مقدمة في التعريف بالجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا
القسم الأول: في أصول السياسية والجيوبوليتيكا
1 - ماهية الجغرافيا السياسية
2 - مناهج الدراسة في الجغرافيا السياسية
3 - فريدريك راتزل مؤسس الجغرافيا السياسية
4 - الجيوبوليتيكا قديما وحديثا
5 - الدولة
6 - حياة الدول
7 - السكان في الجغرافيا السياسية
8 - الحدود في الجغرافيا السياسية
القسم الثاني: الشرق الأوسط
1 - الشرق الأوسط عالم المعابر
2 - جيوبوليتيكية المكان
3 - بعض مقومات دول الشرق الأوسط
ختام
مقدمة في التعريف بالجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا
القسم الأول: في أصول السياسية والجيوبوليتيكا
1 - ماهية الجغرافيا السياسية
2 - مناهج الدراسة في الجغرافيا السياسية
3 - فريدريك راتزل مؤسس الجغرافيا السياسية
4 - الجيوبوليتيكا قديما وحديثا
5 - الدولة
6 - حياة الدول
7 - السكان في الجغرافيا السياسية
8 - الحدود في الجغرافيا السياسية
القسم الثاني: الشرق الأوسط
1 - الشرق الأوسط عالم المعابر
2 - جيوبوليتيكية المكان
3 - بعض مقومات دول الشرق الأوسط
ختام
الأصول العامة في الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا
الأصول العامة في الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا
مع دراسة تطبيقية على الشرق الأوسط
تأليف
محمد رياض
هذا الكتاب محاولة من أجل المزيد من التعرف علي اتجاه الأحداث السياسية علي خلفية الأرض التي نعيش عليها.
مقدمة في التعريف بالجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا
تشكل الجغرافيا السياسية واحدا من الموضوعات الشائكة في الدراسات الجغرافية، ذلك أنها مضطرة إلى ربط وتحليل تفاعلات بشرية سريعة الإيقاع - الاتجاهات السياسية الداخلية والخارجية والأحداث العسكرية - مع العوامل الجغرافية الأرضية شبه الثابتة، وهي في ذلك تشبه الجغرافيا الاقتصادية أو جغرافية السكان وجغرافية العمران، لكن التشابه يقف عند هذا الحد.
ذلك أنه يوجد اختلاف كبير بين منطلق الدراسة في الجغرافيا السياسية وبين منطلقه في الدراسات الجغرافية عامة، بما في ذلك فروع الجغرافيا البشرية والاقتصادية؛ فالإقليم هو وحدة الدراسة في الفروع الجغرافية، والإقليم عبارة عن تركيب نظري ينتج عن تجميع عدد من المقومات والصفات المتشابهة طبيعيا واقتصاديا وبشريا في منطقة جغرافية محددة يصبح لها تميزها وتفردها عن المناطق المجاورة، وبذلك فإن الإقليم الجغرافي وحدة دراسة لها شيء كبير من الثبات الذي يستمده من التوافق التدريجي الذي يحدث بين المكونات الطبيعية للأرض، والإمكانات البشرية التنظيمية والتكنيكية - مع تغيرات كمية تطرأ نتيجة زيادة السكان أو تغير نمط استخدام الأرض .
أما في الجغرافيا السياسية فإن وحدة الدراسة هي الدولة، وهي في حد ذاتها اصطناع بشري موقوت الثبات نتيجة تغيرات سريعة داخلية وخارجية. وفي خلال فترة حياة الدولة - طالت أم قصرت - فإن الدولة قد تتكون من إقليم جغرافي واحد أو جزء منه، إذا كانت دولة صغيرة المساحة، مثال ذلك هولندا التي تحتل إقليما سهليا في دلتا الراين، أو سويسرا التي تحتل جزءا من إقليم جبال الألب الأوروبية، أو نبال التي تحتل جزءا من بيدمونت جبال الهملايا. وقد تمتد سيادة الدولة على عدة أقاليم طبيعية وبشرية مختلفة، إذا كانت من الدول الكبيرة الحجم، كالاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وكندا وأستراليا والسودان والبرازيل، ومع ذلك فإن بعض الدول - صغيرة المساحة أو متوسطة - تشتمل على أقاليم جغرافية متعددة، وخاصة في المناطق التي تتخذ فيها التضاريس أشكالا مفاجئة مثل العراق أو رومانيا أو إيطاليا أو لبنان أو فيتنام؛ ففي هذه الدول وغيرها تقف أقاليم الجبال والسهول أو السهول العليا في تناقض واضح جنبا إلى جنب.
وليس هذا هو كل الاختلاف، فالمفروض في الجغرافيا السياسية أن تدرس أداء كل المواطنين، بغض النظر عن خلفياتهم الإقليمية المحددة، في اتجاه موحد هو مصلحة الدولة، وبذلك تفرض الوحدة السياسية تكاملا أعلى مستوى من التكامل الإقليمي الطبيعي، وقد أدى ذلك إلى موضوعين حيويين في جغرافية الدولة، أولهما وجوب نشأة تنظيمات مختلفة داخل الدولة لإيجاد أو اصطناع هذا التكامل في شتى نواحيه الاقتصادية والبشرية والسلالية والطائفية والثقافية والحضارية، ووجوب نشأة سلطات مركزية ومحلية لإرساء قواعد التكامل، ولكن ذلك لا يحدث دائما وتظل أقاليم في الدولة متميزة بقواها الذاتية وثقلها السكاني والحضاري والاقتصادي، كإيطاليا الشمالية؛ ومن ثم تشعر الأقاليم الفقيرة بعقدة نقص أبدية داخل حدود الدولة السياسية، وربما كان هذا - بالإضافة إلى عوامل اختلاف أخرى، سلالية أو لغوية، أو مجرد البعد المكاني عن مركز الحكم - أحد أسباب القلق أو القلقلة داخل بناء الدولة، وقد يؤدي في أقصى حالاته إلى نشأة رغبات انفصالية. والموضوع الثاني أن الدولة - كخلق بشري - قابلة للنشأة والنمو والازدهار والاضمحلال والبقاء والزوال، وكم من دولة كانت ثم لم تكن، لكن الشعوب والأقاليم تظل قائمة؛ لأنها تجمعات طبيعية واعتيادية، سواء بقيت وحدتها السياسية أو زالت، وإلى جانب ذلك فإن الدولة - بغض النظر عن الكينونة والزوال - معرضة للانكماش أو التمدد، ومن ثم تظهر تغيرات مستمرة على خريطة العالم السياسية.
وهذا هو جوهر الصعوبة في الجغرافيا السياسية، لهذا فإن هذا العلم يحاول أن يصبح موضوعيا بقصر مهامه على رسم صورة معاصرة للوحدات السياسية مع أضواء على الخلفيات الطبيعية والبشرية والتاريخية، وخاصة في موضوع الحدود السياسية، الذي تكون دراسته واحدا من أهم منطلقات الدراسة في الجغرافيا السياسية - وذلك باعتبار أن الحدود السياسية هي «مقياس» الحركة في الوحدة السياسية - ومؤشرا على صحة الأداء السياسي.
