ويقولون: أفرغ المكان والوعاء بصيغة أفعل؛ أي: أخلاه، والصواب في هذا المعنى: فرغه بالتشديد، وأما أفرغ فمعناه صب، يقال: أفرغ الماء ونحوه وأفرغ المعدن؛ أي: سكبه.
ويقولون: هو مدمن على هذا الأمر؛ أي: مواظب عليه مديم لفعله. والصواب ترك الجار؛ لأن هذا الحرف يتعدى بنفسه.
ويقولون: قد أصبح هذا الأمر أصلح من ذي قبل، يعنون أصلح مما كان عليه من قبل؛ فيحرفون اللفظ والمعنى جميعا، والذي يؤخذ من نصوص اللغة أنك تقول: سآتيك من ذي قبل بفتحتين وبكسر ففتح؛ أي: فيما يستقبل من الزمان. على أن كلامهم في هذا الحرف لا يخلو من اضطراب وإشكال، إلا أن ما ذكرنا من معناه هو الأظهر والأشبه، وهو محصل ما اقتصر عليه في الأساس والصحاح.
3
ويقولون: خرج في موكب يبلغ خمسة آلاف عدا، وهي عبارة شائعة عند أكثر الكتاب لا تكاد تفوت واحدا منهم، وربما قالوا: قتل في هذه المعركة ما يقارب خمسة آلاف عدا وهو أغرب. وإنما ذلك لعدم تدبرهم معنى العد هنا، والمقصود به عند من نقل عنه هذا التركيب. وبيانه أنك تقول مثلا: لي على فلان خمسة آلاف درهم عدا؛ أي: لي عليه هذا القدر معدودا عدا لا بطريق التقدير والتقريب، ونقدته خمسين دينارا عدا؛ أي: عددتها له واحدا واحدا، ومفاده التحقيق والتوكيد لا الحشو والتزيين كما يتوهمونه.
ويقرب من هذا قولهم: دخلت عليه فإذا عنده رجلان اثنان، والتوكيد غريب في هذا الموضع؛ لأن الرجلين لا يكونان إلا اثنين؛ فالصيغة مغنية عن التصريح باسم العدد، وإنما يزاد اسم العدد للتوكيد؛ حيث تدعو إليه الحاجة لدفع التوهم أو تقوية المعنى، تقول: شهد بهذا شاهدان اثنان فتوكد؛ لئلا يتوهم في كلامك غير الحقيقة، وقبضت عليه بيدي الثنتين تريد شدة القبض عليه ومنعه من الإفلات، وقس على ذلك.
ويقولون: فعل هذا لمصلحة أهل جلدته، يريدون قومه وأهل جيله (الجيل الصنف من الناس كالعرب والترك والروس وغير ذلك). وقد أولع كتابنا بهذه العبارة وتناقلها بعضهم عن بعض من غير بحث ولا تنقيب عن أصل مغزاها ومراد قائلها، وهي في الأصل من قول جرير وقد مر بنصيب الشاعر وهو ينشد، وكان نصيب أسود، فقال له: اذهب فأنت أشعر أهل جلدتك يعني أشعر السود، فقال: وجلدتك يا أبا حزرة - وهي كنية جرير - أي: وأشعر البيض أيضا. وحينئذ فلا معنى لأن نقول: أهل جلدة الإنكليزي مثلا أو الفرنسوي أو الألماني؛ لأن لكل هؤلاء جلدة واحدة؛ فهي تتناول الجميع على السواء.
وقريب من هذا قولهم: هل شهر يناير مثلا، وجاء في غرة أبريل، وكتبه لعشر خلون من شهر دسمبر، وإنما ذلك كله من الاصطلاح المخصوص بالأشهر القمرية؛ لأن قولهم: هل الشهر يراد به ظهور هلال ذلك الشهر، وكذا غرة شهر كذا المراد بها غرة هلاله، وهي أول ما يبدو منه، وقولهم: لعشر من شهر كذا بإسقاط التاء من اسم العدد؛ أي: لعشر ليال؛ لأن الأشهر القمرية تؤرخ بالليالي كما لا يخفى، وبخلافها الأشهر الشمسية؛ فكل ذلك من استعمال الشيء في غير محله.
ومن تهافتهم في النقل ما أولع به أكثرهم من استعمال لفظة هاته في مكان هذه، ذهابا إلى أنها أفصح منها، وما هي بالفصحى ولا الفصيحة، وهذه معلقات العرب، بل قصائدها التسع والأربعون، وهذه دواوين شعرائهم من مثل عنترة، والنابغة، وحاتم، وعروة بن الورد، والفرزدق، وجرير، وغيرهم، وهذه خطب الإمام علي والمنقول عن وفود العرب كلهم، بل هذا القرآن نفسه هل يجدون في ذلك كله لفظة هاته؟ فلو كانت بهذه المنزلة التي يتوهمونها لم تفت أولئك كلهم على مكانهم من اللغة وتحققهم من فصيحها . ولقد قلبنا كثيرا من صحف الكتاب في كل عصر من أعصار الإسلام، فلم نجد هذه اللفظة في شيء من كتب المتقدمين، ولا نذكر أننا رأيناها قبل شيوعها بين كتابنا إلا في كلام بعض متأخري التونسيين، بل لعلها لم ترد إلا في كتاب خير الدين باشا المسمى بأقوم المسالك؛ فإنها شائعة في الكتاب كله لا يكاد يستعمل غيرها، وهو من غريب الذوق في اختيار الألفاظ.
ويقولون: خابره في الأمر؛ أي: فاتحه فيه وذاكره وفاوضه، وإنما المخابرة في اللغة بمعنى المزارعة، وهي أن يزارع الرجل ببعض ما يخرج من الأرض.
Unknown page