تقديم
غرناطة
المناخ السياسي والثقافي ونشأة الشاعر
حياة المدينة
إلى العاصمة مدريد
مسرحية فاشلة وديوان ناجح
صداقتان حميمتان
مهرجان إشبيلية وديوان الفجر
مجلة أدبية وأزمة نفسية
التجربة الأمريكية
لاباراكا وفترة النضج المسرحي
فاجعة مصارع الثيران
1936
غرناطة ولوركا
لوركا والتطهير الدموي
الجريمة كانت في غرناطة
ما وراء الحادث
الشمس تشرق من جديد
مراجع الكتاب
تقديم
غرناطة
المناخ السياسي والثقافي ونشأة الشاعر
حياة المدينة
إلى العاصمة مدريد
مسرحية فاشلة وديوان ناجح
صداقتان حميمتان
مهرجان إشبيلية وديوان الفجر
مجلة أدبية وأزمة نفسية
التجربة الأمريكية
لاباراكا وفترة النضج المسرحي
فاجعة مصارع الثيران
1936
غرناطة ولوركا
لوركا والتطهير الدموي
الجريمة كانت في غرناطة
ما وراء الحادث
الشمس تشرق من جديد
مراجع الكتاب
لوركا شاعر الأندلس
لوركا شاعر الأندلس
تأليف
ماهر البطوطي
تقديم
كان يوما ما زلت أذكره من عام 1961 حين قررت على نحو قاطع أن أتخذ الكتابة والترجمة مهنة أساسية لي. كنت أدرس آخر سنة في قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة، وقد تشبعت بالمقررات الدراسية، خاصة في تلك السنة، وتأثرت برواية «جيمس جويس»؛ «صورة للفنان في شبابه»، التي قرر بطلها نذر نفسه للأدب والفن والجمال بكل أشكاله. كذلك درسنا «همنجواي» وحياته وأسلوبه الجديد في الكتابة. وكنت أتابع ما يصدر من كتب مهمة خارج مقررات الدراسة، فتأثرت بأدب «ألبير كامي» وفلسفته، وكتاب «اللامنتمي» الذي كتبه «كولن ولسون» وأصبح حديث الأدباء.
وكنت قد بدأت القراءة وجمع الكتب منذ كنت في العاشرة من عمري، فنشأت على كتب «توفيق الحكيم» و«طه حسين» و«نجيب محفوظ» و«يوسف السباعي» وشعر «أحمد شوقي». وبدأت أيضا في جمع الكتب والسلاسل الجميلة التي كانت تصدر في مصر في الخمسينيات، ومنها: «الهلال» و«كتاب الهلال» و«روايات الهلال»، و«اقرأ»، و«كتب للجميع»، وكتب ومطبوعات «كتابي» و«الكتاب الذهبي»، وغير ذلك.
وبعد التخرج في الجامعة، عرفت أن من يريد أن يتخذ الكتابة مهنة، فعليه إجادة لغته العربية إجادة تامة، وكذلك ألا يعتمد في معيشته على مكافآت الكتابة؛ فدرست القرآن الكريم وتدبرت آياته ولغته، وقرأت كتب النحو المتاحة، وما طالته يدي من كتب التراث العتيقة. ولم أبدأ الكتابة إلا بعد أن شغلت وظيفة مناسبة بوزارة التعليم العالي بالقاهرة، تترك لي وقتا كافيا بعدها للقراءة والكتابة. ولما كنت أريد الكتابة في النقد الأدبي، كانت أوائل مقالاتي نقدا وعرضا لما أحببته من الكتاب والأدباء. ثم جاءت الترجمة وأفسحت لها بعض الوقت أولا، ثم زحفت على معظم الوقت بعد ذلك. وكان أول كتبي المنشورة عن «إرنست همنجواي»، ثم رواية «جيمس جويس» التي أحببتها. وبدأت في دراسة اللغتين الإسبانية والفرنسية قبل أن تنتدبني الوزارة للعمل ملحقا ثقافيا في مدريد، حيث قضيت أكثر من أربع سنوات.
وبعد عودتي من إسبانيا، قضيت أربع سنوات أخرى بالقاهرة أزود المجلات في القاهرة وبيروت بمقالاتي المؤلفة والمترجمة، قبل أن أتوجه إلى نيويورك للعمل مترجما ثم محررا بالأمانة العامة للأمم المتحدة. وقد عكفت على الكتابة والترجمة عن الأدب المكتوب بالإسبانية من شعر ورواية ومسرحية، حتى أساهم في تشييد جسر ثقافي للقراء العرب إلى تلك الثقافة الثرية. ولكن لم أنس اللغات الأخرى، فترجمت لشاعر الشعب الأمريكي «والت ويتمان» وبعض آثار اللغة الفرنسية، وزاد إنتاجي بعد التقاعد من العمل حتى قاربت أعمالي ثلاثين كتابا.
ولما كانت الكتب الورقية، رغم أهميتها، تذوي وتغيب حروفها بفعل الزمن، فقد رحبت بقيام مؤسسة «هنداوي» بوضع كتبي رقمية على النت لتكون متاحة لمن يريد قراءتها، والمؤسسة بذلك تضطلع بعمل مهم في نشر الثقافة وإتاحتها وحفظها على مر السنين.
غرناطة
سئل لوركا يوما عن سقوط الحكم العربي لغرناطة في عام 1492 ميلادية، فأجاب قائلا: «لقد كان يوما أسود، رغم أنهم يذكرون لنا عكس ذلك في المدرسة، لقد ضاعت حضارة مدهشة، وشعر، وفلك، ومعمار، ورقة لا نظير لها في العالم، وحلت محلها مدينة فقيرة، خانعة، تزخر بطالبي الصدقات، وحيث توجد الآن أسوأ طبقة برجوازية في إسبانيا».
وتعد هذه العبارات أصدق دليل على مدى تأثر الشاعر الفنان «فديريكو غرسيه لوركا» بمسقط رأسه وبيئته الغرناطية التي نشأ في أحضانها، بكل ما تنبض فيها من أجواء عربية وأندلسية بقيت آثارها على مر القرون، ولقد استبانت تلك الأجواء في شعره وفي مسرحياته التي استلهم فيها الروح الشعبية في قرى الأندلس ومدنه ... ومن غريب الطالع أن يرتبط موت الشاعر في عام 1936م باسم عربي كذلك؛ إذ إن مصرعه الفاجع قد وقع في بقعة لا تزال تعرف باسمها العربي وهو «عين الدمعة» بقرية «فرنار» من أرباض غرناطة، وهكذا كان مولد الشاعر وموته في تلك المدينة الأندلسية التي ارتبطت باسمه وأعماله. غرناطة، تلك المدينة الحبيبة إلى قلب كل عربي، غرناطة، آخر معقل للإسلام وللعرب في إسبانيا، تلك البلدة الجميلة التي تقع أجزاء منها فوق تلال عدة، وتنبسط أجزاء أخرى تحت أقدام تلك التلال، وتمتد في الغرب منها رقعة واسعة من الأراضي الزراعية شديدة الخصوبة، يغذيها نهرا «حدرة» و«شنيل» - اللذان تغنى بهما شعراء العرب ثم شعراء الإسبان من بعدهم، ومنهم لوركا بالذات - واللذان يستمدان مياههما من ثلوج أعلى جبال المنطقة: «سييرا نيفادا»، التي سماها العرب جبال شلير، وبجوارها جبال البشرات، وتعد تلك الرقعة الزراعية الغرناطية من أخصب المناطق في البلاد وأكفها زراعة، وقد قال عنها الرحالة العرب الأولون: إنها تفوق غوطة دمشق مساحة وخصبا.
وقد فتح العرب غرناطة في مطلع غزوتهم الإسبانية، عام 712م، واتخذوا من موقعها حصنا مكينا، نظرا لما تتمتع به من موقع استراتيجي هام وسط سلاسل جبال منيعة، وعربوا الاسم الروماني لها وهو
Granada - أي الرمانة، الذي أطلق عليها لأنها كانت على شكل يعطي للناظر من بعيد هيئة تلك الثمرة - وجعلوه غرناطة، وقد سيطر العرب على كل أجزاء شبه الجزيرة الأيبيرية ما عدا منطقتين: أشتورياس والباسك في شمال البلاد، وكان فتح الأندلس في عهد سليمان بن عبد الملك والوليد بن عبد الملك، وحين قامت الدولة العباسية، امتد حكم بني أمية في الأندلس على يد عبد الرحمن الداخل وخلفائه، إلى حين سقوط قرطبة عام 1031م، وقد حل محل الأمويين ملوك الطوائف وأشهرهم بنو عباد بإشبيلية، وبنو جهور بقرطبة، وبنو عامر بشاطبة، وبنو هود بسرقسطة، وبنو حمود بمالقة، ثم جاء عصر دولة المرابطين، فدولة الموحدين التي امتد عهدها حتى عام 1269م، وأما غرناطة فكانت خلال الحكم الأموي تدخل في إقليم «ألبيرة»، وبعد سقوط قرطبة استقل بها حاكمها «زاوي بن زيري»، وظل يحكمها «بنو زيري» حتى غلب عليها المرابطون فالموحدون، وفي أواخر حكم الموحدين، ظهر «بنو الأحمر» واستقلوا بغرناطة، وأسسوا فيها عام 1238م «مملكة غرناطة» التي قامت لأكثر من قرنين ونصف من الزمان، وشهدت سقوط المدن العربية الأخرى في يد الإسبان، إلى أن أصبحت آخر مكان حكمه العرب في إسبانيا.
وكانت مملكة غرناطة لا تضم مدينة غرناطة الحالية وحدها، بل كان يدخل فيها مدن «ألمرية» و«مالقة» و«جبل طارق» و«الجزيرة الخضراء» و«رندة»، وأعمال هذه المدن وأرباضها، وازدهرت هذه المملكة تحت حكم بني الأحمر، رغم الاضطرابات السياسية فيها، وتربص الممالك الإسبانية بها، وشيد الملوك فيها المساجد والقصور وزرعوا البساتين، حتى أصبحت أيامها من أجمل مدن العالم، وزارها وتغنى بها الرحالة العرب، مثل «ابن بطوطة» و«ابن جبير»، وبلغت المملكة شأوها في عهد الملك محمد الغني بالله (محمد الخامس)، حين سطع في سمائها عدد من الأدباء والشعراء، على رأسهم الوزير لسان الدين بن الخطيب، مؤلف المرجع الأساسي عن المدينة وعنوانه «الإحاطة في أخبار غرناطة»، وشاعر الأندلس «محمد بن زمرك» صاحب الموشحات الأندلسية.
وتتالى على عرش المملكة بعد ذلك ملوك تراوحوا بين ضعيف وقوي، إلى أن سقطت المملكة في يد الملكين الكاثوليكيين «إيزابيلا وفرديناند» في 2 يناير 1492م، ورحل آخر ملوكها وهو محمد أبو عبد الله، مع كبار الأشراف العرب، إلى المنفى في بلاد المغرب العربي.
ورغم مرور مئات السنين على انتهاء الحكم العربي في غرناطة، لا تزال المدينة وأرباضها - شأنها شأن مدن الأندلس الأخرى ذات التاريخ الإسلامي العريق كقرطبة وإشبيلية - تزهو بالآثار العربية الإسلامية، وتنبئ تحت قشرة الأسماء الإسبانية عن أسماء عربية أو ذات أصل عربي، وأعظم الآثار القائمة بها حاليا وهو قصر الحمراء (
AlHambra
الآن بالإسبانية) وحدائقه المسماة جنة العريف
Generalife ، تشكل مع جامع قرطبة ومنارة الخريدة بإشبيلية أعظم الآثار العربية الباقية في إسبانيا اليوم.
المناخ السياسي والثقافي ونشأة الشاعر
كان مولد شاعرنا في أواخر القرن التاسع عشر، في يوم 5 من يونيو 1898م، وكان ذلك العام معلما من المعالم الأساسية في تاريخ إسبانيا، عسكريا وسياسيا وفكريا، ففيه ضرب خط فاصل بين ما تبقى من آثار العظمة الإمبراطورية التي كانت لإسبانيا، وبين صحوتها على الواقع الأليم والمرير بزوال آخر مستعمراتها الكبرى فيما وراء البحار، ففي مطلع ذلك العام، تدهورت العلاقات بين إسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن ثار الكوبيون على الاحتلال الإسباني لبلادهم، ومدت الولايات المتحدة يد المساعدة المعنوية للثوار، وطالبت الصحف الأمريكية بالتدخل عسكريا في كوبا لنصرتهم، بيد أن الرئيس الأمريكي آنذاك - وليام ماكنلي - لم ير مبررا لذلك.
ولكن حدث في 15 من فبراير أن وقع انفجار بالسفينة الأمريكية «مين» الراسية في ميناء «هافانا»، أفضى إلى مقتل 260 أمريكيا، واتهمت إسبانيا بتدبير ذلك الانفجار انتقاما للدعم الأمريكي للثوار الكوبيين، فطلب الرئيس الأمريكي الإذن من الكونجرس بالتدخل ضد إسبانيا، فوافق الكونجرس مبينا أنه ليس لأمريكا من هدف وراء ذلك سوى تحقيق الاستقلال الكوبي.
وأعلنت إسبانيا الحرب على الولايات المتحدة في 24 من أبريل، تلاه إعلان الولايات المتحدة الحرب على إسبانيا في 25 من أبريل، وكان للولايات المتحدة اليد الطولى في الحرب بسبب أسطولها البحري المتفوق، ففي 1 من مايو، دمر الأميرال الأمريكي «جورج ديوي» الأسطول الإسباني في مانيلا بالفلبين، مما أسفر عن مصرع 381 إسبانيا، بينما كانت خسائر الأميركيين 8 جرحى فحسب، وعلى نحو مماثل، تم تدمير الأسطول الإسباني في كوبا في 3 من يوليو مع خسائر فادحة للإسبانيين، ومع الهزيمة الساحقة التي نزلت بإسبانيا في هذه الحرب القصيرة الآن، تم في ديسمبر 1898م توقيع معاهدة باريس بين إسبانيا والولايات المتحدة، التي وافقت إسبانيا بمقتضاها على التخلي عن كوبا، وعلى أن تتنازل للولايات المتحدة عن بورتوريكو وجوام والفلبين.
وقد أحدثت هذه الهزيمة المبينة رد فعل عنيفا في أوساط الإسبانيين بكل طوائفهم، وكان رد الفعل لدى المفكرين والأدباء صيحة احتجاج قوية ضد الوضع الإسباني السائد في تلك الفترة، وضد المناخ السياسي والاجتماعي والفكري الذي كان يرين على البلاد أيامها، وتمخض هذا الاحتجاج لدى هؤلاء الأدباء والمفكرين عن حركة أدبية أطلق عليها فيما بعد حركة جيل عام 98، وأبرز شخصيات هذه الحركة هم «أونامونو» و«أثورين» و«باروخا» و«مايتزو» و«أنطونيو متشادو»، وأعمال هؤلاء الأدباء والمفكرين، ومنهم الفيلسوف كاونامونو، والروائي كباروخا، والشاعر كمتشادو، والأديب الجامع كأثورين، تعتبر ثورة على الواقع الإسباني في أواخر القرن التاسع عشر، واقترابا من التيارات الفكرية والثقافية التي سادت أوروبا آنذاك، وخاصة في فرنسا وألمانيا، وكانت الحركة الواقعية في أوروبا - التي اقترنت بالاكتشافات العلمية والطبيعية الحديثة - قد أفسحت المجال لردة رومانسية ومثالية تمثلت في الرومانسيين الجدد.
وهكذا كان الحال مع أدباء جيل 98 في إسبانيا، إذ انعكست فيهم روح من المثالية والرومانسية إزاء ما حل بوطنهم من نكسة كبيرة، وامتزجت تلك الروح بعوامل رومانسية بارزة، مثل الكآبة والنزعة الشخصية الحادة، وجميعهم يبدون حبا دفينا لإسبانيا، بيد أنه لا أحد منهم يقبل تقاليدها، بل هم يبحثون عن صورة لإسبانيا مختلفة عما ألفوه من قبل عنها؛ ولذلك فإن معظم أعمالهم تنصب على الروح الإسبانية والتاريخ الإسباني، والطبيعة في مقاطعات إسبانيا المختلفة. وحاولوا جميعا في أعمالهم تحليل جميع عناصر الواقع الإسباني وتقييمها، وتصور روح إسبانية جديدة، وواقع إسباني جديد، يبزغان من فوق أنقاض الماضي ليشيدا حاضرا ومستقبلا آخرين لبلادهم، ومن ناحية الأسلوب الأدبي، كان أفراد الجماعة يؤمنون بالعودة إلى الأسلوب اللغوي البسيط المجرد من الزخارف اللفظية والمحسنات البديعية، وحاولوا جهدهم البعد عن واقعية القرن التاسع عشر التي تغرق في الوصف المفصل للواقع الخارجي، وتقدمه بصورته التي هو عليها، وتمثلوا منهجا تعبيريا يقدمون به الانعكاسات الشعورية والانفعالية، التي تثيرها الأشياء في نفس الكاتب، وقد تأثر أفراد هذه الجماعة بعدد من أدباء ومفكري أوروبا، أبرزهم «آبسن» و«شوبنهاور» و«نيتشه» و«بسكال» و«كيركجارد» والروائيون الروس.
نشأ لوركا في ظل هذه الحركة الأدبية والفكرية، وتأثر بها في صباه تأثرا بالغا، ذلك أنه ما إن شب عن الطوق، حتى كان نتاج أقطاب الحركة يصبغ الفكر والثقافة في إسبانيا ويسيطر على أذهان المثقفين.
وقد ولد شاعرنا كما قلنا في نفس عام النكبة الإسبانية، وكان أكبر أبناء أحد ملاك الأراضي في مقاطعة الأندلس الجنوبية، فوالده دون «فديريكو غرسيه رودريجز» كان مزارعا ناجحا، له عدة ضياع في غرناطة، وكان الوالد عريض الملامح، خلعت الشمس على وجهه المستدير ويديه سمرة عربية صادقة، وكانت شخصيته مثالا للمواطن الريفي القح، ذي الدخل المريح والسمعة الطيبة، والمهارة في فلاحة الأرض وإدارة المزارع والضياع، ولم يكن يعنيه الشعر في قليل أو كثير، أما أم الشاعر فكانت ذات طبع مختلف؛ فقد كانت دونيا «فيسنتا لوركا روميرو» هادئة متزنة، صغيرة الحجم رقيقة الملامح، ذات صوت طفولي ناعم، وكانت تعمل قبل زواجها مدرسة ومعلمة للموسيقى، وقد تزوجها دون فديريكو بعد وفاة زوجته الأولى التي لم تنجب أطفالا، وقد قال لوركا عن والديه بعد ذلك في مقابلة صحفية: «لقد ورثت حدة العاطفة عن والدي، والذكاء عن والدتي»، وقد تشكل اسم لوركا - حسب التقليد الإسباني العريق - من اسمه الأول الذي يماثل الاسم الأول لأبيه: فديريكو، متبوعا بلقب عائلة الأب: غرسيه، ثم لقب عائلة الأم: لوركا، وقد أنجب الزوجان ولدين هما «فديريكو» و«فرانسسكو»، وبنتين هما «كونسيسيون» و«إيزابل».
وكان مسقط رأس الشاعر في قرية «فوينتي فاكيروس» أي «نبع رعاة البقر»، ومن أعمال غرناطة، في بيت مكون من دورين للأسرة، مقام وسط مدينة صغيرة مسورة يمكن للأطفال اللعب فيها بأمان، وكانت القرية التي يقع فيها المنزل صغيرة، تتكون من بيوت واطئة بيضاء تلتمع فوقها أشعة الشمس، وكانت المشاهد فيها لا تعدو المزارعين يتجهون إلى حقولهم في الصباح الباكر، أو يعودون إلى بيوتهم مع مغرب الشمس، وعربات تجرها الثيران أو الخيول، وقطعان ماشية أو أغنام تسير مهتزة وتثير من حولها سحائب من غبار، وعددا من الدراجات القديمة يعود بها أصحابها من مصنع السكر خارج القرية إلى بيوتهم.
وقد حدث أن أصيب لوركا وهو وليد ذو شهرين من العمر بحمى غريبة مجهولة عرضت حياته للخطر، ولكنها انجابت عنه بخير، ولم تخلف فيه إلا مسحة من ضعف في الساقين عند السير، وجعلته يتأخر في الكلام حتى سن الثالثة، وفي السير حتى الرابعة.
وكانت طفولة لوركا سعيدة مريحة، تزخر باللعب والانطلاق مع أقرانه من صبية القرية وسط الحقول والدروب، وقد قال هو نفسه عن طفولته فيما بعد: «طفولتي هي تعلمي الحروف الأولى والموسيقى على يد أمي، والإحساس بنفسي كابن أحد أغنياء القرية ... كل طفولتي هي القرية، والرعاة، والحقول، والسماء، والوحدة ...» وتميز لوركا منذ طفولته بالشغف بالتأمل والملاحظة ... فحين كان يكف عن اللعب مع أترابه، كان يمضي ساعات وساعات في تأمل الفراشات والهوام والنباتات والزهور، ويحادثها كأنما هي أصدقاؤه، لقد شكل عالم الطبيعة له - بكل ما فيه من تنوع واختلاف - عالما مدهشا منذ البداية، شيئا أشبه بفردوس عامر بمخلوقات تتطلب منه انتباها دائما وملاحظة مستمرة.
كذلك استبان للوركا في طفولته عالم خيالي يزخر بالأحداث والقصص والشخصيات الخرافية، نشأ من الحكايات والأساطير الشعبية التي كانت تقصها عليه مربيته وأقاربه وبعض صديقات الأسرة من العجائز، وقد استمد من هذا العالم مادة غزيرة انكب عليها عقله الصبياني يفحصها ويمحصها، حتى تركت في نفسه انطباعا لا يمحى ظهر بعد ذلك في جميع إنتاجه الفني والأدبي؛ إذ إن شاعرنا قد احتفظ بكل تفاصيل هذه القصص من حكايات واقعية إلى خرافات وأساطير، لتظهر بعد ذلك في ثنايا قصائده ومسرحياته، بل وأحيانا في رسومه، وكثيرا ما تبدو تلك الموضوعات على شكل صور تمثل نغمات غلابة تتردد في كتاباته المختلفة، إلى جوار الموضوعات التي تشبع بها كيانه منذ الطفولة، مثل حياة الغجر، ومسرح العرائس والأراجوز، والحرس المدني، وحياة النساء في الريف، فضلا عن المشاهد الطبيعية الريفية، وما يزخر به عالم الطبيعة من عوالم متنوعة من أزهار ونباتات وهوام وطيور وحيوانات وجداول وينابيع وأنهار وبحار، وما إلى ذلك.
كان من بين ما استمع إليه الطفل ما قصه عليه عمه يوما ما عن لصين من قطاع الطرق، لجآ إلى منزل عائلة العم في إحدى الليالي يطلبان ملاذا وطعاما، وعطفت العائلة عليهما فآوتهما في ركن من مخزن الغلال بعد أن زودتهما بالطعام والشراب، وفي منتصف الليل ، استيقظ الجميع على دقات متتالية على الأبواب، معلنة وصول قوات الحرس المدني، أي رجال الدرك والشرطة الإسبان، وظهر الحراس بقبعاتهم المثلثة الشهيرة، وقبضوا على لص من اللصين، بعد أن تبين أن الثاني قد مات في نومه من الجراح التي أصيب بها، وقال الحراس للعم: «وأنت أغلق فمك ولا تقل كلمة عما رأيت!»
وتساءل الصبي في ذعر: وماذا حدث للرجل؟ - لم نسمع سوى طلقة رصاص، وصرخة في الليل البهيم، ثم طلقة رصاص أخرى، ولا شيء بعد ذلك. - لقد قتلوه إذن، لقد قتلوه!
وقال الصبي هذه العبارة، فاغر الفم وعيناه تلمعان من فرط الانفعال.
وقد أبدع الشاعر بعد ذلك في تصوير جو الحرس المدني الإسباني في عدة قصائد مشهورة، معظمها في ديوانه «حكايا الغجر» ومنها قصيدة بعنوان حكاية الحرس المدني، يقول فيها:
الجياد سوداء
وسود حدواتها
وعلى العباءات
تلمع بقع من حبر وشمع،
جماجمهم من رصاص؛
لهذا لا يبكون،
ويخبون في طريقهم
بأرواحهم الجلدية البراقة
محنيو الظهور، متسترون بالليل.
وحيثما يحلون
يفرضون صمت المطاط الأسود،
وخوف الرمال الناعمة.
يمرون حينما يبغون المرور،
ويخفون في رءوسهم
فلكا غامضا
من مسدسات لا هوية لها!
إن ما فعله لوركا مرارا وتكرارا في أعماله الفنية، هو أنه تناول القصص والنوادر التي قصها عليه معارفه في طفولته، ليصيغ منها بعد ذلك حبكات مسرحياته، كما عمد أحيانا إلى إدخال اللغة البديعية التي اعتاد سماعها في القرى التي عاش فيها، بين ثنايا لغته الشعرية.
وقد قال ذات مرة عن طفولته: «لقد عشت طفولتي في جو كامل من الطبيعة، وككل الأطفال، كونت رأيي بشأن شخصية كل شيء، كل موضوع، كل قطعة أثاث، كل شجرة، كل حجر، وكنت أبادل هذه الأشياء الحديث، وأبادلها الحب، كانت تنمو في صحن دارنا أشجار الحور السوداء، وفي أصيل أحد الأيام، خطر لي أن أشجار الحور تشدو بالغناء، ذلك أن الرياح وهي تمر بين أغصانها كانت تصدر مجموعات من الألحان بدت لي كالموسيقى، وقضيت ساعات أصاحب بصوتي أغنية الأشجار، ويوما آخر، دهشت إذ سمعت شجرة حور سوداء عتيقة تهمس باسمي: ف ... دير ... يكو!»
وفي حديث آخر مع أحد الصحفيين، قال لوركا: «كان لذكرياتي الأولى عبير الأرض، لقد فعل الريف بحياتي فعل السحر، إن للأرض وللهوام وللحيوانات وللفلاحين أفكارا لا تصل إلى الجميع، إنني أسيطر عليها الآن بنفس الروح التي كنت أسيطر عليها بها في طفولتي ... لقد كنت طفلا محبا للاستطلاع، وكنت أتابع آنذاك عملية حرث أرض والدي في أعماق الريف، ولقد أحببت مشاهدة النصال الحديدية الهائلة تفتح جراحا في الأرض، جراحا تنبجس منها الجذور بدلا من الدماء، ومرة اصطدم نصل المحراث بشيء أعاق مسيره، ثم اقتلع كسرة من قطعة خزف رومانية عتيقة، وكان عليها سطور لا أذكرها، وإن بقي منها اسما الراعيين «دافنيس» و«كلو» في ذهني، وكان للاسمين أيضا نكهة الأرض التي أعشقها».
وقد عاش لوركا حتى الحادية عشرة من عمره تقريبا في قلب الريف، إذ إن أسرته انتقلت بعد مقام في «فوينتي فاكيروس» إلى قرية أخرى تدعى أسكيروسا - التي كان العرب يسمونها الشكروجة، والتي تدعى الآن بلدي الربي
Valde Rubio ، وهي في نفس إقليم غرناطة أيضا، حيث كان الأب يملك بعض الأرض ... وهكذا انطبعت حياة الريف في كيان الشاعر، وانطبعت في فؤاده مساحات الخضرة التي تحيط به من كل مكان، وجاءت القصيدة الخضراء، حكاية السارية في نومها، تجميعا لكل هذه العوامل التي تأثر بها لوركا في طفولته وصباه، فهي مزيج من الصور الفنية المستمدة من الريف وأساطيره، وحكايات اللصوص والمهربين، في خلق شعري غنائي جميل:
أخضر، أخضر،
كم أحبك يا أخضر!
رياح خضر، وأفنان خضراء.
السفينة في البحر،
والجواد في الجبال،
وهي تحلم في شرفتها،
والظلال تتراقص على خاصرتها،
خضراء الجسد، خضراء الشعر،
وعيناها من فضة باردة.
أخضر، أخضر،
كم أحبك يا أخضر!
على نور قمر الغجر
كل شيء يراها،
وهي لا ترى شيئا. •••
أخضر، أخضر،
كم أحبك يا أخضر!
أنجم هائلة
من الصقيع الأبيض
تأتي مع أسماك الظلام؛
لتشق طريقا للفجر.
وشجرة التين
تدلك هواءها برمال فروعها .
والجبل،
كالقطة السارقة،
ينصب صباراته الحارقة
ولكن، من ذا القادم؟
وإلى أين يقصد؟
وتتمهل الفتاة في شرفتها
خضراء الجسد، خضراء الشعر
تحلم بالبحار المريرة! ••• - «أي رفيقي،
ألك أن تقايض جوادي بمنزلك؟
ألك أن تبادل مسرجي بمرآتك؟
ألك أن تبادل خنجري ببساطك؟
أي رفيقي،
لقد أتيت مثخنا بالجراح
من عند بوابات «قبره».»
1 - «لو أمكنني أيها الشاب
لأتممت هذه الصفقة بيننا،
ولكني لم أعد أنا!
كما لم يعد منزلي بعد منزلي!» - «أي رفيقي،
أريد أن أموت بسلام في فراشي
على سرير حديدي، إن أمكن ذلك،
وملاءات من الحرير الهولندي.
ألا ترى جراحي
تمتد من صدري إلى عنقي؟» - «ثلاثمائة زهرة داكنة
يحملها صدر قميصك،
دماؤك حارة
تصطخب من حول ضماداتك،
ولكني لم أعد أنا!
كما لم يعد منزلي بعد منزلي!» - «دعني على الأقل
أصعد إلى الشرفات العليا،
دعني أصعد! دعني!
إلى الشرفات الخضراء،
شرفات القمر،
حيث تنهل المياه» •••
ويصعد الرفيقان إلى الشرفات العليا
ووراءهما خيط من الدماء،
وراءهما خيط من الدموع،
ومصابيح صفيحية صغيرة
ترجف على الأسطح،
وآلاف من المزامير
تثخن الفجر بالجراح. •••
أخضر، أخضر،
كم أحبك يا أخضر!
رياح خضر، وأفنان خضراء،
ويصعد الرفيقان ...
والرياح المتطاولة
تترك مذاقا غريبا في الشفاه،
مذاق مر ونعناع وريحان! - «أي رفيقي، أين هي؟
أين تلك الفتاة المريرة؟» - «آه ... كم مرات انتظرتك!
وكم ستنتظر مرات ومرات
في تلك الشرفة الخضراء
مشرقة الوجه،
سوداء الشعر!» •••
وتراقصت الفتاة الغجرية
على سطح خزان المياه،
خضراء الجسد، خضراء الشعر
وعيناها من فضة باردة،
وثؤلول من القمر
يحملها على صفحة المياه،
وانسدل الليل أليفا
كالساحة الصغيرة،
ورجال الدرك سكارى
يبقون على الأبواب ...
أخضر، أخضر،
كم أحبك يا أخضر!
رياح خضر، وأفنان خضراء.
السفينة في البحر،
والجواد في الجبال.
وإلى جانب هذا التعليم الفطري الذي ناله الشاعر من الطبيعة حوله، ومن حياة الحقول ونسيج الأساطير والحكايات الشعبية، بدأ حصيلته في فترة مبكرة؛ فقد اهتمت والدته - وهي المدرسة أصلا - بتلقينه مبادئ اللغة والعلوم بنفسها، وأشربته حب الموسيقى ومبادئها منذ نعومة أظفاره، ثم انتظم في مدرسة القرية - التي كان يشرف عليها ويدرس فيها الأستاذ «أنطونيو اسبينوزا»، وهو صديق حميم لأسرة لوركا، الذي سرعان ما فطن إلى المواهب الباكرة التي يتمتع بها ذلك الصبي، فتوفر على تطوير النزعات الفنية فيه، وقد بادله الصبي ودا بود، وصل إلى أنه حين نقل الأستاذ عام 1908م إلى مدينة «المرية» الساحلية، قررت الأسرة أن ترسل ابنها بصحبته، تلميذا في مدرسته، ومقيما في منزله، حتى يستمر في تلقي التعليم الذي بدأه على يديه.
