لم يتسبب إلا عدد قليل من الشخصيات التاريخية في مثل هذا الصراع بين أناس يدعون نسبهم إليهم. ربما تكون أكثر النقاط جاذبية في شخصية كليوباترا جمعها بين الثقافتين الأوروبية والأفريقية؛ فقد كانت سيدة من أصل إغريقي، ربما كان لديها جانب مصري في أصولها، اختارت أن تربط نفسها بالثقافة المصرية؛ لذا ربما تمثل لنا نموذجا استثنائيا يحتذى به في مجتمعنا المعاصر. (3) مصر وأفريقيا
ترتبط قضية الهوية الأفريقية لكليوباترا بشدة بقضية كون مصر جزءا من أفريقيا. يعبر هذا عن التناقض بين التاريخ/الهوية السمراء والهوية الكلاسيكية/الأوروبية ويعكس الاستيلاء الأوروبي على الثقافة الأفريقية. تظهر قضية لون بشرة كليوباترا وهويتها العرقية في عدد من الإصدارات التي تتحدث عن تأثير مصر على اليونان وكون مصر جزءا من التراث الثقافي الأفريقي. يميل الباحثون إلى الجدل بشدة لصالح فكرة كون مصر دولة أفريقية أو ضدها (انظر على سبيل المثال العمل الذي حرره ليفكوويتز وماكلين روجرز 1996). وعلى الرغم من سعي كثيرين إلى إنكار هذه العلاقة في حالة كليوباترا، يستخدم آخرون أصولها المختلطة كدليل على أن تلوث هذه الأسرة الحاكمة المقدونية أدى إلى انهيارها (بيانشي 2003: 13).
في أمريكا الشمالية يعتبر بعض الأفراد ممن يحملون أثرا من التراث الأفريقي أنفسهم من السود، ويستخدم مصطلح السود على نطاق واسع في بريطانيا في عصرنا الحالي للإشارة إلى مجتمعات (جنوبية، كما ورد في المصدر) آسيوية (بيرنال 2001: 209). هذا وقد ضم معرض حديث عن الشخصيات السمراء من العصر الفيكتوري (مارش 2006) صورا لأفراد لهم أصول إسلامية. أشار بيرنال إلى أن كلمة أسود تعني للأوروبيين في العصر الحديث «نموذجا لسكان غرب أفريقيا»، في حين تتسم قارة أفريقيا بتنوع شديد، بما في ذلك شمال أفريقيا. أنا أستفيض في الحديث عن هذه النقطة حتى أوضح طريقة تعاملنا مع معاني الكلمات. ومع ذلك من الظلم أن يقول الباحثون إن قضية الهوية الأفريقية في مقابل الهوية الكلاسيكية (الأوروبية) لم تكن موجودة في العصور القديمة؛ فعند تصوير صانع الخزف الأثيني إكسيكياس لأحمس، الخادم المصري لممنون، في القرن الخامس قبل الميلاد، أظهر شكله على أنه أفريقي أسود، بشعر أفريقي الشكل وملامح «أفريقية» مبالغ فيها. وقيل أيضا إن هذا كان إشارة إلى أحد صناع الخزف المنافسين له الذي كان يعمل في أثينا في ذلك الوقت. إذن كان الإغريق يرون المصري على أنه أفريقي. وفي الأدب الإغريقي كان يشار إلى المصريين دوما على أنهم إثيوبيين.
من المهم أيضا إدراك أن الانتماء العرقي لا يتعلق فقط بدرجة لون البشرة أو الثقافة، وإنما أيضا بالاختيار؛ ومن ثم فإن الأطفال ذوي الأصل العرقي المختلط عادة ما يقررون اتباع إحدى الثقافات السائدة، وعادة ما يصبح الأفراد المنحدرون من العرقين الأبيض والأسمر سمرا، ويرجع هذا جزئيا إلى أن المظهر الخارجي (لون الجلد ونوع الشعر) لأبناء الوالدين اللذين يكون أحدهما أبيض اللون والآخر أسمر يكون أقرب عادة إلى مظهر الوالد صاحب اللون الأسمر؛ ولذلك يتعامل معهم المجتمع بأكمله على هذا الأساس. توجد جاذبية كبيرة أيضا لثقافة السمر؛ فيتبع كثير من الناس في بريطانيا في عصرنا الحالي ثقافة السمر أو يقلدونها (في الموسيقى والأفلام)، لكنهم ليسوا من السمر. توجد صورتان مختلفتان تماما لكليوباترا؛ الأولى والسائدة: هي صورتها المصرية، هذا وقد اعتنقت كليوباترا ثقافتها الأصلية بوصفها حاكمة لمصر (فيجب أن نتذكر أنه في وقت اعتلائها للعرش كانت أسرتها قد عاشت في مصر نحو 300 عام). لم تظهر كليوباترا على أنها أوروبية إلا عند إصرار جمهورها على ذلك فقط، ورغم هذا ما زالت أوروبا تنسبها إلى نفسها متجاهلة علاقتها بأفريقيا. (4) كليوباترا كنموذج يحتذى به
قلة قليلة من النساء يضاهين شهرة كليوباترا، أو حصلن على ما حصلت عليه من سلطة؛ ونتيجة لهذا، ينظر كثير من الكتاب المعاصرين إلى كليوباترا على أنها شخصية نسائية بارزة، بينما يبذل آخرون قصارى جهدهم من أجل التقليل من شأن هذا الدور.
