي احتج عليها ظلت في أغلبها كما هي دون تغيير. وعلى الرغم من نقده للأمراء المستبدين، جعلت الحركات الشعبية الداعية إلى التحرر والعدالة الاجتماعية إيعاز لوثر بذبح الفلاحين المتمردين يبدو انحرافا عن رسالة المسيح. أما أكثر ما أضر بلوثر فهو الهولوكوست واستخدام آلة الدعاية النازية لتصريحاته المناهضة لليهود، مما جعل ثوراته المعادية للسامية تكاد تكون ممنوعة الذكر.
لم يكن لوثر يعيش في القرن العشرين، وإنما في القرن السادس عشر، وربما يمكن تبرير مغالاته إلى حد كبير في ضوء التوجهات والصراعات التي أحاطت به. على سبيل المثال، تذكرنا العلاقة المهتزة بين المسيحيين واليهود ببداية المسيحية نفسها، وقد تدهورت هذه العلاقة على نحو منتظم مع انتشار المسيحية في أوروبا. واشتد العداء العام للمجتمعات اليهودية الصغيرة في أواخر العصور الوسطى، فوجهت إلى اليهود اتهامات غريبة، كتدنيس خبز القربان المقدس وقتل الأطفال المسيحيين، ونفوا من أغلب بلدان غرب أوروبا، إلا أن المجتمعات اليهودية ظلت موجودة في ألمانيا، واستمر التواصل بين الحاخامات وعلماء اللاهوت المسيحيين في بداية حركة الإصلاح الديني. كان أغلب أنصار حركة الإصلاح الديني من جماعات الإنسانيين، وقد اشتركوا جميعا في رغبة متجددة بتدريس اللغة الإغريقية والعبرية وتعلمهما، كما آمنوا أن المسيحية المنقحة ستكون مقبولة في المجتمعات اليهودية، ومن ثم علقوا آمالا غير واقعية على تحول الكثير من اليهود إلى المسيحية أو إلى «دينهم الحق» بتعبير لوثر عام 1523. وقد ذكر لوثر في أولى محاضراته عن سفر المزامير أن عظماء بني إسرائيل، الذين صدقوا وعود الله كإبراهيم وداود، كانوا مثالا للإيمان المسيحي، وامتدح المجتمعات المسيحية اليهودية الأولى، واصفا إياها بأنها «الكنيسة الحقة»، غير أن أسلاف لوثر حشروا اليهود غير المؤمنين بالمسيح مع المهرطقين والآثمين، وعزى لوثر إلى اليهود وصفا مشابها عندما يئس من تحويلهم إلى المسيحية، فكتب عام 1543:
يكثر اليهود والأتراك والبابويون في كل مكان، ويزعمون جميعا بغرورهم أنهم يشكلون الكنيسة الحقة، وأنهم شعب الله المختار، بصرف النظر عن الدين الوحيد الحق [المسيحية] ... الذي يصبح به وحده الإنسان من أبناء الله ويظل كذلك.
تحول يهود ألمانيا في غضون عقدين من الزمان من قوم يؤمل في تحولهم إلى المسيحية في منظور الإصلاحيين الكاثوليكيين والبروتستانت إلى تهديد خطر، وقد تبنى لوثر الرأي نفسه رغم سخافته، مما أدى إلى توبيخه القاسي لهم في كتابه «ضد اليهود وأكاذيبهم»، وقد أشارت لفظة «أكاذيبهم» إلى معتقدات قديمة تستند إلى كتابهم المقدس، وتزعم أن اليهود هم شعب الله المختار، الذين ميزوا بنعم معينة كالعهد والقانون والأرض الموعودة. وقد وصف لوثر رفضهم الاعتراف أن يسوع هو المسيح المخلص بالكفر الذي أغضب الله وتسبب في أن تمنع نعمه عن ألمانيا. ولعل هذا الخوف من أن يقوض كفر اليهود جهود الإصلاح، يفسر دفاع بعض أنصار حركة الإصلاح، كأوربانوش ريجيوس ومارتن لوثر، عن التفسير المسيحي للفقرات التي تتحدث عن المسيح في الكتاب العبري؛ فأقام ريجيوس حوارا مطولا مع زوجته آنا يبين فيه ما فعله المسيح في عيد الفصح الأول عندما «أخذ يفسر لهما، منطلقا من موسى ومن الأنبياء جميعا، ما ورد عنه في جميع الكتب» (لوقا 27:24) في الطريق إلى عمواس، ومن هنا أيضا كرس لوثر 85٪ من كتابه «عن اليهود وأكاذيبهم» للبرهنة على أن يسوع هو المسيح المخلص، الذي تنبأ به سفر العهد القديم، وكرس سائر المقال للوصايا المشينة التي اقتبست عنه كثيرا: احرقوا معابد اليهود ومدارسهم، ودمروا منازلهم كليا، وصادروا تلمودهم وغيره من كتبهم المقدسة، وامنعوا حاخاماتهم من التدريس، وارفضوا منحهم حق المرور في الطرق العامة، وامنعوهم من العمل بأي حرفة عدا الفلاحة والغزل. وقد أوصى الإصلاحي البروتستانتي مارتن بوسر والكاثوليكي جون إيك بالعديد من الوصايا نفسها، فدل تكريس كل هذا الجهد للبرهنة على أن يسوع هو المسيح المخلص، ولقمع الأقلية اليهودية في مجتمع أغلبيته الساحقة مسيحية؛ على ضعف كيان المسيحية آنذاك في منظور زعمائها.
لكن عزو المحرقة اليهودية مباشرة إلى لوثر - كما بدا أن ويليام شايرار يرمي في كتابه «صعود وسقوط الرايخ الثالث» - لا ينبئ عن الدقة من الناحية التاريخية. فبالفعل لزم الكثير من المسيحيين الألمان الصمت عندما أردى النظام النازي ستة ملايين قتيل من اليهود (وغيرهم)، واستخدمت بالفعل آلة الدعاية النازية كتابات لوثر، لكن من الثابت أيضا أن المسيحيين الألمان (سواء الكاثوليك أو الإصلاحيين أو اللوثريين) لا سيما الموجودين في كنيسة الاعتراف؛ احتجوا على هذه الفظائع، وبعض من احتجوا عليها كديتريش بونهوفر قتل أو سجن أو نفي لذلك . ومن تغاضى عن هذا القتل منهم لم يفعل ذلك بالدرجة الأولى لما قاله لوثر، فوفقا ليوهانز وولمان الذي تتبع اتجاه استيعاب كتابات لوثر المناهضة لليهودية في ألمانيا:
لم تنبع إساءة استغلال كتابات لوثر ... بغرض معاداة السامية العنصرية بعد الحرب العالمية الأولى من العقيدة اللوثرية، بل من عقيدة مخالفة [الحركة القومية الألمانية الخالصة]، وقد تأسست هذه الحركة على أوهام القرن التاسع عشر بتفوق الألمان العرقي والثقافي، الذي دعم أوهام ألمانيا الرايخ الثالث العنصرية النازية التي حادت عن الدين.
كان نقد لوثر للإسلام أقل حدة من نقده لليهودية، رغم أن جيوش المسلمين العثمانية مثلت تهديدا حقيقيا لأوروبا الوسطى، بعكس التهديد الوهمي الذي مثلته اليهودية، وقد غالى مؤلفو المنشورات السياسية في هذا العصر في تقدير حجم هذا التهديد، بتصوير الحرب السياسية على أنها حرب بين المسيحية والإسلام، أو بين المسيح وأعداء المسيح. كان أغلب ما عرفه لوثر عن الإسلام مستقى من كتاب العصور الوسطى، لكنه كتب هو وميلانشتون مقدمة لترجمة لاتينية منقحة للقرآن نشرت في مدينة بازل عام 1542. وناقشت كتاباته الأخرى ردة الفعل المسيحية الملائمة للتهديد التركي، وعقدت مقارنات بين الإسلام والمسيحية، لكن القليل فقط من كتابات لوثر اتسم بالأصالة - إن وجد بينها ما اتسم بذلك من الأساس - ولو أنها اكتسبت أهمية جديدة في ظل التهديد العثماني وأجندة حركة الإصلاح التنصيرية.
رأى لوثر أن الإسلام دين يؤلف بين أديان مختلفة؛ إذ يؤلف بين العقيدة الوثنية والعقيدة اليهودية والعقيدة المسيحية، لكن «ليس به مخلص أو غفران للخطايا أو عفو أو روح قدس»؛ لذا رأى أن الموت أقل هونا للمسيحي من الحياة في ظل حكومة لا يستطيع أن يعترف فيها بإيمانه بالكامل. ولا شك أنه لم يقبل وجود الإسلام في أوروبا بعد إعادة تنصيرها، ولكنه مع ذلك لم يؤيد شن حرب صليبية ضد الأتراك، فزعم ساخرا أنه إذا شرع الإمبراطور في تدمير الكافرين وغير المسيحيين، إذا:
عليه أن يبدأ بالبابا، والأساقفة ورجال الدين، بل ولعل عليه أيضا ألا يستثنينا أو يستثني نفسه، فإمبراطوريته تنطوي على ما يكفي من مظاهر الوثنية الفظيعة، إلى الحد الذي يجعل محاربة المسلمين لهذا السبب غير واجبة. فثمة الكثير جدا من المسلمين واليهود والوثنيين وغير المسيحيين بيننا، يظاهرون باعتناق عقائد زائفة ويحيون حياة مشينة مخزية.