وإذا كانت هذه صعوبة الجغرافيا السياسية، فالجيوبوليتيكا أكثر صعوبة؛ لأنها تقوم برسم تصورات سياسية مستقبلية على ضوء تفاعلات المكان الجغرافي والشكل السائد من الاستراتيجية العسكرية، ولهذا يتردد دائما مصطلح القوة البرية أو البحرية أو الجوية. وبما أن الجيوبوليتيكيا في أساسها خطة للمستقبل السياسي لإقليم أو قارة أو العالم، فإنها أقل موضوعية من الجغرافيا السياسية، لكنها ضرورة متلازمة مع الفكر السياسي في عصر القوميات والاستراتيجيات العسكرية للسيطرة على العالم أو جزء منه، وبرغم قدم الفكر الجيوبوليتيكي وتلازمه مع السياسات الإمبراطورية المختلفة في الماضي، إلا أنه أصبح أكثر تكاملا كموضوع للدراسة منذ القرن الماضي وخلال القرن الحالي، وهو في الحقيقة يشابه الخطط الاقتصادية أو العمرانية في الوقت الحاضر، وذلك من أجل معرفة المكان الذي تحتله دولة ما من خطط السياسة العالمية، والدور الذي يمكن أن تؤديه، ومن أجل مواجهة هذه الخطط بالقبول أو الرفض، ولا شك في أن تطور الفكر الجيوبوليتيكي وضرورته المعاصرة مرتبط باقتراب العالم من بعضه نتيجة التسهيلات التي حدثت في وسائل النقل والاتصال الفكري والإعلامي والتشابك الاقتصادي.
محمد رياض
بيروت في أبريل 1974
القسم الأول
في أصول السياسية والجيوبوليتيكا
الفصل الأول
ماهية الجغرافيا السياسية
نظرة ناقدة
لا يوجد فرع من فروع الجغرافيا الحديثة يتناوله الجذب والدفع مثل الجغرافيا السياسية، ولا يوجد فرع من فروع الجغرافيا البشرية يدور حوله الجدل والنقد ويحيط به سوء الفهم مثل الجغرافيا السياسية، وكذلك لم يحصل جدل ونقد حول أحد كبار الجغرافيين مثل ما حدث لفريدريك راتزل مؤسس الجغرافيا السياسية، الذي نشر خلاصة أفكاره عام 1897 في كتابه المسمى الجغرافيا السياسية
.
إن هناك فارقا كبيرا بين الجغرافيا السياسية وبين علم السياسية برغم أن الموضوع في أسسه العامة مشترك بالنسبة للدولة، فالدولة بالنسبة للجغرافيا السياسية عبارة عن عنصرين أساسيين هما الأرض والشعب، ينجم عنهما عنصر ثالث هو نتاج التفاعل بين الأرض والناس. وتشتمل دراسة الأرض على كثير من عناصر الدراسة الجغرافية الطبيعية على رأسها عنصر المكان الجغرافي والأقاليم الطبيعية للدولة، كما تشتمل دراسة الشعب على عناصر كثيرة من الدراسة للحياة البشرية، وهي تبدأ بالسكان والنشاط الاقتصادي وأنماط السكن والمدن والتكوين الحضاري للناس من حيث سلالاتهم ومجموعاتهم اللغوية وتنظيمهم الطبقي، أما العلاقة بين الأرض والناس فهي شديدة التعقيد والتشابك وتؤدي في النهاية إلى سلامة تكوين الدولة أو عناصر قوتها وضعفها، وفي هذا المجال يضع الجغرافي السياسي نصب عينيه حدود الدولة كإطار محدد للوحدة الأساسية في الجغرافيا السياسية، برغم ما تتعرض له الحدود من تغيرات، وبرغم أن خطوط الحدود في أحيان كثيرة إنما هي خطوط افتعالية ترتضى لزمن معين، ويؤدي هذا إلى عدم ثبات الوحدة الأساسية في علم الجغرافيا السياسية إلى الأبد، بل يعطي للجغرافيا السياسية دينامية دائمة، وفي هذا يقوم الجغرافي بدراسة الدولة داخل علاقاتها بالمجتمع الدولي المجاور والبعيد، ويعطي هذا بعدا جديدا في دراسة الجغرافيا السياسية. وواضح من هذا العرض القصير الفارق الكبير بين هذا العلم وعلم السياسة الذي يسعى إلى إيجاد التناسق بين علاقات الدول، بينما تحلل الجغرافيا السياسية العلاقة بين الظروف الجغرافية الطبيعية والبشرية داخل الدول.
ونظرا لأن الجغرافيا السياسية، والعلوم السياسية عامة، تتناول موضوعات شائكة، بالإضافة إلى صعوبة وجود الموضوعية المطلقة في الوثائق والدراسات التاريخية؛ فإن الكاتب في الجغرافيا السياسية أو العلوم السياسية عامة لا يمكن أن يتجرد تماما من صفة الموضوعية للأسباب التالية:
أولا:
إن العواطف والانتماءات القومية الوراثية - أو المكتسبة للمهاجرين من دولة إلى أخرى - تجعل الكاتب موضوعيا في الموضوعات البعيدة عن المكان الجغرافي لقوميته، أو البعيدة عن الاتصالات السياسية والتاريخية بقوميته، بينما يصبح غير موضوعي بدرجات متفاوتة فيما يختص بغالبية العناصر التي يدرسها في مشكلة سياسية تمس من قريب انتماءاته القومية، فالجغرافي السياسي الألماني لا ينظر إلى مشاكل ألمانيا السياسية بالنظرة نفسها التي ينظرها الفرنسي أو الإنجليزي أو الأمريكي.
ثانيا:
هناك انتماءات ومشاعر عاطفية فوق القومية المحدودة وتتعداها إلى عواطف الارتباط بتجمع حضاري معين مثل الانتماء إلى حضارات العالم الصناعي أو الغربي أو إلى حضارات العالم الثالث أو المتخلف والنامي، فالكاتب السياسي الغربي ينظر من زاوية حضارته ومنجزاتها نظرة شاملة دون التوقف عند تفصيلات الأحداث الخاصة بهذين العالمين سواء كانت ضارة أو مجحفة بحق شعوب العالم الثالث، أو مفيدة ومربحة لأصحاب المستعمرات من دول الحضارة الغربية الصناعية، وفي الوقت نفسه يقف هذا الكاتب طويلا أمام منجزات الحضارة الغربية في دول العالم الثالث الحالية، بينما يقف الكاتب السياسي الهندي أو العربي مثلا وقفات طويلة أمام البربرية الاستعمارية في كثير من مواقفها، أو أمام الاستنزاف الاقتصادي الطويل، وينظر إلى تركيب الاقتصاد المزدهر في العالم الصناعي حاليا على أنه قد أسس دون شك على أعمال ملايين العمال الجائعين من أبناء العالم الثالث التي قدموها كرها - أو طواعية غير مباشرة بواسطة إجبار حكام خاضعين للحكم الاستعماري - بالإضافة إلى استغلال الثروات الطبيعية من أجل أصحاب المستعمرات حكومات وشعوبا.
ثالثا:
تتعدى النظرة فوق القومية المشاعر العامة لأصحاب الحضارات الغربية في أحيان كثيرة حد التطرف وتصبح مشاعر عنصرية مرتبطة بالرجل الأبيض ككائن سام، وعلى غيره من العناصر أن تخدمه دون محاسبة أو اعتراض في مقابل أن يرعى بعض مصالحهم الضرورية في مجرد البقاء على قيد الحياة، مثال ذلك الكتاب السياسيون في الدول العنصرية كجنوب أفريقيا وروديسيا والكثير من الكتاب السياسيين في أمريكا، وقد بلغت مثل هذه المراحل من العنصرية أشدها في حالتين: الأولى الكتابات العنصرية الجرمانية التي تمجد سيادة الجرمان على كل البشر بما فيهم بقية السلالات البيضاء، والثانية الكتابات السياسية العنصرية الصهيونية التي تمجد سيادة ما يسمونه بالسلالة اليهودية على العالم.