ولكن إقامة لوركا في «المرية» لم تكن موفقة؛ إذ سرعان ما غلبه الحنين إلى أسرته وبلدته، وافتقد الجو الحاني الذي كان يحيطه به أبواه، وأخيرا سقط فريسة المرض، وتورم وجهه من جراء الميكروب الغامض الذي هاجمه، حتى اضطر الآب إلى أن يعيده إلى البيت، ولم يرسل به بعيدا عن الأسرة بعد ذلك، وكانت حصيلة هذه التجربة المريرة، أولى محاولات لوركا الأدبية؛ إذ إنه كتب خلال فترة مرضه قصيدة هزلية قصيرة، شبه نفسه فيها بوجهه المنتفخ بسلطان مراكش آنذاك، وهي تمثل جانبا آخر من جوانب خياله الممتلئ بالصور العربية.
وقد بدأ في تلك الفترة - عام 1908م وما بعده - شغف لوركا بالقراءة والمطالعة، وكان من بين ما تأثر به كتاب «دون كيخوتة» درة الأدب الإسباني، وبعض مترجمات من أعمال «فكتور هيجو» كانت في مكتبة جده لأبيه، وتجمعت مادة قراءاته هذه مع مادة الشعر الشفوي والرومانسيات، والأغاني الشعبية التي كان يسمعها من أفواه الفلاحين أو في السهرات العائلية، حتى إنه صار وهو في العاشرة من عمره طفلا ذا خيال ثري، تضطرم فيه الصور والأساطير والروايات، ويبين اضطرابها عينيه الداكنتين فتنبئان عن روح وثابة تواقة للتعبير عن نفسها في أشكال مختلفة من الفن والحياة.
وفي المنزل، كان لوركا ينفث عاطفته الفنية المبكرة على شكل أعمال تمثيلية يعرضها أمام جمهوره الأول، وهو يتكون من أخيه وأختيه ووالدته، ومن يعمل في المنزل من خدم، وقد تأثر تأثرا عظيما بعروض مسرح العرائس الريفي المتنقل الذي كان يمر بين آونة وأخرى بقريته، وكان يحاول أحيانا تقليد عرض التمثيليات التي يشاهدها فيه وينقلها عبر خياله إلى نظارته ، وقد ظهر هذا الميل فيما بعد في عدد من عروض مسرح العرائس توفر الشاعر على كتابتها وإخراجها، منها «عرائس كاتشي بورا»، ومسرحية عرائس «دون كريستوبال» وغيرهما، مما يمثل من حصيلة أعماله ذلك الجانب الطفولي من شخصيته الذي امتزج بموهبة الفنان فأنتج أعمالا خلاقة في ذلك الميدان.
حياة المدينة
بعد أن فشلت تجربة إرسال لوركا إلى «القرية» لاستكمال دراسته مع أستاذه ومعلمه الأثير، كان على الأسرة أن تتخذ قرارا بالانتقال إلى عاصمة الإقليم - مدينة غرناطة - وذلك حتى يتوفر للصبي ولأخيه وأختيه التعليم المناسب في المدارس المناسبة، وقد انطوى ذلك الانتقال على تغييرات عديدة في نمط حياة الأسرة وطريقة حياة أفرادها، وكانت الرحلة مثيرة للوركا الصبي، ولكنه سرعان ما بدأ يفتقد مسارح طفولته وأصدقاءه وأماكن تجواله ولهوه في القرية، ووجد لوركا المدينة جد مختلفة عن القرى التي شهدت طفولته، فالأفق لم يعد منبسطا أمام ناظريه، وافتقد هدوء الريف وتوهج الشمس فيه، ولم يعد المنزل الذي يقيم فيه يتسم بالرحابة والألفة التي كان الصبي يجدهما في الكرمة التي كانوا يقيمون فيها بالقرى، حيث صحن الدار بنافورته التقليدية، والبستان الذي يحيط بالدار ويمتلئ بالزهور من ورد وياسمين ورياحين، ويزخر بالفراشات والجداجد والهوام والقواقع، وهي المادة التي أثرت بعد ذلك في معظم قصائد لوركا وتمثيلياته.
واصطبغ شعوره في المدينة بحنينه إلى طفولته القروية، فأنتج مثل هذه القصيدة التي كانت من أوائل ما كتب من شعر:
يخرج الأطفال فرحين
من المدرسة
مرسلين في هواء أبريل الدافئ
أغاني حنونة.
أي بهجة
يخلعها الصمت العميق
على الزقاق الصغير!
صمت يتحطم شظايا
بضحكات الفضة الجديدة. •••
ها أنا أمضي في درب الأصيل
وسط زهور البستان
تاركا ورائي
مياه أحزاني،
وفي التل المنعزل
ترقد مقبرة الضيعة،
كأنها حقل تغرسه الجماجم،
بينما ازدهرت أشجار السرو
كأنها رءوس ضخام،
تتأمل الأفق
بمحاجر فارغة
وشعور مخضوضرة
يكللون الفكر والحزن. •••
آه يا أبريل الإلهي
يا من تأتي حاملا الشمس والشذى
فتملأ الجماجم المزهرة
بأعشاش ذهبية !
وكان مما خفف على الأسرة هذا الحنين الجارف إلى الريف ، أن الأب قد احتفظ بضياعه القروية، حيث كانت الأسرة تذهب لتمضية العطلات، كذلك ابتاع الأب بعد ذلك كرمة فخمة في ضواحي غرناطة سميت «بستان سان فسنت»، حيث كانوا يمضون الصيف دائما، وكان لوركا يحرص على اللحاق بأسرته هناك لزيارتهم وتمضية بعض الوقت معهم، وقد ارتبطت تلك الكرمة بآخر أيام الشاعر حين ذهب في زيارة الأسرة هناك، حين وقع الانقلاب العسكري في صيف عام 1936م وأدى في النهاية إلى مصرعه.
وفي غرناطة، ألحق لوركا بمدرسة إعدادية اسمها «القلب المقدس»، كيما تعده للحصول على الشهادة الحيوية بالنسبة لكل طالب - وهي الثانوية العامة التي تسمى بالإسبانية «الباتشييراتو» - التي تؤهله للالتحاق بالجامعة، وكان جو الدراسة في هذه المدرسة - رغم أنها لم تكن مدرسة دينية بالمعنى المفهوم - جوا خانقا، وكان المدرسون من النوع المتزمت العتيق، وقد خلد لوركا أحد مدرسيه في تلك المدرسة، في مسرحيته «الآنسة روزيتا العانس»، حيث نرى الأستاذ «مارتين» يبث شجونه عن حياته كمدرس والصعوبات اليومية التي يلاقيها من تلاميذه، فيقول: «لقد عدت توا من إلقاء درس عن المنظور، لقد كان جهنما حقيقية، لقد كان درسا عظيما: «مفهوم وتعريف الاتساق»، ولكن لم يكن يهم الأولاد في شيء ... ويا لهم من أولاد! إنهم يحترمونني شيئا ما لأنهم يرون أنه لا نفع في، فمرة أجد دبوسا على المقعد أو عروسا صغيرة على ظهري، ولكنهم يقترفون أشياء أفظع مع رفقائي المدرسين، إنهم أبناء الأثرياء، ولا يمكن عقابهم لأنهم يدفعون، وهذا ما يقوله لنا المدير دائما، وأمس زعموا أن الأستاذ «كانيتو» المسكين، وهو معلم الجغرافيا الجديد، يرتدي مشدا للخصر؛ ذلك لأن جسده منحن قليلا، وحين كان يقف وحده في الفناء، تمالأ عليه الكبار وتلاميذ الداخلية، ونزعوا الثياب عن وسطه الأعلى، وربطوه في أحد أعمدة البهو، وألقوا عليه دلوا من الماء من الشرفة ... ... إنني أدخل المدرسة كل يوم وأنا أرتجف منتظرا ما سوف يفعلونه معي، رغم أنهم يحترمون - بعض الشيء - ما أنا فيه من البلاء ... إن الآباء يضحكون بعد ذلك من الفظائع التي يقترفها أولادهم؛ لأننا من المدرسين غير المثبتين، ولا نقوم بامتحان أولادهم، إنهم يعتبروننا رجالا خالين من العواطف، كأننا أشخاص نقف في آخر درجة من السلم، ولا نزال نرتدي ربطة العنق والياقة المنشاة».
1
وبعد مدرسة «القلب المقدس»، يلتحق شاعرنا بمعهد الدراسة الثانوية في غرناطة، ويمضي فيه فترة دراسته الثانوية حتى يتخرج منه بصعوبة، حاصلا على الثانوية العامة في 20 من مايو 1915م، ونقول إنه حصل عليها بصعوبة؛ لأن الدراسة لم تكن تستهويه بقدر ما يستهويه تكريس حياته للفن والموسيقى والأدب ومعايشة أهلها، وهي السمة التي ستظل لاصقة به أيضا خلال تعليمه الجامعي.
ونعود إلى تلك الحقبة من حياته أولى اهتماماته الفنية في حقلي الشعر والموسيقى؛ إذ يرجع إليها وضعه لأولى قصائده، وعنوانها «فجر»، التي نشرها بعد ذلك في أول دواوينه الشعرية:
فؤادي المطحون
يشعر عند إطلالة الفجر
بأحزان حبه،
وأحلام الأرض القصية،
ونور الفجر
يحمل مئات الحنين،
والحزن الأعمى
للباب الروح،
ويرفع قبر الليل العريض
نقابه الأسود؛
ليخفي بالنهار
الذرى الشاسعة
المرصعة بالنجوم. •••
ماذا سأفعل أنا في هذه الحقول؟
ألتقط الأعشاش والأغصان
ملتحفا بالفجر،
بينما يملأ الليل روحي!
ماذا سأفعل أنا؟
وعيناك قد صرعتهما الأنوار الباهرة
وبدني يجب ألا يشعر
بحرارة نظرتك. •••
لماذا فقدتك وإلى الأبد
في ذلك الأصيل الصافي؟
فاليوم قد جف صدري
كأنما هو نجمة منطفئة.
كما يبدأ لوركا أيضا في هذه الفترة دراسة الموسيقى دراسة منهجية، على يد أستاذ عظيم ترك فيه أكبر تأثير، وهو الموسيقار «أنطونيو سيجورا»، أحد تلاميذ الإيطالي العظيم «فردي»، وقد وصل شغفه بالموسيقى وحبه لدراستها، إلى حد أنه قد خطط جديا - بعد وفاة أستاذه ذاك - للسفر إلى باريس؛ لاستكمال دراسته للموسيقى هناك، ولم يثنه عن ذلك إلا إصرار والده على أن يكمل دراسته في الحقوق أولا.
وبعد حصول الشاعر على الثانوية العامة، التحق بكلية الحقوق جامعة غرناطة، وقد جاء اختيار تلك الكلية بعد طول نقاش بين لوركا ووالده، تحول بعد ذلك إلى مشكلة عويصة، فقد كان الابن راغبا في دراسة الأدب، بينما الأب يتطلع إلى رؤية ابنه يشغل وظيفة محترمة، تكفل له وضعا مريحا في المجتمع، كوظائف المحامين والقضاة، ووجد لوركا الحل السعيد لتلك القضية، فقد أذعن لرغبة والده في دراسة الحقوق، إلا أنه عمد إلى إرضاء نزعاته الأدبية، فالتحق أيضا وفي نفس الوقت بكلية الآداب في نفس الجامعة!
ولكن هيهات لتلك الروح الثائرة الوثابة أن ترضى بالقوالب الجامدة التي تفرضها الدراسة النظامية - سواء كانت لحقوق أو للآداب، ذلك أن ميوله الفطرية كانت في جانب، والدراسات المنهجية في الجانب الآخر؛ لذلك نراه لا يلقي بالا لمتابعة المحاضرات ولا للاستعداد للامتحانات، بل هو موجود دائما حيث يوجد الفن والأدب، مشاركا في الجماعات الأدبية، وحاضرا في نوادي الفن والثقافة، حيث يطلق العنان لروحه لتتلاقى مع أرواح رفاقه من الفنانين والأدباء، وتسمعهم خطراتها على شكل أغاني شعبية ومعزوفات موسيقية خلاقة، وجدير بالذكر أنه لم يتخرج، في نهاية الأمر، إلا في كلية الحقوق في عام 1923م، معضدا بوساطات أصدقائه وزملائه لدى الأساتذة، للتغاضي عن نسبة الحضور اللازمة لدخول الامتحانات، أما كلية الآداب، فإن مترجمي حياته - وعلى رأسهم صديقه الحميم «خوسيه لويس كانو» - يؤكدون أنه لم يتخرج فيها أبدا، وغني عن القول أيضا أنه لم يعمل بليسانس الحقوق الذي حصل عليه في أي وقت من أوقات حياته!
ترك لوركا إذن محاضراته، وانطلق يهيم في عالم الفن والأدب على حريته، وكانت الأماكن التي تستأثر بوقته عديدة: «الساكرامنتو» حي الغجر في غرناطة، حيث كان يحب أن يندمج مع هذه الفئة التي تعيش حياتها على طبيعتها، يسمع منهم كما اعتاد أن يسمع من قبل في الريف غناءهم وحكاياتهم وقصصهم، وكان بعضهم يسكن أيضا في حي الفقراء، من العمال والفلاحين، وهو حي «البيازين» الذي احتفظ بنفس اسمه العربي منذ أيام بني الأحمر، والذي لا يزال الزائر إلى اليوم يجد لافتات صغيرة بالعربية تقول: «الحي العربي يرحب بكم».
وكان الشاعر يتردد كثيرا على مركزين رئيسيين من مراكز الفن والثقافة في غرناطة، أحدهما رسمي تقليدي، والآخر تجديدي طليعي، فأما المركز الرسمي فهو «المركز الفني
Centro Artitstico »، وكان لوركا يجد فيه الكتب التي يريد الاطلاع عليها ، ويسمع فيه المحاضرات، ويحضر الحفلات الموسيقية، وفي هذا المركز أعطى لوركا أول عروضه الموسيقية، حيث عزف مقطوعات كلاسيكية نالت استحسان الحاضرين. ولكنه كان ينطلق على سجيته مع المجددين الطليعيين، الذين تركزوا في ندوة فنية كانوا يجتمعون فيها في ركن من أركان مقهى شهير يدعى «ألاميدا»، وتسمت الندوة من جراء ذلك باسم «الركن الصغير
Rinconcillo »، وفي هذه الندوة - التي تمثل النزعة الثائرة على التقليد في الفن - كان يلتقي صفوة ممن جادت به غرناطة من شباب الشعراء والقصاصين والرسامين والموسيقيين، وكان أفراد الندوة يتناقشون في كل وجه من أوجه الثقافة والفن، من المسرح الإسباني في عصره الذهبي، إلى موسيقى «ديبوسي» و«رافيل» الفرنسيين، وكانوا يستمعون إلى إنتاج بعضهم البعض ويتناولونه بالنقد والتحليل، وكان لوركا يلقي على أفراد الندوة حكاياته ونوادره وشعره، ويعزف لهم المقطوعات الشعبية ويغني الأغاني الفولكلورية ... وفي هذه الندوة ألقى لوركا أوائل قصائده التي بدأ في تدبيجها عام 1918م وما بعده، وقوبلت بحماسة شديدة من أفرادها، مما جعل «مورا جارنيدو» أحد أعضاء الندوة - يؤكد بعد ذلك بأن تلك الحماسة هي التي أغرت لوركا بالتركيز على كتابة الشعر منذ تلك الفترة.
وكان كبار الأدباء والفنانين - الإسبان والأجانب - يزورون تلك الندوة الثقافية في ركنها الصغير للمشاركة والتعرف وإبداء الرأي، أو لحضور مناقشاتها بوصفها واحة من المعالم الثقافية لمدينة غرناطة، وهكذا زار الندوة الكاتبان البريطانيان الشهيران ه. ج. ويلز و«رديارد كبلنج» عند مرورهما بغرناطة في رحلتهما الإسبانية، كذلك كان الموسيقار الإسباني المعروف مانويل دي فايا - الذي يعرب البعض لقبه إلى «ضيف الله» - يحضر جلسات الندوة في كثير من الأحيان بعد انتقاله إلى غرناطة، واتخاذه كرمة له هناك بالقرب من قصر الحمراء، وقد تعارف إلى لوركا، ونشأت بين الفنانين الأندلسيين صداقة وثيقة العرى، سنعود إلى الحديث عنها بين حين وآخر في هذا الكتاب.
وتركزت قراءات لوركا في تلك الفترة - بعامل تأثير أصدقائه أعضاء الندوة وزملائه في جامعة غرناطة - في عيون الأدب الإسباني ... وهكذا التهم أعمال «لوي دي فيجا» و«كالديرون دي لاب باركا» و«جونجرا » و«خوان ثوريلا»، فضلا عن دواوين «روبين داريو» شاعر نيكاراجوا الذي رفع راية الحداثة في الشعر الإسباني، وقرأ كذلك أعمال الرومانسيين، خاصة «جوستافو أدلفو بيكر» شاعر إشبيلية، وتعرف على حركتي الرمزيين والبرناسيين اللتين كانتا في عنفوانها آنذاك في فرنسا، وكم كان للوركا من تجوالات طوال في دروب غرناطة التي عشقها، وعلى مشارف قصر الحمراء ورياض جنة العريف، وحده أو مع زملاء له، يقرءون كتب الشعر والأدب هذه ويعلقون عليها بآرائهم ونقدهم.
وتعرف لوركا إبان الطلب الجامعي في غرناطة على أستاذين لعبا دورا هاما في تكوينه الثقافي والعلمي، أولهما وأبعدهما تأثيرا هو «فرناندو دي لوس ريوس» أستاذ القانون السياسي بكلية الحقوق - الذي تبناه فكريا وتابع مد يد العون له في جميع مراحل حياته، خاصة عندما عين الأستاذ بعد إعلان الجمهورية في إسبانيا عام 1131م وزيرا للتعليم، والأستاذ الثاني هو «مارتين برويتا» الذي كان له الأثر المباشر في وضع لوركا لأول كتبه المنشورة، وكان الأستاذ «برويتا» يعمل أستاذا لنظرية الأدب بكلية الآداب، وعمل بدروسه ومحاضراته على إثارة القلق الفني والأدبي في صدور تلاميذه ومنهم لوركا، ذلك القلق اللازم للإبداع الفني، وقد نظم الأستاذ «برويتا» رحلات هامة لطلبته لزيارة المعالم الفنية والأثرية والتاريخية في إسبانيا، اشترك لوركا في رحلتين منها، كانت نتيجتها أول كتبه، كانت الرحلة الأولى في يونيو 1916م لزيارة إقليم الأندلس كله بمدنه العظيمة، والتقى لوركا أثناء مرورهم ببلدة «بياسة»
Baeza ، بالشاعر العظيم «أنطونيو متشادو» أحد عمد جيل 98 التي سبق ذكرها، وكان يعمل أيامها بالتدريس هناك، والرحلة الثانية كانت في أكتوبر من نفس العام، وزار فيها مقاطعة قشتالة وشمال شرق إسبانيا، وكان من بين من قابله لوركا إبانها فيلسوف إسبانيا المشهور «أونامونو»، وهو أيضا علم من أعلام جيل 98.
وقد عمد لوركا في أثناء الرحلتين إلى تدوين خواطره وتأملاته عن الأماكن التي يزورها، وعاد إلى تلك الأوراق بعد ذلك يعمل فيها تنقيحا وترتيبا وإضافة، حتى تجمع له في النهاية عدة مقالات وصفية، وقد خطر له خاطر ألح عليه حتى أصبح احتمالا محققا، وذلك هو نشر هذه المقالات في كتاب يحمل اسمه، ولم يكن أمامه - وهو غير المعروف بعد في عالم الكتابة - إلا أن ينشر الكتاب على نفقته، وحين فاتح والده في ذلك، تردد الأب، ثم بحث الموضوع مع الثقاة من معارفه من أساتذة الجامعة والصحفيين، فأجمعوا كلهم على أن الكتاب يستحق النشر، وهكذا دفع «دون رودريجث» ثلاثة آلاف بيزيتا تكاليف الطبع، وقال في هذه المناسبة: «إن ذلك أفضل مما لو كان قد طلب مني سيارة!»
وصدر كتاب لوركا تحت عنوان «انطباعات وصور
Impresiones y Paisajes »، فأحدث ضجة لا لدى الجمهور، ولكن لدى أعضاء ندوة «الركن الصغير»، الذين رأوا في كتاب يصدره أحد زملائهم مدعاة فخر للجماعة كلها، وقد أهدى المؤلف كتابه لأستاذه الموسيقي الراحل «أنطونيو سيجورا»، فكان رمزا مزدوجا يعبر عن إخلاصه وحبه لأستاذه، وكذلك حبه وشغفه بالموسيقى.
ومقالات الكتاب كتبت بروح بلاغية رومانسية، يبدو فيها واضحا تأثير إمام الرومانسيين الإسبان «بيكر» في قطعه النثرية، وقد سطرت بروح شاعرية وحس غنائي دفاق، يعبر عن حب الشاعر لمواطن الجمال في وطنه، ولكن الكتاب لم يلق رواجا، إلا أنه كان دافعا مشجعا للشاعر المبتدئ أن يرى إنتاجه الأول مطبوعا ومنشورا، ورغم أن لوركا كان يشير إليه بعد ذلك في رنة اعتذار عن روح البلاغة الطلابية التي تشيع فيه، إلا أن أجزاء منه كانت ترد دائما في طبعة الأعمال الكاملة للشاعر.
وبعد فترة وجيزة من صدور هذا الكتاب، ثبتت أقدام الشاعر في عالم النشر، ذلك أن مجلة «الرواية القصيرة» التي تصدر في مدريد، أخرجت عددا خاصا عن الشعر الإسباني الحديث، كان من بينها قصيدة للوركا بعنوان «موال الساحة الصغيرة»، ورغم أنها لم تكن أول قصيدة يكتبها لوركا، فهي أول قصيدة تنشر له، وكان نشرها بعد نشر كتابه الأول عاملا هاما أقنعه بأن حياته ليس لها إلا طريق واحد، طريق الفن والأدب، وتندرج تلك القصيدة المبكرة في فئة حنينه إلى مسارح طفولته وذكريات حياته في الريف :
الأطفال (يغنون) :
في الليل الهادئ
يا للغدير الصافي
والنبع الرقراق!
الأطفال :
ماذا يخبئ فؤادك الإلهي البهيج ؟
أنا :
دقات أجراس
تائهة بين طيات الضباب
الأطفال :
ها أنت تدعنا نغني في الساحة الصغيرة
يا للغدير الصافي
والنبع الرقراق
ماذا تمسك في يديك الربيعيتين؟
أنا :
زهرة بلون الدماء
وسوسنة
الأطفال :
أغمرهما في مياه الأغنية العطرة
يا للغدير الصافي
والنبع الرقراق
ماذا يخبئ فمك من مشاعر
حمراء عطشا؟
أنا :
مذاق عظام رأسي الكبير
الأطفال :
فلننهل من الماء الهادئ للأغنية العطرة
يا للغدير الصافي
والنبع الرقراق!
لماذا تذهب هكذا
بعيدا عن الساحة الصغيرة؟
أنا :
إني ذاهب بحثا عن السحرة
وعن الأميرات
الأطفال :
ومن دلك على درب الشعراء؟
أنا :
نبع الأغنية العطرة
وغديرها الرقراق
الأطفال :
أذاهب أنت بعيدا بعيدا
فيما وراء البحار والأرض؟
أنا :
لقد امتلأ فؤادي الحريري
بالأضواء،
بالأجراس التائهة،
بالزنابق والنحلات
ولسوف أبغي بعيدا جدا
فيما وراء الهضاب والجبال،
فيما وراء البحار والأنهار
بالقرب من النجوم
كيما أطلب من يسوع المسيح
أن يرد لي
روح طفولتي الأولى
وقد أنضجتها الأساطير
بما فيها قبعات الريش
والسيف الخشبي
الأطفال :
ها أنت تدعنا نغني في الساحة الصغيرة
يا للغدير الصافي
والنبع الرقراق!
وها هي العيون اليواقظ
للأكمات الذابلات
تبكي أوراقها الميتة
وقد أثخنتها الرياح بالجراح
إلى العاصمة مدريد
ومع اقتحام شاعرنا لمجال النشر وبداية ذيوع اسمه في المحافل الأدبية والفنية، بدأ يشعر بأن جو «غرناطة» يضيق عن آماله وطموحاته، إنه الآن بحاجة إلى أجواء جديدة وآفاق أوسع يمارس تحت ظلالها تحقيق أحلامه العريضة، ومن ناحية أخرى، كان كثير من رفاقه في مقهى «الأميدا» قد نزحوا إلى مدريد للدراسة في جامعاتها، وعندما وجد أنه لا مناص له من الانتقال بدوره إلى العاصمة، وكان ممن رحب بفكرته تلك أستاذه «فرناندو دي لوس ريوس»، الذي أشار على أسرة لوركا بضرورة إتاحة الفرصة أمامه لتنمية مواهبه في بيئة أكثر اتساعا واستعدادا، واستطاع الأستاذ أن يحصل على موافقة الأبوين على تحويل لوركا للدراسة في كلية الآداب بجامعة مدريد المركزية، مع استمرار قيده في كلية الحقوق بجامعة غرناطة، وكان الرحيل صعبا على الأبوين، ولا سيما الأم التي تألمت أشد الألم من فراق ابنها الأكبر، وكان وعد من لوركا بحضوره دائما في الإجازات وفي الصيف لقضاء أكبر وقت ممكن مع الأسرة.
وهكذا يشد الشاعر الرحال إلى مدريد في ربيع عام 1919م، حاملا معه بطاقات مرور تعينه على غزو تلك العاصمة التليدة: حفنة من الملابس الجديدة بما فيها بذلة سهرة سوداء، وخطابات تقديم إلى معارف الأسرة، «وبلدياتها» الغرناطيين في العاصمة، وفوق كل شيء: عدة نسخ من كتابه الأول انطباعات وصور.
وكان مما ضاعف من الفائدة التي استقاها بانتقاله إلى العاصمة نزوله بالإقامة في المدينة الجامعية في مدريد،
Resedencia de Estudiantes ، ولم تكن هذه المدينة الطلابية تقتصر على كونها نزلا لسكنى الطلبة الجامعيين فحسب، بل إنها كانت تمثل مركزا من مراكز الحركة الفنية الطليعية في إسبانيا، ونقطة وصل بين حركات الحداثة الفنية في أوروبا وبينها في إسبانيا، بما كانت تضمه أيامها من نخبة الشباب الجامعي المفكر المستنير، وكثيرا ما كان يطلق عليها اسم أكسفورد الإسبانية، وكانت المدينة تقع في أعالي مدريد بالقرب من متحف العلوم الطبيعية، وكان الشاعر «خيمينيث» يسميها «رابية أشجار الحور»، واستقبل مدير المدينة الجامعية لوركا بحفاوة وترحاب شديدين، وسهل له جميع إجراءات الالتحاق، لما كان قد سمعه عنه قبل مقدمه من رفاقه وزملائه الغرناطيين الذين سبقوه في الالتحاق بالمدينة، ومنح لوركا غرفة تقاسمها مع أول زميل له ويدعى «بيبين بللو»، وهي غرفة تطل نوافذها على فناء يسمى «فناء أزهار الدفلى»، كان قد خططه أيضا الشاعر «خيمينيث».
وهكذا انضم شاعرنا إلى تلك البوتقة التي انصهرت فيها الاتجاهات الحديثة في كل أدب وفن، وكان من الطلاب المقيمين في المدينة الجامعية كثيرون أصبحوا بعد ذلك أعلاما مشهورين: الرسام الشاعر «خوسيه مورنيو»، السينمائي «لويس بونيوبل»، الرسام السيريالي «سلفادور دالي»، الشاعر الأندلسي «رافييل ألبرتي»، الشاعران «مانويل ألتولاجيري» و«اميليو برادوس»، كذلك كان يتردد على المدينة ومنتدياتها فنانون وأدباء خارجيون ليسوا من الطلبة، منهم «بدور ساليناس» - «خورخيه جيين» - «أنطونيو متشاود» - «يوجين دورس »، وعلماء فلاسفة كبار، مثل «أونامونو» و«أورتيجا آي جاسيت»، و«رامون منندث بيال» أحد المستشرقين الإسبان العظام ، وكانت المدينة الجامعية محفلا ضروريا لأي أستاذ أجنبي يمر بمدريد، وهكذا استمع لوركا فيها إلى محاضرات من «البرت أينشتاين» و«هنري برجسون» و«برتراند راسل» وآخرين.
وسرعان ما اندمج لوركا في هذا الجو الفني الفريد، بما وهبه من طلاوة الحديث وإجادة إلقاء الشعر وإنشاد الأغاني الشعبية، وفوق كل شيء بمعزوفاته على بيانو المدينة الجامعية الذي كان لا يكاد يقوم عنه، وكانت أسعد لحظاته هي التي يجلس فيها إلى ذلك البيانو العتيق؛ ليعزف الألحان الكلاسيكية التي يطلبها منه الحاضرون ببراعة عظيمة، ثم ينتقل منها إلى عزف وغناء المقطوعات الشعبية التي تعلمها وحفظها منذ صباه في القرى ووسط الحقول، وكان من بين من هام بهم من الكلاسيكيين: شوبان وموزار وبيتهوفن ورافيل وديبوسي، والبنينز ودي فايا الإسبانيان.
وكانت مدريد كلها ميدانا رحيبا مفتوحا أمام الشاعر يجول فيه بحثا عن غذاء لروحه ومشاعره الفنية، فكان كثير التردد على المتاحف التي تزخر بها العاصمة، ولا سيما متحف «البرادو» - مثيل متحف اللوفر الفرنسي وصنوه - حيث أغرم بلوحات «فلاسكيز» و«جويا» و«الجريكو»، وقد حفزه إعجابه بلوحات ذلك الأخير إلى زيارة متحفه وبيته في مدينة طليطلة، على مسيرة ساعة ونصف من مدريد.
ورغم أن لوركا كان نادرا ما يحضر درسا نظاميا في الجامعة التي التحق بها، إلا إنه كان كثير التردد على مكتبة الجامعة لالتهام كتب الأدب التي تزخر بها، كذلك كان يتردد على «أتنيو مدريد» وهو المركز الثقافي والفني المعترف به في العاصمة، وكان يمثل الثقافة التقليدية للبلاد، ويوجد مثيل له في كل مدينة إسبانية.
غير أن تكوين لوركا الفني والثقافي لا يرجع إلى الكتب فحسب، بل وأيضا إلى كوكبة الثريا من الأساتذة والزملاء والأصدقاء من شعراء ورسامين وموسيقيين، ممن حفلت بهم الحياة الثقافية والفنية في ذلك الوقت، وكانت ثمة مجموعة من الأصدقاء توثقت عرى المحبة والود بينهم وبين لوركا أكثر من غيرهم - سينضمون إلى بعضهم فيما بعد ليكونوا فيما بينهم جيلا جديدا من الأدباء والفنانين هو جيل 27، ومن هؤلاء «خيراردو دييجو»، «داماسو ألونصو»، «لويس ثيرنورا »، «بدرو ساليناس»، «فيسنتي الكساندري»، «إدواردو ماركينا»، «خورخيه جيين»، «سلفادور دالي»، وذلك جانب رهط الغرناطيين الذين انتقلوا إلى مدريد وهم «رافاييل ألبرتي»، «مانويل أنخليس أورتيث»، «إميليو برادوس»، «مانولو التولاجيري»، «ملشور فرناندز ألماجرو». وقد أصبحت هذه الأسماء، كما هو الحال مع لوركا، شهيرة فيما بعد، ومنهم من حصل في السنوات الأخيرة على جائزة نوبل للأدب، وهو فسنتي الكساندري.
وقد أضرم هذا الجو الفني والأدبي النار في فؤاد لوركا، الذي كان مشتعلا أصلا بحب كل ما هو فن وشعر، وأسهم هو في هذا الجو بما كان لديه من خيال شعري وموسيقى وطريقة للحياة المكرسة للفن الخالص، ويضيف مؤرخ حياته «لويس كانو»: «غير أن أكثر ما كان يجتذبه هو الحياة نفسها، بما فيها من عروض حية ثرية، وحرية تجربة مشاعر وانطباعات متنوعة عميقة، ولو أنهم خيروه بين الأدب والحياة لاختار الحياة، مع كل ما يكنه من حب للأدب والفن، لقد كان همه الأول أن يحيا ويرى من يحيون حوله».