انطبقت معايير لوثر المبسطة لديانة «الصلاح بالأعمال» على الإسلام شأنه شأن اليهودية؛ إذ يجب أن يكتسب أتباعه الخلاص بالأعمال التي تستأهل الثواب، إلا أن لوثر انبهر بما سمعه عن تقوى المسلمين، ورأى أنها تقوى قد يندى أمامها جبين القساوسة المسيحيين خجلا. وقد يتعلم الكاثوليك من ممارسة الأتراك لشعائر الإسلام ولضبط الذات - نظرا لأنهم «كانوا يتفوقون على المسيحيين بشدة في هذا الصدد» - أن الديانة المسيحية يجب أن تتجاوز الطقوس والأخلاقيات.
مع ذلك، عزف لوثر عن إغداق المديح على الإسلام خشية أن يقود هذا بعض البروتستانت إلى إنكار المسيح واتباع محمد. ولم يمثل تحول المسيحيين إلى الإسلام تهديدا حقيقيا، لكن احترام المسلمين لشعائر ديانتهم خدم أهداف حركة الإصلاح الديني من ناحيتين؛ إذ أظهر - بمقارنته مع مسيحية العصور الوسطى - هذه المسيحية بمظهر سيئ، وذكر قراء لوثر أن جوهر المسيحية ليس الشعائر بل الإيمان والحب. وقد شارك لوثر أيضا إصلاحيين آخرين تفاؤلهم غير الواقعي بتحول المسلمين إلى المسيحية، فحسب على سبيل المثال أن المسيحيين الذين يؤسرون على يد قوات الأتراك سيبهرون بعض آسريهم المسلمين بإيمانهم وإخلاصهم وصبرهم، إلى الحد الذي يدفع ببعض المسلمين إلى التحول إلى المسيحية. فحث عام 1541 في مناشدته للدعاء على المسلمين على أن يعلم الأطفال جوهر العقيدة المسيحية حتى «يحملوا على الأقل شيئا من الإيمان المسيحي معهم» إن وقعوا أسرى. غير أنه لم يذهب إلى الحد الذي ذهب إليه تيودور بيبلياندر رجل الدين بمدينة زيوريخ، الذي بادر بنشر نسخة لاتينية منقحة من القرآن. فوفقا لبيبلياندر، إن الله أراد تخليص جميع البشر، بما في ذلك المسلمين، وسرعان ما ستصدر نسخة عربية من الإنجيل، بل وأبدى استعداده للسفر كمبشر إلى بلاد المسلمين. «جرأة لوثر كانت لا تصدق ... إذ كان أول الكتاب الذين امتلكوا القدرة على انتقاد الانتهاكات حيثما نبعت ، ولعله آخرهم»، لكن كاتب سير الأعلام إتش جي هايلي خفف نبرة إعجابه بصراحة لوثر؛ بالإشارة إلى أن لهجته الهجومية البذيئة في سنواته الأخيرة استحثتها جزئيا كراهيته للتقيد بالقانون، وأسفه وندمه وإحباطه كمحارب قديم. كما سيق العديد من الأمراض تبريرا لسلوك لوثر غير اللائق في كبره؛ كتبولن الدم والانسداد التاجي والاكتئاب. ولعل جميع العوامل آنفة الذكر لعبت دورا في ذلك، غير أن استخفاف لوثر بالضوابط الاجتماعية والأدبية المعتادة يشير إلى عوامل أخرى. فبوصفه محروما كنسيا وخارجا على القانون بمرسوم إمبراطوري؛ أحرز لوثر مكانته كقائد للحركة البروتستانتية بخسارة كبيرة - على المستوى الشخصي - أكسبته شعورا قويا بأحقيته في تصرفاته، ولعل هذا كان مدمرا، ولعله دفعه إلى ازدراء خصومه وإقصائهم، ككارلشتادت وتوماس منتسر وزفينجلي؛ حيث كان لوثر يشكو من أن هؤلاء تمتعوا بثمار معاركه دون الاضطرار إلى المجازفة بأي شيء لبلوغ النصر. ولما هدد الغزو الإسلامي العثماني ألمانيا مجددا عام 1541، ألقى لوثر باللوم على الألمان الجاحدين؛ لأنهم لم ينتبهوا إلى كلمة الله، بل انقسموا بدلا من ذلك إلى طوائف وبدع تصرخ بما لم تكن لتهمس به عندما كان البابا صاحب اليد العليا. المعنى الضمني هنا واضح: بدلا من رفض ما نادى به لوثر، دان له خصومه بالفضل؛ لأنه حررهم من هيمنة البابا، وكان عليهم أن يجعلوه القائد. حتى إن لوثر في مرحلة ما، ساورته الشكوك حيال كل قراراته، فقال في ذلك:
إن كان علي أن أطلق حركة الكتاب المقدس اليوم، كنت سأفعل ذلك على نحو مختلف؛ كنت سأترك السواد الأعظم من الناس تحت سلطة البابا، وأحاول بصورة غير ملفتة أن أنقذ أصحاب الضمائر اليائسة المؤرقة.
طلب من الكنائس في جميع أنحاء العالم - كدليل على الأمل والتصالح - أن تدعم مشروعا لزراعة الأشجار في حديقة خاصة للوثر بفيتنبرج؛ احتفالا بالذكرى الخمسمائة لحركة الإصلاح الديني في عام 2017. خطط لإنشاء الحديقة على قطعة أرض تشبه ختم لوثر؛ إذ يعتقد الكثيرون أنه قال: «إن علمت أن نهاية العالم ستقع غدا، كنت سأزرع رغم ذلك شجرة تفاح اليوم.» لكن لم يعثر على هذه المقولة حتى الآن بين كتاباته، ويعتقد الباحثون أنها أتت من كنيسة الاعتراف الألمانية، التي استخدمتها لبث الأمل والمثابرة في القلوب إبان معارضتها للدكتاتورية النازية.
شكا لوثر لدن مشارفته على الموت من النبلاء الجشعين والعمال اللصوص والمحامين المحتالين ورجال المصارف المرابين، قبل أن يخلص إلى مقولته التالية:
تنضح ألمانيا بالآثام التي ترتكب في حق الله، ويبلغ بها الحد تبرير هذه الآثام متجاسرة على الله، وهو ما يجعلني مع الأسف أشبه بنبي حقيقي، فقد قلت مرارا وتكرارا إننا إن لم نعاقب أنفسنا، فسيفعل ذلك الأتراك نيابة عنا.
كان من الممكن أن تزداد الأحوال سوءا؛ حيث قال لوثر محذرا من الاستخفاف بالكلمة [كلمة الله] التي دعتهم إلى التوبة:
لا عجب إن أطلق الله على ألمانيا ليس فقط الأتراك بل والشياطين أنفسهم، أو لو كان قد أغرقها من زمن بطوفان.
كتب لوثر إلى صديقه لينك، قبل أقل من عامين على وفاته، بعد أن خارت قواه مطمئنا إلى ما آلت إليه حركة الإصلاح الديني، ومتفائلا بها:
أنا عن نفسي أتمنى أن تكون ساعة انتقالي إلى الله ساعة طيبة. أشعر بالرضا والتعب، وليس لدي شيء آخر. لكن احرص على الدعاء لي بإخلاص بأن يقبض الله روحي إليه في سلام. لا أترك كنيستنا في وضع هزيل، بل إنها تزدهر بالتعاليم النقية الصحيحة، وتنمو يوما بعد يوم بفضل [جهود] العديد من القساوسة الممتازين المخلصين.
آمن لوثر بأن ما قاله كان صحيحا، وقد كان إلى حد ما كذلك، ليس بسبب أنه غير العالم، لكن بغض الطرف عن أن العالم استمر على حاله. وفي نهاية حياته، كان لوثر أقل مثالية وأكثر حكمة مما كان عندما تصور تحرر ألمانيا بأسرها من استبداد البابا. فقال:
على الواعظ أن يعرف العالم، ليس بالطريقة التي عرفته بها كقس، عندما تصورت أنه شديد السمو والاستقامة حتى إنه سيعتنق الإنجيل المقدس ما إن يسمع به الناس، لكن العكس حدث.
خاتمة
تمتع مارتن لوثر بشخصية قوية جذبت إليه المعجبين والمسيئين على حد سواء. ومن بين المعجبين به إصلاحي مدينة أوجسبورج أوربانوش ريجيوس، الذي عرج على لوثر للقائه عام 1530 في حصن مدينة كوبورج. قال ريجيوس لأحد أصدقائه في جنوب ألمانيا بعد الزيارة:
لا يسع شخصا أن يكره لوثر بعد لقائه. تقدم كتبه فكرة عامة عن شخصيته، لكن إن تسن لك أن تشاهده عن كثب، وأن تصغي إليه وهو يتناول المسائل الدينية بروحه الشبيهة بروح الرسل؛ فستقول إن لقاءه شخصيا أفضل بكثير من السماع عنه. هو أعظم من أن يحكم عليه عالم لاهوت آخر، وسيبقى بلا شك عالم لاهوت للعالم بأسره، وأنا موقن الآن أنني صرت أعرفه أكثر من ذي قبل.