وقد كان من الطبيعي أن يقوم التناحر بين هاتين العنصريتين المتطرفتين لفترة طويلة من الزمن، وأن تخلف الثانية الأولى بعد هزيمتها؛ لأن كلا منهما اتخذ لنفسه تطبيقا مختلفا في محاولة تحقيق هدفه للسيطرة العالمية: فالجرمانية سخرت كل طاقات الشعب الألماني ضد العالم، وهي بدون شك طاقات محدودة بالمكان الجغرافي والعدد البشري مهما كانت أشكال التقدم التكنولوجي التي وصل إليها الألمان، بينما الثانية سخرت - ولا تزال تسخر - طاقات مختلفة من أماكن جغرافية كثيرة وشعوبا عديدة لكي تخدم الإبقاء على الدولة الإسرائيلية في فلسطين، وفي نظري فإن هذه الدولة لا تمثل كل التجسيد الأهداف العنصرية الصهيونية، بل هي جزء من هذه الأهداف يمثل ركيزة مادية تمتد منها جسور على المستوى العالمي، ويربط اليهود ظاهريا وماديا كما يربط معه بالفعل أجزاء أخرى كثيرة موزعة في العالم.
رابعا:
تختلف نظرة الكتاب السياسيين إلى الأمور باختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية، فالكاتب الاستعماري القديم يختلف عن الإمبريالي المعاصر، وكلاهما يختلف عن الكاتب الماركسي في تحليل الأحداث السياسية، ويتفق هؤلاء جميعا في أن الاقتصاد والتجارة بصورته العامة هو محرك أساسي للتخطيط السياسي، ولكنهم يختلفون في تحليل كل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية المؤدية إلى تكوين الدولة، وتشكيل الأحداث السياسية وقيام الثورات ونشأة القوميات، ويختلفون نظريا في تحليل القوى التي تساعد على بقاء النظام الاستعماري أو الإمبريالي أو الاشتراكي.
فمثلا الكاتب السياسي الأمريكي ينظر إلى مشكلات أوروبا فيما بين الحربين العالميتين نظرة مختلفة إلى مشكلاتها فيما بعد الحرب العالمية الثانية، والسبب في هذا راجع إلى أن أمريكا كانت قد انعزلت عن المشكلات الأوروبية حسب مبدأ مونرو في أعقاب الحرب الأولى، بينما نجدها منغمسة إلى أقصى حدود الانغماس في المشكلات الأوروبية فيما بعد الحرب الثانية.
فمبدأ مونرو كان ينظر إلى أن حدود أمريكا هي حدود الأطلنطي، وأن انتصار الحلفاء الغربيين على ألمانيا القيصرية قد أدى إلى تأمين أوروبا الغربية، وبالتالي تأمين المحيط الأطلنطي وتأمين حدودها، وكذلك كان يمكن أن يكون الحال بعد هزيمة القوى الجرمانية الهتلرية في الحرب العالمية الثانية لولا عاملان جديدان كل الجدة في التخطيط السياسي الأمريكي جعلاها تمد حدودها الآمنة عبر الأطلنطي إلى أوروبا، بل وعبر الباسيفيكي والهندي أيضا، وهذان العاملان هما:
العامل الأول:
أن مصدر الخطر على الأمن الأمريكي - الذي يطلق عليه تعميما الأمن الغربي - لم يعد الرقعة المكانية المحدودة الموارد الطبيعية والبشرية والتكنيكية التي تحتلها ألمانيا، والتي زاد من ضعفها تقسيمها إلى ألمانيا الشرقية والغربية كوحدتين متنافرتين تؤديان إلى هدر جزء كبير من طاقتهما في الصراع الأيديولوجي والاقتصادي، بل أصبح موضع الخطر على الأمن الأمريكي هو الاتحاد السوفيتي في الرقعة المكانية الهائلة ذات الطاقات الكبيرة موارد وسكانا، والتي تتبرعم فيها قوى تكنيكية ليس من السهل نضوبها متى بدأت تثبت وتتعمق جذورها وتتأصل، وهي بذلك قوى مشابهة إلى حد غريب لتبرعم القوى التكنيكية الأمريكية على سطحها الأرضي الواسع ومواردها الطبيعية والبشرية الكبيرة، فالفرق الكمي والكيفي والمكاني واضح بين دولتي ألمانيا كقوة سياسية أوروبية والاتحاد السوفيتي كقوة عالمية، ومن ثم كان لا بد للوجود الأمريكي من الظهور في كل أجزاء العالم المحيطة بالاتحاد السوفيتي قاطبة، وليس في أوروبا وحدها.
وعلى هذا الضوء يمكن أن نفسر سلسلة الأحلاف التي أنشأتها أمريكا لتطويق الاتحاد السوفيتي: حلف الأطلنطي في أوروبا الغربية والبحر المتوسط ومضايق البحر الأسود، والحلف المركزي في الشرق الأوسط، وحلف جنوب شرق آسيا من باكستان إلى الفلبين وأستراليا.
العامل الثاني:
أن مبدأ مونرو برغم ما يبدو ظاهريا من أنه إخلاد أمريكا إلى الراحة بعيدا عن ضجيج الصراع السياسي الأوروبي وثورات المستعمرات ومشكلاتها في أفريقيا وآسيا، إلا أنه في حقيقة الأمر لم يكن كذلك.
فمبدأ مونرو وسياسة العزلة الأمريكية لم يكن إلا بمثابة ستار دولاري أقامته أمريكا حول الأمريكتين جميعا، وقد منع هذا الستار المنافسة المالية والقدرة الاستثمارية الأوروبية الغربية إلى حدود بعيدة من الدخول إلى أمريكا الوسطى والجنوبية، وجعلها حقلا احتكاريا مفتوحا أمام الاستثمارات الأمريكية وحدها، فقد اشترت أمريكا الأراضي والمزارع، واحتكرت جانبا كبيرا من مقدرات الإنتاج الزراعي النقدي في كثير من دول أمريكا اللاتينية - الفواكه والبن والكاكاو والمطاط والسكر والكولا - وضمنت أمريكا لنفسها كافة الامتيازات في استغلال الثروات التعدينية في المكسيك وفنزويلا (البترول) وبيرو وشيلي (النحاس) وبوليفيا (القصدير)، ولا تزال الاحتكارات الأمريكية قوية في أمريكا اللاتينية، إلى جانب المواصلات والنقل والتجارة، وذلك رغم المعارضة الثورية (كوبا) والقوية (شيلي) والسرية (بقية أمريكا اللاتينية) في هذا الميدان الاحتكاري.
وفي الحقيقة إذن لم يكن مبدأ مونرو طوال العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن سوى فترة تدعيم للإمبريالية في «بيتها» الأمريكي الواسع، وبعدما اتخمت أمريكا برأس المال بدأت تنطلق في أخريات الثلاثينيات عبر الأطلنطي والباسيفيكي باحثة عن استثمارات واحتكارات جديدة في تايلاند وجنوب شرق آسيا وأستراليا، وفي الشرق الأوسط (البترول) وبدايات صغيرة في أفريقيا (المطاط والحديد في ليبيريا)، لكن هذه الانطلاقة فاجأتها الحرب العالمية الثانية.
وقد ترتب على هزيمة ألمانيا واليابان، وخروج أوروبا مفلسة مخربة الفرصة الذهبية أمام رأس المال الأمريكي القوي، فقام بدور هائل في إعادة بناء اقتصاد أوروبا الغربية عامة، وألمانيا واليابان خاصة، وبذلك دخلت أمريكا شريكا فعليا في كثير من المؤسسات الصناعية الأوروبية واليابانية المزدهرة وأصبح لها - بالضرورة - اهتمامات أمن أكيدة في هذه المنطقة الصناعية من العالم، هذا بالإضافة إلى التغلغل الأمريكي الاقتصادي في أجزاء كثيرة من أفريقيا كوريث أو شريك لرأس المال الاستعماري القديم في الكنغو وجنوب أفريقيا والمستعمرات البرتغالية، وفي آسيا دخلت أمريكا بهذه الصفة في إندونيسيا والهند الصينية وغيرهما من الدول الآسيوية الجنوبية، فضلا عن صراعات الاحتكارات الأمريكية مع الاحتكارات الأوروبية في إيران والخليج العربي ومناطق البترول في شمال أفريقيا.