وهكذا كانت حياة لوركا في مدريد وفي المدينة الجامعية بها، مهرجانا متصلا من اللقاءات والموسيقى والشعر، وتبادل الانطباعات وأحاديث الصداقة والفن، وكانت لقاءات الأصدقاء تتم في أماكن كثيرة من مدريد، وكان لوركا يحب التجوال في الحي القديم من المدينة، بحاناته القروسطية الساحرة، وارتياد متنزه العاصمة الأنيق المسمى «الرتيرو»، أو حضور عروض الرقص الشعبي «الفلامنكو»، والاستماع إلى أغانيه الشعبية التي تحاكي إيقاع الإنشاد العربي القديم تمام المحاكاة، وإلى جانب هذا، كان لوركا يتردد على عدة حلقات فنية وأدبية تحاكي ندوة «الركن الصغير» الغرناطية، ولكن في صورة أوسع، وكان من أشهر تلك الحلقات حلقة مقهى «الأديو»، وحلقة مقهى «البرادو»، التي يغلب عليها اتجاه «الماورائية»، الذي تأثر به لوركا في بعض قصائده ولوحاته عن طريق صداقته لنجم الحلقة الرسام «باراداس»، كذلك تردد الشاعر على حلقة كاتب جيل 98 المشهور «فايي انكلان»، التي كان يعقدها في عدة أماكن مختلفة، وكان يتردد عليها كثير من زملائه الكتاب والفلاسفة.
مسرحية فاشلة وديوان ناجح
وسرعان ما تعرف لوركا على كثير من شخصيات عالم الفن والأدب في مدريد، وكان من بين من تعرف عليهم «جريجوريو سييرا» مدير مسرح «أسلافا» أحد كبار المسارح في العاصمة، وهو واحد من الشخصيات الأشد تأثيرا ونفوذا في الحياة المسرحية آنذاك، وحدث أن استمع ذلك المسرحي الكبير إلى شاعرنا وهو يتلو نوعا من الحكاية الخرافية الشعرية، تدور حول فراشة جميلة يتحطم جناحاها، فتسقط في عش للجداجد؛ حيث ترعاها الأم الحشرة ويقع الابن في غرامها، ولكن ما أن تشفى الفراشة حتى تطير هاربة من ذلك العش الكريه، تاركة وراءها الصرصور الصغير ينعي حبه. وأعجب «دون جريجوريو» بالقطعة الشعرية إعجابا شديدا، واقترح على لوركا أن يقوم بتحويلها إلى مسرحية، عارضا تقديمها على خشبة المسرح الذي يتولى إدارته، ووافق لوركا، رغم أنه لم يكن قد كتب للمسرح من قبل، ولكنه اعتمد على وفرة قراءاته للمسرح الإسباني ودراسته المجيدة له، وكذلك لأن موضوع الخرافة الشعرية كان يشده ويعيد إليه ذكريات طفولته، حين كان يقضي النهار مطارحا الحشرات والهوام الحديث، وأتم الشاعر كتابة المسرحية، واختار لها «دون جريجوريو» عنوان «سحر الفراشة اللعين»، وهو الاسم الذي نشرت به بعد ذلك في الأعمال الكاملة للوركا، وقد انقسم أصدقاء لوركا بصدد هذه المسرحية إلى فريقين، فريق متحمس للشاعر، إلا إنه يرى أن مثل هذه المقطوعات لا تناسب المسرح الإسباني ولا تتفق مع ذوق رواده، بكل تقليديتهم وتحفظهم، وفريق آخر ذهب إلى حد أبعد في رد فعله تجاه المسرحية، فأشار عليه بأن يمزقها كلية، ولكن مخرج المسرحية - وهو المسرحي المدير دون جريجوريو - أصر على تقديمها، معتبرا إياها صيحة طليعية أخرى تضاف إلى التقاليع الدادائية،
1
التي كانت قد بدأت تنتشر في ذلك الوقت، وهكذا كان، وافتتحت المسرحية في ليلة 22 من مارس 1920م، وصدقت توقعات الأصدقاء، فإن جمهور مدريد - الذي ألف مشاهدة أشخاص واقعيين يجسدون أفكارا وعادات وتقاليد قريبة إلى ذهنه - لم يكن ليبتلع فكرة مسرحية يلعب ممثلوها أدوار الحشرات، ورغم الإطار الفني الذي توفر للمسرحية، من ديكورات «باراداس» و«ميجنوني»، وموسيقى «ديبوسي» و«جريج»، وتمثيل الممثلة المشهورة آنذاك «أرجنتينيتا»، إلا أن الجمهور قابلها بالتعليقات الساخرة، وشيعها بالصفير ودق الأرجل، فغطى على جماعة أصدقاء لوركا وزملائه الذين صفقوا تشجيعا له، ولم يستمر عرض المسرحية أكثر من تلك الليلة اليتيمة، غير أن هذا الفشل لم يكن ليفت في عضد شاعرنا المحب للحياة، والذي صحب رفاقه بعد العرض إلى أحد مطاعم مدريد للاحتفال بعرض المسرحية، وبفشلها الجماهيري في نفس الوقت.
على أنه إذا كان ذلك هو مصير أول أعمال لوركا المسرحية، فإن الأمر قد اختلف بالنسبة إلى أول دواوينه الشعرية، وقد تطلب الأمر منه وقتا طويلا حتى يقتنع بإلحاح أصدقائه، بضرورة جمع القصائد التي يلقيها عليهم وطبعها في ديوان يحمل اسمه، وهكذا يصدر ديوانه الأول تحت اسم «كتاب أشعار» في 15 من يونيو 1921م، ويضم بين دفتيه 68 قصيدة هي حصيلة ما كتبه في السنوات الثلاث الماضيات، وقد كتب الشاعر في مقدمته لهذا الديوان: «إنني أقدم في هذا الكتاب صورة صادقة لما كانت عليه فترة طفولتي وصباي، تلك الأيام التي تربط بين الماضي وبين ما أعيشه الآن من أوقات، وعلى الرغم من أوجه القصور فيه، فإن قصائده تذكرني بكل خطوة من خطى طفولتي الزاخرة بالمشاعر، وأراني فيها وأنا أجري وسط الحقول، بينما الجبال تنتصب شامخة على البعد».
وهكذا كانت قصائد الديوان حقا تمتلئ بذكريات الريف، من نباتات وحيوانات وطيور وهوام، مع المشاعر الإنسانية الصادقة التي تنبض تجاه هذه العناصر، التي أفعمت حياة الشاعر في طفولته ... ونثبت هنا نص حكاية شعرية خرافية - تماثل الحكاية التي كانت منشأ المسرحية الأولى الفاشلة - وهي مثال على هذا النوع الذي أغرم به لوركا، بعنوان «لقاءت قوقع مغامر» وظهرت في ديوانه الأول:
الصباح الهادئ
ينضح عذوبة صبيانية.
والأشجار
تبسط أذرعتها نحو الأرض.
وبخار راجف
يغطي الحقول المزروعة
وتنسج العناكب في الهواء
طرقا من الحرير،
خيوطا من البلور الصافي.
وفي ممر الأشجار
يتلو غدير أنشودته وسط الأعشاب.
والقوقع،
برجوازي الطريق المسالم
يتأمل المكان
في غفلة ورقة.
وبعث فيه هدوء الطبيعة الإلهي
عزما وجرأة
ونسي آلام مسكنه
فتاق أن يرى نهاية الطريق
أخذ يمشي ويمشي
ودخل في غابة من اللبلاب والقريض
كان بها ضفدعتان عجوزان،
أخذ منهما الضجر والأمراض،
تتشمسان. •••
كانت إحداهما تتمتم: «هذه الأغاني الجديدة
لا نفع فيها.»
وردت عليها الأخرى،
جريحة كانت وعمياء: «كلها يا صديقتي كلها
حين كنت في مقتبل حياتي
آمنت بأنه لو سمع الله أغانينا في النهاية
لأغدق علينا من رحمته.
وبعد أن عشت هذا الدهر
فإنني لا أؤمن بذلك بعد عن خبرة
ولهذا فإنني لم أعد أغني ...» •••
كانت الضفدعتان تشكوان
وهما تطلبان حسنة
من ضفدعة شابة
تمر في زهو وخيلاء
وسط أعواد العشب. •••
وارتعب القوقع أمام منظر الغابة
أراد أن يصرخ
ولم يستطع
واقتربت منه الضفدعتان •••
قالت الضفدعة العمشاء: «هل هو فراشة؟»
وردت الأخرى:
بل إن له قرنين؛
إنه القوقع.
أأنت من موطن آخر أيها القوقع؟» ••• - «لقد خرجت من مسكني
وأرغب أن أعود إليه سريعا.» - «إنه حشرة غاية في الجبن.»
قالت الضفدعة العمشاء متعجبة:
ألا تغني أبدا؟ - لا أغني - ولا تسبح؟! - كلا. لم أتعلم أبدا. - ولا تؤمن بالحياة الأبدية؟ - وما هي؟ - هي الحياة أبدا في المياه الساكنة
إلى جانب أرض مزهرة
تعطي لنا لذيذ الطعام. - قالت لي جدتي المسكينة
حين كنت صغيرا
إني سأرحل عند مماتي
عبر الصحائف اللينة
للأشجار العالية.
فقالت الضفدعتان غاضبتين: - ما كانت جدتك سوى كافرة،
إن الحقيقة هي ما نقوله لك.
صدقنا. •••
وهتف القوقع باكيا وهو يئن: - «لماذا راودتني نفسي إلى رؤية الطريق؟
أجل، إنني أؤمن دائما بالحياة الأبدية
التي تبشراني بها ...» •••
وابتعدت الضفدعتان
يستغرقهما الفكر
وانطلق القوقع مذعورا
يضرب في جنبات الغابة •••
وسكتت الضفدعتان الشحاذتان
كأبي الهول
ويتساءل إحداهما: - هل تؤمنين أنت بالحياة الأبدية؟
وترد الضفدعة الجريحة العمشاء في حزن: - كلا ... لست أنا. - ولماذا قلنا للقوقع إذن أن يؤمن؟
وتقول الضفدعة العمشاء: - لماذا ...؟ لا أدري لماذا!
إن الانفعال يغمرني
حين أشعر بالإصرار
الذي ينادي به أبنائي الله
من عند الترعة. •••
ويعود القوقع المسكين أدراجه.
وعبر الطريق ...
ينبجس صوت متماوج من ممر الأشجار
ويتلاقى القوقع مع جماعة من النمل الأحمر
تسير صاخبة جلبة
تجر وراءها
نملة قد تقصفت قرونها
ويصيح القوقع: صبرا أيتها النملات
لماذا تسئن هكذا لزميلتكن؟
احكين لي ما فعلت
وسأحكم بالعدل
احكين لي أيتها النملات. •••
وتقول النملة التي شارفت على الموت،
تغمرها الأحزان: «لقد رأيت النجوم!»
وتصيح النملات المهتاجات:
ما هي هذه النجوم؟
ويتساءل القوقع متفكرا:
النجوم؟
وتكرر النملة: «أجل
لقد رأيت النجوم
صعدت إلى أعلى شجر في ممر الأشجار
ورأيت آلاف العيون
تطل من آفاق الغياهب.»
ويسأل القوقع:
ولكن، ما هي هذه النجوم؟ - إنها أنوار
نحملها فوق رءوسنا.
وتعلق النملات الأخريات:
نحن لم نرها.
ويقول القوقع:
لا يصل بصري إلا إلى الأعشاب. •••
وتتعجب النملات الأخريات
وهن يحركن قرونهن:
سنقتلك.
ما أنت إلا كسولة منحرفة
إن العمل هو شرعتك. •••
وتقول النملة الجريحة:
لقد رأيت النجوم.
ويصدر القوقع حكمه:
اتركنها تمضي
واذهبن أنتن إلى شئونكن،
فحالا سوف يهدها التعب
فتموت. •••
وعبر الهواء العذب
تمر نحلة
وتشم النملة المحتضرة
عبير الأصيل المترامي،
وتقول: أهو من يأتي
كيما يحملني معه إلى النجوم؟ •••
وتهرب النملات الأخريات
حين يرونها ميتة •••
ويزفر القوقع
ويبتعد مذهولا
وقد غمرته الحيرة
بسبب الأبدية الخالدة،
ويهتف: الطريق بلا غاية!
ربما كان يفضي إلى النجوم
ولكن تثاقلي الشديد سيمنعني من الوصول. - يجب ألا أفكر فيها. •••
كان الضباب يغشى كل شيء
من شمس فاترة وغمام
وأصوات أجراس بعيدة
تدعو الخلق إلى الكنائس
والقوقع،
برجوازي الطريق المسالم
يتأمل المكان
في ذهول وقلق
ويتبين من استعراض قصائد هذا الديوان أن لوركا لم يكن قد دخل بعد إلى عالم الرمزية الذاتية، التي ستغير شعره بعد فترة ما، بما يتضمنه من صور واستعارات شعرية غريبة، بل جاء شعره فيه إسبانيا أصيلا، يضرب بسهم في عالم الواقع ودنيا الفولكلور الشعبي عميق الجذور. لقد كانت هذه القصائد نوعا من التعبير الأندلسي، يتغنى فيها الشاعر بالمظاهر المحسوسة في بيئة ريف الأندلس العاطر ومدنه، ونجد في هذا الديوان أيضا تأثيرات شاعر نيكاراجوا «روبين داريو»، «خوان رامون خيمينث»، والشاعر الفرنسي «بودلير». وكان أهم ما أخذه عن «داريو»، رائد الحداثة في الشعر الإسباني، الشعور المأساوي بالطبيعة والخوف المبهم من المستقبل، والحيرة بين الكآبة والمزاح، وكذلك مزج غنائيته بأفكار فلسفية بسيطة، وتبرز هذه العناصر في قصيدة رائعة من قصائد هذا الديوان:
اليوم أشعر في فؤادي باختلاجات غريبة
للنجوم
ولكن خطواتي تفقد مسارها
في روح الغيوم
الضوء يقطع أجنحتي
وعذابات أحزاني
تغمر ذكرياتي في نبع أفكاري. •••
كل الورود بيضاء
بيضاء كأحزاني.
وليس البياض في الورود ذاتها
بل إن الثلج قد غطاها.
وقبلا سطع عليها قوس قزح.
والروح أيضا تعرف ثلجها
وثلج الروح له ندف من القبلات
وأشكال تسقط في قاع الظلمة
أو في نور من يفكر فيها. •••
ويسقط الثلج من على الورود
ولكن ثلج الروح يبقى
وتصوغ قبضة الزمان منه كفنا أبديا. •••
هل يا ترى يذوب الثلج
حين يحملنا الموت إلى غياهبه؟
أم سيكون هناك ثلج آخر
وورود أخرى أكثر كمالا؟
هل سيحل علينا السلام
كما قال لنا الرب؟
أم لن يكون هناك حل أبدا
للمشكلة؟ •••
وماذا لو كان الحب خداعا؟
من يشجعنا على الحياة
لو جرفنا الشفق
في تيارات العلم الحقيقي؟
علم «الخير» الذي يكاد لا يكون له وجود
وعلم «الشر» الذي يكمن في كل طريق؟ •••
لو أن نور الأمل انطفأ
وبدأ عصر بابل
أي مشعل سينير الطريق على الأرض؟ •••
لو أن الزرقة مجرد حلم
ماذا سيكون من أمر البراءة؟
ماذا سيكون من أمر الفؤاد
لو أجدبت ينابيع الحب؟
لو أن الموت هو موت
ماذا سيكون من أمر الشعراء؟
ومن أمر الأشياء النائمة
التي لم يعد أحد يتذكرها؟
آه يا شمس الآمال!
يا أيتها الرمال الرقراقة!
أيها القمر الجديد!
يا أفئدة الأطفال!
يا أرواج الأحجار الصلبة!
اليوم أشعر في فؤادي باختلاجات غريبة
للنجوم
وكل الورود
بيضاء كأحزاني.
وقد لقي هذا الديوان صدى طيبا لدى القراء والنقاد، وفي سياق عرض قصائد الديوان والتعليق عليها، أعلن النقاد مولد شاعر إسباني جديد ذي موهبة دافقة، هو فديريكو غرسيه لوركا . وجاء الاعتراف بموهبة الشاعر من لدن أحد أبرز شعراء الإسبانية، هو خوان رامون خيمينيث، الذي أعجب بقصائد الديوان، ودعا لوركا إلى المساهمة بقصائده في مجلة أدبية مرموقة، كان يصدرها أيامها، هي مجلة
Indice
أي «الدليل».
ويوفر هذا النجاح والاعتراف الأدبي دفعة جديدة لشاعرنا، فيقبل على الإبداع الشعري بكل قواه، ورغم أن القصائد التي وضعها بعد نشره لديوانه الأول مباشرة لم يجمعها ديوان إلا في وقت متأخر - ديوان «أغان» الذي نشر في عام 1927م وديوان «أغان أولى» الذي لم ينشر إلا قبيل وفاة الشاعر في 1936م - إلا إنها ترجع فنيا إلى تلك الحقبة من حياته، ما بين عام 1921م وعام 1924م، وتعتبر قصائد هذين الديوانين امتدادا لديوانه الأول من حيث التغني بموضوعات شعبية وطفولية، إلا إن النغمة الشخصية الغنائية فيها أوضح، وتمتزج فيها دفعة الحياة بالإحساس بوقع الموت، ورغم أن معظم تلك القصائد يتسم بشكل بسيط خفيف، إلا إن موضوعاتها ليست بالبسيطة أو الخفيفة أبدا، ورغم أنها تستخدم أغاني الأطفال التقليدية الشعبية، وأن معظمها موجه فعلا للأطفال، إلا إن القارئ يحس على الفور أن هذا الاهتمام من جانب الشاعر هو اهتمام أكثر تعقيدا، وأن نظرته فيها ليست بالطفولية، انظر إلى تلك القصيدة مثلا، تلحظ أن مقصده لم يكن أبدا إخراج قصيدة أو أغنية بسيطة موجهة للأطفال:
إذا أنا قضيت
فاتركوا شرفتي مفتوحة
ها هو الطفل يأكل البرتقال
إني أراه من شرفتي المفتوحة.
ها هو الفلاح يحصد القمح
إني أحس به من شرفتي المفتوحة.
إذا أنا قضيت
فاتركوا شرفتي مفتوحة.
وهناك أيضا كثير من «ثيمات» الإحباط والضياع والموت، تلقي ظلالها على مسرح القصائد الطفولي:
عبر أشجار الغار
تطير حمامتان دكناوان
كانت أولاهما الشمس
والأخرى هي القمر.
قلت لهما: أيا جارتي
أين قبري؟
قالت الشمس: في ذيلي.
وقال القمر: في حلقي. •••
وأنا الذي كنت أسير
وقد تمنطقت بالأرض،
رأيت نسرين من مرمر
وفتاة عارية،
كان الواحد منها هو الآخر،
ولم تكن الفتاة أيا منهما.
قلت لهما: أيها النسران الصغيران
أين قبري؟
قالت الشمس: في ذيلي.
وقال القمر: في حلقي.
وعبر أشجار الكرز
رأيت حمامتين عاريتين
كانت إحداهما هي الأخرى،
ولم يكونا أيا منهما.
وثمة قصائد أخرى ألهمت نقادها - بموضوعاتها التي تمزج بين التشاؤم والبهجة - الرجوع في تفسيرها، وشرح صورها الفنية، لا إلى الفولكلور الأندلسي، بل إلى نظريات «فرويد» و«ويونج»، بل و«جيمس فريزر».
صداقتان حميمتان
مرت بحياة لوركا المبكرة علاقتان من علاقات الصداقة الحميمة، ضربتا بجذورهما في أعماق نفسه، وكان لها أثر عميق في تكوينه الفني، في مظهرين أساسيين: الموسيقى، والرسم، ورغم أن لوركا قد أسهم في هذين الميدانين إسهاما ملحوظا، إلا إن أهميتهما تكمن في الأثر الذي خلفته ثقافته الموسيقية والتصويرية - وإبداعاته فيها - على أدبه وشعره. وقد تبلورت صداقتاه هاتان - مع الموسيقار الإسباني الكبير «مانويل دي فايا» والرسام السيريالي «سلفادور دالي» - في هذه الفترة من حياته، بعد صدور ديوانه الشعري الأول.
وترجع صلة لوركا بدي فايا إلى عهد صبا الشاعر، حين كان يقضي أمسيات عديدة مع أصدقائه من الفنانين الشبان في كرمة دي فايا بغرناطة، التي أطلق عليها اسم «السلام عليك يا مريم»، وكان الموسيقار الإسباني قد أغرم بمدينة غرناطة، وقرر بعد عودته من باريس أن يقيم فيها إقامة دائمة مع أخته في تلك الكرمة التي تحولت بعد وفاته إلى متحف. وكثيرا ما كان لوركا يجلس إلى البيانو الخاص بالموسيقار ليسمع الحاضرين ألحانا وأغاني شعبية من أدائه. وكان فايا ولوركا يكنان الإعجاب بفن أحدهما الآخر؛ فالموسيقار معجب بموسيقية الشاعر، إلى حد أنه هتف مرة متعجبا: «كم أود أن أكتب شعرا بالمهارة التي يعزف بها فديريكو على البيانو» ... أما لوركا فكان يرى في «فايا» تجسيدا لغرامه الأبدي بالموسيقى، وذوقا فنيا مشتركا بينهما في الإيمان بالرؤية الأندلسية في الحياة. وكان لوركا يحرص بعد انتقاله للإقامة في مدريد على زيارة الموسيقار، كلما عادت إلى غرناطة لقضاء إجازة من إجازاته ... وفي إحدى تلك الزيارات، نبعت من أحاديث الصديقين ومناقشاتهما فكرة عقد مهرجان ومسابقة للغناء الفلامنكو القديم، الذي يطلق عليه اسم الغناء العميق
Cante Jundo ، وهو الغناء الشعبي الأندلسي بكل فروعه، ويتصف هذا النوع من الغناء الشعبي برنة الكآبة التي تشيع فيه، وهو غناء يركز على أحاسيس المغني الفردية الدفينة، ويعبر المغني من خلاله عن طقوس من المشاعر، تنبجس من داخل النفس بشكل طوعي فطري، ويؤديه المغنون دون هدف للربح في المقاهي والحانات وصالات الرقص الشعبية. وقد أرجع كثير من دارسي الفنون هذا النوع من الغناء إلى تأثير الأغاني والألحان العربية أيام الوجود العربي الإسلامي في إسبانيا، وامتزاجها بالأغاني المحلية في الأندلس، فأخرجت هذا النوع المتميز من الغناء، الذي يختلف عن أي أغان وألحان شاعت في بقاع أوروبا الأخرى غير إسبانيا.
وقد فكر الصديقان لوركا ودي فايا في إقامة هذا المهرجان بدافع حبهما المشترك لذلك الفن، وكحافز للعاملين في هذا المجال، وحرصا على استمراره وتغذيته، وكان عليهما أن يخلقا جوا تمهيديا للمهرجان، فقام «دي فايا» بنشر مقال عنوانه «الغناء العميق: أصوله وقيمه الموسيقية وأثره في الفن الموسيقي الأوروبي»، وألقى لوركا محاضرة في المركز الفني الغرناطي عنوانها: «الغناء الأندلسي البدائي»، نشر نصها بعد ذلك في إحدى صحف المدينة. وبهدف جمع الأموال اللازمة للإنفاق على تنظيم المهرجان، ورصد جوائز للفائزين في مسابقة أفضل المنشدين، أقيم حفل خيري في فندق قصر الحمراء بغرناطة، تلا فيه لوركا أشعارا جديدة عرفت بعد ذلك باسم قصيدة الغناء العميق، وافتتح المهرجان أخيرا في مساء 13 من يونيو 1922م، في ميدان «الحب» بقصر الحمراء العربي، وتكونت لجنة التحكيم في المسابقة من «دي فايا» و«أندريس سيجوفيا» و«ماويل شاكون»، أئمة الموسيقى الإسبانية وقتذاك، وخلال ليلتين متتاليتين، اهتزت غرناطة كلها طربا بأغاني المتسابقين.
وقد كسب إنتاج لوركا من هذا المهرجان تلك القصائد التي وضعها للتمهيد له، وهي قصائد تتسم بكل ما هو قاتم وحزين من الغناء الفلامنكو، وقد صدرت في صورة ديوان مستقل بعد ذلك، في عام 1932م، ومنها تلك الأغنية المليئة بالشجن:
بدأ نحيب القيثارة
وانحطمت أقداح الفجر
بدأ نحيب القيثارة
وعبثا إسكاتها،
مستحيل إسكاتها.
تنتحب في إيقاع رتيب
كما تبكي المياه،
وكما تبكي الرياح
فوق تلال الثلوج
مستحيل إسكاتها
تبكي أشياء قصية
رجال الجنوب الساخنة
التي تشتاق إلى الزنابق البيضاء
تبكي سهاما بلا أهداف
أصيلا دونما غد
وأول الطيور ميتا فوق الأغصان
آه أيتها القيثارة!
وقلبي
الذي أثخنته بالجراح
خمسة سيوف.
وقد استمرت صداقة لوركا ودي فايا حتى النهاية، وإن كان قد اعتورها بعض الفتور، نتيجة لشعور فايا بالإساءة من بعض سطور قصيدة كتبها لوركا عام 1928م، بعنوان «أنشودة إلى قدس الأقداس»، وأهداها إلى الموسيقار العظيم، وقد غضب دي فايا التقي الورع من تلاعب الشاعر المعتاد بالألفاظ ومن صوره الشعرية الجريئة، وهو يتناول ذلك الموضوع الديني ذا الحرمة التقليدية. وحدث جفاء قصير بين الصديقين، ولكنهما سرعان ما تمكنا من تنقية الجو ونسيان ما حدث. وقد حاول دي فايا بكل الطرق التوسط لإنقاذ صديقه لوركا من مصيره المحتوم من اندلاع الحرب الأهلية عام 1936م، ولكن جهوده كلها راحت أدراج الرياح، كما سوف تعلم في حينه.
وكانت ثانية صداقات لوركا الخلاقة مع الرسام السيريالي «سلفادور دالي»، وقد بدأت تلك الصداقة فور التحاق دالي بالمدينة الجامعية بمدريد عام 1923م، وإلى ما بعد شده الرحال إلى باريس في عام 1929م، بعد طرده من مدرسة الفنون الجميلة بمدريد، وقد أثر سلفادور دالي بآرائه الطليعية في الفن في كثير من زملائه الطلاب. وقد تبلورت تلك الآراء فيما بعد في انضمامه إلى الحركة السيريالية بقيادة «أندريه بريتون» في باريس، وكان من أبرز من تأثروا بدالي وآرائه - عدا لوركا - صديقهما وزميلهما المشترك في المدينة الجامعية «لويس بونيويل»، الذي اشترك مع دالي في عمل أول فيلمين سيرياليين، أثار أولهما - وهو فيلم «كلب أندلسي» - ضجة صاخبة عند عرضه لأول مرة في باريس عام 1928م، رغم أن مدة عرضه لا تزيد على نصف الساعة. وقد كتب دالي سيناريو هذين الفيلمين، وأخرجهما بونيويل. وقد أصبح دالي بعد ذلك إمام الرسم السيريالي، وأصبح بونيويل أمام السمينائيين السيرياليين، وقد فاز بالأوسكار لأحسن فيلم أجنبي عام 1972م عن فيلمه «سحر البرجوازية اللطيف».
وقد جمع بين لوركا ودالي حب التجديد والتطوير الفنيين، علاوة على الرسم الذي كان أحد الموضوعات التي أغرم بها لوركا، وضرب فيها بسهم وافر، حتى إن طبعة أعماله الكاملة تحتوي - بالإضافة إلى أدبه - عددا كبيرا من لوحاته الفنية.
وقد تعمقت الصداقة بين دالي ولوركا في أواخر عام 1925م، بعد دعوة دالي لصديقه الغرناطي لزيارته، وقضاء إجازة عنده في بلدته «قداقش»، وهي بلدة بحرية صغيرة من أعمال «برشلونة» عاصمة مقاطعة قطلونيا في الشمال. وسرعان ما اندمج الشاعر مع أسرة صديقه: هو يسمعهم من قصائده وأغانيه وموسيقاه، وهم يعرضون عليه فنونا قطلونية أصيلة. وفي بيت دالي قرأ لوركا على الأسرة لأول مرة مخطوطة مسرحيته الجديدة «ماريانا بنيدا»، التي لاقت إعجابا دفع الأب إلى دعوة أصدقائه لسماع الشاعر وهو يتلوها عليهم مرة ثانية.
وكان طبيعيا أن ينهمك الصديقان في فترة الزيارة في مناقشات عديدة حول طبيعة الفن وإمكانيات التجديد الفني. وقد تأثر لوركا باتجاه التجديد لدى دالي الذي ينحو نحو السيريالية. وكانت المدرسة السيريالية قد انشقت عن الحركة «الدادائية»، وتأسست كحركة مستقلة على يد الشاعر الفرنسي أندرية بريتون عام 1921م.
وقد تحددت الحركة أكثر عام 1924م، حين أصدر بيرتون ورفاقه بيانا أكدوا فيه سمات الحركة، وأبانوا فيه أن الحرية هي أساس السيريالية، وأول الحرية عند الفنان هي الخلاص من قواعد الفن. وقد انتشرت هذه الحركة بعد ذلك في أوروبا كلها، وصبغت كل الفنون بصبغتها، وإن اختلفت كل حالة عنفا وخفة حسب اختلاف أنواع الفنون. وقد امتدت السيريالية إلى الشعر والقصة، ولكنها كانت أشد ظهورا في الفنون التصويرية، فبرزت في الرسم والتصوير والسينما والنحت.
وكان لوركا في طليعة الأدباء الذين تأثروا بالاتجاه السيريالي، وظهر ذلك في شعره في اختياره للصور الفنية في قصائده. وقد بدأت هذه الصور الغريبة تغزو شعره وتستبين فيه تدريجيا، منذ قصائد ديوانه «حكايا الغجر»، إلى أن وصلت إلى أقصى ذروتها من السيريالية الحقة في قصائد ديوانه «شاعر في نيويورك».
كذلك فإن صداقة لوركا - بل وحبه - لأخت الرسام دالي، «آن ماري دالي»، قد أثرا كثيرا على حياته العاطفية. ورغم أن المعلومات عن هذه العلاقة غير واضحة ولا هي متوفرة، إلا إن كثيرا من مؤرخي حياته يرجعون الأزمة العاطفية التي مر بها في عام 1929م إلى فشل هذا الحب وتحطمه، والتي لم يجد الشاعر دواء منها إلا السفر خارج بلاده إلى نيويورك، حيث قضي عاما وبعض العام في الخارج.
وقد خرج لوركا من زيارته الأولى لدالي في «قداقش»، بقصيدة عنوانها «أنشودة إلى سلفادور دالي»، نشرت عام 1926م في المجلة الفكرية الشهيرة التي كان يصدرها المفكر الإسباني «خوسيه أورتيجا أي جاسيت»، وهي «مجلة الغرب
Revisat del Occidente »، ونورد فيما يلي تلك القصيدة لأهميتها في الدلالة على الاتجاه السيريالي، الذي بدأ الشاعر في انتهاجه للتعبير عما يجيش في نفسه من عواطف وأفكار.
وردة في البستان العلوي الذي هفوا إليه
طوق يدور في أعراف الفولاذ الصافي،
وجبل الغيوم الانطباعية قد نضا عنه الثياب
بينما الرماديات تطل على حواجزها الأخيرة. •••
الرسامون الجدد، في مراسمهم البيضاء
يقطنون زهرة الجذر التربيعي المعقمة
وفي مياه السين جبل ثلجي من المرمر
يغطي النوافذ بالبرودة، ويهش على أغصان اللبلاب. •••
الناس تطأ الشوارع المغطاة بالبلاط في قوة
والبلورات تعرض عن سحر الانتكاس.
ها هي الحكومة قد أغلقت محلات العطور
والآلهة تخلد فرجاراتها المتثنية •••
غياب من الغابات والسواتر والجبهات
يزحف على أسطح المنازل العتيقة
والهواء يصقل عدساته على صفحة البحر،
ويرتفع الأفق كما لو كان سدا عظيما للمياه. •••
بحارة يجهلون طعم النبيذ ومذاق الظلال
يذبحون جنيات البحر في بحار من الرصاص
والليل، تمثال الحصافة البهيم ذاك،
قد طوق مرآة القمر المستدير بين يديه. •••
تتملكنا رغبة من الصور ومن الحدود
ويأتي الرجل المتطلع حاملا المقياس الأصفر
وفينوس طبيعة بيضاء ميتة
بينما جامعو الفراشات يأبقون. ••• «قداقش»، في مؤشر من المياه والتلال
تدعم درجات حجرية وتخفي القواقع.
النايات الخشبية تنشر السكينة في الهواء
وإله هرم برى يوزع الفاكهة على الأطفال. •••
نيام صيادوك في الرمال دونما رؤى
وفي أعالي البحار يتخذون الورود «بوصلة» تهديهم
وأفق المناديل الجريحة العذرى
يوحد بين زجاج السمكة وبين القمر الهائل. •••
تاج متيس من سفائن بيضاء
يجعد جبهات مريرة وشعور من الرمال.