لو كان ريجيوس يعيش في عام 2003 لاستمتع بالفيلم الذي أخرجه إريش تيل، والذي صور لوثر على أنه ثائر، وعبقري، وقائد بطل للتحرير. وقد كان - إلى حد ما - يتمتع بهذه الصفات الثلاث، لكنه من الناحية العملية آثر النظام على الفوضى، والإيمان على الحنكة، والاعتدال على الحرية. وقد أخفقت أغلب المحاولات لتصويره على أنه بطل لا تشوبه شائبة، لميلها إلى وصفه بمسميات مبسطة كانت تمثل - على أقصى تقدير - أنصاف حقائق عنه. وحتى أصدقاؤه وزملاؤه كانت لديهم هواجسهم؛ فوفقا لخطاب سري كتبه فيليب ميلانشتون عام 1548، شعر ميلانشتون بأنه اضطر أن يلعب دورا ثانويا مع زميله لوثر الأكثر حيوية وشهرة.
بدأ تصوير لوثر كبطل بالكلمات والصور بعد وقت قصير من طباعة أول أعماله في بازل عام 1518. حث التمهيد لتلك الطبعة - الذي كتبه الإنساني المؤيد للإصلاح فولفجانج كابيتو - علماء اللاهوت على نبذ المناهج السكولاتية التي اتبعها أسلافهم، والعودة إلى تعاليم المسيح باتباع نهج لوثر، الذي يسلط الضوء على الأناجيل الأربعة وعلى رسالات الرسول بولس. أما الإنساني والمسئول الحكومي في نورمبرج لاتساروس شبينجلر، فقد نشر في نهاية عام 1519 دفاعا عن لوثر امتدح فيه العزاء الذي يبثه لوثر في نفوس أصحاب الضمائر المثقلة، والذين أشار لهم لوثر بالأخص في مدينة فورمس على أنهم السبب الرئيس لوقوفه في وجه البابوية، ويزعم أن شبينجلر سمع رجال الدين والعامة - على حد سواء - يشكرون الله على أن العمر امتد بهم ليشهدوا لوثر وتعاليمه. أما هانز بالدونج جرين - وهو طالب من جنوب ألمانيا للنحات والرسام ألبريشت دورر - فقد صنع عام 1521 لوحة مطبوعة من حفر على خشب تصور مثول لوثر أمام مجلس فورمس، وصورت اللوحة لوثر على أنه قديس ملهم من السماء مع كتاب مفتوح، وعلى رأسه حمامة محاطة بهالة نورانية. وفي عام 1523، أنتج هانز هولباين الأصغر لوحة مطبوعة من حفر على الخشب تصور لوثر كهرقل ألمانيا وهو يهاجم ياكوب هوخشتراتن - وهو عالم دين دومينيكي كتب هجوما على لوثر - وقد تمدد على الأرض في اللوحة أرسطو وخمسة من لاهوتيي العصور الوسطى مهزومين. وفي العام نفسه كتب هانز ساكس - وهو موسيقار كبير بمدينة نورمبرج - قصيدة مطولة؛ تكريما للوثر بعنوان «عندليب فيتنبرج الذي يصدح تغريده في كل مكان».
شكل 1: لوثر كهرقل ألمانيا، بريشة هانز هولباين الصغير، 1523.
استمر الاستحسان الشعبي واستحسان رجال الدين للوثر طوال حركة الإصلاح الديني وما بعدها، فبين عامي 1562 و1565 ألقى يوهانز ماثيسيوس سلسلة من العظات عن حياة لوثر، أصبحت فيما بعد أول سيرة تفصيلية تتناول حياته؛ إذ درس ماثيسيوس في مدينة فيتنبرج، وكان يعترف بتقديره العميق لمعلميه، لكن لأن نزعة القس غلبت على نزعة عالم اللاهوت لديه، صب اهتمامه على كتابات لوثر العملية وفوائدها، ورأى أن العالم لن يستطيع أن يفي لوثر حقه من الشكر، حتى لو لم يكتب الأخير إلا ملخصات العقيدة المسيحية وصلاة المائدة. كما آمن ماثيسيوس أن الرب سيغفر للوثر تصريحاته البذيئة اللاعنة؛ لأنه الأداة التي سلط بها غضبه على النظام البابوي. حاول كتاب «صيغة الوفاق»، الذي صدر عام 1577، الفصل في الادعاءات المتضاربة حول ميراث لوثر، بجعل الكتاب المقدس وأسس العقيدة المسيحية القديمة وإقرار أوجسبورج (1530)، هي معايير التعاليم اللوثرية. وقيل إن الإقرار يلخص حقيقة كلمة الله التي «خرجت إلى النور من ظلام البابوية المريع» بواسطة «هذا الرجل المذهل الذي اختاره الله»؛ الدكتور لوثر. وبحلول القرن السابع عشر، نسبت إلى صورة لوثر قدرة عدم قابلية الاحتراق الإعجازية ؛ ففي عام 1634، زعم قس ألماني أن لوحة منحوتة من النحاس للوثر نجت من حريق دمر مكتبه، وبعدها بحوالي خمسين عاما، نجت لوحة أخرى للوثر من نيران دمرت المنزل الذي ولد فيه بمدينة آيسلبن، ويزعم أن تلك اللوحة التي صورته بين المسيح على الصليب وبين صورة ختمه؛ ظلت معلقة بمنزل لوثر حتى عام 1827.
كثر نقاد لوثر أيضا، وكان أوائلهم من علماء اللاهوت الكاثوليكيين والإنسانيين، الذين عارضوه بعد وقت قصير من فتح قضيته في روما. وفي الفترة ما بين عامي 1520 و1525 أنتج نحو 60 كاتبا ما يربو على 200 كتاب ومنشور يهاجم حركة الإصلاح الديني، واستهدفت الكثير من هذه الكتب لوثر، وأغلب هؤلاء الكتاب كانوا من العلماء الأكفاء، مثل جون إيك وتوماس كاييتان، اللذين ناظرا لوثر وجها لوجه، وظلا معارضين لحركة الإصلاح الديني، وكتبا دفاعا واعيا عن التعاليم الكاثوليكية الخاصة بقرابين القداس وسلطة البابا. ونظرا لأنهما كانا يكتبان باللغة اللاتينية، كشأن معظم المجادلين الكاثوليك، كان لكتبهم تأثير أقل من المنشورات الألمانية التي صدرت تأييدا للوثر. ومن أشهر خصوم لوثر ملك إنجلترا هنري الثامن، الذي نشر عام 1521 - بمساعدة قوية من رئيس مجلس اللوردات فيما بعد؛ توماس مور - دفاعا عن الأسرار المقدسة الكاثوليكية السبعة، كما أيد الملك الكتابات المناهضة للوثر، والخاصة بمور وبأسقف روتشستر جون فيشر، الذي استهدف أهم تعاليم لوثر لدحضها دحضا مطولا. وفي عام 1523 نشر مور ردا عنيفا وبذيئا على لوثر، امتدحه هو نفسه تحت اسم ويليام روس المستعار، واصفا إياه بأنه «عمل مصطفى مدروس وممتع ينم عن الصلاح ... يفضح ويدحض - على نحو مثير للإعجاب - الافتراءات الجنونية التي يهاجم بها لوثر - هذا الأحمق البغيض إلى أقصى حد - ملك إنجلترا الذي لا يقهر هنري الثامن».
نشر يوهان كوكليوس، أول كاتب كاثوليكي لسيرة لوثر، كتابه الجدلي «تعليق على أفعال وكتابات مارتن لوثر الساكسوني» عام 1549. كان كوكليوس قد انتقد قبل ذلك هنري الثامن؛ لأنه أعدم صديقيه الإنسانيين مور وفيشر، لكنه ظل خصما لدودا للوثر، لا سيما بعد الوقوف أمامه في مناظرة خاصة في مدينة فورمس. وقد نشر كوكليوس عام 1529 أطروحة شهيرة تهاجم لوثر باسم «لوثر ذو الرءوس السبع»، يتهم فيها الأخير بكثرة تضارب آرائه، وتصور اللوحة المطبوعة بكليشيه محفور على الخشب في صفحة العنوان؛ لوثر كتنين له سبعة أرؤس (سفر الرؤيا، الإصحاح الثاني عشر، من الآية 1 إلى 6) ظهر لامرأة حبلى تتشح بالشمس، وهدد بالتهام وليدها. وصورت رءوس لوثر السبعة لوثر كدكتور، وراهب، وتركي، وكنسي أو واعظ يخبر العامة بما يودون سماعه؛ ومتعصب منتصب شعر الرأس، تحيط برأسه الدبابير؛ ومفتش «زائر» - في إشارة إلى الزيارة الساكسونية التي يزعم أنها جعلت لوثر بابا جديد؛ وأخيرا اللص الذي أطلق سراحه بيلاطيس البنطي بدلا من المسيح، وكان اسمه باراباس، وقد صور كألماني همجي يحمل في يده هراوة. يبدو أن الرقم سبعة كان مفيدا للمتجادلين آنذاك، فعدد لوثر على سبيل المثال في دفاعه عن رأيه في تمثل المسيح في العشاء الرباني سبعة «أرواح» خالفته في الرأي؛ وهم في الأساس بروتستانتيون آخرون رفضوا تقبل تفسيره للكلمات التي استخدمها المسيح في استهلال الأسرار المقدسة. ورفض لوثر رفضا باتا أي مودة مع تلك «الأرواح» التي كانت استجابتها بشكل عام متحفظة، أو على الأقل أكثر تحفظا من استجابة كوكليوس وغيره من الكاثوليكيين المعادين له.