صحيح أن هناك صراعات بين رأس المال الفرنسي والأمريكي، وصراعات أخرى أقل حدة بين رأس المال الألماني والياباني المهجن بالأمريكي وبين رأس المال الأمريكي، إلا أن هذه التفصيلات لا تغير من الصورة العامة؛ فبروز المصالح الأمريكية في أوروبا وغيرها قد أدى إلى نبذ مبدأ مونرو تماما بعد أن استوفى أغراضه وأرسى قواعد الإمبريالية الأمريكية الحديثة في العالم .
وعلى هذا النحو تتغير نظرات وتحليلات كتاب السياسية لموضوع العلاقات الأمريكية الأوروبية في فترة نصف قرن نتيجة لتغير أيديولوجي اقتصادي في البناء والتركيب السياسي الأمريكي.
خلاصة القول فإنه من الصعب استخراج قوانين أو مبادئ عامة في الجغرافيا السياسية أو العلوم السياسية يمكن تطبيقها في عدد من الموضوعات المختلفة؛ نظرا للاختلاف الشديد بين المقومات البيئية الطبيعية والمزاج البشري والتراكيب الحضارية والاقتصادية وغير ذلك من عوامل تكوين الدولة، إلى جانب الانتماءات المختلفة للسلالة أو الحضارة أو الأيديولوجية.
وبالرغم من تكرار مصطلح «مشكلة» في كتابات الجغرافيا السياسية، إلا أنه لا يجب أن يتبادر إلى أذهاننا أن هناك حلولا لهذه المشكلات على نحو ما نجده من حلول في عالم الأبحاث الفيزيائية أو الكيميائية مثلا، ذلك لأن مشكلات الجغرافيا السياسية تتناول علاقات بشرية وأرضية غاية في الدقة والتعقيد نتيجة لتراكمات التراث التاريخي والاجتماعي والحضاري، إلى جانب علاقات الاقتصاد والتجارة المتشابكة، وفوق كل هذا علاقات المكان.
ومن ثم فإن «مشكلة» أقلية أو حدود لا تعني وجوب إيجاد حل سليم لها، إنما هو - إذا خلصت الجهود المبذولة - حل سليم في وقت ظروف معينة فقط، ولهذا فإن «المشكلة» نفسها يمكن أن تعود إلى الظهور مرة أخرى وتحت ضغوط ظروف ودوافع مختلفة، وقد تستوجب حلا من نوع مخالف تماما للحل السابق إقراره في الماضي.
الفصل الثاني
مناهج الدراسة في الجغرافيا السياسية
إن دراسة المحيط السياسي من الناحية الجغرافية تعتمد على المسح والتحليل داخل الإطار الكارتوجرافي، وهناك وسائل ومداخل متعددة للقيام بهذه المهمة، وقد رأى رتشارد هارتسهورن
R. Hartshorn
1
أربعة مداخل أو مناهج منفصلة بوضوح عن بعضها في ميدان الجغرافيا السياسية: (1)
تحليل القوى الخاصة بالدولة. (2)
الدراسة التاريخية. (3)
الدراسة المورفولوجية. (4)
الدراسة الوظيفية.
وتشير فكرة دراسة تحليل القوى الخاصة بالدولة إلى تحليل وحدات القوى السياسية وعلاقاتها بعضها بالبعض الآخر، وهذه الوحدات السياسية تتحدد في المكان بمساحات معينة وتتأثر أشكالها الداخلية بواقع وجودها في مكان معين، كما تتحدد علاقاتها بالوحدات السياسية الأخرى أيضا بواقع مكانها الجغرافي، أما الجغرافيا السياسية التاريخية فإن اهتماماتها تنصب أساسا على الأقاليم السياسية في الماضي، في حين يفحص المنهج المورفولوجي المساحات السياسية تبعا للشكل والهيئة، وأخيرا فإن المدخل الوظيفي يهتم بالوظائف والأعمال التي تدور في المساحات السياسية. (1) المنهج التحليلي
إن تحليل القوى السياسية هو منهج يستخدمه الجغرافيون وغير الجغرافيين من دارسي الموضوع السياسي، بل إن بعضهم يعتبر الجغرافيا أحد مصادر القوى في العلاقات الدولية، ومثل هذا المنهج - على سبيل المثال - يقسم القوى داخل الدولة إلى خمسة مكونات هي: الجغرافيا والاقتصاد والسياسة والمجتمع والجيش، ويحدد أصحاب هذا التقسيم المكون الجغرافي بأنه يشتمل على: (1) الموقع (2) الحجم (3) الشكل الذي تتخذه مساحة الدولة (4) مدى ما تقدمه المشتملات الثلاثة السابقة من بعد أو قرب من عزلة أو اتصال بالمجتمع العالمي (5) درجة خصب التربة ونسبة الصالح منها للزراعة والإنتاج الزراعي (6) تأثير المناخ على الإنتاج الزراعي العام وعلى صلابة وطاقة الناس (7) وأخيرا احتياطي الموارد الطبيعية في الدولة.
لكن هذا يمثل بدون شك وجهة نظر ضيقة للجغرافيا؛ لأن الجغرافيين عادة لا ينظرون إلى العامل الجغرافي كعنصر محدد لقوة الدولة، فالمنهج الجغرافي المتكامل في الجغرافيا السياسية يقيم العناصر الجغرافية بالارتباط بالظاهرات السياسية البارزة، وفيما يلي قائمة من العناصر الجغرافية المتكاملة:
البيئة الطبيعية:
وتدخل فيها عدة عناصر جغرافية متكاملة مع بعضها، على رأسها أشكال السطح، المناخ، التربة، النبات الطبيعي، المجاري المائية والبحيرات ... إلخ.
الحركة والانتقال:
ويدخل فيها اتجاه حركة النقل للبضائع والأشخاص والتيارات الفكرية.
المواد الخام والسلع المصنعة ونصف المصنعة:
وتشتمل على المواد والسلع المنتجة فعلا بالإضافة إلى تلك المرتقب حدوثها في المستقبل - الكشوف عن المعادن، الأبحاث الزراعية والصناعية، التوسع والتخطيط الاقتصادي عامة.
السكان:
دراسة ديموجرافية شاملة بالإضافة إلى مميزات الشعب النوعية والأيديولوجية.
التركيب السياسي:
ويشتمل على دراسة نظم وأشكال الإدارة وأهداف الحكم ومثله الفعلية، وليست مجرد الأشياء النظرية والعلاقات السياسية الداخلية والخارجية.
والأمثلة كثيرة لتطبيق هذه القائمة من العناصر الجغرافية المتكاملة والمتداخلة، وفيما يلي بعض نماذج لهذه الأمثلة.
فيما يتعلق بالبيئة الطبيعية دراسة أطوال السواحل في النرويج وتناسب ذلك مع (أ) مناطق السماكة الغنية. (ب) فقر اليابس النرويجي، وارتباط هذه المجموعة من العناصر لتفسير تأثيرها على توجيه النرويج نحو دولة معتمدة على السماكة وحياة البحر، ومن ثم التجارة والنقل البحري.
ولقياس بعض أشكال الحركة والانتقال يمكن أن تتعرف على مدى إرسال راديو القاهرة الموجه لأفريقيا وتأثيره على الحركات الوطنية الحديثة في تلك القارة، أو حرب الإرسال التليفزيوني بين ألمانيا الشرقية والغربية وتأثيرها المباشر على سكان مناطق الحدود.