إن دور كليوباترا كمثال يحتذى به للنساء يطرح إشكالية مثل كونها رمزا أسمر اللون. يوجد تفسير بسيط لهذه المشكلة، تفسير قد يقدم فهما عميقا لضرورة التعليق على مظهرها الخارجي على حد زعم البعض؛ فقد كانت الغالبية العظمى من كتاب سيرة كليوباترا وبالتأكيد الغالبية العظمى من المؤرخين القدامى الذين تحدثوا عنها في أعمالهم رجالا من أصل أوروبي. سنتحدث في الفصل الثاني عن هذه المشكلة من خلال مقارنة كتاب شمال أفريقيا بنظرائهم الأوروبيين.
إن المؤرخين المعاصرين الذين يدرسون التاريخ الأفريقي والهوية الأفريقية، أو الذين لهم أصول أفريقية، أكثر تعاطفا مع فكرة كون كليوباترا شخصية سمراء بارزة، ربما بسبب معرفتهم بالتراث الشفهي الأمريكي الأفريقي. لا عجب إذن أن تتعامل المؤرخات السيدات بتعاطف أكثر مع الملكة، لا سيما المتخصصات في «أسطورة» كليوباترا، وقد يرجع هذا ببساطة إلى إدراكهن مدى ما حدث لشخصيتها من تشوه بمرور الزمن (هامر 1993 و2003؛ هيوز-هالت 1990).
لا يمكن للمعرفة العلمية التشكيك في كون كليوباترا امرأة مثلما شككت في هويتها الثقافية، لكن بعض العلماء شككوا في مكانة كليوباترا كقدوة للنساء. فيجب ألا تكون كليوباترا شخصية تاريخية معصومة من الخطأ حتى تؤدي هذا الدور، تماما مثلما لا يرتبط مفهومها الشخصي أو المفهوم المعاصر للون بشرتها بتقبلها كشخصية بارزة سمراء اللون. فإذا استطاع بعض أعضاء مجموعتي «أقلية» (ومن بينهما النساء) النظر إلى كليوباترا، إحدى الشخصيات التاريخية الملهمة، على أنها قدوة يحتذى بها، فلم يضايق هذا من لا توجد صلة حقيقية لهم بها؟ أنا لا أقول إن كليوباترا كانت معصومة من الخطأ، بل إنه من الخطأ إنكار الانجذاب المعاصر إليها، والقائم على كونها امرأة أو سمراء أو حتى مصرية. (5) المواقف تجاه الحكام النساء
يذكر بعض الباحثين المعاصرين، عند حديثهم عن سجل إنجازات كليوباترا السابعة كحاكمة، بعض الكوارث الطبيعية مثل انخفاض عدد الفيضانات في الجزء الأول من حكمها على أنها أمثلة على إدارتها السيئة لمصر؛ فقد كتب أحدهم (هازارد 2000: 159) في استنتاج مذهل: «لا تقدم ملكات البطالمة أي أمثلة مضيئة للمؤمنين بالمساواة بين الجنسين إذا حكموا عليهن بقيمتهن للشعوب؛ إذ لم يحسن ظهور تلك الملكات جودة الحكم ووضع بنات جنسهن إلا في أضيق الحدود. وينطبق هذا على وجه الخصوص على الملكة كليوباترا الأخيرة، التي أصبحت حاليا أسطورة أكثر من كونها شخصية تاريخية؛ فقد كان تجاهل كليوباترا الأخيرة لحق أخيها (في الحكم) عام 51، وخدمتها لمصالح رعاتها في روما طوال فترة حكمها، وقتلها لثلاثة من المطالبين بالعرش وتحصيلها لضريبة ضخمة من شعبها؛ من العوامل التي جعلتها أعظم من رفاقها الرجال، لكنها حكمت بقسوة تضاهي أي ملك آخر.»
على الرغم مما يبدو من معاناة بعض المؤرخين المعاصرين مع مفهوم الرمز النسائي القوي، فقد لعبت النساء دورا رئيسيا في مصر منذ عهد الأسرة الأولى، وكانت تشغل بوضوح دورا خاصا قريب الصلة بدور الآلهة ذات النفوذ. تولى حكم مصر حاكمات من النساء، لكن هذا الوضع لم يكن إلا استثناء. في مقال عن نماذج السلطة (النسائية) وفيما يتعلق باعتلاء حتشبسوت للحكم، تحدثت روث عن الظروف التي أحاطت بارتقاء النساء إلى منصب الحاكم الرئيسي (2005: 9-14). فقد وصل كثير من النساء إلى السلطة عقب وفاة زوجها المفاجئة. بينما كانت تتولى أخريات السلطة، لكن دون الحصول على لقب الملك، كوصيات على العرش أو في دور والدة الملك (روث 2005: 10-12). من الواضح أن المصريين كانوا يتقبلون الحاكمات النساء ويتأقلمون معهن، وكان ينظر إلى النساء على أنهن قادرات على حماية مصر، وربما كن يدفن بصحبة أشياء تتعلق بالشجاعة العسكرية (روث 2005: 11). لا يعتبر هذا أمرا مفاجئا إذا نظرنا إلى ربات مثل سخمت، التي تتضمن شخصيتها جانبا خاصا بتقديم الحماية وآخر لشن الحروب.
Unknown page