أشار كوكليوس إلى أن لوثر عانى ذات مرة من نوبة أثناء صلاة القداس. فعندما سمع لوثر درس الإنجيل (إنجيل مرقس، الإصحاح التاسع، من الآية 14 إلى الآية 29) عن الصبي الذي سكنته «روح أخرس أصم» زجرها المسيح وطردها، يزعم أن لوثر سقط على الأرض صارخا: «ليس هذا أنا! ليس أنا!» وولدت هذه الخرافة شكا في أن لوثر كان يعاني من اضطراب عقلي، ولا سيما بعد أن جعلها المحلل النفسي إريك إريكسون موضوع فصل في كتابه الذي صدر عام 1958 «الشاب لوثر»، غير أن أغلب المؤرخين رفضوا تشخيص إريكسون لمرض لوثر على أنه مرض عقلي؛ نظرا لإفراطه في استخدام مصادر غير موثوقة.
تبين أن نبوءة ريجيوس للوثر أن يصبح عالم لاهوت للعالم أجمع قد انطوت على مبالغة؛ إذ اقتصر تأثير لوثر، تماما مثل رؤيته، على أوروبا بصفة أساسية، إلا أن أوروبا التي خلفها لوثر اختلفت عن أوروبا العصور الوسطى المسيحية التي ولد بها. وظل جزء قليل من شمال أوروبا تحت سيطرة البابا، فيما تبنى الكنائس البروتستانتية حكام إسكندينافيا ودول البلطيق، وألمانيا، وإنجلترا، واسكتلندا، وهولندا، وسويسرا، وأحدثت هذه الكنائس تغييرا في حياة الأفراد اليومية، سواء ارتضت العامة هذا أم لا؛ فأزيلت من تلك الكنائس مقامات القديسين، وقل تشجيع رحلات الحج التي عبر فيها المسيحيون القارة الأوروبية من فنلندا إلى إسبانيا، وتحول القداس اللاتيني إلى طقس عظة يتطلب إصغاء آذان البروتستانتيين المشاركين به أكثر مما يتطلب المشاهدة بأعينهم. وأنشد العامة الترانيم باللهجة العامية، وتلقوا لدى الاحتفال بالأسرار المقدسة الخمر الذي حرموا منه لقرون عديدة مع الخبز. ورفعت تقنية الطباعة المستحدثة آنذاك نسبة المتعلمين، فاقتنى عدد كبير منهم للمرة الأولى الأناجيل الخاصة بهم، وقرءوها ببيوتهم، وحملوها معهم في أسفارهم. واستمر الكاثوليكيون في العيش في هذه البلدان سرا أو علنا، لكن المسيحية البروتستانتية عززت القوات الإقليمية والقومية، التي حاولت البابوية في العصور الوسطى أن تكبحها. كما كانت حركة الإصلاح الديني هدية من السماء للسلطات البروتستانتية المدنية التي استغلت الحركة لإحكام سيطرتها على رعاياها.
اعتنق ميراث لوثر الهائل أكثر من 70 مليون مسيحي في 79 بلدة تنتسب إلى المذهب اللوثري، ويجري تحديث هذه الإحصائية بانتظام من قبل المقر الرئيس للاتحاد العالمي اللوثري بجنيف، والذي تنتمي إليه الأغلبية العظمى من هذه الكنائس. وما زال معظم أتباع المذهب اللوثري يعيشون في البلدان الأوروبية التي أيدت حركة الإصلاح الديني - ألمانيا، والنرويج، والسويد، وفنلندا، ودول البلطيق - وتعود أصول معظم أتباع المذهب اللوثري بأمريكا الشمالية إلى المهاجرين من هذه البلدان. أما في الولايات المتحدة في الفترة ما بين الحقبة الاستعمارية إلى عام 1850، فشكل الألمان غالبية المهاجرين الذين استقروا بولاية بنسلفانيا وأوهايو وفيرجينيا ونورث وساوث كارولينا وأخيرا في الغرب الأوسط، أما بعد عام 1850 فشكل الإسكندنافيون أغلب المهاجرين الذين زحفوا إلى شمال الغرب الأوسط وما وراءه. وقد شارك اللوثريون في الحركات التبشيرية في القرنين التاسع عشر والعشرين، وواجهوا تحدي نقل كنائسهم من أوروبا وأمريكا الشمالية إلى الثقافات المختلفة حول العالم ، وتتزايد أعداد اللوثريين الآن في أفريقيا بصورة أسرع من أي مكان آخر في العالم. ومع ذلك، فهم يواجهون في كل مكان تحديا أساسيا يعود إلى عهد لوثر وحركة الإصلاح الديني؛ ألا وهو كيف يتعاونون تعاونا وثيقا مع غيرهم من المسيحيين. فمن جهة كانت رؤية لوثر للكنيسة رؤية عالمية؛ فالكتاب المقدس لجميع المسيحيين أينما كانوا، والإيمان والعماد المسيحي هو الذي يشكل كنيسة من كل تجمع للمؤمنين للعبادة. ومن جهة أخرى، قطع لوثر أواصر الصداقة مع البروتستانتيين الذين خالفوه الرأي، واتبعت بعض الكنائس اللوثرية نهجه للحفاظ على نقاء تعاليمه.
رغم شهرة مارتن لوثر رائد حركة الإصلاح الديني، فإن أشهر من حملوا هذا الاسم هو قائد حركة الدفاع عن الحقوق المدنية الأمريكي مارتن لوثر كينج الابن (1929-1968)، الذي تشير إليه شهادة ميلاده باسم مايكل كينج الابن، نسبة إلى والده الذي أضاف اسم لوثر إلى اسمه، وعرف نفسه باسم إم إل كينج أو مايكل لوثر كينج. فبعد عودة مايكل لوثر كينج الأب للولايات المتحدة عام 1934 من اجتماع للاتحاد العالمي للمعمدانيين ببرلين، بدأ يشير إلى نفسه باسم مارتن لوثر كينج. وفي عام 1957، تغير اسم مايكل كينج الابن إلى مارتن لوثر كينج الابن، رغم أنه استخدم هذا الاسم قبل ذلك. وقد دافع مارتن لوثر كينج الابن عن نفسه في مواجهة اتهامه بالتطرف، مستشهدا بالمسيح وعاموس وبولس وأبراهام لينكولن وتوماس جيفرسون والإصلاحي مارتن لوثر، فقال مقتبسا عبارة لوثر: «ألم يكن مارتن لوثر متطرفا حين قال: «هأنذا أقف، ولا يسعني أن أفعل غير ذلك، فليساعدني الرب»؟»
من الصعب حصر ميراث لوثر الفكري؛ إذ لم تنطو كتاباته على ترتيب منظم للمفاهيم، ولم يتفكر كثيرا في القضايا الميتافيزيقية التي أرهقت عقول المفكرين المعاصرين كقضية وجود الله. ومع ذلك، في بعض الأحيان حثت نظريته اللاهوتية وشخصيته وأفعاله قادة الحركات الدينية على تبني نظرة جديدة لأنفسهم ولعالمهم. فنبعت الحركة الميثودية (المنهاجية) جزئيا من تأثر جون ويسلي بمقدمة لوثر لرسالة الرسول بولس إلى أهل رومية، التي شعر بعد قراءتها مباشرة بارتياح عجيب، واطمأن إلى أن المسيح قد خلصه من آثامه. وثمة مفكرون أوروبيون آخرون قرءوا كتابات لوثر، فرأوه من منظور التزاماتهم الفكرية والسياسية. وألهمت مناشدته بالاحتكام إلى الضمير بمجلس فورمس فلاسفة عصر التنوير بالنظر إليه على أنه مناصر للحرية الفردية في مقابل الهيمنة العقائدية الدينية؛ فوصفه يوهان جوتفريد هيردر، على سبيل المثال، بأنه هرقل حقيقي أعاد الاحتكام إلى المنطق في القضايا الروحانية لجميع البشر، حتى هؤلاء الذين لم يتقبلوا معتقداته. فيما خلص مفكرون آخرون إلى آراء شديدة السلبية عنه، فاتهمه فريدريش نيتشه بإبطال ما كاد عصر النهضة أن ينجزه، ألا وهو محو المسيحية، أما فريدريش إنجلز فاتهمه بخيانة البسطاء، بمنحهم من ناحية الإنجيل الذي بنيت عليه مطالبتهم بالحرية، واستغلال الإنجيل نفسه من ناحية أخرى ضدهم لإباحة التجبر الفاشستي الذي قمع ثورتهم.