وفيما يختص بالخامات والسلع يمكن مثلا قياس موارد الفحم والحديد في أوروبا الغربية على ضوء أفضل استخدام لها في دول أوروبا الغربية كوحدات سياسية منفصلة، فالمصلحة القومية تحتم على ألمانيا استغلال موارد السار الفحمية من أجل صناعات الرور، بينما الاستغلال الأمثل هو تشغيل فحم السار لصناعات اللورين الفرنسية نتيجة للقرب المكاني بين هاتين المنطقتين، فهنا إذن نجد تعارضا بين التركيبات السياسية والاقتصادية، لكن لعل ما تسعى إليه أوروبا الغربية من ائتلاف أو اتحاد في صورة من الصور يعكس القوة التي أصبحت التركيبات الاقتصادية تمارسها فوق قوى القومية، ولكننا في النهاية يجب أن نرجع مصدر القوة المتزايدة للتركيب الاقتصادي إلى قوى خارجية اقتصادية سياسية تتمثل في النمو الكبير لكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وإلى نمو القومية والتنمية الاقتصادية في كثير من دول العالم الثالث.
ويتضح من هذا التداخل الشديد بين التراكيب الاقتصادية السياسية والعوامل التاريخية في توجيه العناصر المختلفة داخل الوحدات السياسية.
والأمثلة كثيرة على دور السكان في القوى السياسية، وخاصة في مناطق الحدود، ففي الدول الأفريقية الكثير من التداخل السكاني اللغوي والحضاري مما قد يؤدي إلى ظهور مشكلات عديدة في حدود الدول الأفريقية في المستقبل، وبالمثل نجد أن غالبية سكان إقليم خوزستان الإيراني من العرب؛ مما يؤدي باستمرار إلى علاقات مشدودة بين إيران والعراق.
وكذلك فإن الكثافة السكانية العالية في البيئات الفقيرة تؤدي إلى مشكلات عديدة اقتصادية وسياسية داخل الدولة، مثال ذلك الفقر مع التزاحم السكاني في جنوب إيطاليا الذي يؤدي إلى الكثير من المشكلات الاجتماعية الاقتصادية داخل إيطاليا، ومثال آخر احتياج جنوب أفريقيا إلى الأيدي العاملة من دولتي ليسوتو وسوازي ومستعمرة موزمبيق، ويترتب على ذلك الكثير من المشكلات الاجتماعية الاقتصادية في جنوب أفريقيا، ويؤدي إلى اعتماد متبادل بينها وبين جيرانها، ونتيجة لسيطرة الأقلية الأوروبية على الحكم سيطرة غاشمة فإن ميزان القوى السياسية في هذا الجزء من أفريقيا قد يتعرض لهزات عنيفة في حالة تغير أشكال الحكم في الدول الأفريقية المجاورة لجنوب أفريقيا.
وأخيرا فإن التركيب السياسي والتنظيم الإداري يكون عنصرا هاما في تحليل الأوضاع السياسية الداخلية، من الأمثلة على ذلك أن تنظيم الدوائر الانتخابية في بريطانيا يؤدي إلى إعطاء أهمية سياسية للمناطق الريفية القليلة السكان أكبر من وزنها الحقيقي، وقد أدى هذا التنظيم إلى بقاء السكان في هذه الدوائر الفقيرة المراعي لأنهم يكسبون كسبا مضاعفا: تخفيف الضرائب عليهم لفقر الموارد، وجذب السياح والمصطافين والمتنزهين في العطلات الأسبوعية مما يعطيهم دخولا إضافية مقابل بعض الخدمات، وأخيرا الأهمية السياسية التي تعلقها عليهم الأحزاب السياسية، ولولا ذلك لكان السكان قد هجروا هذه المناطق؛ لأنها غير مجزية اقتصاديا.
2
وإلى جانب هذه العناصر الجغرافية، فإن الجغرافيين يخصون بالدراسة موضوع المكان كعنصر سادس بارز، وهم يدرسون داخل عنصر المكان علاقات الموقع وشكل الدولة وحدودها، ويدرسون أيضا تأثير المكان على العلاقات الداخلية والخارجية للدولة.
وخلاصة القول في المنهج التحليلي الجغرافي أنه ليس من الصعب جمع العناصر الجغرافية فكلها موجودة وفي متناول الباحثين، لكن الصعب هو نوعية هذه العناصر ووزنها بالنسبة للعلاقات السياسية الداخلية والخارجية للدولة. والمشكلة التي نجدها شائعة في كثير من الكتابات أن الموضوع السياسي يتيه ويختفي وسط خضم الدراسة التحليلية لكافة العناصر الجغرافية الطبيعية والبشرية بغض النظر عن الأهمية النسبية لهذه العناصر، والحقيقة إذن أنه يجب أن نبحث عن العناصر التي يمكن تطبيقها بنجاح حتى لا تتحول الجغرافيا السياسية إلى شيء شبيه بالجغرافيا الإقليمية، وفي ذلك يقول فريمان
T. W. Freeman : «لم يعد هناك صراع بين الجغرافيا السياسية والإقليمية، فكلاهما أصبح مساعدا للآخر، وذلك نتيجة للأبحاث السياسية للدول الجديدة في أوروبا - بعد الحرب العالمية الأولى.»
3
وتأثير الدراسات الجيدة لبومان
L. I. Bowman
الأمريكي، وإيمانويل ديمارتون
L. de Martonne
الفرنسي، وماكندر
H. J. Mackinder
الإنجليزي، وسفييتش
J. Cvijic
اليوجسلافي.
ومن الأمثلة على صعوبة التمييز في ثقل وزن العناصر الجغرافية ودورها في المنهج التحليلي الجغرافي في السياسية؛ أننا أصبحنا اليوم شديدي الاهتمام بالأرقام والمساحات للتدليل على القوى النسبية للدول والأحلاف والتكتلات السياسية، فهناك مساحات الدول ومساحات الأراضي القابلة للزراعة والاستغلال وأرقام السكان والإنتاج الفعلي والمرتقب واحتياطي الموارد والسكان والطاقة العسكرية ... إلخ، وعلى هذا تظهر الصين والهند على مسرح القوى العالمية إذا نظرنا إلى الموضوع السياسي من زاوية الوزن السكاني العددي.
صحيح أنه يجب علينا أن نهتم بالمساحات والأرقام، ولكن ليس كما يفعل الإحصائيون، فالواجب على الجغرافي أن يبحث عن العلاقات ذات المغزى، فالأعداد الرقمية تترجم إلى الكثافة السكانية، وهذا يعني ربط الرقم السكاني بالمساحة الزراعية التي تعكس لنا صورة أشكال سطح الأرض وعلاقاتها بالمناخ والجريان النهري والنبات الطبيعي؛ أي تعكس لنا خلفية الإيكولوجيا الطبيعية للمنطقة أو الإقليم أو الدولة وقيمتها في إنتاج الغذاء.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إننا نترجم أعداد السكان مرة أخرى إلى كثافة السكن المديني، وهو الذي نراه يعكس لنا صورة عامة للتقدم التكنولوجي وإنتاج الصناعة والخدمات، وبالتالي يعطينا صورة عامة عن توزيع مصادر الدخل القومي عامة: زراعة محضة، أو زراعة وصناعة وخدمات، أو صناعة وخدمات حسب كثافة المدن ومصادر الثروة، وبعبارة أخرى يدخل في التحليل الرقمي عنصر المواد الخام وإنتاج السلع.
