Kharitat Macrifa
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
Genres
وطول التنائي عن بني وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك غوادي المزن من صوبها الذي
يسح ويستمري السماكين بالوبل
عبد الرحمن الداخل
رجل يرقد في ظل شجرة رمان. هو مسن، في أواخر حياة مديدة، تغضن وجهه بخطوط وعلامات الزمن؛ فعيناه منتفختان وتكسوهما التجاعيد، لكن لا يزال باستطاعتهما اختراقك بسوادهما. يجري الماء مترقرقا في القناة التي تمر وسط البستان فتقسمه، والطيور تهوي لأسفل كي تشرب ولا شيء يكدر صفو العالم. يحمد الرجل ربه على أنه يستطيع أن يرقد ها هنا في سلام يستمتع بشيخوخته. يعود بظهره إلى الخلف مسترخيا على وسائد حريرية لامعة، ويحدق إلى أعلى نحو الشجرة التي تظله من ضياء الشمس الباهر. يهيم عقله في ذكريات حياته المديدة، متوجها نحو الشرق، آلاف الفراسخ خلال الصحراء، إلى أرض مولده، إلى سوريا. يرى شجرة رمان أخرى، جدة هذه الشجرة، في بستان آخر. وعيناه مغمضتان، يسمع عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان (731-788)، أول أمير للأندلس، صيحات إخوته وأبناء أعمامه وهم يطارد بعضهم بعضا عبر الأفنية الظليلة، يقفزون مجتازين جداول المياه ويختبئون خلف النوافير. يعود بذهنه في الماضي إلى قصر الرصافة القديم، الذي بناه جده، الخليفة الأموي مروان الثاني، خارج دمشق مباشرة؛ طيف من جنة الله على الأرض، طيف لازمه طوال حياته، طيف استلهم منه البستان الذي يرقد فيه الآن. يتذكر جماله، والأيام الخالية من الهموم التي قضاها يستكشف جوانبه الظليلة، والطمأنينة والسعادة. ثم ينتفض جسده وهو يتذكر اللحظة التي استحال فيها هذا العالم المشرق سوادا.
في عام 750، كان عبد الرحمن شابا في العشرين من عمره، أحد الأحفاد الكثر للخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، يعيش حياة يملؤها السرور والاعتزاز محاطا بعائلته. أمضى أيامه في القنص والصيد بالصقور مع أبناء أعمامه، ويغازل الإماء، ويشاكس شقيقاته. لكن، في ربيع ذلك العام، انقلبت حياته الخالية من الهموم رأسا على عقب عندما استولت قبيلة بني العباس على السلطة ونزلت إلى دمشق، بنية اغتيال كل فرد من أفراد الأسرة الأموية يمكنهم العثور عليه. هرب عبد الرحمن مع شقيقه الأصغر وخادم يدعى بدرا. فروا، والأعلام السوداء البغيضة لفرسان العباسيين ترفرف في أعقابهم. أمضوا الأسابيع القليلة التالية يحاولون باستماتة أن يسبقوا مطارديهم؛ مختبئين في الغابات، ومستجدين مأوى في القرى ويركضون حرفيا لينجوا بحياتهم. في النهاية، وصلوا إلى ضفة نهر الفرات، والعباسيون على وشك أن يلحقوا بهم، فألقوا بأنفسهم في الماء وبدءوا في السباحة. استدار شقيق عبد الرحمن منهكا عائدا نحو جنود العدو، الذين كانوا يصيحون من ضفة النهر بأنه ليس ثمة ما يدعو إلى الخوف، وأنهم لن يلحقوا بهم أي أذى. توسل عبد الرحمن إلى شقيقه أن يستمر في السباحة إلى الضفة الأخرى، واضطر إلى أن يراقب العباسيين عاجزا وهم يسحبون شقيقه من الماء ويقطعون رأسه على الفور. بعد أن وصل عبد الرحمن وبدر بأمان إلى الضفة الأخرى، ركضا حتى سقطا من الإجهاد. كانا قد هربا، على الأقل حينها، ولكن أقدامهما لم تطأ سوريا ثانية.
أمضى عبد الرحمن الأعوام الأربعة التالية، إن لم يكن دوما فارا، فمرتحلا، سافر عبر صحراء شمال أفريقيا، من مصر عبر أراضي قبائل البربر الرحل. أبدى بعضهم ودا نحوه، غير أن أذرع العباسيين الشديدي البأس، الذين صاروا الآن ممسكين بمقاليد الخلافة، امتدت لبعيد، وكان من السهل إقناع الحكام المحليين بأن عبد الرحمن كان يمثل خطرا. نجا مرات عديدة بأعجوبة - حتى إنه اختبأ في إحدى المرات تحت كومة ملابس تخص زوجة أحد شيوخ القبائل - وأخيرا انتهى به الحال إلى المغرب الحالية، موطن قبيلة أمه، قبيلة نفزاوة من البربر. في هذه المرحلة، لا بد أن عبد الرحمن سمح لنفسه بأن يتنفس الصعداء؛ لأول مرة منذ مغادرته السريعة من سوريا. كان قد تمكن من أن ينأى بعيدا بحيث يفصله عن العباسيين عدة آلاف من الكيلومترات، وتمكن من إيجاد ملاذ وسط أقاربه، ولكن ما كان أروع من ذلك أنه تمكن من البقاء على قيد الحياة. في الوقت الذي لا بد أنه شعر فيه أنه محظوظ، كان لا يزال هاربا مفلسا؛ بعيدا كل البعد عن الحاكم القوي الذي ترعرع معتقدا أنه سيكونه. كان إرثه باعتباره سليلا مباشرا للنبي يجعل الحكام المحليين يصابون بالتوتر؛ فلا أحد يريد شخصا يمكن أن يصبح خليفة يتحرك في الجوار، وحيثما ذهب، كان محورا للسخط والشك. لم يستطع عبد الرحمن أن يهرب من ماضيه ولا هو أراد أن يفعل ذلك. لقد أبقى الله على حياته لسبب؛ فمستقبل السلالة الأموية بين يديه. وإذا كان سيحقق مصيره، فقد عرف ما يتعين عليه فعله؛ أن يغزو إقليما جديدا ويبني إمبراطورية جديدة. عندما فشلت خطته الأولية في الظفر بإفريقية (تونس)، تحول نحو الشمال ونظر عبر شريط الماء الضيق الذي يربط البحر المتوسط بالمحيط الأطلسي، نحو إسبانيا، التي كانت قبائل العرب والبربر قد غزتها قبل ذلك بأربعين عاما.
ما الذي عرفه عبد الرحمن عن الأرض التي كانت تنتظره؟ كانت شبه الجزيرة الشاسعة التي تتخذ شكل الثور، وتتخللها جبال غنية بالمعادن تكسوها الثلوج، وأنهار متعرجة، وسهول برية مرتفعة؛ عالما آخر مختلفا عن صحارى سوريا التي خلفها وراءه. يشتهر كتاب العصور الوسطى العرب بأسلوبهم المنمق الجياش، ولا تشكل أوصافهم للأندلس، التي نعرفها الآن باسم أندلسية، استثناء في هذا الصدد. فقد بهرهم الجمال الطبيعي لهذا البلد المسلم الجديد وبعث فيهم البهجة؛ فأثنوا بعبارات قوية رنانة على «تلالها اللطيفة وسهولها الخصبة، وطعامها الحلو والنافع ... والأعداد الكبيرة من الحيوانات النافعة ... والمياه الوفيرة ... والهواء النقي والصحي ... والتعاقب البطيء لفصول السنة.»
Unknown page