أعيد اكتشاف شخصية لوثر في القرن العشرين بمناهج البحث العلمي الحديثة. فباستخدام محاضرات لوثر التي تمت استعادتها وتحريرها ونشرها، بدأ كارل هول نهضة لوثرية، أسفرت مع نهاية القرن عن مئات - إن لم يكن آلاف - المقالات والكتب التي كتبها دارسون دينيون وعلمانيون. وكان الأساس المشترك الذي قامت عليه كل تلك الأعمال هو التحليل المكثف لكتابات لوثر بالألمانية واللاتينية التي أتيحت في طبعة فايمار وبنسخ باللهجة العامية. وهيمنت القضايا اللاهوتية التي سلط هول عليها الضوء - كالتبرر بالإيمان وأثره على الضمير، واكتشاف لوثر في حركة الإصلاح الديني - على دراسة شخصية لوثر لأغلب القرن، لا سيما بين علماء اللاهوت في أوروبا وأمريكا الشمالية، لكن شيئا فشيئا أصبحت دراسة شخصية لوثر متوافقة مع التطورات الجديدة التي شهدتها دراسات حركة الإصلاح الديني، وبدأ الدارسون من مختلف الحقول العلمية في دراسة لوثر؛ فبدأ أخصائيو اللغة الألمانية، ومؤرخو الفن والموسيقى والفلاسفة، ودارسو التاريخ السياسي والديني في دراسة أثر لوثر على مجالاتهم، ولم تعد دراسة لوثر والإصلاح الديني تهيمن على دراسة أواخر عصر النهضة أو بدايات العصر الحديث في أوروبا، كما كانا في ذروة مقررات الجامعة التي صدرت بعنوان «عصر النهضة والإصلاح الديني». ويشكك الكثير من المؤرخين اليوم في فكرة وجود إصلاح واحد، ويفضلون التحدث عن «الإصلاحات» التي شهدها القرن السادس عشر.
في عام 1983، عززت الذكرى الخمسمائة لميلاد لوثر الوعي العام بلوثر في أوروبا والولايات المتحدة، حيث كان لحركة الإصلاح الديني أكبر الأثر، وبعد ذلك بوقت قصير، سهلت وحدة ألمانيا عام 1989 زيارة مدينة فيتنبرج والمواقع الأخرى التي ارتبطت بحياة لوثر، فلا تعد قاعة لوثر بفيتنبرج بالمجمع الأوغسطيني، الذي أقام به لوثر، متحفا تقدم فيه معارض منتظمة وحسب، ولكنها أيضا مركز حيوي لإجراء البحوث عن لوثر من خلال فريق الخبراء الذي يعمل فيها، ومستودع المنشورات والكتب والصور والتحف المرتبطة بالإصلاح. وفي عام 2017، سينعقد المؤتمر الدولي الثالث عشر للبحوث المعنية بلوثر في فيتنبرج، كجزء من الاحتفال بالذكرى السنوية الخمسمائة لنشر أطروحاته الخمس والتسعين وبميلاد حركة الإصلاح الديني.
برزت تحديات أخرى واجهت حركة دراسة لوثر؛ كاختفاء منظومة المجتمع المسيحي، وتمازج الثقافات، وتقارب الأديان، والتعصب بشتى أنواعه، واندلاع الحروب بطرق شتى، وبروز اللاأدرية والإلحاد بقوة. ويمكن العثور في كتابات لوثر على أفكار حول هذه القضايا، لكن ميراثه يرتبط أولا وآخرا بمستقبل المسيحية والأديان بوجه عام. فمن أول وهلة، لا يبدو أن كتاباته تساعد على بدء حوار بين الأديان، فقد كانت مصبوغة - إلى حد كبير - بالخطاب المعادي لليهودية الذي ميز أوروبا في أواخر العصور الوسطى، وبالتهديد الإسلامي، وبمعلومات لا يعول عليها بأن بعض جوانب فكره أكثر إثمارا من غيرها. على سبيل المثال، أصر لوثر على أن الدين لا يقوم بالأساس على الأخلاقيات الشخصية، بل على الإيمان والعدل، وليس على تحسين الذات إلى الحد الذي يكسب المرء الخلاص، بل على تحسين حياة الآخرين كما أراد الرب بالأساس للبشرية؛ فصرح بأنه، فيما يتصل بعلم اللاهوت، ثمة نوع آخر من الأعمال التي تختلف عن الأفعال الأخلاقية. فاستغلال الدين لتحسين الذات على حساب الآخرين هو ضرب من الوثنية، وهي الخطيئة التي اتهم العالم المسيحي في العصور الوسطى باقترافها. وفي مقابل الوثنية يوجد الإيمان والحب، أي الثقة في الله وخدمة الآخرين. ومن الواضح أن لوثر ملأ النموذج الذي تمثله الديانة الحقة بمحتويات من المسيحية؛ إذ تمثل هدفه في إعادة المسيحية الحقة إلى ألمانيا، مع هذا قد يصلح هذا النموذج كمعيار لتحديد أهمية الدين لأي مجتمع، لا سيما على ضوء الجدل الجاري حول ما إذا كان الدين يضر أكثر مما ينفع. وربما يكون أفضل ما انطوى عليه ميراث لوثر هو اجتناب التعصب الديني، والإصرار على أن الأديان ليست وسيلة لاسترضاء الآلهة ونيل استحسانهم، بل هي وسيلة تذكير دائمة لتقديم العالم واحتياجاته على الرغبات الأنانية.
مراجع وقراءات إضافية
The best guide to the individual writings and main editions of Luther’s works in Latin, German, French, and English is the
Hilfsbuch zum Lutherstudium
edited by Kurt Aland (4th edn., 1996). The pamphlets and books that were printed prior to Luther’s death in 1546 have been catalogued in two volumes by Josef Benzing and Helmut Claus in
Lutherbibliographie (1989/1994). The Kessler Reformation collection in the Pitts Library at Emory University contains over 3.500 Bibles, books, and pamphlets printed no later than 1570 and attributed to Martin Luther, his friends, and opponents. Available online from the same collection is a digital collection of woodcuts from Reformation pamphlets (
http:// www.pitts.emory.edu/dia/woodcuts.htm ). The most thorough ongoing bibliography of new editions, translations, and writings about Luther appears annually in
Lutherjahrbuch (Göttingen, 1919ff.). The recent
Luther Handbuch
edited by Albrecht Beutel (Tübingen, 2006) has brief surveys of newer editions, aids, and histories of Luther research, plus essays on Luther’s life and work and a manageable bibliography and index. The most versatile visual resource is the CD-ROM produced by Helmar Junghans,
Martin Luther: Exploring His Life and Times, 1483-1546 . Available in German (1998) and English (1999), it contains everything historical, theological, biographical, and textual relating to Luther and his world in formats that include illustrated explanations, chronologies, images of people and texts, listings, plus an animated story of Luther’s life for children of all ages.
For most of his career, Martin Luther exhibited an astounding capacity for work. The words put on paper by him or recorded by listeners fill over 100 large volumes in the only critical edition that aspires to completeness. The first volume of this Weimar edition appeared in 1883 during the 400th anniversary of Luther’s birth; after 126 years, the last volume appeared in 2009, but documents are still being found that contain new material or require revision of works edited decades ago. The Weimar edition has four sections. The first 60 volumes contain Luther’s lectures, sermons, postils, disputations, polemical writings, pedagogical and political essays, prefaces composed for a variety of publications, hymns, liturgies, and consolatory pieces dedicated to victims of religious persecution. Five volumes each of indexes to the Latin and German writings plus other index volumes complete section one (abbreviated WA). The second section (WABr) contains Luther’s correspondence. Over 3.700 documents, of which 2.650 items were written by Luther himself, are edited in the first 13 volumes. The remaining volumes in this section contain excellent indexes. The third section (WADB) assembles documents by Luther and his colleagues that arose in connection with their translation of the Bible. In addition to German texts of biblical books, these 12 volumes include a revision of the Latin Vulgate and a record of how the German translation was revised. The fourth and final section (WATR) presents in six volumes a collation of earlier editions of Luther’s
Table Talk . Owing to its careful preparation and helpful indexes, the
Table Talk
has gradually gained credibility as a reliable source of Luther’s life and thought when it is judiciously interpreted. The Weimar edition is readable and searchable online from Chadwyck at
http://www.luther. chadwyck.co.uk . In addition, the publisher (Hermann Böhlaus Nachfolger Weimar) has made available at a reasonable price easily readable reprints of all four sections of the Weimar edition.
Hundreds of books and essays about Luther are available, but once an introduction or biography has provided sufficient background, Luther is best consulted directly about himself. Reader-friendly editions and translations are available in many languages, including English, German, French, Spanish, Italian, Hungarian, Chinese, Finnish, Norwegian, Swedish, Portuguese, and Korean. For English readers, the American edition of
Luther’s Works (LW) in 55 volumes (1955-86) published by Fortress Press and Concordia Publishing House is being expanded by Concordia; and Fortress Press is issuing separately new translations of key works in a series named
Luther Study Edition. Luther’s Works
is also available on CD-ROM. A good place to start is not the Ninety-Five Theses, but treatises from the 1520s like
Freedom of a Christian
and the
Treatise on Good Works . They present the most lucid and accessible contrast of Luther’s theology and proposals for reform with the medieval religion he wanted to change. Then sample Luther’s correspondence, for example in the excellent edition by Gottfried Krodel in volumes 48-50 of the American edition, and this complicated man and his world with all its peaks and valleys will come alive.
The Martin Luther Studienausgabe (StA: Berlin and Leipzig 1979-) contains recent scholarly introductions to selected Luther writings with 16th-century orthography and a glossary of early new High German. For more assistance with reading Luther in Latin and German, consult the following: Birgit Stolt, 'Germanistische Hilfsmittel zum Lutherstudium’,
Lutherjahrbuch , 46 (1979), 120-35; Johannes Schilling, 'Latinistische Hilfsmittel zum Lutherstudium’,
Lutherjahrbuch , 55 (1988), 83-101. Available also is a recent three-volume edition of selected Luther texts in Latin with German translation on facing pages (Leipzig, 2006-9).
