وأكثر التوليد المذكور حدث تدريجا واعتباطا لأسباب متفرقة ومختلفة لا يمكن تعيينها أو حصرها، على أن بعضها وضع عن روية وقصد وهو قليل، وأما الأغلب في هذا التوليد أن يدخل اللغة تدريجا مثل تدرج العادات والآداب في تولدها ودخولها في جسم الأمة. ومن أوضح الأمثلة على ما تتقلب فيه الألفاظ من المعاني أو تتدرج في إبداله، ما أصاب نعوت التفخيم من التغيير العجيب بانتقالها من عصر إلى عصر، فالأديب، والألمعي، والفاضل، والعلامة، والفهامة، وحضرة، وجناب؛ يستخدمها الكتاب اليوم لغير ما كان يستخدمها الأقدمون. وقد يكون الفرق بعيدا بين المعنيين ، فالأديب مثلا مشتقة من الأدب وهو يشمل معظم ضروب العلم، وقد استعملها المولدون في العصور الإسلامية الوسطى لما نستعمل له اليوم لفظ العالم الفاضل، وما زالت دلالتها تتصاغر حتى صاروا يستخدمونها لأصغر خدمة الأدب. والحضرة والجناب كانتا من نعوت الملوك والأمراء، فأصبحتا تستخدمان لأحقر العامة. وقس على ذلك سائر الألقاب.
وشأن هذه النعوت في حياتها شأن الرتب وأدوارها، فلفظ «بيك» مثلا معناه الأمير أو الملك، وكانوا يسمون به كبار الأمراء والقواد، ثم جعلوه لقبا ملكيا يمنح لبعض الوجهاء ونحوهم ممن يأتون عملا عظيما، ثم صار إلى ما تعلم. ويقال نحو ذلك في سائر الرتب والنعوت، فهي في صعود وهبوط وتولد ودثور في دلالتها شأن الطبيعة في كل أحوالها.
لغة الحكومة المصرية في دواوينها
لا غرو إذا أفردنا للغة الحكومة المصرية بابا خاصا لاختصاصها بألفاظ وتعبيرات لا مثيل لها في اللغة الفصحى، وفيها ما لا يمكن تطبيقه على قاعدة ولا الرجوع به إلى قياس. ففي مخاطبات الدواوين وصور الأوامر العالية من الألفاظ الغريبة والتراكيب الركيكة ما هو غريب في بابه، وقد بلغ ذروة الغرابة في أواسط القرن الماضي قبل نضج هذه النهضة.
وأصل الركاكة والغرابة في لغة الدواوين يرجع إلى عصر التدهور في زمن الأمراء والمماليك، وطبيعي أن اللغة تحيا بحياة أهلها وتموت بموتهم، وتزهو بزهوهم وتنحط بانحطاطهم، ففي عصر أولئك الأمراء بلغت مصر من التدهور في السياسة والإدارة والآداب والعلوم ما لم يبق بعده غاية، فلم ينقض القرن الثامن عشر حتى صارت لغة الكتابة أشبه شيء بلغة العامة، لركاكة عبارتها مع ما فيها من الألفاظ الأعجمية والعامية.
فدخل الفرنسيون مصر في أواخر القرن المذكور ولغة العلماء تكاد تكون عامية. وإليك أمثلة من كتاب نشره علماء مصر ومشايخها أثناء احتلال الفرنسيين، قالوا:
نعرف أهل مصر من طرف الجعيدية وأشرار الناس حركوا الشرور بين الرعية والعسكر الفرنساوية، بعد ما كانوا أصحابا وأحبابا بالسوية، وترتب على ذلك قتل جملة من المسلمين، ونهبت بعض البيوت. ولكن حصلت ألطاف الله الخفية، سكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش بونابرته، وارتفعت هذه البلية لأنه رجل كامل العقل عنده رحمة وشفقة على المسلمين، ومحبة إلى الفقراء والمساكين. ولولاه لكانت العساكر أحرقت جميع المدينة، ونهبت جميع الأموال، وقتلوا كامل أهل مصر. فعليكم ألا تحركوا الفتن، ولا تطيعوا أمر المفسدين، ولا تسمعوا كلام المنافقين، ولا تتبعوا الأشرار، ولا تكونوا من الخاسرين سفهاء العقول الذين لا يقرءون العواقب ...
وقد ذكرنا مثالا من كلام الجبرتي مؤرخ تلك الحوادث في كلامنا عن اللغة العربية في عصر التدهور.
ولما جاء الفرنسيون إلى مصر كان في جملة حملتهم جماعة من التراجمة ليتوسطوا بينهم وبين الأهالي والعلماء، ويترجموا لهم المنشورات والمراسلات ونحوها. والظاهر أنهم كانوا من غير أبناء اللغة العربية، فكانوا إذا ترجموا عبارة صاغوها في قالب إفرنجي، وما لم يجدوا له لفظا عربيا تركوه بلفظه الإفرنجي أو وضعوا له لفظا عاميا.
فلما أفضت الولاية إلى محمد علي مؤسس العائلة الخديوية وأخذ في إنشاء الدواوين، لم يكن له غنى عمن يترجم بين حكومته وحكومات دول أوروبا، فاستخدم التراجمة وفيهم جماعة من أهل المغرب وغيرهم واللغة لا تزال في انحطاطها وركاكتها، والذين يعرفون أساليبها ويحفظون ألفاظها قليلون جدا، وخاصة بين الذين استخدموهم في الدواوين للكتابة أو الترجمة. وقد رأيت مثالا من لغة المشايخ والعلماء وقد قضوا أعواما طوالا في الأزهر، وقرءوا كتب العلم والفقه، فكيف بكتاب الدواوين والتراجمة؟!
Unknown page