حوريات البحر يقنعن، ولكنهن لا يوحين
ويخرجن إذا لوحنا لهن بكوب من عذب المياه. •••
آه يا سلفادور دالي، يا ذا الصوت الزيتوني
إنني لا أمتدح ريشتك المراهقة غير الكاملة،
ولا لونك الذي يحيط بلون زمانك
ولكني أمتدح أشجانك كخالد تقيده الحدود. •••
أيتها الروح القح، تعيشين فوق رخامات جديدة
وتهربين من الغابة المظلمة للصور التي لا يصدقها عقل
تصل تهويماتك إلى حيث تصل يداك
وتستمتع بأنشودة البحر من نافذتك. •••
يمتلئ العالم بظلال صماء وفوضى
يصطدم بها الإنسان في أول اتصالاته بالدنيا
ولكن النجمات تخفي قطاعات طبيعية
تشير إلى ملامح العالم الذي تعيشه كاملة. •••
مجرى الزمن يتوقف ويعيد ترتيب نفسه
على الصور العددية لقرن وقرن آخر من الزمان.
والموت المهزوم يلتجئ راجفا
إلى دائرة اللحظة الآتية الضيقة. •••
عندما تمسك لوحة ألوانك، ورصاصة في الجناح
تسعى إلى النور الذي يضيء كأس شجرة الزيتون
نور «منيرفا» العريض الذي يشيد السقالات؛
حيث لا مكان للنوم ولا لأزهاره السقيمة. •••
تسعى إلى النور العتيق الذي ينوس على الجبين
النور الذي لا يهبط إلى فم الإنسان ولا يبلغ فؤاده
النور الذي تخشاه كرمات «باخوس» الحميمة
والقفزة الغاشمة التي تكمن في منحدر المياه. •••
إنك تحسن صنعا أن ترفع رايات الإنذار
على الحد المظلم الذي يسطع ليلا
فأنت لا ترغب أيها الرسام أن يلين لك الشكل،
ندفة القطن التي تتغير كأنها سحابة فجائية. •••
أنت لا تجري وراء اختراع السمكة في إنائها،
ولا الطائر في قفصه،
لا في البحر ولا في الرياح.
بل تجلو الغامض وتنقل الصور
بعد أن تضرب بحدقتيك الأمينتين
في أجسادها الغضة المستدقة. •••
تهيم غراما بالمادة المحددة الدقيقة
حيث لا تستطيع قباب النبات أن تضرب خيامها.
تهيم غراما بالمعمار المشيد فيما هو غائب
وتقبل الراية بوصفها دعابة لطيفة. •••
ينطق الفرجار الصلب بقصيدته القصيرة اللدنة.
ها هي جزائر مجهولة تكذب صفحة الكون
وينطق الخط المستقيم بجهده العمودي
ويتغنى الزجاج العارف برياضياته. •••
بل أيضا وردة البستان الذي تعيش فيه
دائما أبدا الوردة، في شمالنا وجنوبنا؛
ساكنة، مركزة، كأنما هي تمثال أعمى
غافلة عما تثير من جهود خفية. •••
وردة طاهرة تزيح كل ما هو مصطنع مرسوم
وتفتح لنا أجنحة البسمة الحانية (فراشة لصيقة تزن خطوات طيرانها)
وردة التوازن الذي لا يعرف الآلام المنشودة.
دائما أبدا ... الوردة.
آه يا سلفادور دالي! يا ذا الصوت الزيتوني!
إنما أنا أنطق بما توحيه لي شخصيتك ولوحاتك
إنني لا أمتدح ريشتك المراهقة غير الكاملة،
ولكني أغني لثبات الاتجاه فيما تطلق من سهام. •••
أغني لجهودك الجميلة التي تزينها الأنوار القطلانية
لحبك كل ما يحتمل تفسيرا.
أغني فؤادك الفلكي الحنون
كورق اللعب الفرنسي، دون ما أية جراح. •••
أغني شوق التماثيل الذي تنشده دون ما كلل
الخوف من الانفعال الذي يترصدك في الطريق
أغني حورية البحر التي تتغنى بك
ممتطية صهو دراجة من اللآلئ والأصداف. •••
ولكني أغني قبل كل شيء فكرا مشتركا
يوحد بيننا في الساعات الحالكة والذهبية.
ليس الفن هو النور الذي يعمي أبصارنا
بل هو أولا الحب، الصداقة، المثاقفة. •••
هم أولا، قبل اللوحة التي تخطها في صبر
قبل نهدي «تيريزا» ذات البشرة اليقظانة
قبل عقصة «ماتيلدا» ناكرة الجميل
صداقتنا الملونة كأنما هي لعبة السلالم والثعابين. •••
آثار للآلة الكاتبة من دماء فوق الذهب
تسطر فؤاد قطلونيا الخالدة. •••
فلتنيرك نجمات كحفنات خالية من البوازي
بينما تزدهر رسومك وحياتك! •••
لا تلق بالا للساعة المائية ذات الأجنحة الغشائية
ولا لمنجل الأليجوريات القاسي،
بل عليك أن تكسي ريشتك وتعريها في الهواء دوما
أمام البحر الذي تعمره السفائن والبحارة.
وفي منتصف مايو عام 1927م، يزور لوركا «دالي» مرة أخرى، وينتقلان معا إلى برشلونة للإعداد لتمثيل مسرحية «ماريانا بينيدا» هناك، وقد استقبل فنانو قطلونيا وكتابها «لوركا» بحماس بالغ، وتعرف على أفراد الحركة الطليعية، وعلى المجلة التي كانوا يصدرونها باللغة القطلونية، بعنوان «مجلة أصدقاء الفنون»، كما تعرفوا هم عليه وعلى إنتاجه، وكثيرا ما طاف لوركا ودالي - ومعهما الناقد القطلاني «سباستيان جاش» - بشوارع برشلونة وأزقتها الخفية، يتناقشون في صخب وحماس في شئون الأدب والفن، ويحكي جاش قصة طريفة اشتهرت عن لوركا، حين اصطحب «لوركا» يوما إلى «أتنيو برشلونة»، حيث قدمه إلى ندوة تضم شيوخ الأدب والفن هناك، حيث سأله أحدهم في استهانة: «من أي البلاد أنت أيها الشاب؟» فرد عليه الشاعر وهو يرفع يده عاليا في رزانة : «أنا من مملكة غرناطة!» فإلى هذا الحد كان إحساس لوركا بالمجد الذي نالته بلدته أثناء وجود العرب فيها، ولا غرو أن يكون هذا الرد قد أدهش الحاضرين جميعا، وزاد فيه ما كان على فديريكو من مسحة شرقية وسمار عربي، بشعره الأسود وملامحه المحددة وخياله المتوقد.
وقد وضع لوركا أمله في ذلك الوقت في مسرحيته «ماريانا بينيدا»، التي عمدت فرقة الممثلة المشهورة «مارجاريتا شيرجو»، إلى تقديمها على مسرح جويا ببرشلونة في يونيو 1927م، وقام بتصميم ديكوراتها سلفادور دالي، وكانت هذه ثاني مسرحية يكتبها لوركا، بعد مسرحيته الأولى، التي فشل عرضها في مدريد، وقد قوبلت «ماريانا بينيدا» بنجاح، ولاقت قبولا من النقاد، وجلهم من أصدقاء الشاعر، وهي وإن لم تكن قد ثبتت أقدام لوركا في المسرح، إلا إنها قد عوضته عن فشل مسرحيته الأولى، وجعلته يستمر في الكتابة المسرحية، كيما يخرج بعد ذلك أعماله الناضجة الناجحة، وقد قال الشاعر عن ظروف كتابة تلك المسرحية: لقد كانت حياة «ماريانا بينيدا» فكرة من أشد أفكار طفولتي تسلطا علي، لقد كنا نلعب ونحن أطفال بأن نمثل المروحة وهي تنفتح وتنغلق ونحن ننشد:
آه، ما أتعس هذا اليوم في غرناطة
الذي يجعل الحجارة تبكي من الحزن
عند مرأى «ماريانا» وهي تموت
على المشنقة بدلا من أن تعترف!
وتتبع المسرحية الخطوط الهامة للحياة الحقيقية لماريانا بينيدا، التي ولدت في غرناطة عام 1804م من أسرة كريمة وتزوجت أحد المناضلين من أجل الحرية، الذي مات بعد الزواج بثلاث سنوات مخلفا لها طفلين، واحتضنت هي آراء زوجها الثورية وكفاحه من أجل حرية الشعب، فمدت يد المساعدة إلى المناضلين والمطاردين في عصر استبداد الملك فرديناند السابع ملك إسبانيا، ونجحت بذكائها ومهارتها في إبعاد الشبهات عنها، وانشغلت ماريانا في تطريز علم ضخم للثوار، يستخدمونه عند إعلان ثورتهم، كتبت عليه كلمات: «القانون، الحرية، المساواة»، ووشى بها أحد الخونة، وسقط العلم في يد حاكم غرناطة الذي بادر إلى اتهامها وسجنها، ولم يفلح التعذيب ولا المحاكمة في انتزاع أي اعتراف منها، إلى أن أعدمت في 1831م، شهيدة للحرية .
وقد شجع نجاح المسرحية في برشلونة على عرضها في العاصمة مدريد، حيث بدأت عروضها على مسرح «فونتالبا» في 12 أكتوبر 1927م، ولاقت نجاحا ملحوظا.
وقد تزامن مع عرض هذه المسرحية للمرة الأولى في برشلونة افتتاح معرض لرسوم لوركا في المدينة في «جاليري دالماو»، وقد استمر المعرض من 25 من يونيو إلى 2 من يوليو 1937م، وتضمن 24 لوحة، منها لوحة رسم فيها لوركا صديقه «دالي»، وقد قدم دالي في مقال له بمجلة «المجلة الجديدة» عرضا نقديا للمعرض، وقدم «سباستيان جاش» عرضا آخر له، وانتهت إقامة الشاعر في برشلونة بمأدبة تكريم حافلة، أقامها له الفنانون هناك.
وقبل العودة إلى مدريد أمضى لوركا أياما في «قداقش» مرة أخرى، عمل فيها مع دالي على وضع ما سمي «البيان اللافني»، وهو بيان يعبر عن آراء أصحابه الطليعية السيريالية في الفن والأدب والحياة، ويعتمد على تقرير اللاشخصانية واللاهوية واللاموضوع في التعبير الفني عموما، وقد تم نشر البيان في أحد أعداد مجلة «أصدقاء الفنون» في أغسطس 1927م، وترجمه لوركا ونشره عام 1928م بالعدد الثاني من المجلة، التي أصدرها ذلك العام في غرناطة.
مهرجان إشبيلية وديوان الفجر
وفي ديسمبر 1927م، ينعقد في «إشبيلية» مهرجان أدبي كان سببا في إطلاق اسم جيل عام 27 على لوركا وصحبه، تمييزا لهم كجماعة أدبية عن الجماعة الأدبية السابقة عليهم مباشرة، وهي جيل 1898م الذي أشرنا إليه في مطلع هذا الكتاب، وقد استمد النقاد هذا الاسم من اجتماع معظم أفراد هذه الحركة الأدبية والفنية في «إشبيلية»، بدعوة من «أتنيو إشبيلية» في مهرجان أقيم لتكريمهم، وإتاحة الفرصة أمامهم لإلقاء أبحاثهم ومحاضراتهم وإنتاجهم الفني في ذلك المركز الثقافي، بوصفهم شباب حركة فنية ناهضة أرهصت أعمالهم بعصر ذهبي جديد للأدب الإسباني، يضارع العصر الذهبي الأول أيام سرفانتس ولوبي دي فيجا .
ويتفق النقاد الآن على أن أعضاء هذه الجماعة المؤسسين عشرة، هم: فديريكو غرسيه لوركا - بدرو ساليناس - خورخي جيين - خيراردو دييجو - داماسو ألونصو - فيثنتي الكساندري - رافاييل ألبرتي - لويس ثيرنودا - خوسيه برجامين - خوان تشاباس.
وكان أكثر ما يميز هذا الجيل وأفراده هو أنهم قد اتجهوا اتجاها مخالفا للجيل السابق عليهم مباشرة، إذ عمدوا أساسا إلى الرجوع إلى الموروث الأدبي والفكري الإسباني، محاولين ابتعاثه وسبر أغواره والخروج منه بالأفكار الإسبانية الأصيلة، وعادوا إلى درر الأدب الإسباني في عصره الذهبي، يستلهمونها ويعيدون تقديمها بروح تفسيرية ونقدية جديدة، مما أدى إلى ابتعاثهم مؤلفين، كان النسيان قد أسدل ستاره عليهم، أبرزهم «لويس جونجرا» (1561-1627م)، شاعر القرن السادس عشر الميتافيزيقي الإسباني، وكانت الأبحاث التي قدمتها جماعة 27 في مهرجان إشبيلية تدور حول ذلك الشاعر الغابر، بمناسبة مرور ثلاثمائة عام على وفاته، وقد وجد أعضاء الجماعة في شعره إرهاصات فكرية للنزعة السيريالية التي كانت في أوجها آنذاك، وكان أكثر ما عادوا إليه من التراث الإسباني - عدا أعمال «جونجرا» - أعمال سرفانتس ولوبي دي فيجا وكالديرون دي لاباركا وفراي لويس دي ليون ويوحنا الصليبي وجوستافو أدولفو بيكر وكيبيدو، وهم كلهم شوامخ الأدب الإسباني ممن صاغوا الضمير الإسباني في عصرهم وفي كل العصور، غير أن هذا لم يمنع أن يتأثر أفراد جيل 27 في نفس الوقت بتيارات الحداثة، التي وفدت إلى إسبانيا من فرنسا وألمانيا أساسا، فكلهم تأثروا بالسيريالية والدادائية والماورائية
Ultraism ، ومزجوا بينها وبين ملامح أفكارهم الإسبانية الأصيلة في وحدة فنية منصهرة.
كذلك تميز أعضاء الجيل بالاستعمال الفريد للاستعارة والصور الفنية في أعمالهم، إذ إنهم قد تركوا لأنفسهم حرية مطلقة في ربط أي شيء بأي شيء آخر يصل إليه خيالهم، وبحثوا في أعماق الشعور عن صلات خفية ذاتية بين الأشياء، فأنتجوا بذلك صورا شعرية جديدة غريبة فريدة، وستكون هذه الصور الفريدة أهم ما يميز شعر لوركا في مرحلته التالية، والتي ستتخذ بعد ذلك منحى مبالغا فيه مع دخوله ذروة تلك المرحلة، مرحلة السيريالية الشعرية.
وقد قام لوركا بإعداد بحث عن شعر «جونجرا»، استغرق منه ثلاثة شهور، لإلقائه في مهرجان إشبيلية، وقد قال في ذلك البحث: إن الأساتذة يشيرون عادة إلى «جونجرا» بوصفه شاعرا عتيقا، أصبح فجأة شاعرا مغرقا في الصفة، وأنه حمل اللغة إلى آخر ما تستطيع، فثنى المعاني واخترع قوافي وإيقاعات غريبة على الذهن العادي، وعكف لوركا على دحض هذه الأقوال، بتبيان كيف أن الصور التقليدية التي تجري على ألسنة الناس العاديين، لم تكن غريبة عن الصور التي ابتدعها «جونجرا»، مثل تسمية الطرف البارز من أسطح المنازل «فخا منصوبا»، أو تسمية نوع من الحلوى بشرائح السماء، أو نهدات الراهبات، أو تسمية القبة بنصف برتقالة، وقال لوركا في بحثه: «على الشاعر أن يكون أستاذا في الحواس الخمس، وهي كما أرتبها: الإبصار - اللمس - السمع - الشم - الذوق، وعليه، من أجل أن يصبح سيد أجمل الصور الشعرية، أن يفتح باب الاتصال بين جميع هذه الحواس، وعليه في أحيان كثيرة أن يطبع مشاعر حاسة منها على مشاعر حاسة أخرى، بل وحتى أن يغطي طبائعها ويخفيها ...»
ما أقرب هذا إلى ما كتبه الدكتور «إحسان عباس» في كتابه «فن الشعر»،
1
في الفصل الذي عقده للمدرسة الرمزية، من أن «ادجار ألان بو» - رائد الرمزية - «كان يريد أن يتخلص من أغلال الرومانطيقية ويدعو إلى خطة مغايرة لها، فيدعو إلى عدم المحدودية في موسيقى الشعر، إلى انطلاق إيحائي مبهم، لا بالخلط بين عالم الواقع وعالم الخيال، بل بالخلط بين وظائف الحواس نفسها، ونحن نجد «بو» في بعض قصائده «يسمع» قدوم الظلام، ويقول في قصيدة أخرى: «ومن كل قنديل انساب في أذني صوت رتيب ناغم لا ينقطع! ولذلك كان أول ما يبشر به الرمزيون إجراء الفوضى في مدركات الحواس المختلفة، ومحاولة الوصول بالشعر إلى اللامحدودية التي وصلها فن الموسيقى».
ومضى لوركا في بحثه الذي ألقاه عن «جونجرا» يقول: «إن جونجرا في شعره يتناول الأشكال والموضوعات الكبيرة الحجم بنفس الحب والصدق الذي يتناول بهما صغار الأشياء، وبنفس العظمة الشعرية، فالتفاحة عنده تثير في النفس ذات الكثافة في الشعور التي يثيرها البحر، والنحلة مليئة بنفس الدهشة التي تمتلئ بها الغابة، وهو يرقب الطبيعة بعين نفاذة، ويعجب بجمال هوية الأشياء التي تتساوى في جميع أشكالها؛ ولهذا السبب فإن التفاحة لديه تماثل البحر ... فحياة التفاحة، من لحظة انبثاقها إلى الوجود كبرعم صغير حتى سقوطها ناضجة ذهبية من الشجرة إلى الأرض، هي عملية عظيمة ومليئة بالأسرار، كعملية إيقاعات البحر اللانهائية. وعلى الشاعر أن يدرك ذلك، فعظمة الشعر لا تعتمد على عظمة موضوعه، ولا على حجمه ولا على مشاعره، فالشاعر قد يصنع قصيدة ملحمية عن الصراع الذي يقع بين مختلف الخلايا النباتية وسط أغصان الكرمة، أو يعطي انطباعا لا نهاية له للمطلق عن طريق شكل الوردة وعبيرها لا غير.» وهذا ما فعله لوركا نفسه في بعض أعماله مثل التراجيديا الشعرية، التي كتبها عن غرام صرصار بفراشة.
وقد صفق الحاضرون طويلا للبحث الذي ألقاه لوركا في المهرجان، ودعوه في ليال أخرى إلى تلاوة قصائد ديوانه «حكايا الغجر» عليهم، رغم أن تلك القصائد لم تكن قد صدرت بعد على شكل ديوان، وإنما كان صيتها قد طار بين أوساط الفنانين والشعراء جميعا.
وقد ترك مهرجان «جونجرا» عام 1927م أثرا عميقا في شعر لوركا أبعد وأعمق من أثر الدادائية والسيريالية، إذ جعله يقرن بتلك الحركات الطليعية أيامها انغماسا رقيقا في بئر الشعر الإسباني في ماضي العصور، واقترن كل هذا عنده بصورة جديدة من الشكل التركيبي الهندسي للقصيدة، واستخدامات جديدة أصيلة للفعل اللغوي، لا بد أنه استوحاها عن البناء العربي والإسلامي الذي فتح عينيه عليه في ربوع غرناطة والأندلس، مثل قصور الحمراء التليدة ورياض جنة العريف، ويستبين في ثلاث قصائد طويلة للوركا، وهي «أنشودة إلى قدس الأقداس» و«أنشودة إلى وولت ويتمان»، و«القديسة لوسي والقديس عازر»، الاتجاه ناحية «الجنجورية» الجديدة التي سوف تنمو وتتطور لديه أكثر من ذلك، حين يخرج من إسبانيا في رحلته الأمريكية، وتصوغ نفسها في تركيبة فريدة يمكن أن يطلق عليها «السيريالية الإسبانية»، هي ذات صلة وثيقة بلوحات دالي التي يمكن أيضا إرجاع أصلها إلى فن الشاعر الإسباني جونجرا، لقد وضع لوركا في تلك القصائد الثلاث قدمه على أول الدرب، الذي سيقوده بعد ذلك إلى مرثية مصارع الثيران، ثم إلى قصائد «شاعر في نيويورك»، وقد نعى كثير من النقاد تلك النقلة الكبيرة في فن لوركا، من مرحلة غنائية فولكلورية دافقة إلى مرحلة سيريالية مغرقة في إبهامها، ولكن لوركا ، كما بنيت الناقدة «ملدرد آدمز» بحق في كتابها عن الشاعر، قد أقام ما يكفي في صرح الغنائية الزاهي الراقد على أرباض قصر الحمراء، وأنه لم يكن من الممكن ألا يتأثر بالجو الفني والفكري السائد أيامها، فالوقت آنذاك كان وقت ثورة واضطراب في كل شيء، حين كان العالم يقرأ الأرض الخراب لإليوت وعوليس لجيمس جويس، وأشعار أندريه بريتون السيريالية.
ومضى لوركا بعد مهرجان «جونجرا» في تنقيح قصائد ديوان حكايا الغجر ووضعها في صورتها النهائية، محاولا الجمع في حكاياه الشعرية بين الصورة الأسطورية للغجر، وبين الواقع الذي كان يراهم عليه في غرناطة، وقال في ذلك: «إن النتيجة غريبة، بيد أنني أعتقد أن بها جمالية جديدة».
ونشر الديوان أخيرا عام 1928م، فنال نجاحا فوريا ساحقا، ونفذت نسخه في أشهر قليلة، وهو يتكون من 18 قصيدة، اشتهر معظمها بعد ذلك وتناقلتها الأفواه في جميع البلاد الناطقة بالإسبانية، مثل قصائد: أخضر، كم أحبك يا أخضر، والحرس المدني، والزوجة الخائنة، أنطونيو الكامبوريو.
ويأتي عنوان الديوان
Romancero ، من كلمة رومانثة
Romance ، وهو شكل أدبي انتشر في القرون الوسطى، ويعتمد على صياغة قصائد شعبية ذات حبكة قصصية (ولهذا آثرنا ترجمتها بكلمة «حكايا») مستقاة من موضوعات تاريخية ودينية وأليجورية غنائية، وتندرج موضوعات قصائد الديوان تحت أقسام ثلاثة عامة: قصائد تدور حول القوى الخفية الغامضة، وقصائد شعبية واقعية، وقصائد من التراث التاريخي والديني، ومن قصائد النوع الأول قصيدة «الحلوة والهواء»، التي تنسج صورة رائعة لفتاة غجرية حسناء تنطلق على سجيتها، وتمارس هوايتها في الدق على الدف، ولكن القوى الخفية المعارضة للغجر لا تتركها على حريتها، وتتمثل تلك القوى هنا في إله الريح الغاضب الذي يريد أن يوقع بالفتاة، ولا ينقذها منه إلا لمسة من لمسات العلم الواقعي، الذي يمزج الشاعر بينه وبين عالم القوى الخفية الفانتازياتي في براعة ساحرة:
تخطر الحلوة
وهي تدق الدف ذا جلد الغزال
في درب من الجداول وأشجار الغار.
ويهرب من الموسيقى
الصمت الذي لا تقطعه النجوم
فيقع حيث يصطخب البحر ويغني
لياليه التي تزخر بالأسماك
وعلى ذرى الجبل
نيام الخفراء
ويحرسون الأبراج البيضاء
التي يقطن فيها الإنجليز
أمام غجر المياه
فهم يشيدون تعريشات من الأصداف
ومن أفنان شجر الصنوبر الخضراء
للترويح عن أنفسهم. •••
تخطر الحلوة
وهي تدق الدف ذا جلد الغزال
وعند مرآها
هب الريح الذي أبدا لا ينام
سان كريستوفر العاري
مرصعا بألسنة سماوية
يرنو إلى الفتاة
تعزف لحنا عذبا مغيبا. •••
يا فتاتي
ارفعي ثوبك كيما أرى جسدك
وأنضو بأصابعي العتيقة
زهرته الزرقاء ... •••
وتلقي الحلوة الدف
وتجري دون توقف
ويتبعها الريح الرجولي
مستلا سيفه الساخن. •••
ويزوي البحر من حفيف أمواجه
ويشحب لون أشجار الزيتون
وتغني بآيات الخمائل
وصفحة أجراس الثلوج الصقلية. •••
اجري يا حلوة اجري؛
كي لا يدركك الريح الأخضر!
اجري يا حلوة اجري
احذري من أين يأتيك «ساطيرا»
2
ذو الأنجم الدنيا
بألسنته الوضاءة. •••
وغمر الفزع الحلوة
فدخلت ذياك البيت
فيما وراء أشجار الصنوبر
الذي يملكه قنصل الإنجليز. •••
وجاء ثلاثة من الخفر
وقد أفزعتهم الصرخات
يضمون عباءاتهم حواليهم
وقبعاتهم مدلاة على الوجنات. •••
ويقدم الإنجليزي للغجرية
كوبا من اللبن الدافئ
وقدحا من الخمر
لم تقربه الحلوة من شفتيها •••
وبينما هي تحكي باكية
قصتها لهؤلاء القوم
يهتاج الريح غيظا
ويعربد على الأسطح الأردوازية.
ومن عالم الغجر أيضا يقدم لوركا قصيدة الزوجة الخائنة، ويصور فيها تصرفات غجري أصيل تجاه حبيبته، ومذهب الشهامة الغجري الذي حتم عليه ألا يعود إلى تلك الحبيبة؛ لأنه عرف أنها متزوجة:
اصطحبتها إلى النهر
وكنت أظن أنها فتاة
فاتضح أن لها زوجا
كانت ليلة القديس جيمس
وكأنما عن اتفاق سابق
انطفأت مصابيح الشارع
واشتعلت حدقات الجداجد
وعند المنعطفات الأخيرة
لمست نهديها النائمين
فتفتحا لي على الفور
كأنها عيدان السنابل
ورنت في مسامعي
ثنيات قميصها المنشى الناصع
كأنه قطعة حرير
تحكها عشرات السكاكين.
وتطاولت الأشجار
دونما أنوار فضية في كئوسها
ونبح أفق من الكلاب
بعيدا بعيدا عن النهر. •••
وفيما وراء شجيرات التوت البري
وخلف الحشائش والأشواك
افترشت لها مكانا على الأرض
تحت خصلات شعرها
وخلعت رباط عنقي
وخلعت هي رداءها.
وطرحت زناري والمسدس
وخلعت هي صداراتها الأربعة
كانت بشرتها
أرق من الياسمين ومن العبير
ولم تكن لمرايا البلورية
سطوع طلعتها البهية
وأفلتت ساقاها مني
كالسمكة المذعورة
نصفها يضطرم بالنيران
ونصفها الآخر بالبرودة.
في تلك الليلة
سرت في أفضل الدروب
وامتطيت أحسن الأمهار
دونما لجام أو سروج
وأنا رجل
ولن أقص عليكم ما أسمعتنيه من كلمات.
لقد غمرني نور من العرفان
فأحالني رجلا وديعا
وحملتها بعيدا عن النهر
وقد غطتها الرمال والقبلات.
وتصارعت نصال الزنابق
حين أطاح بها الهواء. •••
وتصرفت معها كما يليق
فبصفتي غجريا أصيلا
أهديتها علبة تطريز كبيرة من الساتان
بلون القش
ولم أدع نفسي تهوي في غرامها
لأن لها زوجا
رغم أنها قالت لي أنها فتاة
حين اصطحبتها إلى النهر.
وتكتمل صورة الغجري الأصيل في قصيدتين عن «أنطونيو الكامبوريو»، فيتراءى للقارئ فيهما وصف دقيق له، فهو سليل ألقاب عريقة في عالم الغجر، صوته قرنفلي رجولي، بشرته معجونة بزيت الزيتون والياسمين، واهتماماته هي اهتمامات الغجر، مشاهدة مصارعات الثيران، والقتال، ولكنه في القصيدة الأولى يخون نفسه وجنسه بالاستسلام دونما قتال أو جهاد لرجال الحرس المدني؛ لذلك فهو يستحق كلمات قاسية يوجهها له الشاعر بأنه ليس سليلا لأحد، وإلا كان قد فجر نبعا من الدماء ذا خمس نفثات، ولكن «أنطونيو» يعوض ذلك في القصيدة الثانية، حين يدافع عن نفسه ضد أبناء عمومته، الذين هاجموه بدافع من حسدهم إياه، والحسد صفة دفينة في الإسبان عموما وبين الغجر على وجه الخصوص، وهم يهاجمونه فيصارعهم، ويتقافز بخفة الدلافين، ويلطخ ربطة عنقه بدماء أعدائه، وهو قد حقق ما يتوجب عليه بالجهاد وإسالة الدماء، فلا عيب عليه بعد ذلك أن يقهروه آخر الأمر، بعد أن يتكالب عليه الأربعة وهو واحد أمامهم.
أما قصيدة «الحرس المدني الإسباني» فهي تصوير كامل لصراع الغجر مع العالم الخارجي الذي يحيط بهم، ويمثل القانون واللوائح المدنية التي يضطرون إلى التسليم بها، ويصور لنا الشاعر مدينة الغجر مليئة بالمتناقضات والمفارقات عن طريق صور حادة عجيبة، كما يقرب من أذهاننا عالم الغجر بكل ما فيه من غرائب واختلاف، ومزج بين العوامل الدينية والشعبية، وهو من الطباع التي يتميز بها الغجر، وفي مواجهة مدينة الغجر يقوم القانون، الذي تمثله فرقة من الحرس المدني تهاجمها وتعمل فيها القتل والنهب:
الجياد سود
وسود حدواتها
وعلى العباءات
تلتمع بقع من الحبر والشمع
جماجمهم من رصاص
لهذا لا يعرفون البكاء
ويخبون في طريقهم
بأرواحهم الجلدية البراقة
محنيي الظهور، يتسترون بالليل
وحيثما يحلون
يفرضون صمت المطاط الأسود
ووجل الرمال النواعم
يمرون حين يبغون المرور
ويخفون في رءوسهم
آفاقا غامضة
من مسدسات لا هوية لها. •••
آه يا مدينة الغجر!
الرايات في جوانب الطرقات
والقمر وثمار القرع
مع الكريز المحفوظ
آه يا مدينة الغجر!
من يراك وينساك؟
يا مدينة الأسى والمسك
والأبراج التي في لون القرفة. •••
وحين يسدل الليل أستاره
الليل العميق الغميق الليلي
يصوغ الغجر في ورشهم
شموسا وسهاما
ويقرع جوار جريح على كل الأبواب
وتغني ديوك من زجاج
في «شريش دي لافرونتيروه»
وتعري الرياح جوانب الدهشة
في الليل، الليل الفضي
الليل العميق الغميق الليلي. •••
أضاعت العذراء صاجاتها
والقديس يوسف
وطلبا من الغجر
أن يبحثوا لهما عنها.
واتشحت العذراء بثياب الحكام
من أوراق الشيكولاته المفضضة
وقلادات من اللوز
ولوح القديس يوسف بذراعيه
من تحت عباءته الحريرية
خلفهما سار «بدرو دوميك»
بصحبة ثلاثة من سلاطين فارس
وكان الهلال يحلم بنشوة اللقالق
وغزت الرايات والقناديل الأسطح المنبسطة
ونوحت الراقصات العجفاوات أمام المرايا
مياه وظلال، ظلال ومياه
في «شريش دي لافرونتيره». •••
آه يا مدينة الغجر!
الرايات في جوانب الطرقات
أخمدي أنوارك الخضراء
فرجال الحرس قادمون.
آه يا مدينة الغجر!
من يراك وينساك؟! •••
ويتقدمون مثنى مثنى من المدينة في عيدها
وأحزمة الذخيرة
تخترق همسات النباتات النواضر
يتقدمون مثنى مثنى
ليل مضاعف من الثياب
ويتصورون أسماء
فترينة مهمازات المصارعة. •••
وأحكمت المدينة أبوابها
متحررة من الخوف
واقتحمها أربعون من رجال الحرس
ليعيثوا فيها فسادا.
وتوقفت الساعات،
والبراندي؛
كيما يزيل الشبهات عنه،
تنكر في زجاجاته على هيئة نوفمبر
وطارت صرخات حادة
من بين دورات الريح
وقطعت السيوف
النسمات التي وطأتها الخوذات
وعلى طول الطرقات المظلمة
تفر عجائز الغجر
على الجياد النائمة
باباريق النقود
وفي الطرقات المنحدرة
تمضي العباءات الشريرة
مخلفة وراءها
دوامات قصيرة من المقصات •••
وعلى أبواب بيت لحم
اجتمع الغجر
وغطى القديس يوسف جثة فتاة
وقد أثخنته الجراح
وتدق بنادق حادة عنيدة
على طول الليل
وتضمد العذراء جراح الأطفال
برضاب النجوم
ولكن رجال الحرس
يتقدمون ناثرين الدمار
حيث يحترق الخيال العاري المرهف عن آخره.