مواقع ويب
Many websites on Luther and the Reformation contain inaccurate content, but the following offer helpful and reliable information. (All accessed 23 June 2010.) (
http://www.luther2017.de ) The official website of the Luther decade (2008-17) with news updates and information about the Reformation jubilee 2017 and pictures from Luther sites. (
http://www.ecumenical-institute.org ) The Institute for Ecumenical Research in Strasbourg offers seminars, conferences, dialogues, and publications to enhance relations between Lutherans and other churches. (
http://www.lutheranworld.org ) The Lutheran World Federation, which has the most up-to-date information about Lutheran ecumenism and churches around the world. (
http://www.martinluther.de ) Website of the Lutherhalle in Wittenberg, one of four Luther museums that comprise the Stiftung Luthergedenkstätten in Sachsen Anhalt, a foundation that provides information about museums, research, educational offerings, and databases for learning about the Reformation and visiting the Luther memorial sites. (
http://www.luther-gesellschaft.com ) The Luther-Gesellschaft is a scholarly society that holds conferences and promotes research and publications on Martin Luther and the Reformation, including the journal
Luther , published three times a year, and the annual
Lutherjahrbuch . (
http://www.lutheranquarterly.com ) The
Lutheran Quarterly Journal
and
Lutheran Quarterly Books
feature essays, book reviews, and monographs on Luther and Lutheranism. (
www.reformationresearch.org ) The Society for Reformation Research sponsors conference sessions, awards, and the
Archive for Reformation History , which is published jointly with its European counterpart.
كتب ومقالات
Resources consulted for this book and for additional information on Martin Luther’s life, thought, and writings:
Matthieu Arnold,
La Correspondance de Luther (Mainz, 1996).
David V. N. Bagchi,
Luther’s Earliest Opponents (Minneapolis, 1991).
Albrecht Beutel, 'Das Lutherbild Friedrich Nietzsches’,
Lutherjahrbuch , 72 (2005), 119-46.
Albrecht Beutel (ed.),
Luther Handbuch (Tübingen, 2005).
Biblia Germanica 1545 , facsimile edn. (Stuttgart, 1967).
The Revolution of 1525 (Baltimore and London, 1991; German, 1977).
Heinrich Bornkamm,
Martin Luther in der Mitte seines Lebens (Göttingen, 1979).
Gerhard Bott and Bernd Moeller,
Martin Luther und die Reformation in Deutschland , Exhibition in the German National Museum, Nuremberg, 1983 (Frankfurt, 1983).
Martin Brecht,
Martin Luther , 3 vols (Stuttgart, 1981-7; English tr., 1985-93).
Christopher B. Brown,
Singing the Gospel (Cambridge, MA, 2005).
Georg Buchwald,
Luther-Kalendarium (Leipzig, 1929).
Clayborne Carson et al. (eds.),
, Vol. 1:
Called to Serve , January 1929-June 1951 (Berkeley, CA, 1992).
Irene Dingel, Günther Wartenberg, and Michael Beyer (eds.),
Die Theologische Fakultät Wittenberg
1502-1602 (Leipzig, 2002).
Angelika Dörfler-Dierken, 'Luther und die heilige Anna’,
Lutherjahrbuch , 64 (1997), 19-46.
Mark U. Edwards, Jr,
Luther and the False Brethren (Stanford, 1975).
Mark U. Edwards, Jr,
Luther’s Last Battles (Ithaca and London, 1983).
Tibor Fabiny,
Martin Luther’s Last Will and Testament (Dublin and Budapest, 1982).
Leif Grane,
Martinus Noster: Luther in the German Reform Movement 1518-1521 (Mainz, 1994).
H. G. Haile,
Luther: An Experiment in Biography (Garden City, NY, 1980).
John M. Headley,
Luther’s View of Church History (New Haven, 1963).
Scott H. Hendrix,
Luther and the
(Philadelphia, 1981).
Scott H. Hendrix,
Luther: Pillars of Theology (New York and Nashville, 2009).
Scott H. Hendrix, 'Luther on Marriage’, in
Harvesting Martin Luther’s Reflections on Theology, Ethics, and the Church , ed. Timothy Wengert (Grand Rapids, MI, 2004), 169-84.
Scott H. Hendrix, 'Martin Luther, Reformer’, in
Cambridge History of Christianity , vol. 6:
Reform and Expansion 1500-1600 , ed. R. Po-chia Hsia (Cambridge, UK, 2007), 3-19.
Hans J. Hillerbrand (ed.),
The Reformation: A Narrative History Related by Contemporary Observers and Participants (Grand Rapids, MI, 1982).
Hans J. Hillerbrand,
The Division of Christendom (Louisville and London, 2007).
Helmar Junghans,
Der junge Luther und die Humanisten (Weimar, 1984).
Helmar Junghans,
Martin Luther und Wittenberg (Munich and Berlin, 1996).
Helmar Junghans,
Spätmittelalter, Luther’s Reformation, Kirche in Sachsen , ed. Michael Beyer and Günther Wartenberg (Leipzig, 2001).
Helmar Junghans (ed.),
Leben und Werk Martin Luthers von 1526 bis 1546 , 2 vols (Göttingen, 1983).
Susan Karant-Nunn and Merry Wiesner-Hanks (ed. and tr.),
Luther on Women: A Sourcebook (Cambridge, UK, 2003).
Erika Kohler,
Martin Luther und der Festbrauch (Cologne and Graz, 1959).
Robert Kolb,
Martin Luther as
(Grand Rapids, MI, 1999).
Robert Kolb,
Martin Luther as Confessor of the Faith (Oxford, 2009).
Robert Kolb and Timothy Wengert (eds.),
The Book of Concord (Minneapolis, 2000).
Ulrich Köpf, 'Kurze Geschichte der Weimarer Lutherausgabe’, in
D. Martin Luthers Werke: Sonderedition der kritischen Weimarer Ausgabe (Weimar, 2000), 1-24.
Beth Kreitzer,
Reforming Mary (Oxford, 2004).
Robin Leaver,
Luther’s Liturgical Music (Grand Rapids, MI, 2006).
Hartmut Lehmann, 'Anmerkungen zur Entmythologisierung der Luthermythen 1883-1983’,
Archiv für Kulturgeschchte , 68 (1986), 457-77.
Volker Leppin,
Martin Luther (Darmstadt, 2006).
Elsie Anne McKee,
Katharina Schütz Zell , 2 vols (Leiden, 1999).
Harald Meller (ed.),
Fundsache Luther: Archäologen auf den Spuren des Reformators (Stuttgart, 2008).
Bernd Moeller,
Luther-Rezeption , ed. Johannes Schilling (Göttingen, 2001).
Johann Baptist Müller (ed.),
Die Deutschen und Luther (Stuttgart, 1983).
Nikolaus Müller (ed.),
Die Wittenberger Bewegung , 2nd edn. (Leipzig, 1911).
Heiko A. Oberman,
Luther: Man between God and the Devil (New Haven, CT, 1989; German, 1982).
Joachim Ott and Martin Treu (eds.),
Luthers Thesenanschlag - Faktum oder Fiktion (Leipzig, 2008).
Jaroslav Pelikan (ed.),
Interpreters of Luther (Philadelphia, 1968).
Volker Press and Dieter Stievermann (eds.),
Martin Luther: Probleme seiner Zeit (Stuttgart, 1986).
Joachim Rogge (ed.), 1521-1971:
Luther in Worms, Ein Quellenbuch (Witten, 1971).
Otto Scheel (ed.),
Dokumente zur Luthers Entwicklung , 2nd edn. (Tübingen, 1929).
Martin Schloemann,
Luthers Apfelbäumchen? Ein Kapitel deutscher Mentalitätsgeschichte seit dem Zweiten Weltkrieg (Göttingen, 1994).
Klaus Scholder and Dieter Kleinmann (eds.),
(Königstein, 1983).
Reinhard Schwarz,
Luther (Göttingen, 1986).
R. W. Scribner, 'Luther Myth’ and 'Incombustible Luther’, in
Reformation Germany (London, 1987), 301-53.
Ian Siggins,
Luther and His Mother (Philadelphia, 1981).
Jeanette C. Smith, 'Katharina von Bora through Five Centuries:
A Historiography’,
Sixteenth Century Journal , 30 (1999), 745-74.
David Steinmetz,
Luther and Staupitz (Durham, NC, 1980).
David Steinmetz,
Luther in Context , 2nd edn. (Grand Rapids, MI, 2002).
Kenneth Strand (ed.),
Luther’s September Bible in Facsimile (Ann Arbor, MI, 1972).
Martin Treu, 'Lieber Herr Käthe’ - Katharina von Bora, die Lutherin , Catalogue for the 1999 Exhibition in the Lutherhalle (Wittenberg, 1999).
Martin Treu,
Katharina von Bora , 3rd edn. (Wittenberg, 1999).
Elizabeth Vandiver, Ralph Keen, and Thomas D. Frazel,
Luther’s Lives: Two Contemporary Accounts of Martin Luther (Manchester, 2002).