والمنهج التحليلي هو منهج دراسة مقارنة عام، وقد طبق بنجاح على دراسة الدولة الواحدة، ويمكن أن يطبق أيضا على مستوى أعلى من الدولة؛ أي على مستوى إقليمي لدراسة الدينامية في منطقة واسعة، ولكن يستحسن في الدراسة المقارنة أن تحول الأرقام المجردة إلى أرقام سياسية أو نسبية
Index ، ويوضح الجدول رقم (
2-1 ) هذا النوع من الدراسة، على أن نأخذ في الاعتبار أن النسب في كل عمود تتخذ أصغر رقم كرقم أساس، مثلا مساحة أوروبا البحرية أو الهند تصبح رقما واحدا صحيحا وتنسب المساحات الأخرى إلى هذا الأساس، فتصبح مساحة الولايات المتحدة ثلاث مرات قدر مساحة أوروبا البحرية، وينطبق هذا على كل الأعمدة عدا عمود الكثافة السكانية بالنسبة لمساحة الأرض الزراعية، فهنا تصبح أعلى كثافة هي الأساس «الصين»، ويعني ذلك أن كثافة السكان في الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي يمكن أن تزيد أكثر من ثماني مرات لتصبح قدر الكثافة السكانية في الصين، وبعبارة أخرى؛ بإمكان سكان أمريكا أو روسيا أن يتزايدوا دون أن نصل إلى مشكلة تضخم السكان في الصين مما يعطينا أيضا معلومات عن إمكان الزيادة بصورة كبيرة في كندا، بينما لا تحتمل أوروبا البحرية زيادات كبيرة.
ملاحظة:
الأرقام التي توجد بين القوسين في النسب تعني أن هذا هو رقم الأساس في العمود، وقد يتعدد رقم الأساس لتقارب الأرقام الفعلية، كل الأرقام لسنة 1960 فيما عدا أرقام الصلب التي تعود لعام 1959.
جدول 2-1: قائمة بالعناصر الجغرافية الأساسية في تحليل القوى الدولية.
الدولة
المساحة الكلية (مليون ميل مربع)
عدد السكان (بالمليون)
مساحة الأرض الزراعية (بآلاف الأميال)
كثافة السكان إلى الأرض الزراعية
عدد سكان المدن (بالمليون) ٪ سكان المدن إلى كل السكان
إنتاج الصلب (مليون طن)
الولايات المتحدة
3,65
180
700
240
125
70
93
أوروبا البحرية
1,22
300
285
1050
180
60
98
الاتحاد السوفيتي
8,65
212
900
235
102
48
66
الصين
3,76
700
330
2100
100
14
15
الهند
1,26
440
520
845
75
17
3
كندا
3,85
18
145
125
12
67
6
البرازيل
3,28
15
210
310
25
37
2
نفس المعلومات مترجمة إلى أرقام قياسية
Index
الولايات المتحدة
3
10
4,9
8,8
10
5
46
أوروبا البحرية (1)
16,7
2
2
15
4,3
49
الاتحاد السوفيتي
7,2
11,7
6,2
8,9
8,3
3,4
33
الصين
3,1
38,8
2,3 (1)
8,3 (1)
7,5
الهند (1)
24,4
3,6
2,5
6,2
1,2
1,5
كندا
3,2 (1) (1)
16,7 (1)
4,8
3
البرازيل
2,8
3,6
1,4
6,8
2
2,6 (1)
وقد تغيرت صورة إنتاج الصلب كثيرا؛ ففي عام 1967 كان إنتاج الصلب هو: الولايات المتحدة 115 مليون طن، أوروبا البحرية جمدت أرقامها عند حدود مائة مليون طن، الاتحاد السوفيتي ارتفع إنتاجه إلى 102 مليون، والهند ارتفع 6,3 ملايين، وكندا ارتفع أيضا إلى 8,6 ملايين (الكتاب السنوي الإحصائي للأمم المتحدة 1968).
4
لكن مثل هذا التحليل لا يعطينا معلومات شاملة، ويختفي منه تقدير لكثير من العناصر غير المادية مثل القوى الأيديولوجية والدوافع والأهداف السياسية لكل وحدة سياسية، لكن قيمته الأساسية في أنه يعطينا الإطار الفعلي الذي ندرس داخله تلك العناصر الأخرى.
لكن علينا ألا نغالي كثيرا في تقدير قيمة الدراسة الرقمية، فمثلا يمكن أن تتخذ أرقام فعلية أو أرقام قياسية للصلب أو الألمونيوم أو البترول أو كلها معا لتحليل قوى الدولة، لكن أي أرقام تلك التي يقع عليها اختيارنا، هل هي أرقام الإنتاج أم أرقام طاقة الإنتاج الممكنة؟ إن هناك إمكانات للطاقة الإنتاجية مثلا لمصنع صلب أو ألمونيوم أو معمل تكرير بترولي، لكن المصنع لا يشغل إلى طاقته العليا لأسباب متعددة سياسية أو اقتصادية أو عمالية.
فإذا اخترنا أرقام الطاقة الممكنة - وهي أحسن مؤشر لقياس الإمكانات الفعلية، كما أنه يمكن أن ينظر إليها على أنها موارد مخزونة - إذا اخترنا هذه الأرقام، فهل هناك أساس موحد بين الدول لقياس هذه الإمكانية؟ بطبيعة الحال لا توجد مثل هذه المقاييس، ومن ثم تصبح الدراسة النسبية خاضعة لعدم الموضوعية بين الدول.
وإذا أخذنا أرقام الإنتاج الفعلي فإن ذلك يعطينا القوة الفعلية للدول في فترة زمنية محدودة جدا، وهي لا تكفي لقياس القوى الدولية؛ لأنها تتغير من وقت لآخر، وبسرعة كبيرة إذا أريد لها ذلك، ففي الإمكان زيادة إنتاج معين بسرعة نتيجة الظروف السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية الموجودة، ولهذا يختل تقديرنا في قياس القوى المرغوبة، ويجب أن نضيف إلى ذلك أيضا أن هناك قدرا من عدم الموضوعية في نشر أرقام الإنتاج لعدد من السلع الاستراتيجية كالصلب أو البترول ... إلخ بدوافع سياسية أو دعائية إعلامية نتيجة الصراعات الحارة والباردة بين التكتلات السياسية المختلفة.
ومع ذلك فإن الأرقام الموجودة فعلا، سواء في مجال الإنتاج الفعلي أو الإمكانية الإنتاجية، هي في مجموعها أساس لا بأس به لدراسة القوى الدولية، وتعطينا مؤشرات طيبة عامة مع بعض التحفظات، فليس أمامنا غيرها.
وما ذكرنا من تحفظ على أرقام الإنتاج والإمكانية الإنتاجية ينسحب بصورة مختلفة على المقاييس الأخرى مثل مقياس درجة السكن المديني، وكما سبق أن ذكرنا فإن المدينة عادة تعكس عددا من الظروف الخاصة بالدولة: (1)
مساهمة الصناعة والخدمات في الدخل القومي بدرجة تزيد في الدول التي تزيد فيها نسبة السكن المديني. (2)
درجة التكامل والترابط القومي؛ وذلك لأن سكان المدينة يحتلون مساحة محدودة بينما يتبعثر سكان الريف على مسطحات واسعة، ومن ثم يسهل: (أ) الحكم الإداري المركزي. (ب) التعليم. (ج) الخدمات الصحية والاجتماعية. (د) وفوق كل هذا يسهل تكوين الرأي العام وتشكيله بصورة أسرع مما يمكن عند السكان الريفيين، ليس فقط لأن سكان المدينة تجمع سكاني مزدحم في مساحة صغيرة سهلة الاتصال - بواسطة شبكة الطرق والمواصلات الكثيفة في أجزاء المدينة - ولكن هناك أيضا التكوين الدينامي لشخصية سكان المدن بالقياس إلى سكان الريف الذين يتسمون ببطء الحركة في التغير السياسي نتيجة روح المحافظة التقليدية، ولا شك أن هذه الدينامية عند سكان المدن راجعة في كثير من أصولها إلى تنوع الإنتاج والأعمال وزيادة الكفاءة الإنتاجية نتيجة التغير التكنولوجي والتعليم المهني، بينما لا يوجد ذلك في الريف برغم استخدام الآلات والمكائن الحديثة. (3)
وفي الواقع نجد تفسيرات متعددة لدور المدينة والريف في الاستقرار السياسي أو الثورات السياسية الداخلية، ففي رأي مدرسة سياسية يعطى للمدينة - بما فيما من دينامية وحركة في الرأي، وثقل في القوى العمالية وغير الصناعية - دور فعال في الحركات السياسية التي تؤدي إلى تغير أساليب الحكم وأنواعه، وفي آراء مدرسة أخرى أن الدول التي تتمتع بنسبة عالية من السكن المديني تتمتع باستقرار سياسي.