و«روز» سليلة «كامبريسو»
جالسة تنوح أمام بيتها
وثدياها الداميان على صفحة أمامها
وصبايا أخريات يهربن
وضفائرهن تتطاير في الهواء
حيث تتفجر ورود من الديناميت الأسود
حين كانت كل الأسطح أخاديد في الأرض
وهز الفجر أكتافه
في جانبية حجرية طويلة. •••
آه يا مدينة الغجر!
ويبتعد رجال الحرس
عبر نفق من الصمت
بينما الجمرات تحيط بالمدينة من كل مكان. •••
آه يا مدينة الغجر!
من يراك وينساك؟!
فليبحثوا عنك على جبهتي
مزيجا من القمر ومن الرمال.
وأشهر قصائد الديوان هي قصيدة «أخضر كم أحبك يا أخضر!» وعنوانها الأصلي «حكاية السائرين نياما»، والتي أوردناها كاملة في بداية هذا الكتاب، وتدور أحداثها من خلال غنيمة من الحلم أو من السحر، فتبدو وكأنها تتراءى من خلال ذهن أحد السائرين في نومهم، أو شخصية عجزت عن مواجهة الواقع فتراه من خلال عالم أخضر من الهذيان، ونرى فيها غجريا يعمل في التهريب قد أصابه جرح مميت، ويختفي من مطاردة رجال الدرك له، فيتوجه في الهزيع الأخير من الليل أو في مطالع الفجر إلى منزل الفتاة الغجرية، التي يحبها والتي انتظرته طويلا، ويسأل والدها العون، ولكنه يجد الأب - لسبب ما - في حالة صدمة، ويصعد الرجلان إلى أدوار المنزل العليا التي يغمرها القمر بضوئه، وهناك يجد أن الفتاة التي انتظرت حبيبها عبثا وهي تطفو على سطح خزان المياه الذي يسبح في نور القمر، ونفهم من بين السطور أنها قد انتحرت غرقا، وتعمل دقات رجال الدرك المخمورين على الأبواب آخر الأمر على زيادة حدة الجو النومي الذي يهيمن على القصيدة، ويفتتن الشاعر بذكريات وخيالات وعواطف الشخصيات التي تضمها القصيدة، وهم كلهم في حالة أزمة شديدة.
ويزيد الناقد «ستانلي بيرنشو» على ذلك بأن الشاعر نفسه يزيد من حمى الموقف بانتحاله نفس موقف شخصياته والتحدث نيابة عنهم. بالأبيات المتكررة التي تتردد في ثنايا القصيدة، فكل الشخصيات منجذبة إلى نوع من الاخضرار، وكذلك الشاعر أيضا الذي تستبد به فكرة الخضرة دائما على طول القصيدة ... وتتحرك الشخوص من تحت سحر ضوء القمر الجميل والنذير في نفس الوقت، فهم من ذلك المنطلق سائرون جميعا في نومهم: المهرب الجريح، الأب الهرم الذي هزه الحزن على ابنته، فلم يعد يشعر بنفسه، الفتاة التي انتحرت بعد أن جنت من طول انتظار الأمل الأخضر، فألقت بنفسها في أحضان الموت الأخضر في خزان المياه، بل وحتى رجال الدرك المخمورين الذين اقتفوا أثر المهرب، وجاءوا يدقون على الأبواب.
وقد عمل النجاح الفوري لهذا الديوان على طير صيت لوركا وشهرته في طول البلاد المتحدثة بالإسبانية وعرضها، وسرعان ما ترجمت قصائده - التي حركت مشاعر القراء وعواطفهم - إلى معظم اللغات الأوروبية ولغات أخرى.
مجلة أدبية وأزمة نفسية
قضى لوركا الوقت الذي انقضى بين نهاية مهرجان إشبيلية، الذي تحددت فيه الخطوط العريضة للجماعة الفنية الجديدة - جيل 27 - وبين أواخر شهر يوليو 1928م، حين صدرت الطبعة الأولى من ديوانه الذي طال انتظاره «حكايا الغجر»، في تحقيق حلم أدبي طالما داعب خياله منذ زمن بعيد، ألا وهو إصدار مجلة أدبية فنية، وقد بدأ هو وصحبه في التفكير في ذلك منذ أوائل عام 1926م، نتيجة لمناقشاته مع أعضاء أتنيو غرناطة، ثم مع «سلفادور دالي» في برشلونة. وكانت الفكرة الأولى عن ذلك هو إصدار مثل هذه المجلة كملحق أدبي للصحيفة الغرناطية «الحامي»
El Defensor ، على أن يكون الملحق باسم «الديك
Gallo »، فيكون الاسم الكامل «ديك الحامي
El Gallo Del Defensor »، ثم تطورت الفكرة مع مر الزمن واتساع أبعاد البحث والنظر فيها، فتقرر أن تكون المجلة مستقلة عن الجريدة المذكورة، كما جاء وقت غلبت على لوركا نزعته الشرقية وميوله الطليعية المغرمة بكل غريب قصي، فقرر أن يكون اسم المجلة «الديك السلطان
El Gallo Sultan »، ولكنه بعد ذلك إلى الاسم المجرد المقترح أولا، وكانت فكرة لوركا عن هذه المجلة تتجاوزها إلى تكوين حركة أدبية وفنية تكون المجلة نواتها، فقبل صدور العدد الأول من «الديك» في 9 من مارس 1928، أقيمت مأدبة كبرى لمحرريها، كما جرى التخطيط لإصدار سلسلة من الكتب الطليعية تسمى «مطبوعات الديك»، وتم تنظيم أمسيات شعرية ونقدية في «أتنيو غرناطة»، تدعو لها الجماعة وتنظم تحت اسم «أمسيات الديك»، وكان مدير المجلة هو شقيق الشاعر فرانسيسكو لوركا، وتضم هيئة التحرير، عدا شاعرنا: «خواكين أميجو» «فرانسسكو أيالا»، وغيرهما من رفاق الشاعر، وكتب في العدد الأول من المجلة لوركا، وخورخيه جيين، وخوسيه برجامين، ورسم فيه دالي «ومانويل أورتيث»، وقد أثارت الصفة الجديدة الطليعية للمجلة دهشة قرائها، حتى أن لوركا كتب عن صدور عددها الأول قائلا: «لقد أثارت مجلة «الديك» ضجة حقيقية في غرناطة، إن غرناطة مدينة أدبية، ولم يمر بها أبدا شيء «جديد»؛ ولهذا فقد أثارت المجلة من الضجة ما لا يمكن تخيله، وقد نفد العدد في يومين، ويدفعون الآن ضعف ثمنه للحصول عليه، وفي الجامعة، أثارت أمس معركة بين المؤيدين للمجلة والمعارضين لها، ولا حديث للناس والمقاهي والاجتماعات والبيوت إلا عنها».
ثم صدر العدد الثاني في أبريل، واحتوى على بعض أعمال لوركا الشعرية، وترجمة إلى الإسبانية للبيان «اللافني» الذي وقعه الفنانون الطليعيون في برشلونة، وسبق نشره بالقطلانية في مجلة «أصدقاء الفنون»، ورغم أن لوركا قد عمل في الشهور التالية في الأعداد لإصدار العدد الثالث من المجلة، إلا أن ذلك العدد لم ير النور أبدا، وتوقفت المجلة لانشغال هيئة التحرير، والشاعر نفسه، في مشاريع فنية أخرى، خاصة وأن «سلفادور دالي» كان يتأهب لشد الرحال نهائيا إلى باريس بعد زيارات متقطعة لها، كما لا يغرب عن البال أن من بين أسباب عدم استمرار المجلة أنها كانت جريئة أكثر مما تحتمله مدينة محافظة مثل غرناطة.
وكان من أسباب انشغال لوركا عن مواصلة إصدار المجلة، تلك الأزمة النفسية الغامرة التي طحنته في تلك الأيام، والتي يتحدث عنها أصدقاؤه ورفاقه دون أن يتفقوا على أسبابها ودوافعها ... فبالرغم أن عام 1928م شهد تحقيق حلم الشاعر في إصدار مجلته، كما شهد أيضا النجاح المدوي الذي ناله ديوانه «حكايا الغجر»، فلم يكن لوركا يبدو سعيدا، بل كان يميل إلى الكآبة والحزن، كتب في مايو ل «خورخيه جيين» يقول: «ليست حالتي الروحية على ما يرام، إنني أمر بأزمة عاطفية كبرى، آمل أن أخرج منها معافى»، وقال في خطاب آخر في سبتمبر للكاتب الكولومبي «خورخيه ثالايا»: «أنا أيضا في غاية السوء، إن الأمر يحتاج إلى كل ما وهبه لي الله من فرح حتى لا أتهاوى أمام كمية الصراعات التي هاجمتني مؤخرا، بيد أن الله لا يتخلى عني أبدا، لقد عملت كثيرا، وما أزال أعمل، فبعد أن أتم «أناشيدي» التي أعمل فيها، سأغلق تلك الدورة الشعرية كيما أبدأ دورة أخرى، دورة من الشعر الذي «يفجر الشرايين»، شعر بجانب «الواقع ويجسم انفعالاتي التي ينعكس فيها كل حبي للأشياء ...».»
ومع مطلع عام 1929م، يغرق فديريكو أحزانه في العمل وفي الفن، ما بين كتابة قصائد جديدة، وإلقاء المحاضرات، وحضور الندوات، ونشرت له «المجلة الأدبية» في مدريد قصيدة نثرية بعنوان «ذبح الأبرياء» مصورة بريشة «سلفادور دالي»، وكانت جماعة مسرحية تسمى «الثعبان» تجري البروفات لإخراج مسرحية «دون تشمبرلين»، وهي مسرحية قصيرة كتبها لوركا في تلك الفترة، ولكن منعت الرقابة عرضها بسبب موضوعها الجريء على المستوى الأخلاقي السائد أيامها في إسبانيا؛ حيث تتنازعها القوى المحافظة الممثلة في الملكية والكنيسة والإقطاع، والقوى التقدمية التي يمثلها الطليعيون من المفكرين والمثقفين والفنانين.
ولكن ... هل صحيح ما يذكره بعض النقاد عن أن أصل أزمته النفسية هي حب فاشل مع «آن ماري دالي» أخت «سلفادور دالي»؟ الواقع أن بعض من كتبوا سيرة حياة لوركا قد أشاروا إلى ذلك دون أن يقطعوا فيه برأي، نظرا إلى عدم توفر أدلة ثابتة على ذلك ... ولكن الثابت هو أن جميع هذه العوامل قد تفاعلت في نفس الشاعر، فدفعته إلى السعي إلى الابتعاد عن إسبانيا بعض الوقت، للخروج مما سماه «الخدر العاطفي» الذي كان يشعر به آنذاك، وقد هيأ له راعيه وصديقه «فرناندو دي لوس ريوس» الأستاذ بجامعة غرناطة الفرصة لذلك، حين عرض عليه أن يسافر معه في رحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بأن حصل له على منحة لدراسة اللغة الإنجليزية في جامعة كولومبيا بنيويورك مدتها عام واحد.
وقد سارع لوركا بنقل قراره السفر في تلك الرحلة إلى صديقه «كارلوس مورا» الدبلوماسي الشيلي في مدريد في خطاب له قال: «أي كارلوس، مساء السبت أغادر غرناطة لأكون في مدريد صباح الأحد، وسأبقى هناك يومين أرتب فيها بعض أموري بها، ثم أسافر من فوري إلى باريس فلندن، حيث أبحر منها إلى نيويورك، أيدهشك هذا؟ إني أكاد أموت ضحكا من قراري هذا، ولكنه يناسبني وهو هام لحياتي ... إن نيويورك تبدو لي فظيعة، ولكني ذاهب إليها لهذا السبب نفسه، أعتقد أنني سأسر فيها، إني أرحل برفقة صديقي العظيم «فرناندو دي لوس ريوس»، وهو أستاذ قديم لي وشخصية ساحرة للغاية، وهذا سيسهل أموري هناك، فأنا كما تعلم لا حيلة لي في أمور الدنيا العملية.»
وهكذا رحل الشاعر بصحبة الأستاذ في أواخر مايو 1929م، ولم يبدو أن «باريس» و«لندن» قد تركتا كبير أثر في نفس لوركا، أكثر من روعته أمام اللوحات المشهورة في متحف «اللوفر» وكنوز المتحف البريطاني، وبعد لندن، قاما بزيارة سريعة إلى أكسفورد لزيارة العلامة الإسباني «سلفادور دي مادرياجا»، الذي كان مقيما هناك، ومن أكسفورد ذهبا بالقطار إلى ميناء «ساوثامبتون»، حيث أبحرت بهما عابرة المحيطات «أوليمبيك» فجرا إلى نيويورك.
التجربة الأمريكية
حتى قبل أن ترسو السفينة بلوركا في ميناء نيويورك، داهمه الحنين إلى الوطن، فنراه يكتب وهو ما زال على ظهر السفينة إلى صديقه «كارلوس مورلا» يقول: «يجتاحني كل يوم نهم إلى بلادي وإلى صالونك ... حنين إلى الثرثرة معكم وإلى أن أغني لكم أغنيات إسبانيا العتيقة ... لا أدري لماذا سافرت؟ إني أسأل نفسي هذا السؤال مائة مرة في اليوم ... أتطلع إلى صورتي في مرآة القمرة العتيقة فلا أتعرف على نفسي ... إني أبدو «فديريكو» آخر.»
ووصلت السفينة إلى ميناء نيويورك في أواخر شهر يونيو، ونزل لوركا في حجرة في مدينة الطلاب الملحقة بجامعة كولومبيا في قلب نيويورك النابض، وفي قاعة تدعى قاعة «جون جاي»، وعكف الشاعر منذ البداية على التعرف على الأوساط الإسبانية في المدينة الهائلة، أكثر من اهتمامه بمتابعة دروس اللغة الإنجليزية، التي سرعان ما هجرها بعد اقتناعه بأنه لا يصلح أساسا لتعلم هذه اللغة ... ويقول عنه راعيه الثقافي في نيويورك - أنخل دل ريو، أستاذ الأدب الإسباني في جامعة «كولومبيا»: «لقد رحل عن نيويورك دون أن يتعلم كلمة واحدة بالإنجليزية، وكان ينطق الكلمات القليلة التي يضطر أحيانا إلى استخدامها، بالنطق الإسباني!»
ولكنه مقابل ذلك كان يشعر بالغبطة، حين يجمع حوله طلاب اللغة الإسبانية بالجامعة، ويغني لهم الأغاني الشعبية الإسبانية التي تعلمها منذ طفولته، أو حين يمضي في لقاءات طوال مع الأصدقاء الإسبان من الفنانين والكتاب في نيويورك: أنخل دل ريو، والرسام جابرييل غرسيه ماروتو، وداماسو ألونصو الأستاذ الزائر في «هنتر كولدج»، وفديريكو دي أونيس، والشاعر المشهور ليون فيليبي.
كانت صدمة تعرفه على مدينة نيويورك كالصاعقة التي انقضت على فؤاده فهزته هزا عنيفا ... ها هو ... شاعر أندلسي رقيق، ابن غرناطة الهادئة الجميلة الساحرة، يهبط في مدينة مختلفة تماما عن كل ما رآه من قبل، مدينة حديدية، هائلة تصطخب ببشر همهم الأول هو المادة والتفوق المادي، ويصطدم فيها بالأبنية الحديدية السامقة، ويسير في الطرقات فيخيل إليه أن ناطحات السحاب هذه سوف تطبق بقضها وقضيضها على روحه فتزهق وتخمد منه الأنفاس، وقد حدث مرة وكان يسير في وسط الحشود في قلب نيويورك أن توقف بغتة وصاح بأعلى صوته: إني لا أفهم شيئا البتة!» وتبعها بضحكته المجلجلة الشهيرة.
بيد أنه، وبعد مدة من الصراع مع مدينة ناطحات السحاب، والجاز الذي كان يسود المدينة آنذاك - بدأ فديريكو يغوص في القاع التراجيدي للمدينة، ويدرك أن وراء المظهر الباهر لنيويورك ثمة كثيرا من الألم والوحدة ينبضان، وكثيرا من الرعب والخوف في الإنسان، وقد أتيح للشاعر أن يشهد الصراع الذي يستعصي على الحل بين ذروة حضارة آلية، وبين الغرائز الأولية التي لا تزال في داخل النفس البشرية ، وثمرة هذا الصراع التي تتمثل أحيانا في المعاناة والوحدة، والحزن الوديع لزنوج حي هارلم، وقسوة المادة في «وول ستريت»، حي المال في نيويورك.
وقد أثمرت التجربة الأمريكية التي مر بها لوركا قصائد عديدة، كانت فيض مشاعره وتجاربه في المدة من يوليو 1929م حتى يونيو 1930م، ورافقت تنقلاته ورحلاته التي قام بها في تلك الفترة، ومن الجدير بالذكر أن هذه القصائد لم تنشر في ديوان إلا عام 1940م بعد وفاة لوركا، بعنوان «شاعر في نيويورك»، وإن كان معروفا أن الشاعر كان يعتزم إصدارها معا تحت هذا العنوان، تصحبها صور مأخوذة عن الحياة في نيويورك، ويفتتح هذا الديوان بتجسيد فني لأول المشاعر التي هزت لوركا في الولايات المتحدة، الوحدة الطاغية، إذ إن عنوانا عريضا للجزء الأول من الديوان يحمل اسم: «وقصائد الوحدة في جامعة كولومبيا»، ثم نطالع في القسم السادس العنوان العريض «قصائد الوحدة في فيرمونت»، وتحمل قصائد الديوان أسامي معبرة، مثل «كنيسة مهجورة»، «رقصة الموت»، منظر الجماهير التي تقيء، منظر الجماهير التي تبول، جريمة قتل، مدينة لا تنام، الطفلة الغارقة في البئر، فاتحة للموت، ليلية الفراغ، أطلال، قمر وبانوراما الحشرات، الفرار من نيويورك.
ويعتبر الكثير من قصائد هذا الديوان تعبيرا، ومعادلا موضوعيا، وخلقا فنيا حيا للمشاعر المتضاربة التي أثارتها الحياة والمدن الأمريكية خاصة نيويورك، في نفس الشاعر.
وكان يحلو لفديريكو أن يتجول في شوارع المدينة الهائلة مع أصدقائه الإسبان، يجولون في الأحياء الشعبية وخاصة حي هارلم - حي الزنوج - الذي أوحى له بإحدى أهم قصائد الديوان:
أنشودة إلى ملك هارلم
بملعقة!
كان يقتلع عيون التماسيح
ويلهب مؤخرة القردة
بملعقة.
نيران كل يوم
تقعين غافية على حجر الصوان
والخنفسات السكرى من شراب الأنيس
تتناسى طحالب الضيعات.
هذا العجوز الذي يغطيه الفطر
يتجه إلى الموضع الذي ينتحب عنده الزنوج
بينما ارتفعت ملعقة الملك بالصرير
ووصلت خزانات المياه العفنة
فرت الأزاهير على طرف منحدرات الهواء الأخيرة
وعلى أكوام الزعفران
سحق الأطفال السناجب الصغيرة
في خفر من خبل ملطخ. •••
يجب أن نعبر الجسر
ونصل إلى الزنجي الخجول
حتى نشعر بعبير الرئة يطرق أصداغنا
بثوبه الأناناسي الدافئ
يجب أن نقتل بائع الخمور الأشقر
وكل أصدقاء التفاح والرمان
يجب أن نضرب بقبضات مقفلة
حبات اللوبياء الصغيرة التي ترجف مليئة بالفقاعات
وذلك حتى يغني ملك هارلم مع جمهرته،
حتى تنام التماسيح في صفوف طويلة
تحت معدن القمر الذي لا يحترق
وحتى لا يشك أحد في الجمال المطلق
لمنفضات الريش والمباشر ونحاس المطبخ وآنياته. •••
أواه يا هارلم! أواه يا هارلم! أواه يا هارلم!
ليس هناك من أسى يعادل عينيك المضغوطتين،
يعادل دماءك الراجفة من داخل خسوفك المظلم،
يعادل عنقك القاني الأصم الأبكم تحت ظلال الأضواء
يعادل مليكك العظيم السجين الذي يرتدي ثياب البوابين. •••
وكان الليل ينصدع عن سحالي هادئة من العاج
والفتيات الأمريكيات
يحملن أطفالا ونقودا في بطنهن
والشباب يغشى على صليب التمدد بعد الاستيقاظ. •••
هؤلاء هم!
هؤلاء هم من يشربون الويسكي الفضي إلى جوار البراكين
ويبتلعون شذرات القلوب على جبال الدببة المثلوجة
تلك الليلة
كان ملك هارلم يقتلع عيون التماسيح
بملعقة جامدة صلبة
ويلهب مؤخرة القردة
بملعقة
وبكى الزنوج حيارى وسط مظلات وشموس ذهبية
وشد الخلاسيون مطاطا
يجتاحهم الشوق إلى بلوغ الجسد الأبيض
والرياح قد طمست المرايا
وحطمت عروق الراقصين. •••
زنوج، زنوج، زنوج زنوج
ليس للدماء من منافذ في ليلك المدلهم
وليس هناك من خفر
ويهدر الدم غاضبا من تحت الجلد
ويعيش في شوكة الخنجر وفي صدر مناظر الطبيعة
تحت الكماشات ونباتات «الوزال»
لقمر السرطان السماوي. •••
الدم الذي يبحث في آلاف الدروب
عن الموت المغطى بالدقيق
وعن رماد الياسمين.
سموات تيبسة مائلة
حيت تنحدر مجاميع الكواكب على الشطآن
مع النفايات المهملة. •••
الدم الذي يتطلع في بطء بذيل عيونه
مصوغا من حشائش الحلفاء المعتصرة
ورحيق الأنفاق
الدم الذي يغطي الرياح الغافلة بالصدأ
ويحيلها إلى مجرد أثر
ويذيب الفراشات على زجاج النوافذ. •••
إنه الدم الذي يأتي
الدم الذي سيأتي
من قمم السقوف والأسطح
من كل الجوانب
ليحرق بلهيبه كلورفيل النسوة الشقراوات
ويئن تحت أرجل الفراش
وجها لوجه مع أرق الأحواض
ثم ينصدع فجرا من التبغ وظلا من الصفرة. •••
لا مفر من الهرب
الهرب من حول الأركان
والانغلاق في الأدوار العليا
لأن لباب الغابة سيخترق الشقوق
ليترك على جسدك آثار خسوف واهية
وأسى زائفا
للقفاز الماحل والوردة الكيميائية. •••
وفي فترة الصمت الحكيم
يبحث الجرسونات والطباخون
ومن يلعقون بلسانهم جراح المليونيرات
عن الملك في الطرقات
أو في زوايا الملح. •••
ريح جنوبية خشابية
مائلة فوق الحماة الزنجية
تبصق على القوارب المحطومة
وتدفع المسامير في أكتافها
ريح جنوبية
تحمل أنيابا وعباد شمس وحروف الأبجدية
وبطارية فولتية
فيها زنابير غارقة. •••
وكشف النسيان عن نفسه
بثلاث نقاط من الحبر على المونوكل
وكشف الحب عن نفسه
بوجه متفرد خفي على صفحة الحجر
واجتمع اللبلاب والنوار على السحاب
في صورة صحراء من الجذوع
خالية من أي ورود. •••
ذات اليمين وذات اليسار،
في الجنوب وفي الشمال،
يرتفع جدار لا تنفذ منه الشامة ولا إبرة الماء
لا تبحثوا أيها الزنوج
عن شق تجدون وراءه القناع المطلق
بل ابحثوا عن شمس المركز العظمى،
وقد تحولتم إلى أناناسة تطن وتئز،
الشمس التي تنساب خلال الغابات
على يقين بأنها لن تجد أي حوريات
الشمس التي تدمر أرقاما
ولم تخترق أبدا حلما
الشمس ذات الوشم تنساب عبر النهر
وتخور في طريقها
تتبعها التماسيح الأمريكية. •••
زنوج، زنوج، زنوج، زنوج
لا الثعبان ولا حمار الوحشي ولا البغل
يشحب لونه عند الموت
ولا الحطاب يدري متى تموت الأشجار المصطخبة التي يقطعها
حتى يهاجم الشوكران والعوسج والقريض
الأسطح الخلفية. •••
حينئذ أيها الزنوج
حينئذ
بإمكانكم أن تقبلوا عجلات الدراجة في جنون
وتضعوا أزواجا من الميكروسكوبات في كهوف السناجب
وترقصوا أخيرا في ثقة
بينما أزهار الشوك
تقتل «موسانا» على مقربة من أحراش السماء. •••
آه يا هارلم المتنكرة!
آه يا هارلم التي تهددها جمهرة بذلات دونما رءوس!
همهماتك تصلني
همهماتك تصلني عبر جذوع الأشجار والمصاعة الكهربية
عبر دمعات رمادية
حيث تطفو سياراتك المغطاة بالأسنان
عبر جياد ميتة وجرائم منمنمة
عبر مليكك العظيم اليائس
الذي تتطاول لحيته حتى البحر.
وكان من بين من تردد عليهم الشاعر ، صديقه «هرشل بريكل»، في منزله في «بارك أفنيو» مع شارع رقم 56، حيث كانت تجتمع هناك ثلة من الفنانين والأدباء، وبعد إحدى السهرات هناك، توجه الحاضرون لزيارة كنيسة «سان بابلو»، التي قال عنها لوركا فيما بعد أنها «أجمل كنيسة في العالم»، وتفوق موسيقاها أي موسيقى أخرى سمعها في إسبانيا، وحيث بدت له الكنيسة جزيرة من الجمال المعماري والفني المصفى وسط طوفان من البرودة والبشاعة والآلية التي تغرق فيها نيويورك. نيويورك ... نيويورك التي ألهمته هذه القصيدة المشهورة عن «الفجر في نيويورك»:
الفجر في نيويورك
تظلله أربعة أعمدة من الوحل
وعاصفة من الحمائم السود
يخضن في المياه العفنة.
الفجر في نيويورك
ينتحب على طول السلالم الهائلة
وينشد ياسمين الأسى
المرتسم وسط شعيرات السنابل. •••
يأتي الفجر
ولا أحد يستقبله في الأفواه
فليس ثمة صباح ولا أمل باسم
وأحيانا
تخترق العملات الأطفال المهجورين
وتلتهمهم
في أسراب ثائرة. •••
يعرف أوائل من يخرجون عن ثقة
أنه لن يكون ثمة فردوس ولا حب خالص
يعرفون أنهم يتجهون إلى وحل الأرقام واللوائح
إلى الألعاب التي لا تعرف فنا
إلى العرق الخالي من الثمار. •••
ويندفن النور في السلاسل والضوضاء
في التحدي المشين لعلم بلا جذور
ويتطوح الناس المؤرقون في كل حي
كأنهم خرجوا لتوهم من حطام الدماء.
ويطلق الشاعر أيضا قصيدته «صرخة إلى روما» من فوق مبنى «كرايزلر»، الذي كان أيامها أعلى مبنى في العالم قبل سنوات من إتمام مبنى الإمباير ستيت في نيويورك أيضا، وهي قصيدة اتهامية ضد حضارة رأس المال الميتة، ومنها:
يجب على الزنوج الذين يرقعون المباصق
الفتية الذين يرتجفون من هول المديرين الشاحب
النسوة الغارقات في الزيوت المعدنية
جمهور المطارق والفيولين والسحب
يجب أن يصرخوا
حتى ولو فجروا أدمغتهم على الجدران
يجب أن يصرخوا أمام القباب
يجب أن يصرخوا في جنون من النيران
يجب أن يصرخوا في جنون من الثلوج
يجب أن يصرخوا ورءوسهم مغطاة بالروث
يجب أن يصرخوا كأنما هم الليالي مجتمعة
يجب أن يصرخوا بصوت محطوم
إلى أن ترتجف المدائن كالأطفال
وتحطم سجون الزيت والموسيقى
لأننا نريد خبزنا كفاف يومنا
زهرة الحور والحنان الأبدي المنتثر
لأننا نريد أن تنفذ إرادة الأرض
التي تهب ثمارها للجميع.
لقد تجسدت مدينة نيويورك في نفس الشاعر كرمز للزيف الذي تخلقه الحضارة القائمة على المادة، مقابل الصدق الذي تبثه الطبيعة التي يحلم بها الشاعر، والتي وجدها وعاشها في وسط الفلاحين والغجر وكل ما هو طبيعي وتلقائي وفطري في النفس البشرية، ولم يكن أمام لوركا في تصويره الهجوم العاتي لتلك الحضارة المادية وافتنائها على الطبيعة، إلا اللجوء إلى أشكال من التعبير السيريالي، فوق الواقعي، وإلى أن يخضع أفكاره وصوره لعالم جديد غريب من الرموز والصور السيريالية، ومعظم قصائد الديوان تبين جور الكبريت المطفأة تلتهم سنبلات قمر الربيع - آلام المطابخ المذمونة تحت الرمال - يعض الحقل ذيله كيما يجمع الجذور في نقطة واحدة - ستأتي السحالي لتعض الرجال الذين لا يحملون - حيث الفيلسوف يلتهمه الصينيون واليسروعات - ذئاب وضفادع برية تغني في المواقد الخضراء - خرج السلطان في منتصف الليل إلى الممرات وتحدث مع القواقع الخاوية عن السجلات ... إلخ.
وتخللت السنة التي أمضاها لوركا بعيدا عن بلاده زيارات لمناطق أمريكية غير نيويورك، ففي شهر أغسطس سافر إلى «أدين ميللز» بولاية «فرمونت» تلبية لدعوة من صديقه «كمنجز»، الذي كان قد عرفه في مدينة الطلاب بمدريد من قبل ومن هناك كتب يقول: «إن الطبيعة هنا رائعة، بيد أنها تبث في النفس كآبة لا حد لها، وإنها لتجربة طيبة لي، السماء تمطر باستمرار، إن الأسرة التي أقيم بين ظهرانيها لطيفة جدا ورائعة، بيد أن الغابات والبحيرة تغرقاني في حالة من اليأس الشعري لا يمكن احتمالها، إني أكتب طول النهار، وأشعر بنفسي مجهدا عند المساء، لقد انسدل الليل، وأوقدت مصابيح الغاز، وعادت كل طفولتي إلى ذاكرتي ملفوفة في مجد من شقائق النعمان وسنابل وقمح»، وهناك، كتب «قصائد الوحدة في فيرمونت».
وفي نهاية أغسطس «سافر للقاء أنخل دل ريو» في مزرعة في جبال كاتسكيل، كان الأستاذ يمضي فيها إجازته مع عائلته ... ويحكي الأستاذ قصة وصول لوركا إلى المزرعة على النحو التالي:
في اليوم المحدد لوصوله، لم نتسلم أي برقية أو إخطار بالموعد كما سبق أن اتفقت معه ... وعند حلول المساء بدأ القلق يعترينا من أن يكون قد ضل طريقه أو تعرض لحادث، حين أبصرنا أخيرا عربة أجرة تتهادى متثاقلة في الطريق المترب مثيرة الغبار من حولها، وكان ثمة تعبير استسلام على وجه السائق، أما لوركا فما إن رآني حتى اهتاج وأخذ يصرخ ويصيح، وكان ما حدث هو أن لوركا قرر عند وصوله إلى البلدة أن يستقل تاكسيا، دون أن يعرف كيف يشرح العنوان للسائق، وأخذ التاكسي يروح ويجيء في الطريق المغبرة وسط الجبال، إلى أن أعطى أحد المارة العنوان الصحيح للسائق، وكان العداد قد سجل 15 دولارا، بينما لوركا قد أنفق كل ما يحمل من نقود، مما ملأ قلبه بالفزع بألا ينجح في الوصول إلى مقصده ويفاجأ السائق بإفلاسه، وفي الحال، خلع لوركا مظهرا خياليا مروعا على الحادث، وزعم أن السائق - الذي لم يستطع التفاهم معه - قد حاول سرقته وقتله في جانب مهجور من الغابة!
وأمضى الشاعر أسبوعين في هذه المزرعة الجبلية، كتب فيها من قصائد الديوان: ليلة الفراغ، أطلال، طفلة غارقة في البئر، منظر لقبرين وكلب آشوري. ثم قضى الشاعر بقية إجازته الصيفية في منزل الأستاذ «فديريكو دي أونيس» بالقرب من «نيوبرج»، ثم عاد بعدها إلى حجرته في المدينة الجامعية بنيويورك، وكتب عندها يقول لصديقه كارلوس مورلا: «... لقد عاد فديريكو القديم إلى الظهور ...»