Johannes Wallmann, 'The Reception of Luther’s Writings on the Jews from the Reformation to the End of the 19th Century’,
Lutheran Quarterly , 1 (1987), 72-97.
Wilhelm Weber, 'Das Lutherdenkmal in Worms’, in
Der Reichstag zu Worms von 1521 , ed. Fritz Reuter (Worms, 1971), 490-510.
James M. Weiss, 'Erasmus at Luther’s Funeral: Melanchthon’s Commemorations of Luther in 1546’,
Sixteenth Century Journal , 16 (1985), 91-114.
Timothy Wengert (ed.),
The Pastoral Luther (Grand Rapids, MI, 2009).
Jared Wicks,
Luther’s Reform (Mainz, 1992).
Ernst W. Zeeden,
Martin Luther und die Reformation im Urteil des deutschen Luthertums , 2 vols (Freiburg, 1950, 1952).
تأريخ الأحداث
1483:
مولد مارتن لوثر في 10 نوفمبر في آيسلبن بألمانيا.
1484-1497:
طفولة لوثر والسنوات الأولى من دراسته في مانزفيلد.
1497-1501:
دراسته في مدينة ماجديبورج وآيزيناخ.
1501-1505:
حصول لوثر على درجة البكالوريوس والماجيستير من جامعة إيرفورت، وانضمامه إلى الدير الأوغسطيني.
1507:
تنصيب لوثر قسا في إيرفورت، وحفل القداس الأول له.
1508-1509:
محاضرات لوثر في فيتنبرج وإيرفورت.
1510-1511:
رحلة لوثر إلى روما نيابة عن أتباع المذهب الأوغسطيني.
1511-1512:
حصول لوثر على درجة الدكتوراه في علم اللاهوت، وخلافته لشتاوبيتس في منصبه كأستاذ في جامعة فيتنبرج.
1513-1521:
إلقاء المحاضرات عن سفر المزامير وعن الرسائل إلى أهل رومية وأهل غلاطية والعبرانيين، ثم المزامير من جديد.
1517:
في 31 من أكتوبر أصدر لوثر أطروحاته الخمس والتسعين التي رفضت صكوك الغفران.
1518:
بدء التحقيقات في روما، مناظرة هايدلبرج، وصول ميلانشتون إلى فيتنبرج، جلسة الاستماع أمام الكاردينال توماس كاييتان في أوجسبورج.
1519:
مناظرة لوثر مع جون إيك في لايبزيج، وصدور رسالاته الثلاث باللغة الألمانية عن القرابين المقدسة.
1520:
صدور «رسالة حول الأعمال الصالحة»، و«بابوية روما»، ورسالة «السبي البابلي للكنيسة»، و«خطاب إلى النبلاء المسيحيين»، و«حرية المسيحي»، وحرق المرسوم البابوي الذي يهدد بحرمان لوثر كنسيا في فيتنبرج.
1521:
حرمان لوثر كنسيا، انعقاد مجلس مدينة فورمس، صدور مرسوم إمبراطوري يعلنه خارجا عن القانون، اقتياد لوثر سرا إلى قلعة فارتبورج المطلة على مدينة آيزيناخ.
1521-1522:
لوثر يعتزل في قلعة فارتبورج، القلاقل تندلع في فيتنبرج ولوثر يزورها سرا، صدور العهد الجديد بالألمانية، والشروح، وكتاب «النذور الرهبانية» المهدى إلى هانز والد لوثر.
1522:
لوثر يعود إلى فيتنبرج ويحل محل كارلشتادت، ويلقي عظات الصوم الكبير الثمانية، ويصدر «كتاب الصلوات الشخصي» و«مؤسسة الزواج».
1523:
كاثارينا فون بورا تفر من دير مارينثرون وتصل إلى مدينة فيتنبرج؛ صدور كتاب «السلطة المؤقتة»، زواج فينسيل لينك زميل لوثر الأعلى مرتبة في الأخوية الأوغسطينية.
1524:
صدور أول كتاب تراتيل في فيتنبرج، التماس تأسيس مدارس مسيحية بروتستانتية من مجالس بلدية ألمانيا، الإقلاع عن ارتداء الأزياء الرهبانية في الأماكن العامة.
1525:
اندلاع ثورة الفلاحين عام 1525، وصدور منشور «نصح من أجل السلام»، وكتاب «ضد سلب وقتل حشود الفلاحين»، وفاة فريدريك الحكيم، وتولي أخيه جون منصب ناخب ساكسونيا، زواج مارتن وكاثارينا، صدور كتاب «الإرادة المقيدة».
1526:
القداس الألماني، ميلاد ابن لوثر هانز، بدء الجدل حول العشاء الرباني.
1527:
انتشار وباء في فيتنبرج، ميلاد ابنة لوثر إليزابيث.
1528:
الزيارات التفتيشية إلى ساكسونيا، إليزابيث تتوفى، صدور ترنيمة «الرب قلعتنا الحصينة».
1529:
وضع ملخصات العقيدة المسيحية، العثمانيون يحاصرون فيينا، ميلاد ابنة لوثر ماجدالينا، اندلاع الاحتجاجات المناوئة للبروتستانتية في مجلس شباير، لوثر يتحدث مع زفينجلي في نقاش ماربورج.
1530:
اجتماع أوجسبورج ينعقد، لوثر يتوجه إلى كوبورج، وفاة والد لوثر هانز، إقرار أوجسبورج.
1531:
محاضرات لوثر عن الرسالة الإنجيلية إلى أهل غلاطية، وفاة مارجريت والدة لوثر، ميلاد مارتن بن لوثر، تشكيل اتحاد شمالكالد.
1532:
جون فريدريك يصبح ناخب ساكسونيا، تعليق إنفاذ مرسومي فورمس وأوجسبورج يتيح نشر المذهب البروتستانتي.
1533:
ميلاد ابن لوثر بول، استئناف المناظرات الأكاديمية في فيتنبرج.
1534:
نشر الإنجيل بالكامل بالألمانية، ميلاد ابنة لوثر مارجاريته.
1535:
نشر محاضرات لوثر عن الرسالة الإنجيلية إلى أهل غلاطية، ولوثر يصبح عميد كلية علم اللاهوت ويبدأ محاضراته عن سفر التكوين.
1536:
علماء اللاهوت في جنوب ألمانيا وفي فيتنبرج يحاولون الوصول إلى اتفاق عن العشاء الرباني.
1537:
مواد شمالكالد، اجتماع اتحاد شمالكالد، لوثر يصاب بآلام شديدة من جراء الإصابة بحصوات في الكلى.
1539-1540:
المجلد الأول من الأعمال المجمعة للوثر باللغة الألمانية، صدور رسالة المجالس والكنائس، فيليب حاكم هيسي يتزوج على زوجته الأولى.
1541:
صدور نسخة منقحة من الإنجيل الألماني، ورسالة «ردا على المهرج»، ورسالة «نصح من أجل السلام».
1542:
صدور ترنيمة «ربنا ثبتنا على كلمتك »، وفاة ماجدالينا ابنة لوثر، وصية لوثر تترك كل ممتلكاته لكاثارينا.
1543:
صدور «ضد اليهود وأكاذيبهم».
1545:
صدور المجلد الأول من كتابات لوثر المجمعة باللغة اللاتينية، «ضد بابوية روما التي أسسها الشيطان»، افتتاح مجلس ترينت، اختتام محاضرات لوثر عن سفر التكوين.
1546:
وفاة لوثر في 18 فبراير في آيسلبن، ودفنه في كنيسة قلعة فيتنبرج.
1547:
الإمبراطور شارل الخامس يستولي على فيتنبرج، أسر جون فريدريك وفيليب حاكم هيسي، فرار كاثارينا زوجة لوثر وأطفالها.
1552:
وفاة كاثارينا في تورجاو، الأمراء البروتستانت يتحدون في مواجهة الإمبراطور شارل الخامس.
1555:
صلح أوجسبورج يضفي الشرعية على المدن والمناطق التابعة للمذهب اللوثري.
1558:
وفاة الإمبراطور شارل الخامس في إسبانيا.
1560:
وفاة فيليب ميلانشتون في فيتنبرج.
مسرد للمصطلحات وتراجم مختصرة
نيكولاس فون آمسدورف (1483-1565):
أستاذ في جامعة فيتنبرج، وقس وصديق للوثر. حضر مناظرة لايبزيج ومجلس فورمس، وأصبح بعد عام 1524 راعي أبرشية لوثري في ماجديبورج، وأحد المدافعين بحماس عن التعاليم اللوثرية.
دعاة تجديد العماد:
مصطلح ازدرائي لأنصار زفينجلي المتشددين الذين انشقوا عنه وعن حركة الإصلاح في زيوريخ عام 1525، وتبنوا الدعوة إلى عماد المؤمنين.
الأبوكريفا:
كتب مقدسة يعود أغلبها إلى أواخر عهد اليهودية، ولم تضمها المسيحية في بداياتها في كتب العهد القديم، لكن ضمنت بعد ذلك في الإنجيل الألماني عام 1534؛ لأن لوثر اعتبر قراءتها نافعة ومفيدة.
أوغسطين (354-430):
أسقف مؤثر من شمال أفريقيا، وقس وملفان، وهو عالم اللاهوت المفضل لدى لوثر.
الأوغسطينيون (1256- ):
جماعة دينية قامت على التبرعات (لا تعتنق الرهبنة المتشددة)، سميت نسبة إلى أوغسطين، وانضم إليها لوثر عام 1505.