5
إن كلا من التفسيرين له وجاهته، لكن علينا أن نعرف أن انطباق هذا التفسير أو الآخر، أو محاولة تطبيقه، مرتبط بالظروف التاريخية والزمنية والاقتصادية في أجزاء العالم المختلفة، فلا شك أن المدينة كان لها دور حاسم في التغير السياسي من الإقطاع إلى الرأسمالية في أوروبا الغربية، ولا شك أن الماركسية في أوائل هذا القرن كانت تنظر إلى القوى الدينامية للعمال وأصحاب الأجور على أنها العامل الحاسم في قيادة التغير السياسي من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ولا يزال هذا منعكسا في التركيب الحزبي في أوروبا والمناطق الأوروبية الأصل من العالم الجديد، فالأحزاب الراديكالية وذات المسحة الاشتراكية - بأي صورة من الصور - تجد مراكز قوتها الأساسية في المدن وبين تكتلات العمالة الكثيفة مثل المناجم ومدن المناجم، بينما تجد الأحزاب المحافظة مراكز قواتها بين الريفيين. وأصحاب الأيديولوجيات البورجوازية عامة في المدن هم أصلا وفي مجموعهم هجرات حديثة من الريف، أو لا تزال تربطهم بالريف انتماءات اقتصادية اجتماعية وثيقة.
ويظهر الثقل السياسي في الوقت الحاضر لسكان المدن بصفة عامة في كثير من مناطق ودول العالم الثالث.
ولكن استراتيجيات الثورات قد تغيرت كثيرا منذ ظهور حرب العصابات وحركات المقاومة في أوروبا والاتحاد السوفيتي خلال الحكم النازي القصير، فلقد برز الفلاحون وسكان الريف كعنصر سياسي هام في التركيب السياسي إلى جانب القوى العمالية، ولهذا نجد الكثير من ثورات العالم المتخلف الراهنة تعتمد على سكان الريف كجزء مكمل لقوى التغيير والثورة في المدن، مثال ذلك الثورة اليسارية في كوبا وحركة الفيتكونج الثورية في فيتنام والفوران الثوري في ريف أمريكا اللاتينية.
ويجب أن نضيف هنا أن من أهم أسباب التغير في أيديولوجية سكان الريف سرعة الاتصال، ونقل الأخبار بالإذاعة والصحف والتليفزيون مما ساعد على سرعة تكوين الرأي العام الثوري، وكذلك فإن الأوضاع الاقتصادية المتردية بالنسبة للمنتجات الزراعية وانخفاض أسعارها في السوق جنبا إلى جنب مع ارتفاع السلع المصنعة والفوائد الاقتصادية الاجتماعية لنقابات العمال؛ كلها عوامل أدت إلى ضعف دخول الريفيين مع ارتفاع تكاليف المعيشة، وهذا يجعل منه قوة قابلة للقيام بأعمال إيجابية من أجل التغير السياسي: الثورة.
وهكذا فإن سكان المدن عامة - نتيجة لما يتمتعون به من استقرار ورخاء نسبي جاءهم نتيجة كفاحهم المستمر - قد أصبحوا أقل ثورية مما كان في النصف الأول من هذا القرن، لكن هذه الثورية ما زالت قائمة طالما بقيت العوامل الاقتصادية المسببة لها كالبطالة وكساد الإنتاج.
ومع ذلك فإن الرأي الأصوب، والذي لا تختلف حوله الآراء كثيرا، هو أنه ما زال للمدينة دورها القيادي في التشكيل السياسي والتغيرات السياسية المختلفة، فسكان الريف عامة ما زالوا أميل إلى روح المحافظة والجمود على فكر معين متى استوعبوه، وسكان المدينة نراهم دائبي الحركة بحكم المساحة الصغيرة والتجمع العددي الكبير والتواجد داخل مصدر الفكر والدعوة.
وكذلك فإن المناطق المدينية الكبيرة أقل استقرارا في مجموعها من المناطق الريفية، ويكفي أن نقارن بين عدم الاستقرار المستمر في المدن الكبرى كنيويورك ولندن وباريس وبين الاستقرار النسبي في المدن الزراعية الصغيرة، ويرجع ذلك في الحقيقة إلى عاملين جوهريين يؤديان إلى نتيجة واحدة: (1)
عدم الاستقرار في السوق الدولية نتيجة المنافسة الصناعية العالمية يؤدي إلى ذبذبات كثيرة في سوق العمالة، ومن ثم تحدث البطالة أو انخفاض الأجور. (2)
أن المدن الكبيرة - بما فيها من قوى الجذب السكاني - كثيرا ما تفيض سكانا عن قاعدتها الإنتاجية، ومن ثم تحدث البطالة أيضا ويدفع ذلك بالحكومات إلى محاولة إنشاء مشروعات لاستيعاب العمالة الزائدة، ولكن ذلك دون جدوى؛ إذ سرعان ما يفيض السكان مرة أخرى على قاعدة الموارد الإنتاجية، ولا شك أن للتخطيط أهميته في هذا المجال، ولهذا فإن تخطيط تحديد الهجرة إلى المدن - كما يحدث في بعض الدول الاشتراكية - يؤدي إلى نتائج أفضل نسبيا.
وعلى هذا النحو فإن تحليل القوى على ضوء العناصر السالفة الذكر ليس أمرا سهلا، فهناك أولا مشكلة صحة الأرقام والنسب المبنية عليها في محاولات تحليل القوى، وهناك ثانيا الدراسة النوعية التي لا تظهر من وراء النسب والأرقام، وهي - كما رأينا - على جانب كبير من التعقيد، ولهذا كله نعود إلى تأكيد أن المنهج التحليلي يعطينا فقط إطارا عاما وأساسا طيبا لا غنى عنه في دراسة الموضوع السياسي. (2) المنهج التاريخي
يركز هذا المنهج اهتماما كبيرا حول الجغرافيا السياسية التاريخية من أجل فهم أعمق لمشكلات الماضي، وتكوين خلفية تحليلية لمشكلات الحاضر.
ومثل هذه الدراسة تتناول بالبحث نمو الدولة من القلب إلى الأطراف، والأساليب التي اعتمدت عليها في جذب أو ضم الأقاليم المختلفة حتى حدودها الراهنة، وتحدث هذه الدراسة على ضوء الظروف الطبيعية والحضارية في المنطقة، إلى جانب الكثير من علاقات الأرض بالدولة النامية مثل دور بعض العوائق الطبيعية (الجبال - المستنقعات - الأنهار والبحيرات - الحافات والانحدارات ... إلخ) في حماية الدولة النامية كحدود طبيعية يتوقف عندها النمو أم يتخطاها إلى حدود أخرى، ومن العلاقات الأخرى بين الأرض والدولة مدى سهولة الاتصال من القلب إلى الأطراف، وبعبارة أخرى؛ تأثير مركز أو عاصمة الدولة بالنسبة لبقية أراضي الدولة.