وهكذا فعلت الرحلة الأمريكية في نفس الشاعر فعل السحر، فعل التجديد، فعل التطهير، بكل ما تحمله من حسرات ومفاجآت ووحدة وعزلة وألم، لقد أمسك الشاعر حقا بنيويورك من داخلها ومن خارجها، عن طريق دفعة جامحة من الصور الدرامية: وحدة مأساوية وانفجار للحياة في حركات وصور مزعزعة متفرقة، كأنها شريط لفيلم سيريالي. إن قصائده تبين لنا كيف كانت نفس الشاعر تغرق في مدينة نيويورك، بل وقد وصل الحال بلوركا أن خشي أن تبتلعه المدينة الهائلة في جوفها، وكان على وشك الهروب منها والعودة إلى غرناطة بلدته الوديعة الهادئة كالنهر الناعس، ما لم تصله في ذلك الحين دعوة من معهد الثقافة الإسباني - الكوبي لإلقاء محاضرات في عدة مدن من جزيرة كوبا، ووافق فديريكو على الفور، وأبحر في ربيع 1930م إلى هافانا العاصمة التي أحبها من أول نظرة، والتقى فيها بجذوره الإسبانية الراسخة التي كانت قد شارفت على الاختفاء في نيويورك، ولم يقتصر الأمر هناك على العودة إلى سماع اللغة الإسبانية، بل والعودة إلى الأجواء الدافئة والبشرة السمراء الذي تذكره بأهل الأندلس، وليس هناك أقرب إلى العنصر الأندلسي من العنصر «الكريولي»، وهم أهل أمريكا الجنوبية المخلطين، وكان لوركا يقول هناك: «إنني أشعر وكأنني في مدينة قادش»، وتبادل الشاعر الحب والاهتمام مع شعراء كوبا وفنانيها، وكان مع إلقائه المحاضرات والأشعار، يتشرب عذوبة استوائية كوبا: موسيقاها، شمسها، بهجتها، وهام بصفة خاصة بالألحان «الأفروكوبية» التي يتميز بها السود هناك.
وخلال إقامته في كوبا، واصل كتابة بعض المناظر في عملين مسرحيين: «الجمهور»، و«عندما تمر خمس سنوات»، كما نشر في مجلة «الموسيقى» بهافانا، قصيدته التي استوحاها من الموسيقى الأفريقية - الكوبية، والتي ضمنت ديوانه شاعر في نيويورك، وهي بعنوان «موسيقى الزنوج» في كوبا:
حين يطلع البدر
سأذهب إلى سنتياجو دي كوبا.
سأذهب إلى سنتياجو.
في عربة من المياه السوداء
سأذهب إلى سنتياجو
وسوف تغني سقوف النخيل
سأذهب إلى سنتياجو.
حين تشتاق النخلة أن تصبح لقلقا
سأذهب إلى سنتياجو
وحين تشتاق شجرة الموز أن تصبح صدفة
سأذهب إلى سنتياجو
مع رأس «فونسكا» الشقراء
سأذهب إلى سنتياجو
ومع وردية روميو وجولييت
سأذهب إلى سنتياجو
بحر من الورق وفضة من العملات النقدية
سأذهب إلى سنتياجو
آه يا كوبا، آه يالحين جاف البذور!
سأذهب إلى سنتياجو
آه أيها الزنار الجار ويا قطرة الأخشاب!
سأذهب إلى سنتياجو
يا معزف الجذوع الحية، أيها التمساح، يا زهرة التبغ!
سأذهب إلى سنتياجو
لقد قلت دوما إنني سأذهب إلى سنتياجو
في عربة من المياه السوداء
سأذهب إلى سنتياجو
النسمة والكحول يصاحبان عجلاتي
سأذهب إلى سنتياجو
ومرجاناتي وسط الغمام
سأذهب إلى سنتياجو
البحر الغارق في الرمال
سأذهب إلى سنتياجو
حرارة بيضاء، وفاكهة ميتة
سأذهب إلى سنتياجو
آه يا كوب، آه يا منحدر النهدة والطين!
سأذهب إلى سنتياجو
ثم شارفت إقامته في كوبا على نهايتها، واستقل في أواخر صيف 1930م الباخرة الإسبانية ماركيز دي كومياس، عائدا إلى إسبانيا، بعد أن توقفت في الطريق في ميناء نيويورك حيث كان وداع الشاعر لأصدقائه هناك.
وهكذا فارق شاعرنا الأرض الأمريكية، أرض العالم الجديد، التي مثلت له تجربة كثيفة في روحه وفي فنه، ولكن المهم أيضا هو أنها قد أزالت عنه ذلك «الخدر العاطفي»، ذلك الحزن والكآبة العميقين اللذين هاجماه طوال صيف وشتاء 1928م، وقد عاد فديريكو من رحلته سعيدا بها وأكثر ثقة في نفسه وفي عمله، مليئا بزخم جديد دفاق للعمل والحياة.
لاباراكا وفترة النضج المسرحي
وكعادة لوركا كل صيف، قضى الصيف التالي لرحلته الأمريكية في بلدته غرناطة، يجتر تجاربه، ويقضي أيامه ولياليه بين أهله وأصدقائه من الفنانين والشعراء، ثم عاد مع بداية الشتاء في أواخر 1930م إلى مدريد لحضور عرض مسرحيته الجديدة «الإسكافية العجيبة» على مسرح «إسبانيول»، تؤديها فرقة «كاراكول»، وتمثل فيها الممثلة المشهورة «مرجريتا شيرجو» دور البطولة.
وهذه المسرحية - التي ترجمها الدكتور عبد الرحمن بدوي إلى العربية ونشرت عام 1964م - تمثل حلقة في سلسلة مسرحياته الشعبية الفولكلورية، وقد تصورها مؤلفها بوصفها «باليه» لا ينقصه إلا الموسيقى، وقصتها تحكي عن صبية جميلة في الثامنة عشرة تتزوج إسكافيا هرما عمره ثلاثة وخمسون عاما، في إحدى القرى الأندلسية، وتمتلئ حياة الزوجين بالشجار والنقار، ولم ينجبا أطفالا، ويضحك منهما أهل القرية وينشدون الأغاني في التهكم عليهما، وكانت الإسكافية تقضي نهارها تحلم بأراض قصية وحياة مختلفة عن التي تحياها، وتهمل شئون بيتها، ويفيض الكيل بالزوج الهرم فيهرب من المنزل، ومع غياب الزوج تتغير صورته في عيني زوجته الحسناء، فيبدو لها أنه كان أفضل زوج في الدنيا، وتطرد عنها الشبان الذين يخطبون ودها، مفضلة أن تنتظر زوجها التي أصبحت تحب صورته وذكراه، ويعود الزوج متخفيا إلى القرية، ويعلم مدى ثبات زوجته على حبه، فيكشف شخصيته آملا أن يعيش في هناء بعد ذلك مع الزوجة، بيد أنها وقد عاد الزوج، تعود إلى حياة الشجار والنقار مع الإسكافي.
وهذه المسرحية خفيفة الروح والجو، وتزخر بالأغاني الشعبية الأندلسية، مما جعلها تنجح على المسرح، ويقبلها الجمهور الإسباني والأجنبي على حد سواء.
ورغم أن عام 1931م قد شهد أيضا صدور ديوان «قصيدة الغناء العميق»، الذي يضم القصائد التي كان لوركا قد كتبها في عام 1921م، ثم نسيها في أحد أدراج مكتبه بعد ذلك، إلا أن عرض المسرحية وصدور هذا الديوان - رغم نجاحها - قد غرقا في الأحداث العظيمة التي شهدتها إسبانيا في ذلك الربيع الملتهب، ربيع عام 1931م وما تلاه، ذلك أنه بعد الحكم الدكتاتوري للبلاد على يد الجنرال «بريمو دي ريفييرا» - في ظل الملكية والملك - والذي استمر من عام 1921م حتى بداية عام 1930م، لم يجد الملك بدا من تعيين حكومة تجري انتخابات بلدية عامة، أجريت بالفعل في 12 أبريل 1931م، وفوجئ الملك والحكومة بنجاح معظم المرشحين المناهضين للملكية والداعين لقيام حكم جمهوري، وحين لم يبادر الجيش ولا الحرس المدني إلى إعلان ولائهما للملكية، وجد الملك - ألفونسو الثالث عشر - أنه ليس أمامه إلا أن يرحل إلى المنفى، حيث استقر هو وأسرته في إيطاليا، وفي نفس يوم رحيل الملك - 14 أبريل 1931م - أعلنت الجمهورية في إسبانيا، وبدأت الحياة الديمقراطية بإجراء انتخابات عامة في يونيو 1931م، فاز فيها الجمهوريون والاشتراكيون والتقدميون بأغلبية ساحقة على الملكيين، وتشكلت على أثرها حكومة اشتراكية النزعة برئاسة «ألكالا زامورا» ... وقد دخل أستاذ لوركا وصديقه «فرناندو دي لوس ريوس» الحكومة الجديدة وزيرا للمعارف العمومية، وقد أعقبت تلك الأحداث صراعات خفية وعلنية بين مختلف طوائف الشعب الإسباني، ظلت تعمق وتستفحل إلى أن انتهت باندلاع حرب أهلية دامية كما سنرى بعد ذلك.
ولا شك أن تلك الأحداث التي بدأت تترى في إسبانيا في ربيع عام 1931م، قد أثرت أعظم تأثير في نفسية لوركا، وألهبته حماسا لتقديم إسهاماته لخدمة ذلك القطاع من الشعب، الذي يكن له أعظم حب ومودة: الفقراء والفلاحين والغجر. ولقد صارت عبارة صرح بها الشاعر لأحد الصحفيين بعد ذلك في أواخر عام 1934م علما على تفكيره وإنسانيته، إذ قال: «في هذا العالم، أنا دائما، وسأكون دائما، في صف الفقراء، سأكون دائما في صف من لا يملكون شيئا، بل هم محرومون حتى من طمأنينة العدم».
وقد دفعه هذا الإحساس الإنساني والاجتماعي إلى التفكير بعد قليل من قيام الجمهورية في مشروع ثقافي، وهبه الكثير من فكره وجهده ووقته: إنشاء مسرح جامعي متنقل من الهواة، يطوف قرى إسبانيا ونجوعها في كل الأنحاء، لتقديم الأعمال المسرحية الإسبانية العظيمة، من «مشهيات»، «سرفانتس» صاحب «دون كيشوت»، إلى درامات «لوبي دي فيجا» و«كالديرون دي لاباركا». وخلع لوركا على مسرحه اسم «لاباراكا» أي «الكوخ» بالإسبانية، ونالت الفكرة استحسان الوزير الجديد «فرناندو دي لوس ريوس» - الذي أمد المشروع بالاعتمادات المالية الضرورية - كما تحمس لها أيضا مجموعة من الشباب من طلبة الجامعة، معظمهم من كلية الآداب، من هواة المسرح والتمثيل، وتطوع عديد من أصدقاء لوركا من الفنانين والرسامين للمساهمة بجهودهم في تصميم الديكورات والعرائس للمسرحيات المختلفة، وأولى لوركا عنايته لكل صغيرة وكبيرة في التحضير لتنفيذ المشروع الفني الكبير، من الإجراءات الإدارية بكل أنواعها إلى التفاصيل الفنية بوصفه مخرج المسرح، فكان يدير حركة الممثلين وطريقة أدائهم ونطقهم، والإضاءة، والملابس، والديكورات.
وبدأت البروفات في منتصف عام 1932م، لتقود إلى حفلة الافتتاح التي أقيمت في ميدان «برغو دي أوسما» في مقاطعة «صوريا»، بتقديم عملين من «مشهيات» سرفانتس هما: «الحارسة الحريصة» و«كهف شلمنقة».
وتنقل مسرح «لاباراكا» في عديد من المدن والقرى الإسبانية، حيث كان يلقى حفاوة بالغة وتشجيعا عظيما، كان معظم جمهور النظارة من الناس الذين أحبهم لوركا دائما: الناس البسطاء، العمال والفلاحون الذين يجدون في ذلك المسرح الشعبي فرصة يلتقون فيها مع أدب بلادهم وفنها العريق، وكانت المسرحيات التي تقدم كلها من التراث الإسباني في عصره الذهبي، ولكنها رصعت بعمل واحد حديث هو «تاريخ جندي» للمؤلف «راموز»، الذي وضع موسيقاه الموسيقار الفرنسي الشهير «سترافنسكي»، ويحكي «بابلو نيرودا» عن مدى اهتمام لوركا بخدمة مسرحه، أنه عندما كان لوركا يشرف على إعداد الملابس والديكور لمسرحية «بيريبانيث» للوبي دي فيجا، جاب كل بقاع مقاطعة «اكستربمادورا» وقراها، إلى أن عثر على ملابس حقيقية ترجع إلى القرن السابع عشر، كانت تحتفظ بها أسرات ريفية عريقة كأثر من آثار الأجداد وتوارثتها جيلا عن جيل، وقد رضيت بإعارتها للوركا لاستخدامها في مسرحه؛ لأن خفته ولطفه، كانا كفيلين بفتح جميع الأبواب أمامه.
ومع كل الوقت والجهد الذي بذلهما الشاعر في خلق مسرحه والسير به قدما إلى الأمام، فإن ذلك لم يشغله عن النشاط الأدبي والفني الخاص به، وعن متابعة زيارة أصدقائه والتردد على جلسات أهل الأدب والفن، وكذلك عن إلقاء المحاضرات الأدبية في محافل عدة، قامت بإنشائها الجمهورية الوليدة، وقد حملته واحدة من تلك المحاضرات إلى إقليم «غاليسيا» الناضر المزهر الخضرة على الدوام في شمالي غربي إسبانيا. وكانت حصيلة تلك الزيارة ست قصائد غاليسية وضعها المشاعر، رغم أنه كان يجهل هذه اللهجة المختلفة عن الإسبانية، ولكن إيقاعاتها وموسيقيتها حملاه على أن يعبر عن نفسه بها. وقد طاف في زيارته «الغاليسية» بالمدينتين الرئيسيتين هناك: «كورونيا»، و«سنتياجو دي كومبوستيلا»، وفي الأخيرة، زار قبر الشاعرة الإسبانية المشهورة «روساليا دي كاسترو» التي كان يغرم بشعرها، ووضع باقة من الزهور هناك.
وكان لوركا في ذلك الوقت يكمل رائعته المسرحية: «عرس الدم»، وهي حلقة مستقلة من ثلاثية مسرحية اكتملت فيما بعد بمسرحيتي «يرما» و«بيت برناردا ألبا»، وقد افتتحت مسرحية «عرس الدم» في 8 من مارس 1933م، على مسرح «بياتريز» بمدريد، بحضور نجوم الفن والأدب والفكر الإسباني، ومنهم خاسنتو بنافنتي، وميجيل دي أونامونو، وأورتيجا إي جاسيت ، علاوة على أعضاء «جماعة 27 الأدبية بكاملهم»، ولاقت المسرحية نجاحا فوريا ساحقا، ولا غرو فهي قد تكامل فيها الفن المسرحي، والشعر الغنائي الذي يقوم بدوره في بناء درامي متكامل، وشخصيات ورموز مسبوكة، ويدور موضوع المسرحية - التي ترجمت إلى العربية ثلاث مرات - حول الصراع على فتاة يحبها شابان ينتميان إلى عائلتين متعاديتين، وتقبل الفتاة أحدهما زوجا نكاية في الآخر الذي تحبه لأنه تزوج بفتاة أخرى، وفي ليلة عرس الفتاة، تهرب مع حبيبها المتزوج ليوناردو، ويطارد العريس وأهله العاشقين في دروب إحدى الغابات إلى أن يعثروا عليهما، فتدور معركة تنتهي بمقتل الشابين المتنافسين، ولم يبق إلا النسوة يذرفن الدموع على مصيرهن.
جو المسرحية أندلسي صرف، يزخر بالعواطف المشبوبة والمنازعات والصراعات العنيفة، كما أنها تمتلئ بالأغاني الشعبية التي تدور حول الحب والزواج والأطفال، وقد لقيت هذه المسرحية نجاحا هائلا لما صورته من جوانب الحياة الإسبانية الأصيلة، وقابلها النقاد المسرحيون بحرارة شديدة.
وفي ربيع نفس العام - 1933م - بتعاون الشاعر مع صديقه «بورا أوسيلاي» في إنشاء «نوادي الثقافة المسرحية»، بهدف إقامة مسرح إسباني يقف أمام الموجة التي انتشرت في إسبانيا من المسرحيات المبتذلة، التي تعتمد على تقديم الأغاني والاستعراضات دون أي هدف فني، وكانت الفكرة تقوم على إنشاء مثل تلك النوادي في كبريات المدن الإسبانية، وبدأ نادي مدريد عمله بتقديم عملين من أعمال لوركا هما «الإسكافية العجيبة» و«غرام دون برلمبلين وبليزا في حديقته»، التي كان قد كتبها في عام 1928م، ومثلت في العملين «مرجريتا شيرجو»، وقدما على مسرح «إسبانيول» في 5 أبريل، ورغم نجاح تقديم هاتين المسرحيتين عند عرضهما في مدريد، إلا أن النجاح الهائل الذي كانت تلاقيه مسرحية «عرس الدم» طغى عليهما.
وما إن يحل صيف 1933م، حتى يكون لوركا غارقا حتى أذنيه في ثلاثة أعمال مسرحية جديدة: «الجمهور»، الذي يقول إنها لن تمثل لأنها «غير قابلة للتمثيل على المسرح أبدا»، و«عندما تمر خمس سنوات» وهي مسرحية تدور حول فكرة الزمن، و«يرما» وهي الحلقة الثانية في الثلاثية الدرامية الأندلسية، ويرجع إلى تلك الفترة تعرفه وصداقته، في إحدى رحلاته مع مسرح «لاباراكا» في شمال إسبانيا، ب «مارسيل أو أوكلير» الكاتبة الفرنسية التي ترجمت «عرس الدم» إلى الفرنسية، ثم كتبت بعد ذلك إحدى أدق وأكمل سيرة فنية لحياة الشاعر بعنوان «حياة لوركا وموته».
وفي أغسطس، يغلق «لاباراكا» أبوابه ونشاطه في إجازة صيفية، ثم يقبل لوركا في سبتمبر دعوة من جمعية أصدقاء الفن في «الأرجنتين»، لزيارتها وإلقاء عدة محاضرات هناك، ولحضور عروض «عرس الدم» التي تقدمها فرقة الممثلة الأرجنتينية المشهورة «لولا ممبريفس»، ويصل لوركا إلى ميناء «بوينس آيرس» في 13 أكتوبر 1933م، ويقضي في العاصمة الأرجنتينية أياما مليئة بالنشاطات الأدبية والفنية، من محاضرات إلى أحاديث إذاعية وعروض مسرحية وحفلات تكريم، وتعرض على مسرح «أفنيدا» بيوينس آيرس مسرحيات لوركا «عرس الدم» و«الإسكافية العجيبة» و«ماريانا بينيدا»، ويشترك هو نفسه في إلقاء مقدمة «الإسكافية العجيبة»، وفي أواخر يناير 1934م، يسافر الشاعر إلى «منتفيديو» عاصمة الأوروجواي المجاورة للأرجنتين، حيث يلقي عدة محاضرات هناك، ويستقبله سفير إسبانيا في الأوروجواي.
وبعد عودة لوركا إلى الأرجنتين، ينظم نادي القلم الدولي مهرجانا في ذكرى شاعر «نيكاراجوا» «روبين داريو»، رائد الشعر الإسباني الحديث، الذي ترك بصمات واضحة في شعراء جماعتي 98 و27، ويشترك في المهرجان لوركا والشاعر الشيلي العظيم «بابلو نيرودا»، حيث يلقيان معا محاضرة ثنائية عن «داريو»، وكانت هذه أول مرة يلتقي فيها الشاعران الكبيران لوركا ونيرودا، حيث ربطت بينهما صداقة حميمة، استمرت حتى موت لوركا في عام 1936م، وكتابة نيرودا مرثية شهيرة عنه، وقد ترسخت تلك الصداقة حين انتقل «نيرودا» بعد ذلك في يوليو 1934م قنصلا لبلاده في مدريد، وأصبحت الندوات والتجمعات الأدبية قلما تخلو من هذين البلبلين المغردين: لوركا الذي يتلو أشعاره الشعبية ويغني أغاني الفولكلور والفلامنكو على البيانو، ونيرودا يقرأ بعض قصائده الجديدة التي لم تنشر بعد، وكان أكثر شيء لاحظه أصدقاء لوركا عليه عند عودته من أمريكا اللاتينية إلى إسبانيا في أبريل 34، هو انبهاره بموهبة الشاعر الشيلي بيرودا، فكان خير مرهص به وبأعماله لدى الشعراء والكتاب الإسبان، مما مهد له الطريق بعد ذلك عند وصوله إلى مدريد.
فاجعة مصارع الثيران
مع بداية فصل الصيف من عام 1934م، كان شاعرنا يضع لمساته الأخيرة في مسرحيته الجديدة: يرما، متنقلا من موضع لآخر مع مسرح «لاباراكا»، وحين كان المسرح يقدم عروضه في مدينة «سنتندير» في شمال إسبانيا، يصله النبأ الفاجع بإصابة صديقه الحميم «إجناثيو سانشز ميخياس» مصارع الثيران العظيم، في حلبة المصارعة في مدريد يوم 11 أغسطس، ويتأثر لوركا تأثرا عظيما بهذا الحادث، الذي أودى بحياة صديقه في النهاية، ويجد نفسه مرة أخرى وجها لوجه أمام الموضوع ، الذي ما فتئ يناوشه منذ زمن: موضوع الموت.
وقد أشار كثير من النقاد إلى ذلك الموضوع الذي شغل بال الشاعر كثيرا، وتبدى في كثير من «تيمات» قصائده وصوره الشعرية، فكما ذكر بدرو ساليناس في مقالة له عن موضوع الموت لدي لوركا، يكمن «الموت» في قصائده، في الأعمال الطبيعية العادية، وفي الأماكن التي لا ينتظره أحد فيها، وما إن يدخل القارئ إلى عالم لوركا الشعري في قصائده ومواويله وحكاياه ومسرحياته حتى يشعر أنه ينغمر في جو غريب. إن المناظر التي يقدمها شعبية عادية، ولكن أجواءها تعمر بالنذر والمخاطر الخفية، وتعبرها الاستعارات والتشبيهات الشعرية كطيور الشؤم، ومصير كل الشخصيات التي يخلقها لوركا - سواء في شعره أو في مسرحياته - مآلها إلى الموت، فالمؤلف يخلقها ويضعها في طريق لا يؤدي بها إلا إلى الموت، ويتبدى هذا أكثر ما يتبدى في ثلاثيته المسرحية: عرس الدم - يرما - بيت برناردا ألبا، وهذا ما يدعو إلى القول بأن رؤيا الحياة والإنسان لدى لوركا، قد تأسست على فكرة الموت، والشاعر في هوسه بهذا الموضوع وتغلغله فيه، إنما يعكس التسليم بأهمية الموت ومكانه في حياة الإسبان عموما، فالشعب الإسباني هو من أكثر شعوب العالم قربا من عقيدة الموت، التي تتبدى - على مر العصور - في فنونه من تصوير ونحت وأعمال قصصية ومسرحية تدور حول هذا الموضوع، ولا عجب أيضا أن كانت الرياضة الأولى لدى الإسبان - وهي ترجع إلى ما قبل الفتح العربي الإسلامي - هي رياضة مصارع الثيران، التي إن هي إلا تمثيل حي للصراع بين الحياة والموت، ينتهي أحيانا بموت المصارع، وحتما بموت الثور ...
لذلك كانت أشمل مواجهة فنية بين لوركا وبين فكرة الموت، تتصل بالقصيدة التي سطرها غداة وفاة صديقه مصارع الثيران ... وكان «سانشز ميخياس» قد اعتزل حلبة المصارعة بعد نجاح باهر، ولكن هيامه بهذه الرياضة - رياضة الرجال والشجاعة ومواجهة القدر - دفعته إلى العودة إلى مضمارها، وقد بلغ من العمر الثالثة والأربعين، وهي سن عالية يعتزل فيها المصارعون عادة عملهم ... وبعد حفلات عديدة ناجحة، يطلب منه أحد زملائه المصارعين أن يحل محله في مصارعة بمدريد، وهي التي انتهت بإصابته بجرح بليغ من قرن ثور أسود ضخم، صارع المصارع بعده الموت لمدة يومين، ثم قضى في 13 أغسطس ضحية حبه لهذه الرياضة ولشجاعته أمام الثيران.
ويصيب لوركا أحزانه على صديقه في مرثية صادقة من أربعة أقسام كتبها كلها في أربعة أيام، ويتناقلها الأصدقاء والشعراء قبل أن تطبع في النهاية في كتيب شعري وحدها مع سوم بريشة «خوسيه كاباييرو»، وهذه المرثية من أشهر قصائد لوركا الطويلة، ونقف جنبا إلى جنب مع المراثي الشعرية الخالدة، مثل المرثية التي كتبها «توماس جراي»، ومرثية «أدونيس» التي سطرها شيلي في رثاء «جون كيتس» وغيرهما، وقد نجح لوركا في تصوير جو مصارعة الثيران، مقرونا بنفسية المصارع والجمهور، إلى حد يجعل القارئ يدخل مباشرة إلى جو الصراع الأبدي بين المصارع والثور، بين الإنسان والقدر، الذي يجعله دائما في مواجهة الموت، الذي يأتي دائما في النهاية: (1) الجرح والموت
في الخامسة من بعد الظهر
كانت الساعة الخامسة تماما بعد الظهر
أحضر صبي الملاءة البيضاء
في الخامسة من بعد الظهر
وأعدت سلة الليمون
في الخامسة من بعد الظهر
وما تبقى هو الموت، والموت وحده
في الخامسة من بعد الظهر
وأطارت الريح القطن
في الخامسة من بعد الظهر
ونثر الأوكسيد الزجاج والنيكل
في الخامسة من بعد الظهر
والحمامة تتصارع الآن مع الفهد
في الخامسة من بعد الظهر
وثمة فخذ ذو قرن وحيد
في الخامسة من بعد الظهر
وأجراس تقرع أنغاما محمومة
في الخامسة من بعد الظهر
أجراس زرنيخية ودخان
في الخامسة من بعد الظهر
والجماعات صامتة في كل الأركان
في الخامسة من بعد الظهر
والثور وحده هو سيد الموقف
في الخامسة من بعد الظهر
حين ظهر شريان الثلوج
في الخامسة من بعد الظهر
حين غطيت الحلبة باليود
في الخامسة من بعد الظهر
وأفرخ الموت بيضا في الجراح
في الخامسة من بعد الظهر
في الخامسة من بعد الظهر
في الخامسة تماما من بعد الظهر
مرقده كفن يجري على عجلات
في الخامسة من بعد الظهر
وتدق في أذنيه عظام ومسامير
في الخامسة من بعد الظهر
والثور يخور في جبهته
في الخامسة من بعد الظهر
ويملأ الأسى الغرفة بألوان قوس قزح
في الخامسة من بعد الظهر
وها هي الغرغرينة تأتي من بعيد
في الخامسة من بعد الظهر
وفي عجيزته الخضراء بوق من زنابق
في الخامسة من بعد الظهر
واحترقت الجراح كالشموس
في الخامسة من بعد الظهر
وكانت الجماهير تحطم النوافذ
في الخامسة من بعد الظهر
آه ...
يا لتلك الخامسة من بعد الظهر الفظيعة:
كانت الخامسة في كل الساعات!
كانت ظلال الخامسة من بعد الظهر! (2) الدم المراق
لا أريد أن أراه!
قل للقمر أن يطلع
فلست أريد أن أرى دم إجناثيو على الرمال
لا أريد أن أراه!
القمر ساطع منير
جواد السحب الداكنة
وحلبة المصارعة الحلمية الرمادية
وأعواد الصفصاف في المدرجات.
لا أريد أن أراه!
ذكرياتي تحترق
أنبئ الياسمين ببياضه الصغير
لا أريد أن أراه!
بقرة العالم القديم
مرت بلسانها الخرين
على خيط من الدم المراق على الرمال
وثيران «جيساندو»
نصفها موت ونصفها حجر،
تخور كقرنين
أنهكهما التطواف في الأرض
كلا،
لا أريد أن أراه!
يصعد إجناثيو الدرجات وموته على كتفيه
كان ينشد الفجر
الفجر الذي لم يكن له وجود
كان ينشد بروفيله الواثق
ويملؤه الحلم بالعتمات
كان ينشد جسده الجميل
فصادف دمه المفتوح
لا تطلبوا مني أن أراه!
لا أريد أن أسمع الفيض يخور ...
فيض يضيء الدرجات
ويفيض على المخمل القطني
وجلود الجماهير الملهوفة.
من يهيب بي أن أتقدم!
لا تطلبوا مني أن أراه!
لم تنغلق عيناه حين رأى القرنين يقتربان
ولكن الأمهات المذعورات رفعن رءوسهن
وارتفعت نسمة من الأصوات الخفية
من بين حظائر الثيران
وصاحت حظائر الضباب الشاحب
في وجه الثيران السماوية
لم يكن ثمة أمير في «إشبيلية» يضارعه
ولا سيف يضارع سيفه
ولا قلب صادق كقلبه
مدهش القفزة كالنهر الأسود
مرمري الجسد بحصافة بارعة
ورأسه مكلل بأجواء روما أندلسية
وعلى ابتسامة ياسمينة من اللماحة والذكاء
يا له من مصارع في الحلبة عظيم!
يا له من جبلي قح في وسط الجبال!
يا لظرفه مع سنبلات القمح!
يا لصلابته مع الجراح!
يا لرقته مع الندى!
يا لبهائه في المهرجانات!
يا لروعته في سهام الظلمة الأخيرة!
ولكن ...
ها هو نام الآن نومة أبدية،
الآن تفتح الطحالب والحشائش
زهرة جمجمته بأصابع واثقة
والآن يأتي دمه يغني
يغني في المستنقعات والمروج
ينزلق على القرون المنحدرة
يتعثر في الضباب دونما روح
يتعثر فوق آلاف الخفوف
كاللسان الطويل المظلم الحزين
وتكونت بركة من أسى
بالقرب من نهر «الوادي الكبير»
المليء بالأنجم
آه يا جدار إسبانيا الأبيض!
آه يا ثور الأسى الأسود!
آه يا دماء «إجناثيو» المتجمدة!
آه يا بلبل عروقه الصداح!
كلا،
لا أريد أن أراه!
ليس هناك من قدح يحتويه
ليس هناك من طيور تلعقه
ليس هناك من صقيع ضوء يبرده
ليس هناك من أغاني ولا طوفان من الزنابق
ليس هناك من زجاج يغطيه بالفضة.
لا ...
لن أراه! (3) الجسد المسجى
قطعة الحجر
هي الجبهة التي تنوح عليها الأحلام
وقد حرمت من المياه الملتوية والأرزات المتجمدة
قطعة الحجر
كتف يحمل الزمان
مع أشجار الدموع وأشرطة الكواكب
لقد رأيت شآبيب رمادية تهرع نحو الموجات
ترفع ذراعيها الرقيقين الملغزين
كيما تصد عنها أسر الحجر الممدد
الذي يفكك أطرافها ولا يتشرب الدماء.
الحجر يجمع الحبوب والسحب
يجمع هياكل الحدآت وذئاب الشفق
ولكنه لا يخرج صوتا ولا بلورات ولا نيرانا
بال حالبات مصارعة وحلبات مصارعة
ومزيدا من حلبات المصارعة
بدون جدران.
الآن يرقد «إجناثيو» النبيل على الحجر
لقد انتهى كل شيء، ماذا يحدث؟
انظروا إلى جسده!
لقد غطاه الموت بالكبريت الشاحب
وتوجه برأس «منياطور» أسود
لقد انتهى كل شيء
ها هو المطر يتسرب إلى فمه
ويهدر الهواء صدره الساقط في نزوة
ويدفئ الحب نفسه على قطعان الثيران
وقد أغرقته دموع الثلوج
ماذا يقولون؟
ويهبط صمت مريع
نحن هنا مع جسد مسجى يذوي
مع جسد نبيل كان له بلابله الشادية
نراه يمتلئ بالثقوب التي لا قاع لها.
من ذا الذي يطوي الكفن؟
ليس صحيحا ما يروون .
ليس هناك من يغني
أو يبكي في الأركان
أو ينبجس جراحه
أو يخيف الثعبان
أريد هنا أن ترى عيناي المستديرتان
جسده الذي لا راحة له.