ماثيو أوروجالوس (تقريبا 1490-1543):
عالم لغة عبرية من بوهيميا، وعمل أستاذا في جامعة فيتنبرج، وألف أحد كتب قواعد اللغة العبرية، ويعد عضوا مهما في فريق ترجمة كتب العهد القديم إلى الألمانية.
برنارد من كليرفو (1090-1153):
راهب سسترسي لدير كليرفو، وسياسي كنيسة، وعالم لاهوت صوفي، أكثر لوثر من الاقتباس عنه.
تيودور بيبلياندر (1506-1564):
عالم لغة وأستاذ، ومؤلف الكثير من الأعمال بزيوريخ، وقد نشر مؤلفا عن قواعد اللغة العبرية، ونقح نسخة مترجمة إلى اللاتينية من القرآن.
مارتن بوسر (1491-1551):
إصلاحي رائد في ستراسبورج وعالم لاهوت وداعية إلى السلام . وقد توفي في إنجلترا.
جون بوجنهاجن (1485-1558):
راهب سابق من بوميرانيا، أصبح راعي أبرشية وأستاذ جامعي في فيتنبرج، ومنظم للكنائس اللوثرية في شمال ألمانيا.
هنري بولينجر (1504-1575):
خليفة زفينجلي لفترة طويلة كرئيس للكنيسة البروتستانتية في زيوريخ.
توماس كاييتان (1469-1534):
ولد باسم جيمس دي فيو في إيطاليا، وأصبح عالم لاهوت مثقفا، وقائد الجماعة الدومينيكية وكاردينالا بارزا، وسفيرا بابويا؛ وفشل عام 1518 في انتزاع إقرار لوثر في أوجسبورج، وأرسل فيما بعد إلى المجر لتشجيع المسيحيين على مواجهة العثمانيين.
جون كالفن (1509-1564):
إصلاحي رائد في جنيف، بدأ عام 1541.
فولفجانج كابيتو (1478-1541):
عالم إنساني مناصر للإصلاح، وواعظ كاتدرائي في بازل وماينتس، وزميل لبوسر في ستراسبورج، كان أقرب في فكره كعالم لاهوت إلى زفينجلي من لوثر، لكنه التقى بلوثر في عدة مناسبات.
مجلس رجال الكنيسة:
مجتمع من القساوسة من غير الرهبان، مثل مجلس رجال كنيسة جميع القديسين في فيتنبرج، وغالبا ما يرتبط بكاتدرائية أو كنيسة بارزة.
شارل الخامس (1500-1558):
ملك إسبانيا وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة المنتخب عام 1519، مثل أمامه لوثر في مجلس فورمس عام 1521.
الإقرارات العقائدية:
عبارات تعبر عن العقيدة والطقوس الدينية، استخدمتها الكنائس البروتستانتية إبان حركة الإصلاح الديني وبعدها؛ للتمييز بينها وبين الكاثوليكية الرومانية وبين بعضها البعض.
جون إيك (1486-1543):
قس كاثوليكي محنك، وعالم لاهوت ناظر لوثر في لايبزيج، وعارض إقرار أوجسبورج، وشارك في الحوارات الدينية مع البروتستانت.
الناخبون:
هم أربعة حكام لمناطق غير إكليركية، منها ساكسونيا، وثلاثة حكام لمناطق كنسية تولوا مسئولية انتخاب إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة بعد عام 1356.
فريدريش إنجلز (1820-1895):
منظر سياسي ألماني، شارك ماركس في تأليف «بيان الحزب الشيوعي»، وألف كتاب «حرب الفلاحين الألمانية» (1894).
إراسموس الروتردامي (تقريبا 1469-1536):
مناصر هولندي بارز للحركة الإنسانية، ظل على ولائه لروما ودافع عن إرادة الإنسان الحرة أمام لوثر.
المقاطعات:
مدن حرة (مثل نورمبرج)، وأراض كنسية (مثل ماينتس)، ومناطق غير إكليركية (مثل هيسي وساكسونيا)؛ كانت تتمتع بحق إرسال مندوبين وحكام لمجالس الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
إنجيلي:
مصطلح ألماني يشير إلى مؤيدي حركة الإصلاح الديني الأوائل، واستخدم فيما بعد مع أسماء الكنائس كلفظة الكنائس اللوثرية أو الإصلاحية ، وهو يعادل مصطلح بروتستانتي، ويجب عدم الخلط بين هؤلاء وبين الإنجيليين المعاصرين غير الطائفيين.
فريدريك الحكيم (1463-1525):
فريدريك الثالث، ناخب ساكسونيا، بنى قلعة وكنيسة جديدة في فيتنبرج وأثرى مجلس كنيسة «جميع القديسين»، وأسس جامعة فيتنبرج، وحمى لوثر من أمر الحرمان الكنسي الذي أصدره الإمبراطور.
أرجولا فون جرومباخ (تقريبا 1490-1564):
نبيلة بافارية كتبت دفاعا عن حركة الإصلاح الديني، وزارت لوثر بكوبورج.
يوهان جوتفريد هيردر (1744-1803):
فيلسوف ألماني، وعالم لاهوت، وناقد أدبي، وصديق لجوته، ومشرف كنيسة في فايمار.
كارل هول (1866-1926):
أستاذ تاريخ كنسي في برلين، بعثت محاضرته بمناسبة الذكرى السنوية لحركة الإصلاح الديني عام 1917 - والتي تناولت فهم لوثر للدين ومقالاته الأخرى - الحياة في الدراسات حول لوثر.
الإمبراطورية الرومانية المقدسة (962-1806):
تعتبر خليفة الإمبراطورية الرومانية في العصور الوسطى، أصبح نطاق سلطانها بحلول عام 1521 أكبر من ألمانيا، وشمل 383 مقاطعة منفصلة.
يوستوس يوناس (1493-1555):
أستاذ القانون وعلم اللاهوت في فيتنبرج، وراعي أبرشية، ومترجم، وصديق مقرب للوثر، وقد حضر مجلس فورمس، كما حضر زفاف لوثر وشهد وفاته.
آندرو كارلشتادت (1486-1541):
زميل لوثر الذي أطلق تغييرات إصلاحية في فيتنبرج، ولكن أجبر على ترك منصبه بعد عودة لوثر من قلعة فارتبورج.
فينسيل لينك (1483-1547):
صديق لوثر وعضو سابق في الأخوية الأوغسطينية في فيتنبرج، حضر اجتماع أوجسبورج (1518) ولايبزيج (1519)، وشغل لفترة وجيزة منصب النائب الأسقفي العام للأخوية الأوغسطينية المتشددة، قبل أن يصبح واعظا بروتستانتيا وإصلاحيا في مدينة ألتنبورج ونورمبرج.
فيليب ميلانشتون (1497-1560):
مناصر للكنيسة دون أن يكون من رجالها، وزميل لوثر في حركة الإصلاح، وخليفته في فيتنبرج، وعالم مناصر للحركة الإنسانية، ومؤلف للكثير من الأعمال، ومفاوض ديني، وعالم لاهوت رائد في أوجسبورج.
توماس منتسر (قبل 1490-1525):
قس وطالب في جامعة فيتنبرج، وعالم لاهوت زاهد، وناقد قاس للوثر، كان مؤيدا للعقيدة الألفية، وأسر في ثورة الفلاحين عام 1525 ثم أعدم.
فريدريش نيتشه (1844-1900):
ابن راعي أبرشية لوثري، وفيلسوف ألماني مؤثر، وناقد للمبادئ الأخلاقية المسيحية في مجتمعه.
فيليب حاكم هيسي (1504-1567):
حاكم هيسي وقائد بروتستانتي بارز، تحول إلى البروتستانتية على يد ميلانشتون، وقد خسر نفوذه إثر ارتكابه جريمة تعدد الزوجات، وهزمه الإمبراطور شارل الخامس وسجنه عام 1547.
أوربانوش ريجيوس (1489-1541):
إنساني، وعالم لاهوت وإصلاحي لوثري في أوجسبورج وشمال ألمانيا الوسطى، لم يزر فيتنبرج قط، لكنه زار لوثر في كوبورج عام 1530.
كاثارينا شوتس زيل (1497-1562):
مؤلفة وإصلاحية من ستراسبورج.
جورج سبالاتين (1484-1545):
عمل كتبيا وقسا وسكرتيرا لفريدريك الحكيم، وكان وسيطا بين لوثر وفريدريك، كما كان من أكثر من راسلوا لوثر.
يوهان فون شتاوبيتس (1460 / 1469-1525):
النائب الأسقفي العام للمذهب الأوغسطيني المتشدد، وعالم لاهوت في فيتنبرج، أعد لوثر لخلافته، وكان بمثابة المستشار الروحي له.
يوهان فالتر (1496-1570):
قائد جوقة وملحن في فيتنبرج وتورجاو، وصديق للوثر ومحرر أول ترنيمة لوثرية (1524).
جون ويسلي (1703-1791):
رجل دين أنجليكاني متأثر بالحركة التقوية المورافية، وأسس الحركة الميثودية.
أولريش زفينجلي (1484-1531):
إصلاحي بارز في زيوريخ، وخصم لوثر الأساسي في الجدال حول العشاء الرباني.
Unknown page