Jughrafiya Siyasiyya
الأصول العامة في الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا: مع دراسة تطبيقية على الشرق الأوسط
Genres
وقد كانت أهم نتائج الحربين العالميتين أن الشرق الأوسط لم يعد جيوبوليتيكيا مجرد منطقة تتنافس عليها القوى الأوروبية، بل إنه منذ الخمسينات أصبح إقليما حساسا في جيوبوليتيكية القوى العالمية بدخول الولايات المتحدة دخولا مباشرا في مشكلات الشرق الأوسط الداخلية، والمشكلات الخاصة بأنظمة الدفاع الغربي في هذا الإقليم الحساس، وكان البترول في إيران والدول العربية مصدرا آخر من أسباب ظهور الشرق الأوسط على مسرح السياسة العالمية خلال ربع القرن الأخير.
وقد ترتب على هذه الأوضاع أن برزت عدة مشكلات ذات طابع استراتيجي في عدد من مناطق الشرق الأوسط تركزت في الدول التي تسيطر على المعابر المائية والجبلية أو بالقرب منها: تركيا وأفغانستان ومصر وفلسطين.
في تركيا دارت المشكلات الاستراتيجية حول منطقتين هما إقليم قرص-أردهان وإقليم المضايق، ويقع إقليم القرص وأردهان على الحدود التركية السوفيتية بين البحر الأسود وأرمينيا، وقد طالب الاتحاد السوفيتي بإعادة ضم الإقليم مرارا بعد أن استولت عليه تركيا عام 1917، وقد كان في الأصل جزءا من أملاك الدولة العثمانية وظل النزاع قائما عليه منذ 1878، وقد أنهت روسيا النزاع عام 1953 بتنازلها عن الإقليم، أما المضايق التركية فهي لا تزال محكومة باتفاقية مونترو 1936 التي تنص على السماح بمرور السفن الحربية خلال السلام من البحر الأسود وإليه، وذلك بالنسبة لدول البحر الأسود فقط، كما يسمح لسفن حربية تابعة لدول أخرى بالمرور خلال أوقات السلام ولكن بعدد وحمولة محدودتين، وبناء على ذلك رفضت تركيا مرور أساطيل الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، مما أثار الاتحاد السوفيتي وطالب عام 1945 بإدارة مشتركة للمضايق تمارسها كل دول البحر الأسود، كما طالب باشتراكه مع تركيا في نظام الدفاع عن المضايق، لكن دخول تركيا الأحلاف الأوروبية ابتداء من 1954 والمعاهدات التركية الروسية، قد جمد المطالب السوفيتية، وفي مقابل ذلك تلتزم تركيا بتنفيذ بنود مونترو، ومن ثم تسمح لعدد محدود من سفن الأسطول الأمريكي بدخول البحر الأسود في بعض المناسبات، كما تسمح لسفن الأسطول السوفيتي بالعبور والتواجد في البحر المتوسط مرات متعددة خلال أزمات الشرق الأوسط والحروب العربية الإسرائيلية، وبرغم ذلك فمما لا شك فيه أن المضايق التركية تمثل منطقة نزاع كامنة، لكنها لا تدخل نطاق النزاع الثنائي بين تركيا والاتحاد السوفيتي، وإنما هي جزء من المشكلات الاستراتيجية في أنظمة الدفاع السوفيتية والغربية معا، وببقاء تركيا ضمن الأحلاف الغربية، فإن المضايق التركية تمثل إلى الآن نقطة ضعف في جيواستراتيجية السوفيت، كما كان ذلك شأنها خلال القرنين 18، 19، وهي بذلك تمثل استمرارية للنزاع الجيوبوليتيكي بين القوى البحرية (دعم بريطانيا وأمريكا لتركيا) والقوى البرية (الاتحاد السوفيتي)، وذلك برغم تطور تكنولوجية الحرب تطورا جذريا منذ القرن الثامن عشر، وتثبت بذلك أهمية علاقات وجيوبوليتيكية المكان الجغرافي واستمرار تأثيرها لفترات طويلة.
وفي الطرف الشمالي الشرقي من الشرق الأوسط، وأيضا في مواجهة الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي - بضم الصين - تقع أفغانستان على الممرات الجبلية الحيوية المؤدية إلى جنوب آسيا والمحيط الهندي، وقد سبق أن ذكرنا أن أفغانستان ظلت تستخدم في وظيفة الدولة الحاجزة بين النفوذين البريطاني والروسي، وقد سقطت هذه الوظيفة بعد استقلال الهند وباكستان، وحلت محلها مباشرة مشكلات كامنة كانت قد ترتبت على الحدود التي اصطنعتها بريطانيا لحماية الهند في منطقة عرفت باسم «منطقة الحدود الشمالية الغربية» التي تسيطر على ممر خيبر، وكانت هذه الحدود الدفاعية البريطانية قد اقتطعت جزءا من أراضي قبائل الباتان، الذين يكونون الجزء الأكبر من سكان أفغانستان.
ولم تكن مطالب أفغانستان الإقليمية في باكستان - ضم إقليم الباتان، أو إنشاء دولة بوشتوستان - هي وحدها السبب في سقوط وظيفة أفغانستان كدولة حاجزة، فقد كان هناك سببان آخران، أولهما تمثله مشكلة بالوتشستان، التي تسكنها مجموعة لغوية تمتد أوطانها داخل حدود أفغانستان وباكستان معا، وتسعى أفغانستان إلى الحصول على بالوتشستان، مؤيدة مساعيها بأسانيد تاريخية، من أجل الحصول على واجهة بحرية على المحيط الهندي، وتقلل بذلك من عزلتها الداخلية واعتمادها على ميناء كراتشي في تجارتها.