أريد هنا أن أرى الرجال ذوي الأصوات القوية
هؤلاء الذين يصطدمون بالجياد
ويسيطرون على الأنهار
هؤلاء الرجال الذين تصلصل هياكلهم
والذين يغنون بأفواه ملؤها الشمس وحجر الصوان
أريد هنا أن أراهم
أمام هذا الحجر
أمام هذا الجسد ذي الأعنة المحطومة
أريد أن يبينوا لي رثاء كالنهر
بضبابات عذبة وشطآن منحدرة
لتحمل جسد «إجناثيو»
ويخفوه قبل أن يسمع خوار الثيران المزدوج
فليذب في حلبة القمر الدائرية
التي تتخفى في شبابها بالثور الحزين الهادئ.
فليذب في أستار الليل
دون أغاني الأسماك،
في أيكات الدخان المتجمد البيضاء.
لا تغطوا وجهه بالمناديل!
فليتعود على الموت الذي يحمله
اذهب يا «إجناثيو»
ولتنس الخوارات المحمومة
نم
حلق عاليا
استرح
فحتى البحار تموت! (4) روح غائبة
الثور لا يعرفك
ولا شجرة التين
ولا جياد منزلك ولا غلاته
الطفل لا يعرفك
ولا الأصائل
لأنك قد مت إلى الأبد
قطعة الحجر لا تعرفك
ولا قماش الساتان الذي يلفك
ذكريات الخرساء لا تعرفك
لأنك قد مت إلى الأبد
سيأتي الخريف بأبواق الرعاة
بأعنابه الضبابية وتلاله المتجمعة
ولكن لن يريد أحد أن يطل في عينيك
لأنك قد مت إلى الأبد
لأنك قد مت إلى الأبد
مثل كل موتى الأرض الآخرين
مثل كل الموتى المنسيين
في كومة الكلاب الغامضة.
لا أحد يعرفك،
لا ... ولكني أغني لك
أغني لخلقاء وجهك وسماحتك
لتضج فهمك النبيل
لشهيتك للموت ومذاق فمه
للحزن الدفين في بهجتك الجسور.
لن يولد أندلسي في مثل نبالتك
أزمانا طويلة
ولا في ثراء مخاطراتك
أغني لهذه الجلالة بكلمات كالأنين
وأذكر نسمة حزينة هفت بين أشجار الزيتون.
ومضى لوركا بعد فراغه من وضع قصيدة مصارع الثيران، يعمل في مسرحية جديدة هي «الآنسة روزيتا العانس أو لغة الزهور»، ويشرف على إعداد مسرحية «يرما» للعرض على المسرح، ويبدأ عرض تلك المسرحية يوم 29 ديسمبر 1934م في المسرح الإسباني بمدريد، بفرقة الممثلة «مرجريتا شيرجو ».
وفي مسرحية «يرما» - كما في سابقتها «عرس الدم» - يعالج الشاعر موضوعا ريفيا، وبطلها غير المنظور هو جو الاختناق والحصر والحسد، الذي كان يسود حياة الريف الإسباني أيامها، وبطلة المسرحية - يرما - تعيش مأساة تتمثل في عقم زوجها، وينشأ الصراع الدرامي من الزواج الذي لا ترى فيه زوجته سوى الأنثى التي تشبع رغبته، ومن يرما التي لا ترى فيه إلا الأب الذي يجب أن يهبها ابنا، وتتفاعل عواطف الزوجة التي تحلم بالابن من إحساسها الديني، الذي يحملها على الأمانة والإخلاص بين الزوجين، فهي لا تحب أن تخون زوجها لتشبع نهمها إلى الإنجاب، وتفضل في النهاية أن تقتل زوجها العقيم، في مشهد بلغ ذروته من العنصر الدرامي العنيف، إذ نرى فيه مأساة حياتها التي ترغب في إنهائها بإنهاء حياته، وهي إذ تقتله فإنما تقتل نفسها روحيا ورمزيا في نفس الوقت، إذ إنها بقتله تقتل كل أمل لها في الإنجاب، الذي تراه هو هدف حياتها وسبب وجودها.
ومسرحية يرما هي أول تراجيديا للمؤلف تقوم على قاعدة عريضة من الواقعية الدرامية، فبينما يسيطر على شخصيات «عرس الدم» شعور مشترك بالمشاطرة في قدر تراجيدي، يقع كل العبء التراجيدي في «يرما» على شخصية واحدة تتحمله وحدها، وهي البطلة يرما ... ويرى الناقد الأمريكي «أدوين هونيج» أن «يرما» هي أعظم إنجاز في مسرح لوركا كله من الناحية الأخلاقية والدرامية على حد سواء، وأن شخصية «يرما» ترتفع من مجرد رمز لمشكلة إنسانية إلى تجسيد حي لشخصية تراجيدية، لها كل الأبعاد الدرامية المطلوبة.
وغداة الاحتفال بمرور مائة ليلة على عرض المسرحية، يصرح لوركا لأحد الصحفيين بحديث يشكل الآن لغزا أدبيا في حياة الشاعر، إذ إنه يقول إنه قد انتهى تقريبا من الجزء الثالث من الثلاثية الدرامية وهو باسم «دمار سدوم»، ويقفز الآن سؤال عن ذلك العمل المسرحي، إذ إن لوركا لم يقرأه على أحد من أصدقائه، كما أنه لم يخلف وراءه أي مخطوط يحمل ذلك الاسم، فهل يا ترى كان يلمح عند ذكره للجزء الثالث إلى مسرحية «بيت برناردا ألبا»، التي تعد بالفعل الحلقة الثالثة في ثلاثيته الأندلسية؟ أم أنه كان يقصد به عملا آخر مفقودا الآن؟ وثمة احتمال آخر، هو أن ذلك العمل كان لا يزال مجرد فكرة في ذهن الكاتب، حمله حماسه المعروف عنه إلى الإعلان عن قرب انتهائه منه، ذلك أننا نجده يصرح في حديث له نشر في مجلة «الصوت» في 18 فبراير 1935م أنه يخطط لعديد من «المسرحيات الدرامية ذات الطابع الإنساني والاجتماعي، وثمة مسرحية منها تناهض الحرب»، كما أنه يتحدث أيضا عن مشروع عمل أدبي آخر عن القديسة الصوفية «سانتا تيريزا»، غير أن الوقت لم يتح له ولا المزيد من العمر كيما يحقق تلك المشروعات الأدبية، وفي نفس تلك المقابلة الصحفية، نجده يقول عن مهنته: «أحيانا، حين أرى ما يحدث في الدنيا، أتساءل لماذا أكتب؟ ولكن ... يجب الاستمرار في العمل، والمضي فيه قدما، العمل، ومد يد المساعدة إلى من يستحق، العمل حتى ولو ظن المرء أنه يعمل بلا طائل، العمل كشكل من أشكال الاحتجاج، ذلك أنه يقيم العمل، فليس أمام المرء إلا أن يصرخ كل يوم عند الاستيقاظ من النوم، في عالم مليء بالظلم والبؤس من كل شكل ونوع: إني أحتج! إني أحتج! إني أحتج!»
وتزخر المسارح الإسبانية في ربيع عام 1935م بمسرحيات لوركا المختلفة، ويجد الشاعر نفسه وفنه يعود عليه لأول مرة بالكسب المادي الذي يفيض عن حاجته، ولكنه كان ينفق كل ما يصل إلى يده من مال، وكان يراوده حلم لم يتمكن آخر الأمر من تحقيقه، وهو أن يكون له بيت خاص به، يشيده ويؤثثه على ذوقه، يكون مواجها للبحر الأبيض في شاطئ مالقة، بيد أنه يظل قاطنا شقته الجميلة، 102 شارع القلعة بمدريد، التي تغمرها الشمس، في طابق عال، وذات شرفات على الجانبين، حيث كان يعيش سعيدا، يستقبل زواره من الأدباء والفنانين بالبيجامة صيفا وبالروب دي شامبر شتاء!
وتعبر شهرة لوركا حدود العالم الإسباني إلى فرنسا وإنجلترا، حيث يذيع راديو باريس ترجمة لمسرحية يرما، وتصدر ترجمة إنجليزية لمسرحية «عرس الدم» تحت عنوان:
Bitter Oleander .
وزمانه، في عام 1885، ثم الشخصيات الأساسية في المسرحية: العم، الذي يهتم باستنبات الورود في الخيمة الزجاجية، التي أنشأها في منزله، والعمة التي تدير شئون المنزل بمساعدة المديرة التي تعلق على كل ما يحدث من حولها، ثم يتعرف القارئ على روزيتا، وعلى خطيبها الذي يشكل عنصر المأساة، إذ يضطر إلى السفر إلى أمريكا الجنوبية تنفيذا لمطلب أبيه؛ كيما يساعده في أعماله هناك، إلا أنه يعد العمة وروزيتا نفسها بالعودة سريعا لإتمام الزواج، وفي الفصل الثاني، يكون قد مر خمس عشرة سنة، لم تغير من روزيتا إلا مظهرها الخارجي، ولكنها لا تزال تنتظر خطيبها المسافر، وقد توقف الزمن بالنسبة إليها عند اللحظة التي سافر فيها الخطيب، ولم تعد تعيش إلا في فكرة حضوره للزواج منها، وتمضي في ترتيب أمور العرس والإعداد له، وينتهي الفصل بوصول خطاب من الخطيب بعدم استطاعته الحضور، وأنه لذلك يعرض استعداده لعقد قرانه على روزيتا «بالتوكيل» إلى حين حضوره، ويبدأ الفصل الثالث بعد مرور عشر سنوات أخرى، والوقت خريف موحش، وما زالت روزيتا ترتدي ملابس وردية وتتابع الأزياء الحديثة، بيد أنها تعرف جيدا أن الشباب قد ولى من بين يديها، والخطيب لم يتزوجها بالتوكيل أو بغيره، ولم يعد ولن يعود أبدا ... وفي هذا الفصل تعلم أن العم قد مات، وأن العمة والمديرة قد نالت منهما الشيخوخة، وهما يتحسران على مصير روزيتا، فقد علمتا منذ شهور فقط أنه قد تزوج من امرأة ثرية في أمريكا الجنوبية منذ ثماني سنوات، وهما قد أخفيا ذلك عن روزيتا ثم نكتشف أنها تعلم ذلك من قبل، وتطلق روزيتا كل أحاسيسها بالإحباط واليأس في حديث طويل إلى عمتها، وتعترف لها بأنها كانت تعلم كل شيء عن زواج الخطيب، وتصور نفسها وقد توقف الزمن بالنسبة لها، بينما صديقاتها يتزوجن وينجبن أطفالا يزورونها وينادونها بالآنسة روزيتا، وينحل المنزل أطلالا؛ فقد كان العم قد ارتهنه قبل وفاته فلا مفر من بيعه، ويخرج سكانه تحت جنح الظلام، بينما الريح يعصف كأنما يشارك روزيتا حزنها وقنوطها.
وهذه المسرحية هي أشد مسرحيات لوركا رقة وشاعرية ، نظرا لموضوعها الرومانسي الحزين، ويذكر ويساهم لوركا في أول عدد من المجلة الأدبية/ التي يصدرها «بابلو نيرودا» في مدريد تحت اسم «فرس الشعر الأخضر»، بقصيدة من القصائد التي نشرت فيما بعد في ديوان «شاعر في نيويورك»، وعنوانها «ليلية الفراغ»، ثم ينتقل الشاعر في خريف 1935م إلى برشلونة، حيث يحضر افتتاح مسرحية «الآنسة روزيتا العانس»، التي قدمتها فرقة «مرجريتا شيرجو» هناك، ويشارك أثناء وجوده في برشلونة في عديد من المهرجانات الفنية والأدبية، منها مظاهرة فنية تأييدا للسجناء السياسيين، ومهرجان لتكريم ذكرى الموسيقار الإسباني الشهير «إسحق ألبنيتز»، حيث دبج الشاعر قصيدة باسمه قرأها أمام مقبرته في تل «موتخويش» ببرشلونة.
ومسرحية «الآنسة روزيتا العانس» أول مسرحية للوركا تحمل عنوانا إضافيا، هو «لغة الزهور»، وقد وصفها مؤلفها بأنها «قصيدة غرناطية عن عقد التسعينيات (من القرن التاسع عشر)، تنقسم إلى عدة بساتين وبها مناظر غناء ورقص»، والمسرحية من ثلاثة فصول، يقدم لنا الفصل الأول مكان الحدث وهو غرناطة، جو الكآبة والشجن فيها بجو مسرحيات «تشيكوف» خاصة «بستان الكرز».
وكانت «الآنسة روزيتا العانس» هي آخر مسرحية تعرض على المسرح في حياة مؤلفها، ذلك أن مسرحياته الأخرى، ومنها «بيت برنارد ألبا»، لم تعرض لأول مرة إلا في عام 1945م، في المكسيك، كما سنرى بعد ذلك.
1936
ويحل عام 1936م، وهو عام حاسم في تاريخ إسبانيا وهي حياة شاعرنا، إذ شهدت البلاد فورانا هائلا زاخرا بالأحداث الجسام التي أدت في النهاية إلى مصرع الشاعر، ولما كانت «قضية» مصرع لوركا قد نالت من الاهتمام والبحث قدر ما ناله شعره ومسرحه، فسوف نعرض بشيء من التفصيل للأحداث التي أدت إلى تلك النهاية.
في ربيع 1936م، كان قد مر على الجمهورية الإسبانية الوليدة خمسة أعوام شهدت تقلبات عديدة، فمنذ ولادة الجمهورية عام 1931م وحتى عام 1933م، تولى الحكم برلمان اشتراكي يساري، ولكن انتخابات عام 1933م أعادت القوى الملكية التقليدية المحافظة إلى الحكم مرة أخرى في ظل الجمهورية، وكان سبب انتصار القوى المحافظة راجعا إلى ثلاثة عوامل جوهرية: أولها، أن قانونا صدر عام 1931م منح المرأة حق الانتخاب لأول مرة في إسبانيا، فصوتت معظم النساء الكاثوليكيات المحافظات ضد القوى اليسارية التقدمية، وثانيها، أن الانتخابات كانت تتم عن طريق نظام «القوائم» للمرشحين، وكل دائرة انتخابية لها عدد محدد سلفا من المقاعد لكل من الأغلبية والأقلية، ففي دائرة مدريد مثلا، كان هناك 17 مقعدا، منها 13 للأغلبية و4 للأقلية، وفي غرناطة 10 مقاعد للأغلبية و3 مقاعد للأقلية، وهكذا في كل الدوائر، وهذا يعني أنه بالرغم من حصول أحزاب الأقلية على أعداد كبيرة من الأصوات، إلا أنها لا تمثل في البرلمان إلا بتلك المقاعد المحجوزة لها سلفا، وثالث تلك العوامل، أن أحزاب المعارضة، من ملكيين ومحافظين ومتدينين، قد تعلمت جيدا من درس انتخابات 1931م، ووحدت من صفوفها في الانتخابات الجديدة، برغم الخلافات الشديدة التي تقوم فيما بينها في داخل الإطار المحافظ، في حين أن الأحزاب الجمهورية والتقدمية لم تدخل تلك الانتخابات كجبهة متحدة، بل كأحزاب متصارعة متنافسة، مما جعلها تخسرها، وعمدت حكومة عام 1933م المحافظة إلى هدم معظم ما بنته الحكومة الجمهورية الأولى، مما أثار حفيظة الطبقات العمالية والفقيرة في طول البلاد وعرضها، وأدى ذلك - ضمن جملة أمور - إلى حدوث تمرد خطير، قام به عمال مناجم الفحم في إقليم «أشتورياس» بشمال إسبانيا، قامت الحكومة المحافظة بقمعه في شدة وقسوة وصرامة، أثارت مزيدا من السخط عليها، وظل الموقف متوترا على هذا النحو بين شد وجذب، إلى أن جرت انتخابات جديدة في فبراير 1936م، انتصرت فيها الجبهة الشعبية المكونة من اتحاد الأحزاب التقدمية، انتصارا ساحقا تحت ظل نظام القائمة السابق الإشارة إليه، فرغم أن عدد الأصوات التي حصلت عليها الجبهة الشعبية هو 4700000 وأصوات الجبهة الوطنية المحافظة هو 3997000، إلا أن عدد المقاعد التي منحت للفائز هي مقاعد الأغلبية المطلقة.
وفي الفترة الواقعة بين تاريخ هذه الانتخابات في فبراير 1936م، و18 يوليو 1936م تاريخ الانقلاب العسكري الملكي المحافظ، كانت البلاد بطولها وعرضها مسرحا لحوادث التوتر بين الجبهتين الرئيسيتين: التقدمية والمحافظة، وكان يمثل التقدميين المنظمتان العماليتان الرئيسيتان وهما:
CNT
أي «الاتحاد القومي للعمل»، وهي ذات ميول فوضوية، و
UGT
أي «الاتحاد العام للعمال»، وهو حزب اشتراكي، ثم الشيوعيون، أما في حزب اليمين المحافظ، فقد برز حزبان رئيسيان عملا جنبا إلى جنب رغم العداء والخلاف الدفينين بينهما: «الفالانج» أي الكتائب التي أسسها عام 1933م «خوسيه أنطونيو بريمو دي ريفيرا» ابن دكتاتور إسبانيا السابق، وحزب «سيدا» بقيادة «خيبل روبليس»، الذي كان يركز على العنصر الديني ويبرزه.
وما إن تولت الحكومة التقدمية الحكم بعد انتخابات فبراير 1936م، حتى عمدت إلى العودة بالبلاد إلى الوضع الاشتراكي والقوانين الاشتراكية، ولكن ذلك بالطبع لم يرض الجانب الآخر، جانب المحافظين والأثرياء ومالكي الأراضي، فبدءوا حملة منظمة ضد أقطاب الأحزاب التقدمية، وفي البداية، رد العمال والفلاحون على أول الاغتيالات التي أصابت زعماءهم بالإضرابات والمسيرات ضد قوى الرجعية ولك، حين استمرت سلسلة الهجوم والاغتيالات، ازداد السخط الشعبي، وبدأ التقدميون يردون بالمثل، واتسعت الهوة السحيقة التي تفصل بين الجانبين، وأخذت تزداد اتساعا مع كل يوم يمر.
وفي ظل هذه الحالة، يجري في 12 يوليو 1936م اغتيال أحد أفراد حرس الهجوم - وهي فرقة حكومية جمهورية - على يد مجهولين يظن أنهم من حزب «كفالانج»، وفي 13 يوليو، يريد الجمهوريون اغتيال قطب من أقطاب الملكيين هو «كالفو سوتيلو»، وتعم البلاد موجة من الاستياء والغضب والرهبة، بينما يظل مجلس الوزراء في حالة انعقاد دائم، في محاولة للسيطرة على الموقف، وتحسبا لأي انتقام يمكن أن يقوم به الملكيون، ردا على تلك الضربة القاصمة، وفي وسط هذا الجو المشحون بالتوتر والانتظار، ونذر الخطر التي تحيط بالجمهورية الوليدة، يقع الانقلاب العسكري الملكي.
ففي 18 يوليو 1936م، يلقي الجنرال «فرانسيسكو فرانكو» بيانا من إذاعتي «جزر الكناري» ومراكش الإسبانية، آنذاك، معلنا قيام «الحركة الوطنية»، طالبا من جميع الإسبان الوطنيين الانضمام إليه، وكان التمرد الانقلابي قد بدأ أساسا - بتدبير سابق معد له سلفا إعدادا محكما - في حامية مدينة «مليلة» في المغرب، تعاونها الفرقة العسكرية الإسبانية الرابطة هناك، وحدث تمرد مماثل في «سبته» و«تطوان» بنفس القدر من النجاح، وبات المغرب الإسباني كله وجزر الكناري تحت إمرة قادة الانقلاب، الذين بدءوا الاستعداد لنقل التمرد إلى أرض الوطن ذاته ...
وفي البداية، أذاعت الحكومة الجمهورية نبأ وقوع تمرد في مراكش الإسبانية - وهو ذلك الجزء من أراضي المغرب التي كانت تحتله إسبانيا آنذاك - ولكنها أكدت سيطرتها على الموقف في أراضي الوطن، وأنها بصدد سحق التمرد، ولكن كان قد خفي على القائمين بالأمر في حكومة الجمهورية تواطؤ كثير من القادة العسكريين في كثير من المدن الإسبانية الرئيسية للقيام بتمرد في وقت واحد ... وهكذا سيطر «الجنرال كييبو دي يانو» على حامية «أشبيلية»، مما أسقط المدينة كلها في قبضة الانقلاب، وحدث بعد ذلك نفس الشيء في عدد من كبريات المدن، بقدر متفاوت من النجاح والفشل، وكان هذا النجاح والفشل هو الذي قسم البلاد إلى قسمين، يكادان يتعادلان قوة: جانب الجمهوريين الذين قاتلوا التمرد دفاعا عن الشرعية، وجانب الملكيين - الذين اتخذوا اسم الوطنين - الذين قاتلوا دفاعا عن الملكية والقوى المحافظة من كنيسة ومالكي أراض وجنرالات، وقد انضم إلى جانب الجمهوريين كل طوائف اليساريين والاشتراكيين والشيوعيين والفوضويين.
وكان هذا التعادل في القوى هو الذي أشعل الحرب الأهلية بين الطرفين، وجعلها تستمر ثلاثة أعوام إلا قليلا، في حرب بين الأخ وأخيه، عرفت بأنها أبشع حرب أهلية في التاريخ وأشدها قسوة وضراوة.
غرناطة ولوركا
في قمة الأحداث التي سردناها سابقا، وجد الشاعر نفسه يوم 18 يوليو 1936م في بلدته، يقضي الصيف كعادته في منزل العائلة بالفيلا المسماة ب «ستان سان فيسنت» في ضواحي غرناطة، كان قد حسم لتوه مشروعا كان يمكن أن يغير مجريات الأحداث التي انتهت به إلى غاية فاجعة، ذلك أن فرقة «مارجريتا شيرجو» المسرحية كانت تعد لجولة في أمريكا اللاتينية في فترة الصيف تبدأها بالمكسيك، وعرضت على الشاعر أن يسافر برفقتها إلى هناك، ورغم أنه كان قد قبل الفكرة مبدئيا، إلا أنه ألغى المشروع بعد ذلك، مفضلا البقاء في إسبانيا للانتهاء من أعماله الأدبية المعلقة، والإشراف على إخراج الأعمال المسرحية التي كانت توشك على أن ترى النور، وهكذا أنفذ القدر كلمته، وبقي لوركا في وطنه في تلك الفترة المضطربة، كيما يواجه مصيره المحتوم.
ورغم أن الشاعر كان بعيدا كل البعد عن المشاركة السياسية، أو الانحياز صراحة إلى أي من الأحزاب السياسية المتصارعة آنذاك، إلا أن ثمة أعمالا اشترك فيها قد حسبت عليه بعد ذلك، رغم أنها مواقف إنسانية تنبع أساسا من حب الإنسانية والحيرة، ومن بين هذه الأعمال ما يلي:
إن الشاعر - عند مشاركته في الحفل الذي أقيم لتكريم زميله «رافاييل ألبرتي» بمناسبة عودته من زيارة لروسيا - قد ألقى بيانا للكتاب الإسبان ضد الفاشية.
انضمامه إلى الموقعين على بيان للاتحاد العالمي للسلام.
توقيعه على رسالة موجهة إلى رئيس جمهورية البرازيل، تطلب العفو عن القائد الثوري البرازيلي «لويس كارلوس برستس».
إدلاؤه بحديث إلى مجلة «المساعدة» لسان حال عصبة عمالية شيوعية.
اشتراكه في تكريم ثلاثة أدباء فرنسيين يمثلون الجبهة الشعبية في بلادهم، وهم: «أندريه مالرو» - «جان كاسو» - «لي نورمان».
الإعلان عن اشتراكه في حفل لتكريم «مكسيم جوركي» الكاتب الاشتراكي السوفيتي المعروف.
إن مثل هذه النشاطات العادية التي تنم عن حس إنساني عام، وروح الأخوة بين زملاء المهنة الفكرية الواحدة، يمكن أن تفسر في ظل ظروف متغيرة تفسيرات ملتوية، تلائم النفس المتعصبة ضيقة الأفق التي ملأها الحقد والغيرة سما زعافا، وكان هذا في الواقع هو ما حدث فعلا، وأحداث ذلك الصيف الدامي من عام 36 دليل واضح على ذلك، ورغم أن ما حدث للشاعر بعد وقوع الانقلاب الملكي في 18 يوليو 1936م، يلفه تيار من الشك والغموض والأساطير، وتعرض لتفسيرات عديدة متناقضة، إلا أنه يمكن استخلاص سير الحوادث على النحو التالي:
منذ إعلان الجمهورية في إسبانيا عام 1931م، شهدت غرناطة صراعات عديدة بين ملاك الأراضي الإقطاعيين، الذين يسيطرون أيضا على صناعات السكر في المنطقة الزراعية من غرناطة، وبين الفلاحين والعمال المنضوين تحت لواء الحزب الاشتراكي «الاتحاد العام للعمال»، وقد رأى هؤلاء الإقطاعيون في الجمهورية خطرا يتهدد وضعهم وثرواتهم وامتيازاتهم، فقرروا الانضواء تحت حزب من الأحزاب الملكية هو حزب «العمل الشعبي» الذي كان فرعه في غرناطة يصدر جريدة تعبر عنه باسم «إيديال»، التي أصبحت لسان حال تلك الطبقة، وكان في مقابلها الجريدة التي تعبر عن آراء الاشتراكيين والمثقفين في غرناطة، وهي «الحامي» التي يرجع تاريخ صدورها إلى عام 1879م، وكان اليمينيون المحافظون يكسبون في الغالب الانتخابات في المناطق الزراعية، حيث ملاك الأراضي ودهاقنة الإقطاع يضغطون على الفلاحين، كيما يصوتوا لصالح المرشحين اليمينيين، على الرغم من فوز اليساريين في حواضر تلك الأقاليم، كمدينة غرناطة مثلا، مما كان ينتهي إلى فوز اليمينيين بمقاعد الأغلبية المخصصة للإقليم كله في البرلمان، بينما يحوز اليساريون مقاعد الأقلية، وقد شهدت الأعوام من 1931م حتى انقلاب 1936م مصادمات عنيفة، ومناوشات لا تنتهي بين الفريقين وصحيفتيهما.
وفي انتخابات فبراير 1936م التي فازت فيها الجبهة الشعبية اليسارية بصفة عامة، فاز اليمينيون فوزا حاسما في غرناطة، ولكن المرشحين التقدميين طعنوا في صحة الانتخابات في غرناطة، وطالبوا البرلمان بإلغائها وإجراء انتخابات جديدة هناك، ووافق البرلمان على ذلك وتم إجراء انتخابات جديدة في 3 مايو 1936م، أسفرت عن فوز اليساريين بجميع المقاعد المتخصصة لغرناطة في البرلمان، وما يهمنا في هذا الشأن أن من بين المرشحين اليمينيين الذين فازوا في الانتخابات الأولى الملغاة، كان النائب المدعو «رامون رويث ألونصو»، الذي سيرتبط اسمه ارتباطا وثيقا بأحداث اعتقال لوركا وإعدامه كما سنرى لاحقا.
وقد أدى ابتعاد اليمينيين تماما عن تمثيل مدينتهم في البرلمان إلى توحيد صفوفهم، والإعداد سرا للانتقام بتخزين الأسلحة والتحضير للاستيلاء على الحكم بالقوة، كما أن ذلك عزز موقف «الفالانج» داخل اتحاد الأحزاب اليمينية، وانتصار رأيه بضرورة استخدام العنف لصد المد اليساري والشيوعي، وزاد في تسهيل مهمة اليمينيين بعض الانشقاق الذي وقع بين فروع الأحزاب التقدمية في غرناطة حول تعيين عمدة للمدينة، وهو بمثابة المحافظ، ولم تجد هذه الأحزاب حلا إلا في اختيار الدكتور «مانويل مونتسينوس» الاشتراكي، عمدة لغرناطة، وجدير بالذكر أن «مونتسينوس» هذا هو زوج «كونشا» شقيقة لوركا، ولم يشغل منصبه ذاك سوى عشرة أيام، إذ إنه كان من أوائل الأشخاص الذين أعدموا غداة الانقلاب الملكي.
وقد شهد تاريخ إسبانيا منذ أواخر القرن التاسع عشر، أن الجيش كان هو العامل الحاسم في ميدان السياسة، وأن أي تغيير سياسي كبير يبدأ بانقلاب عسكري، مثلما جرى الحال في صعود الجنرال بريمو دي ريفيرا إلى السلطة في عام 1923م، ثم صعود فرانكو بعد ذلك عام 1939م؛ ولذلك فإنه بعد الإعلان عن تمرد القوات الإسبانية في المغرب وفي بعض المدن الإسبانية، ونجاحها في السيطرة على عدد من هذه المدن، ومنها إشبيلية التي تتبعها غرناطة عسكريا، شاع الاضطراب في أرجاء الجو السياسي في غرناطة، وتطلعت الأنظار إلى الحامية العسكرية المرابطة فيها، وكان على رأس هذه الحامية الجنرال «ميجيل كامبنز»، الذي أعلن ولاءه للجمهورية، ولكن معظم مساعديه من الضباط كانوا متورطين حتى أقدامهم في المؤامرة الانقلابية دون أن يدري هو بذلك، ورغم أن عدد أفراد «الفالانج» والمنظمات اليمينية المماثلة في غرناطة كان محدودا بالنسبة إلى عدد العمال والفلاحين، إلا أن تخوف قادة المدينة الجمهوريين من توزيع السلاح على الشعب للدفاع عن الجمهورية وإصرارهم على عدم اتخاذ هذه الخطوة، أدى إلى انفساح المجال أمام اليمينيين بما كانوا قد خبأوه من أسلحة.
وهكذا، ففي وسط الانتظار والترقب في غرناطة، انتهز المتآمرون في يوم 20 يوليو فترة القيلولة التي تتعطل فيها الأعمال، ويهجع الناس هنيهة بعد الغداء - خاصة في جو غرناطة الشديد الحرارة في الصيف، فأنزلوا قواتهم إلى المدينة واحتلوا المواقع الهامة فيها، ونصبوا المدافع في الميادين والطرق الرئيسية، واضطروا الحاكم العسكري إلى إصدار بيان يعلن حالة الحرب، وأقالوا الحاكم المدني وعينوا بدله الضابط «خوسيه فالديس»، الذي أصبح منذ ساعتها مسئولا عن المدينة وأرباضها وعن تطهيرها من كل العناصر المعارضة للملكية أو المشكوك في ولائها لها، عن طريق حمام دم غطى المنطقة كلها بالرعب والفزع، وما إن سيطر الموالون للانقلاب على مقاليد الأمور، حتى تصدوا لهذه العملية التطهيرية، التي بدأت بقصف وحشي على تجمعات العمال والفلاحين، التي لجأت إلى حي «البيازين» الشعبي العربي القديم تحتمي به وتتحصن فيه، وانتهى الأمر بسحق هذه التحصنات واعتقال معظم المدافعين وإعدامهم بعد ذلك.
وما إن حلت ليلة 23 يوليو حتى كانت المدينة كلها في يد اليمينيين، الذين بدءوا في الحال حمام دم لمعارضيهم السابقين، في مذبحة كبرى أودت بكثير من الأبرياء، وانتهزها بعض ضعاف النفوس من المنتصرين لصب شرورهم الرخيصة والتنفيس عن أحقادهم الدفينة.
لوركا والتطهير الدموي
ظل لوركا مترددا فيما إذا كان يجدر به السفر إلى غرناطة أو البقاء في مدريد، حتى تنجلي الأزمة السياسية المتفجرة نتيجة للاغتيالات الأخيرة، وانقسم أصدقاؤه بين محبذ للسفر ومحبذ للبقاء، وقال أحدهم قولة شهيرة ترددت أصداؤها طويلا بعد ذلك، إذ قال: «لو أن حربا نشبت في بلادنا، ونجا منها فرد واحد فقط، لكان هذا الفرد هو لوركا!»
وهكذا استقل لوركا قطار الليل في مساء 15 يوليو، وودعه حتى عربة القطار صديقه الشاعر «رافاييل ألبرتي»، ويحكي ألبرتي أنهما شاهدا بين أروقة القطار شخصا نفر منه لوركا، وتوارى عن أنظاره حتى لا يحييه أو يحادثه، وكان هذا الشخص - كما عرف لاحقا - هو «رامون رويث ألونصو»، النائب اليميني السابق لغرناطة في البرلمان، والمسئول المباشر عن اعتقال لوركا بعد ذلك.