ومما لا شك فيه أن باكستان قد احتلت، منذ نشأتها، مكانا جغرافيا كثير المشكلات، فعلى عكس الهند التي تمثل كتلة أرضية موحدة، تكونت باكستان من مساحتين أرضيتين منفصلتين «ولغتين وحضارتين مختلفتين - باستثناء الدين الذي يجمع بينهما - وتوجيهين جغرافيين شديدي الاختلاف»، وقد انتهى الأمر بانفصالهما كوحدتين سياسيتين مستقلتين، وفضلا عن ذلك فإن باكستان الحالية - الغربية - تحتل مكانا جغرافيا قلقا بوصفه منطقة التقاء السهول الغنية - البنجاب وحوض السند - بالهضاب والجبال الفقيرة التي تخترقها الممرات الجبلية ذات الشهرة التاريخية منذ القدم، وبذلك فإن باكستان - كوريثة للنطاق الحدي الدفاعي الذي اصطنعته بريطانيا - دولة محملة بأعباء ومشكلات سياسية ناجمة عن أوضاعها الجغرافية السيئة، وهذه الأعباء قد أضيف إليها من جديد عبء الدفاع ضد الاتحاد السوفيتي في منطقة آسيا الجنوبية، وذلك بإشراكها في سلسلة من الأحلاف الغربية.
وهذا هو السبب الثاني الذي أدى إلى سقوط وظيفة أفغانستان كدولة حاجزة، فإن انضمام باكستان إلى حلف أمريكي قد أدى إلى موقف مناقض في أفغانستان، فاتجهت - كرد فعل - إلى الاتحاد السوفيتي، دعما لموقفها من مطالبها الإقليمية في باكستان، وحماية لنفسها من قوة الحلف الغربي الباكستاني الإيراني، كنوع من التوازن الدولي، وقد أدى استحكام النزاع بين أفغانستان وباكستان إلى توقف اعتماد الأفغان على ميناء كراتشي الباكستاني، وتحولت غالبية التجارة الأفغانية إلى المرور عبر الأراضي السوفيتية؛ مما أعطى التقارب السوفيتي الأفغاني جسما ماديا تدور حوله الاستراتيجيات المختلفة، بما فيها اتفاقيات المعونة الاقتصادية السوفيتية الكبيرة - أكثر من ضعف حجم المعونة الأمريكية - لأفغانستان، وهكذا فإن الموقف السوفيتي عبر أفغانستان والهند قد كسب مكانة متميزة في جنوب آسيا باختراقه الحصار الأمريكي، على عكس موقفه في غرب آسيا الذي تقف أمامه تركيا وإيران والحلف الغربي.
أما فيما يختص بالممر المائي في قناة السويس فإنه كان، وسيظل، يمثل منطلق مشكلة بالنسبة لمصر ومنطقة فلسطين (بالشكل الذي تمثله الآن في صورة وجود غربي إسرائيلي عدواني) في إطار جيوبوليتيكي واحد، وبالرغم من أن قناة السويس مشكلة مصرية صميمة، مثلها في ذلك مثل المضايق التركية، إلا أن الأهمية الحيوية لكل من هذين المعبرين المائيين تجعلهما بالضرورة جزءا من المخططات السياسية العالمية.
ونظرا لأن تركيا قد أصبحت طرفا في معسكر الأحلاف الغربية، فإن قضية المضايق التركية قد استقرت استقرارا نسبيا منذ نحو ربع قرن، ولأن مصر تتتبع سياسة قومية في علاقتها العربية والدولية دون أن يستقطبها أحد المعسكرين، فإن قضية قناة السويس ظلت غير مستقرة بالدرجة التي تحققت في مضايق البحر الأسود ، وتشكل القضية الفلسطينية، في أحد جوانبها الهامة، طرفا من أطراف الصراع الإمبريالي مع الحركة القومية في مصر حول قناة السويس (خلال ربع القرن الأخير)، فقد أصبح الوجود الإسرائيلي في فلسطين سببا في إغلاق القناة مرتين منذ تأميمها، وذلك بالاتفاق الكامل مع القوى الغربية الأوروبية في عام 1956، ومع الإمبريالية العالمية عامة والقوى الأمريكية خاصة في عام 1967 وما بعدها، ولعل ذلك هو الموقف الذي تصورته الاستراتيجية البريطانية منذ وعد بلفور وتقسيم الدول العربية: أن تضمن وجودا غربيا قريبا من القناة لحماية مصالحها، وقد حاولت بريطانيا أن تعيد سيطرتها المفقودة على الشرق الأوسط بتدخلها المباشر عام 1956 مع فرنسا وإسرائيل، على نحو ما كانت تفعل في القرن 19 ضد الدولة العثمانية، لكن هذا الدور قد أنهى المركز الممتاز الذي كان لها في الشرق الأوسط إلى الأبد، وكذلك فإن مشاكلها الاقتصادية ومكانتها السياسية العالمية جعلتها تقنع بالعمل غير المباشر مع أمريكا وإسرائيل.
ولسنا بحاجة إلى شرح مشكلة السويس من الناحية المصرية، فقد كان الكفاح القومي في مصر منذ أواخر الأربعينيات يهدف إلى إزالة الوجود البريطاني من مصر عامة، بما فيها القناة، وبتأثير تفاعلات ذاتية في الحركة القومية المصرية نتيجة صراع مع عناصر مختلفة من مجموع السياسية الغربية، وعلى خلفية تصارع التيارات الغربية والقومية في معظم دول الشرق الأوسط العربية، تم تأميم قناة السويس،
Unknown page