ووصل الشاعر إلى منزل العائلة الصيفي في موعد مناسب للاحتفال مع الأسرة بعيد «القديس فديريكو» بالنسبة له ولوالده، إذ إنهما كانا يشتركان في الاسم الأول، وهو اليوم الموافق ليوم الانقلاب: 18 يوليو.
وقد تلقت الأسرة أنباء الانقلاب وبيانات الحكومة وما تلا ذلك من أحداث، ببلبلة واضطراب، شأنها شأن كل سكان الإقليم من غير المتداخلين في السياسة، ثم جاءت نذر الكارثة بعد استيلاء اليمينيين الموالين للانقلاب الملكي على المدينة، إذ كان من أوائل من تم القبض عليهم السنيور مونتيسينوس عمدة المدينة، وهو زوج شقيقة لوركا، والذي أعدم بعد ذلك بأيام، وقد علمت الأسرة بالقبض عليه في حينه، ولكنها لم تعلم بإعدامه إلا بعد ذلك بكثير.
وبعد ذلك يفطن الشاعر إلى وجود شخصين مريبين يراقبان المنزل ويطوفان به من بعيد، ثم عاود نفس الشخصين المراقبة، ودخلا المنزل هذه المرة، ولكنهما لم يكونا يبحثان عن لوركا، بل عن البستاني المسئول عن حديقة المنزل، وكان أخا لأحد العمال المنخرطين في سلك الجبهة الشعبية، وكانت الأقوال تشير إلى مسئولية ذلك الأخ عن مقتل أحد ضباط الشرطة، وعن إحراق كنيسة بلدته، ولما لم يجدوا غير البستاني، أوسعوه ضربا ولطما، وحين حاول فديريكو التدخل، لطماه هو أيضا، وقال له واحد منهما: «لا فائدة، إننا نعرفك جيدا، يا فديريكو غرسيه لوركا!»
وفي اليوم التالي، يتلقى لوركا خطاب تهديد غريبا، كان الخطاب يحتوي على اقتباسات من تصريحات أدلى بها الشاعر، ونشرت في صحيفة «الحامي» الغرناطية التقدمية (وقد احتجبت بعد نجاح الانقلاب في غرناطة بالطبع)، ويصفه كاتب الخطاب بأنه «كلب حقير وخطر».
وإزاء ذلك كله، ملأ الأسرة خوف مفاجئ على الشاعر من أن ينجح حساده في توريطه مع معارضي النظام الجديد أو المشبوهين، وجلس أفرادها يتداولون في أفضل حل يمكن اتخاذه لحماية لوركا في ظل هذه الظروف التي لا يأمن أحد على نفسه ... وبرز حلان: إما أن يحاول الشاعر الهرب متخفيا إلى ما وراء خطوط قوات الانقلاب، إلى أقرب مكان يسير عليه الجمهوريون، وإما أن يلتجئ إلى بيت صديق من الموالين للانقلاب، يمكن أن يبسط عليه حمايته، واختار لوركا الحل الثاني، خاصة وأنه كان على صلة جيدة جدا بأحد أفراد أسرة «روساليس»، التي يشترك أربعة من أبنائها في «الفالانج»، والذين أصبحوا من أصحاب الحل والربط في ظل الوضع الجديد، وكان ذلك الصديق هو «لويس روساليس»، السياسي والشاعر الشاب الذي سبق أن نشر ديوانا باسم «أبريل»، والذي كان يعتبر نفسه من حواريي لوركا شعريا، ويهب «لويس » لنجدة صديقه، ويصطحبه للإقامة معه في منزله.
ويقيم لوركا في منزل أسرة «روساليس»، التي تتكون من الأب والأم وابنة وعدد كبير من الأبناء، منهم لويس وخوسيه وأنطونيو وميجيل، وكلهم من العاملين في «الفالانج»، وكانت بالمنزل أيضا خالة للأولاد هي الخالة «لويسا»، وتقيم في الطابق الثاني من المنزل، وحيث أعدت الأسرة غرفة لوركا، ومنذ انفجار الانقلاب في غرناطة، انشغل أفراد الأسرة من أعضاء «الفالانج» في عمليات تثبيت دعائم النظام الجديد والقضاء على أعدائه.
ويعتاد لوركا محل إقامته الجديد، كعادته دائما في سرعة الألفة مع الأشياء، على الرغم من غموض الموقف، وتردد الأنباء عن عمليات التطهير المستمرة في المدينة وأرباضها، ويقضي الشاعر وقته في التهام الكتب التي يجدها في مكتبة أسرة «روساليس» العامرة، وسرعان ما تطفو شخصية الشاعر الأصيلة الطفولية للعيان، فيعزف للخالة «لويسا» على البيانو، بل ويشرع مرة أخرى في مواصلة العمل في مشاريعه الأدبية، من إجراء بعض التنقيحات على مسرحية «بيت برناردا ألبا»، إلى التفكير في ديوان جديد تحدث عنه إلى الخالة بعنوان «حديقة الأغاني».
وكانت علاقة الشاعر المباشرة بمن في المنزل من أفراد العائلة، هي مع لويس والخالة لويسا أكثر منها مع أي فرد آخر، وكان لويس يزوره كل مساء بعد عودته من خطوط القتال، ويتناقشان معا في الحالة والأخبار، وقص عليه لويس كيف سيطروا على غرناطة وأرباضها، وكيف انتهت مقاومة الأفراد الذين التجئوا إلى حي «البيازين» ... ولكنه أخفى عنه خبرا مؤلما، هو إعدام عديله العمدة السابق لغرناطة بعد قليل من سقوط البيازين، في 3 أغسطس 1936م.
ولكن أشد الفواجع إيلاما تأتي دون تحسب، فبعد أن اطمأن الشاعر، أو كاد، إلى ابتعاده عن الخطر الداهم، وقعت الواقعة.
الجريمة كانت في غرناطة
في الخامسة من بعد ظهر 18 أغسطس، وكان رجال الأسرة «روساليس» كلهم غائبين عن المنزل، يدق جرس الباب، ويتقدم أحد الأشخاص - هو بالتحديد «رامون رويث ألونصو» سالف الذكر - يطلب اصطحاب لوركا! وتحاول سيدة المنزل الاحتجاج، ولكن «ألونصو» يصر على أنه لا خطأ في الأمر، وأن لوركا مطلوب في مبنى المحافظة .
وتتضارب الأقوال في ظروف القبض على لوركا في منزل عائلة «روساليس»، إذ يشهد ألونصو نفسه - وهو لا يزال على قيد الحياة الآن - بأنه قد ذهب هناك لاستدعاء الشاعر بناء على أمر من نائب المحافظ، وبعد أن اصطحب معه «خوسيه روساليس» نفسه، ولكن شهودا آخرين يؤكدون أن «ألونصو» قد ذهب إلى المنزل، يصحبه عدد كبير من الجنود المسلحين، الذين أحاطوا بالمنزل وبالطرق المجاورة لمنع أية إمكانية لهرب الشاعر! ويؤكد «إيان جيبسون» في كتابه الموثق عن مصرع لوركا، وفترة الرعب التي شهدتها غرناطة في 1936م، إن أكثر الروايات مصداقية عن ذلك هي رواية «ميجيل روساليس»، ويحكي «ميجيل» أنه حين وصلت التجريدة المسلحة للقبض على لوركا، لم يكن في المنزل أي من رجال الأسرة، فرفضت الأم تسليم لوركا لألونصو، وأصرت على أن يذهب أولا إلى ميجيل ليخبره بذلك، ويذهب ألونصو لميجيل في قيادة «الفالانج» حيث كان يعمل، ويبرز له أمرا من المحافظة بالقبض على لوركا، ويعود «ميجيل» معه إلى المنزل حيث يصطحبان لوركا معهم إلى مبنى المحافظة، بعد أن تأكد ميجيل من عبث أي اعتراض أو جدال أو مقاومة، موقنا بإمكانية شرح الموضوع للمحافظ نفسه وحله معه.
وحين يصلون إلى مبنى المحافظة، ويجدون المحافظ متغيبا، ويتم إيداع لوركا في إحدى حجرات الاحتجاز انتظارا لوصوله ... وحين يعلم الشاعر الصديق «لويس» بأمر اعتقال صديقه، يطير إلى مبنى المحافظة حيث يحرر مذكرة بالموضوع أمام نائب المحافظ، ويبرر فيها في نفس الوقت الأسباب التي دعته إلى استضافة لوركا في بيته، ويحكي «لويس» عن مواجهة حدثت بينه وبين «رويث ألونصو» عند تحرير المذكرة، قال فيها «ألونصو» أنه قبض على لوركا تحت مسئوليته الخاصة، متهما إياه بأنه قد سبب أضرارا بشعره أكثر مما سببه غيره من أضرار بأفعالهم!
ويعود «خوسيه» في اليوم التالي لمقابلة المحافظ، الذي يخبره أنه لا يستطيع أن يفعل شيئا؛ لأن لوركا ليس موجودا في المحافظة ولا يدري أين هو، ولكن المحافظ «فالديس» كان يكذب، إذ إن لوركا كان وقتها مودعا في إحدى حجرات المحافظة أعدت كزنزانة، وقضى فيها ثلاثة أيام من 16 إلى 18 أغسطس، وتشهد بذلك مربية أسرة لوركا التي ذهبت تحمل له طعاما وملابس وسجائر، وشاهدته مرة في تلك الزنزانة العارية من الأثاث، إلا من مائدة عليها محبرة وقلم وورقة، بينما كان ثمة رجل أمامه يردد: «يا لعار الابن، يا لعار الأب!» والحراس على باب الحجرة شاكي السلاح، وتقول المربية إن لوركا هتف بها حين رآها: «أنجلينا ... أنجلينا ... لماذا أتيت هنا؟» فردت عليه بأن والدته قد أرسلتها إليه.
وفي 19 أغسطس، حين ذهبت «أنجلينا» بسلة الطعام للسجين، قال لها الحراس إنه لم يعد موجودا بالمحافظة، وأنهم لا يعرفون عنه أي شيء، ولم يعرف أحد ما حدث على وجه التحقيق، ولكن كل الشواهد تدل على أن لوركا قد بقي في مبنى المحافظة، حتى نقل فجر 19 أغسطس إلى المكان الذي تم إعدامه فيه.
وقد بدأت مساع كثيرة خلال تلك الأيام لإنقاذ الشاعر، منها محاولة الموسيقار «دي فايا» التوسط من أجله عن طريق بعض شباب «الفالانخ» الذين كان على صلة بهم، ويحكى أنه ذهب معهم إلى المحافظة صباح 19 أغسطس، ثم عاد واحد منهم متجهم الوجه ليخبره بأن الأمر قد خرج من أيديهم، إذ إنه قد تم إعدام الشاعر في فجر نفس اليوم!
وتفاصيل ما حدث، كما يذكر المؤلف «جيبسون» سالف الذكر، هو أن الكولونيل «فالديس» محافظ غرناطة، قام بالتوقيع على حكم إعدام لوركا بعد اتصالات أجراها برئيسه المباشر «كيبو دي يانو» قائد إشبيلية التي تتبعها مقاطعة غرناطة، واقتيد الشاعر مع مجموعة من المحكوم عليهم مثله من مبنى المحافظة إلى قرية على مشارف المدينة تدعى «فرنار»، بها مبنى يسمى «لاكولونيا» أي المستعمرة، حولته قيادة الانقلاب إلى سجن يودع فيه المحكوم عليهم بالإعدام المرسلون من غرناطة، وكان المدانون يصلون عادة إلى «المستعمرة» حوالي الواحدة أو الثانية صباحا، فيحبسونهم في الطابق السفلي حتى الفجر، وكانوا يسمحون لمن يريد منهم الإدلاء بالاعتراف الأخير إلى قسيس القرية، وعند الفجر، يقود الحراس المحكوم عليهم بالإعدام إلى مكان حول السجن، حيث يطلقون عليهم النار، ويتركونهم حيث يسقطون، إلى أن يرسلوا بعد ذلك بفرقة عهدوا إليها دفنهم جماعيا في الأماكن التي سقطوا فيها.
وتشير كل الدلائل إلى أن هذا هو ما حدث مع لوركا، فبعد أن قضى ساعات قليلة في سجن «المستعمرة»، اقتيد في الفجر بصحبة المقرر إعدامهم يومها، وكان منهم اثنان من مصارعي الثيران العاملين في صفوف الشيوعيين والمعروفين بالتطرف السياسي، وهبطوا بهم إلى مكان قريب لا يزال يدعى بالاسم العربي له وهو «عين الدمعة»
Aainadamar ، حيث أطلقوا عليهم الرصاص، لتظل جثثهم بعد ذلك في مكانها إلى أن يحضر اللحادون ليدفنوهم تحت إحدى أشجار الزيتون.
وهكذا يقضي الشاعر الأندلسي الذين جرؤ يوما على أن يقول: سقوط غرناطة العربية في يد الإسبان كان كارثة على الحضارة والمدنية، وبقي مدفونا تحت الأشجار الحبيبة إلى قلبه، دون أن يعرف له أحد قبرا حتى الآن، لتصدق النبوءة التي رددها يوما في إحدى قصائده حين يقول:
عبر أشجار الغار
تطير حمامتان دكناوان
كانت أولاهما الشمس
والأخرى كانت القمر
قلت لهما: أيا جارتيا،
أين قبري؟
قالت الشمس: في ذيلي.
وقال القمر: في حلقي.
ما وراء الحادث
لم يكن للوركا أي انتماء حزبي محدد، فهو كمعظم الفنانين يحب أن يكون حرا، لا يقيده قيد ثقيل يشل حركته وتفكيره، إذ كان الإنسان هو هدفه، وأعظم به من هدف! غير أنه ككل فنان مرهف الحس، لا يمكن أن ينفصل عن القضايا الإنسانية العامة في كل زمان ومكان: قضايا العدالة والحرية والحب والخير، وهكذا كان يقترب بوجدانه وفنه من الشعب وقضاياه، ومن الفقراء والمحررين والبؤساء والمظلومين.
غير أن هذا «الالتزام الإنساني» الذي لا يستطيع أي فنان أصيل إلا أن يحتذيه، لم يكن ليرضي أفراد الفريق المحافظ، الذين يرون في مبادئ ذلك الالتزام انتقاصا لسلطتهم وحقوقهم وممتلكاتهم ... كذلك فقد حملت روح الفن شاعرنا على السير في درب الحداثة أيامها، وتبدت على شكل ثورته على بعض التقاليد المرعية - من التزام بالعادات والأعراف المرعية والورع الديني - واستهانته بها، وتبنيه للغريب من السلوك والملابس، مما كان يملأ صدور بعض أهل بلدته غرناطة - من الأثرياء والإقطاعيين المحافظين - بالاستهجان والاحتجاج، ونضيف إلى هذا مهاجمة الشاعر في أعماله الفنية، للسلطة التي تحد من حرية الإنسان، وقد تبدت هذه السلطة أكثر ما تبدت في الحرس المدني، الذي ناله الكثير من الانتقاد والهجوم في كثير من قصائده.
كل ذلك قد ساعد على رسم صورة معينة للشاعر - إن لم تكن بوصفه تقدميا صرفا - فعلى الأقل بكونه لا يسير على نهج المحافظين التقليديين ولا يتعاطف معهم، بل يتعاطف مع الأهداف التقدمية التي تناصر الفقراء والمحررين والمستضعفين، وقد ساعد ذلك على تصنيف الشاعر - من قبل النفوس الحاقدة التي يعميها الحسد والغيرة - ضمن تصنيف سياسية معينة، حتى إذا انفجر بركان الانقلاب وسالت الدماء أنهارا، أدرج الشاعر ضمن من يحرص قادة الانقلاب على ضرورة تصنيفهم، وأدى كل ذلك إلى النهاية الفاجعة التي وصفناها سابقا.
وقد انفجر خبر مصرع الشاعر في وسط هذه الظروف السياسية المضطربة في إسبانيا، فكان له دوي هائل في العالم بأسره، ونشرت الصحف الجمهورية في مدريد النبأ، كدلالة على وحشية مدبري الانقلاب وعدم إنسانيتهم، التي جعلتهم لا يفرقون بين بريء ومذنب، ولا يميزون الشخصيات التي تعتز بها البلاد، ولكن صحف العالم رددت النبأ بوصفه خسارة عظيمة مني بها الأدب والشعر، اللذان لا يعرفان مكانا ولا زمانا، وسارع اتحاد القلم الدولي
ممثلا برئيسه الكاتب والمفكر المشهور ه. ج. ويلز بإرسال برقية، يستفسر فيها عن مصير الشاعر، ولم يتلق إلا بضع سطور مبهمة بتوقيع الكولونيل «فالديس» محافظ غرناطة، تقول: «لا أعرف مكان السيد فديريكو غرسيه لوركا!»
وقد نعى الكتاب والفنانون مصرع الشاعر في قصائد ومقالات اشتهرت في تاريخ الأدب المعاصر، منها مرثيات لبابلو نيروزا، وأنطونيو متشاور، ورفاييل ألبرني، وميجيل أرناندث، وغيرهم كثيرون، كما كتب عدد من الشعراء العرب في فضل لوركا وعن مصرعه الغاشم، منهم صلاح عبد الصبور ومحمود درويش وعبد الوهاب البياتي ونزار القباني.
وكان الصحفيون والكتاب قد تناقلوا خبر مصرع لوركا، بوصفه عملا من أعمال قادة الانقلاب بالملكي، ولكن سلطات الانقلاب ظلت تتجاهل هذا الأمر، بل وتتعمد التشويش عليه بإشاعات بأن الشاعر قد قتل في برشلونة على يد الشيوعيين، إلى أن لم يعد في الإمكان تجاهل الموضوع، فكان أن أجاب الجنرال فرانكو على سؤال لأحد الصحفيين عن مصرع لوركا - في مقابلة صحفية في نوفمبر 1937م - بما يلي: «لقد ثار حديث طويل في الخارج عن كاتب غرناطي، الذي لا أعرف أنا مقدار شهرته خارج الحدود ... والحقيقة أنه في اللحظات الأولى من الثورة في غرناطة، مات ذلك الكاتب بعد الخلط بينه وبين المنشقين، إنها من الحوادث الطبيعية في الحروب ... ولقد كان فقده - بوصفه شاعرا - مما يؤسى له، وقد استغلت الدعاية الشيوعية تلك الحادثة لإثارة عالم الفكر والثقافة، غير أنه لا أحد يذكر في مقابل ذلك كيف اغتيلت شخصيات أخرى كثيرة في الجانب الآخر ...»
وظلت هذه هي الرواية الرسمية عن الحادث، بأنه كان نتيجة أحداث الحروب التي يروح فيها البريء أحيانا، حتى إن أشعار وفاة الشاعر، الذي عملت أسرته على استصداره من بلدية غرناطة، لمواجهة المسائل الإدارية من إرث وخلافه، يذكر سبب وفاته عثر على أنه «نتيجة جروح ناشئة عن الأعمال الحربية، حيث عثر على جثته في اليوم العشرين من نفس الشهر (أغسطس 1936م) في الطريق الموصل بين «فرنار» و«والفقار».
الشمس تشرق من جديد
بعد انتصار قوات فرانكو الملكية وسيطرتها سيطرة كاملة على إسبانيا كلها في عام 1939م، ظل اسم لوركا حتى عام 1949م محرما ذكره في أي صحيفة أو كتاب يصدر في إسبانيا، ولم تكن ثمة عروض لمسرحياته، ولا ذكر له في كتب الأدب الإسباني الحديث، التي تدرس في المدارس والجامعات الإسبانية، وشهدت هذه الفترة أيضا اندحار الفاشستيات الألمانية والإيطالية واليابانية، وانقسام العالم إلى معسكر ليبرالي وآخر اشتراكي، ونظر كل من المعسكرين إلى نظام فرانكو بوصفه أثرا من آثار فاشستية الثلاثينيات، وتكونت جمعيات وروابط من الإسبان المنفيين في الخارج للعمل على إسقاط ذلك النظام بكل الوسائل؛ ولذلك كان طبيعيا أن ينظر إلى لوركا بوصفه نجما من نجوم الحرية، إلى جانب فضائله في عالم الأدب والشعر والفن، وقد دفعت هذه الظروف المتعددة بدور النشر في جميع أنحاء العالم - عدا إسبانيا - إلى التسابق في إصدار كتبه وترجماتها إلى اللغات الحية، وإلى البحث عن مخطوطات أعماله التي لم تنشر لإصدارها، ودفعت الفرق المسرحية إلى إدخال مسرحيات لوركا ضمن برامجها على الدوام، وهكذا ظهر في عام 1940م «ديوان التماريت» يضم آخر قصائد لوركا، ونشره لأول مرة المعهد الإسباني بنيويورك، كما صدر في العام نفسه - بالمكسيك - ديوان «شاعر في نيويورك»، وفي عام 1945م عرضت لأول مرة مسرحية «بيت برناردا ألبا» في بوينس آيرس بالأرجنتين، وهي من المسرحيات التي أعطاها مؤلفها عنوانا جانبيا آخر، هو «دراما عن النساء في القرى الإسبانية»، وقال عنها إن فصولها الثلاثة تهدف إلى تقديم «وثيقة فوتوغرافية لقرى إسبانيا»، وتحكي المسرحية قصة بيت ريفي يضم نساء فقط: أم مسيطرة صارمة، وخمس بنات، وخادمتان، يعيشن جميعا في ظل حداد على رب البيت الذي مات لتوه عند بدء أحداث المسرحية، وتصور الأحداث رد فعل البنات الخمس تجاه مصير العزلة والحداد الذي تفرضه عليهن أمهن برناردا ألبا، وتجاه القسوة التي تطبق بها الأم معايير الشرف الإسباني، التي تتسم بالضراوة والحزم، ويزيد من هذا كله التوتر الهائل الذي يفرضه جو الريف المليء بالإشاعات والأقاويل، وتسير الأحداث - كما في كل تراجيديات لوركا - إلى نهاية محتومة، من موت الأبنة الصغرى التي تنتحر بعد ضعفها أمام خطيب أختها الكبرى، وبعد أن تعتقد خطأ أن الأم قد قتلته ... ولكن كل ما يهم الأم في هذا أن ابنتها قد ماتت دون أن تفقد شرفها.
وظل اسم لوركا مبعدا عن وطنه حتى عام 1949م، حين بدأت بوادر المصالحة بين العالم الليبرالي وإسبانيا فرانكو، بعد أن تبين فشل الجهود التي بذلت لتغيير النظام في إسبانيا، فعملت الدول الغربية على كسبها إلى جانبها في صراعها ضد العالم الشيوعي، ومع تلك البوادر، نشر الشاعر «لويس روساليس» - صديق لوركا وآخر من رآه من الأصدقاء على قيد الحياة - بعض القصائد التي لم تنشر من قبل للوركا، في مجلتين أدبيتين إسبانيتين، وفي عام 1954م، أصدرت دار نشر «أجيلار» - كبرى دور النشر الإسبانية - أول طبعة من الأعمال الكاملة للوركا، وقد خضعت التعليقات على حياة الشاعر في هذا السفر لرقابة صارمة، بحيث جاء في نهاية الدليل التاريخي لحياة الشاعر سطر واحد مبهم، كما يلي:
19 أغسطس 1936م: يموت.
وتالى بعد ذلك ذوبان الثلوج في وطن الشاعر تجاهه، إلى أن لم يعد ثمة كتاب مدرسي أدبي يخلو من ذكر لوركا، ووضعه الممتاز في تاريخ الأدب الإسباني الحديث، وتتابع ظهور أعمال مجهولة له، منها مسرحية «الجمهور» وأوبرا كوميدية بعنوان «الممثلة لولا»، كان لوركا قد كتبها كيما يعد موسيقاها «مانويل دي فايا» ولم يتم المشروع.
وقد لمس كاتب هذه السطور مدى انتشار أعمال الشاعر ومسرحياته في إسبانيا إبان إقامته في مدريد في الفترة من 1969م- 1974م خلال السنوات الأخيرة من حكم فرانكو، حيث كان إنتاجه يعرض بصورة عادية، مع توفر جميع الكتب الأجنبية التي تتناول ظروف مصرع الشاعر في مكتبات إسبانيا.
ولكن تتويج اعتراف البلاد بشاعرها العظيم لم يأت إلا بدءا من عام 1976م - بعد وفاة الجنرال فرانكو وانتهاج خليفته الملك «خوان كارلوس» النهج الديمقراطي في حكم البلاد - حين أقيم مهرجان فني كبير في غرناطة في ذلك العام احتفالا بذكرى الشاعر، حيث تبارى المحتفلون في الإشادة بذكره والمطالبة بتخليد ذكراه على صورة نصب تذكاري يقام في بلدته، ومن المظاهر الأخرى الهامة، صدور طابع بريد تذكاري تكريما للشاعر، وتخليدا لذكراه ومكانته في تاريخ الأدب الإسباني الحديث.
وهكذا مهما طال الزمن ومهما تضافرت الظروف المعاكسة على إخفاء أقدار الأصلاء، فلا بد أن تنتشع السحب آخر الأمر وتبرز الحقيقة أمام العيون، ولعل خير ما نختتم به هذا الكتاب عن الشاعر الذي مرق كالشهاب في سماء الأدب العالمي، ثم ترك وراءه نورا باقيا على مر العصور، هو القصيدة التي رثاه بها غداة مصرعه صديقه الشاعر «بابلو نيرودا» بعنوان «أنشودة إلى لوركا»:
لو أمكنني أن أبكي من الخوف في بيت مهجور
لو أمكنني أن أنزع عيني وآكلهما
لفعلت ذلك حزنا على صوتك البرتقالي المتشح بالسواد
وحزنا على أشعارك التي تهب صارخة. •••
لأجلك صبغت المستشفيات بالزرقة نوافذها
وانتشرت المدارس والأحياء المطلة على البحار
ونما الريش في أجساد الملائكة المثخنة بالجراح
وغطت الزعانف الأسماك السماوية.
لأجلك
طارت القنافذ إلى السموات العلى.
لأجلك امتلأت محلات الخياطين ذات الأنسجة السوداء
بالملاعق وبالدماء
وابتلعت شرائط حمراء
وصرعت بعضها البعض بالقبلات
واتشحت بالملابس البيضاء. •••
حين تحلق طائرا متشحا بالملابس الخوخية
حين تضحك ضحكة عيدان الأرز يعصف بها الريح
حين تغني فتهز العروق والأسنان
والحناجر والأصابع
أموت أنا من فرط حسرتي على عذوبتك
أموت على البحيرات الحمراء
التي تحيا فيها وسط الخريف
مع الفرس المنهار والإله الذي ينزف دما
أموت على المقابر التي تسري كالأنهار الرمادية
بمياهها وقبورها
في الليل كأنها أجراس غرقى
أنهار كثيفة كأنها عنابر جنود مرضى
تتحول فجأة على حدود الموت
إلى أنهار ذات أرقام مرمرية
وتيجان متعفنة وزيوت جنائزية
أموت من أجل أن أراك
ترقب في الليل مرور الصلبان المطمورة
واقفا تبكي
لأنك تبكي في وجه نهر الموت
مهجورا، مثخنا بالجراح
تبكي باكيا، وعيناك
مفعمتان بالدموع، بالدموع، بالدموع. •••
لو أنني استطعت وحيدا في الليل
أني أجمع النسيان والظلال والدخان
وأنشرها فوق القطارات والبواخر
من خلال قمع أسود
بينما أمضغ الرماد
لفعلت ذلك من أجل الشجرة التي تنمو معها
من أجل أعشاش المياه الموشاة التي تجمعها
من أجل اللبلاب الذي يغطي عظامك
ويبوح لك بأسرار الليالي. •••
مدائن تفوح منها رائحة الأبصال المبتلة
تنتظر ظهورك منشدا بصوتك الأجش
بينما تتبعك
سفن صموتة محملة بالعنبر
وعصافير خضراء تبني أوكارها في شعرك
وثمة قواقع وأيام وصواري وأشجار كرز
تدور وتلف
حتى تصل إلى رأسك الشاحب
ذي العيون الخمسة عشر
وفمك ذي الدم الغريق. •••
لو استطعت أن أملأ البلاد بالسواد
وأن أهدم الساعات من البكاء
لفعلت ذلك من أجل أن أشهد أمام منزلك
مجيء الصيف بشفاهه المحطومة
مجيء العديد من الأشخاص متشحين بثياب الموت
مجيء الأرض ذات البهاء الحزين
مجيء المحاريث الميتة وشقائق النعمان
مجيء حفاري القبور والفرسان
مجيء الكواكب والخرائط تنزف دما
مجيء الغواصين يغطيهم الرماد
مجيء الملثمين يجرون العذارى
وقد غاصت في أجسادهن النصال الطويلة
مجيء الجذور والعروق والمستشفيات والينابيع والنملات
مجيء الليل
ومعه الفراش الذي يموت عليه جندي مهجور
وسط خيوط العنكبوت
مجيء زهرة الكراهية، والوخزات
مجيء السفائن المعصفرة
مجيء نهار عاصف وأطفال
مجيئي أنا، ومعي أوليفر
ونورا، وفيثنتي ألكساندري، وداليا، وماروكا،
ومالفا، ومارينا، وماريا لويزا، ولاركو،
وروبيا، ورافاييل، وأوجارتي،
وكوتابوس، ورافاييل ألبرتي،
وكارلوس، وبيبي، وماتولو التولاجيري،
وموليناري،
وروساليس، وكونشامندس،
وآخرون غابوا عن ذاكرتي. •••
تعال أضع التاج على هامتك
يا فتى الأصحاء والفراشات
أيها الفتى النقي
كأنك الزنجي البارق الطليق أبدا.
تعال نتحادث سويا
الآن، حيث لا أحد يقعى بين الصخور
نتحادث ببساطة
كعادتنا أنا وأنت.
ما فائدة الأشعار لو لم تكن من أجل الندى؟ •••
ما فائدة الأشعار لو لم تكن من أجل ليلة مثل هذه الليلة؟
حيث تبعنا خنجر مرير،
لذلك اليوم
لذلك الشفق
لذلك الركن المحطوم
حيث يتهيأ للموت فؤاد الإنسان الكسير؟ •••
في الليل فوق كل شيء.
في الليل ترصع السماء أنجم كثيرة
كلها في محيط نهر واحد
كأنها شرائط معلقة
على نوافذ البيوت التي تزخر بالمساكين. •••
ربما مات لهم قريب
ربما فقدوا وظائفهم في المكتب،
في المستشفيات، في المصاعد،
وفي المناجم
تقاسي الخلائق وقد أثقلتها الجراح
وثمة عزم وأنين في كل ناحية
بينما الأنجم تجري في محيط نهر لا نهاية له
ثمة أنين طاغ يصاعد من كل نافذة
والأبواب قد تهاوت من الأنات
والغرفات ابتلت من الأنين
الذي يأتي في موجات تبتلع الأبسطة. •••
فديريكو!
إنك ترى الدنيا الآن
ترى الطرقات والحمض
والوداع على أرصفة المحطات
حين يرفع الدخان أطواقه الحاسمة
إلى حيث لا شيء
سوى الفراق والأحجار والقضبان الحديدية. •••
مئات من الناس
يتساءلون في كل ناحية
هناك الضرير الدامي، والثائر،
والخائر، والبائس، وذو الأظافر المورقة،
وقاطع الطريق يحمل أحقاده فوق كتفيه. •••
هكذا الدنيا يا فديريكو
هاك الأشياء التي بوسع صداقتي أن تقدمها لك
صداقة الرجل الكئيب الرجولي.
لقد علمت الكثير من الأشياء بنفسك
ولسوف تعلم أشياء أخرى
تأتي في بطء .
مراجع الكتاب
Federico Garcia Lorca: Obras Completas, Aguilur, Madrid, 1972.
José Luis Cano: García, Lorca, Destino Libra, 1974.
Francisco García Lorca: Federico y su Mundo, Alianza Editional, 1980.
Mildred Adams: García Lorca, G. B. Inc, 1977.
Ian Gibson: La Muerte de Gorcía Lorca, Ruedo Iberica, 1976.
Marcelle Auclaire: Enfances et Mort de García Lorca, Editions du Senil, 1968.
Claude Couffon: Granada y García Lorca, Editional Losada, Bunes Aires, 1967.
Editied by: Ildefonso-Manuel Gil: Federico García Lorca, Taurus Lidciones, Madrid, 1973.
Guillermo Diaz-Plaja: Federico García Lorca, Espasa ... Olape, Medrid, 1975.
Edwin Honig: García Lorca, Jonathan Cape, London, 1968.
Antony Beever: The Spanish Civil War, Peter Bedrick Books, New York, 1988.
Unknown page