وهذا المنهج التاريخي وإن كان يلقي ضوءا على سير التاريخ السياسي للدولة، إلا أن قيمة معظم الدراسات في الجغرافيا السياسية التاريخية مرتبطة بتفسير أحداث الماضي بما صادفها من ظروف طبيعية وتكنولوجية وعلاقات الدول وشخصيات الحكام والقادة في إطار زمني معين؛ ولهذا فإنه لا يمكن أن نتخذ من مثل هذه الدراسات مؤشرا لما يحدث اليوم، أو أن نسقط نتائج هذه الدراسات على نشاطات الدول المعاصرة، فالتاريخ لا يعيد نفسه إلا في بعض الشكل الخارجي فقط، بينما يمتلئ بالمفارقات والملابسات لتعقد العلاقات الإنسانية والأرضية الناجمة عن التغيرات التكنولوجية من ناحية والأيديولوجية من الناحية الأخرى.
وعلى هذا فإنه ليس ضروريا أن نعرف تاريخ اليهود والدول اليهودية في الشرق القديم لكي نفهم جذور المشكلة الفلسطينية الحالية وأوضاعها واتجاهاتها، فدراسة الدولة اليهودية القديمة أمر حسن في حد ذاته، لكنه غير مفيد كمؤشر لما هو حادث اليوم، ويكفي أن هناك أكثر من ألفي سنة تفرق بين الماضي والحاضر في رقعة فلسطين الجغرافية، والفارق الزمني له اعتباره الكبير في الدراسات الإنسانية؛ لأن الإنسان ليس نمطيا في بنائه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؛ أي أنه ليس كممالك النمل والنحل التي لم تتغير في تركيبها لملايين السنين.
والعامل الزمني له تأثيره المهيمن على المكان، وليس ذلك بمعنى أن المكان يتغير، ولكن علاقات المكان هي التي ينتابها التغيير، فرقعة المعمور قد اختلفت كثيرا عما كان معروفا منذ ألفي سنة، والدول التي كانت موجودة في الماضي قد اختفت تماما وحلت محلها قوى عالمية جديدة، والاتصالات العالمية والمعارف التكنولوجية مختلفة عما كان في الماضي. وخلاصة القول أن انقطاعا تاريخيا جغرافيا سلاليا حضاريا اقتصاديا يفصل ويفرق تماما بين ما كان وما هو حادث في أرض فلسطين الحالية، ولهذا فإن الجغرافيا السياسية لمشكلة فلسطين الحالية يجب أن تركز تماما على وقائع اليوم وعلاقات الناس والدول داخل الشرق الأوسط وخارجه، وارتباط ذلك بالتأثيرات الاقتصادية لكل من العرب واليهود على المستوى العالمي الاقتصادي، ومدى استقطاب الرأي العام العالمي وانحيازه في كل دولة على حدة إلى أحد أطراف الصراع العربي الإسرائيلي من بين عوامل أخرى كثيرة.
والحقيقة أن بعض مؤيدي المنهج التاريخي ينتهون من دراساتهم إلى وضع قواعد ومبادئ عامة يخضعون لها الدول في نموها وتوسعها، لكن مثل هذه القواعد والمبادئ تشكل أخطر منزلق تنتهي إليه الجغرافيا السياسية؛ ذلك لأنها «تحدد» و«تحتم» الاتجاهات والميول ومحاور النمو والتوسع التي لا تحيد عنها الدولة في نموها، وفوق هذا فإن هذه المبادئ تنمط الدولة بمراحل لا تحيد عنها كما لو أن العلاقات المكانية والمواقع الجغرافية هي ثابتة وجامدة.
وهذا غير صحيح بالمرة؛ إذ إن كل شيء يتغير على مر الزمن نتيجة تغير الطاقات البشرية وما يترتب عليه من تغير حقيقي في قيمة المكان وأهمية الموقع الجغرافي.
ومن ثم فإن إسقاط هذه القواعد والمبادئ المستمدة من أحداث الماضي على حاضر الأمور يؤدي بالحكام والزعماء الذين يلتزمون بها إلى ارتكابهم أخطاء جمة ضد حياتهم وحياة شعوبهم.
فكون أنه كان لليهود دولة ما في الماضي في مكان معين لا يعني بالضرورة عودة هذه الدولة إليهم؛ لأنها ماتت من زمن بعيد، وليس من الحتم أن تعود إلى الحياة مرة أخرى - على الأقل في المكان القديم نفسه - لأن كل العلاقات والموازين الطبيعية والبشرية والتقنية قد تغيرت تماما.
وهذا هو أول أخطاء الدعوة الصهيونية كدعوة سياسية، فالمكان الذي طالبت به غير خال من السكان، والعالم المحيط بها معاد لها؛ ولهذا فإن قيام إسرائيل وبقاءها سيظل معتمدا على القوة لفترة طويلة، وهذا - كما نعرف - لا يكون دولة ذات استقرار حقيقي.
وقد استغلت الدعوة الصهيونية التشابه التاريخي الشكلي بين الاضطهاد الذي وقع على اليهود قديما وفي العصر الحديث لتبرير إقامة الدولة اليهودية من أجل التخلص من أسباب الاضطهاد، لكن هذه الدعوة قد فشلت للأسباب التالية: (1)
أن الاضطهاد الذي وقع على اليهود في الماضي يختلف كما ونوعا عن ذلك الذي وقع لهم في العصر الحديث؛ ففي الماضي لم يكن التمييز الذي وقع ضحيته العبرانيون سوى تمييز حضاري بحت، فالعبرانيون - كغيرهم من البدو الساميين - كانوا قبل ظهور الديانة الجديدة مجرد رعاة متجولين على هامش مصر الصحراوي ويخضعون للحملات التأديبية إذا ما قاموا بعمليات غزو أو سلب أو إخلال بالأمن، ومع تقبل بعضهم للديانة الجديدة - إذ إننا نعتقد أن عددا من المصريين قد قبلوا أيضا الدين الجديد - فإن الاضطهاد قد تحول إلى مرحلة جديدة دخل فيها عنصر حضاري جعل العبرانيين نقيضا حضاريا للمصريين، ومن ثم كانت بداية الهجرة خارج حدود مصر، وقد ضمت هذه الهجرة أعدادا أخرى من البدو في سيناء وجنوب الأردن الحالية - وهي معروفة باسم صحراء البطراء.
وبذلك تحولت الهجرة العبرانية من مصر إلى شكل معتاد كثير الحدوث في المناطق الصحراوية، فهي في جذورها لم تكن سوى واحدة من حركات البدو الساميين في هذه المنطقة، ارتبطت نواتها في البداية بتعاليم الديانة الجديدة، ولكن بني إسرائيل سرعان ما نفضوا عنهم جوانب جوهرية من تعاليم الديانة ومؤسسها ما زال بعد على قيد الحياة؛ أي في مرحلة مبكرة جدا من بداية الهجرة. وحينما دخلوا فلسطين أبقوا على الإطار الديني، وأضافوا تدريجيا من تاريخهم وسيرهم الكثير مما سطر في أسفارهم.
ولم تكن الهجرة نحو فلسطين متعمدة بدليل اختلاف خط الهجرة وتذبذبه من مكان لآخر في صحراء البطراء، ولكنها كأي هجرة سامية كان هدفها السيطرة على مصادر غنية بالغذاء بدلا من المصادر الهامشية التي تقدمها أعشاب أقاليم الانتقال الصحراوية، ولما كانت صحراء البطراء وسيناء تقع بين منطقتي جدب وغنية في مصر وفلسطين، ولما كان المصريون يطاردون هذا المجتمع الجديد، فإنه لم يبق أمام التجوال العبراني سوى فلسطين التي كانت مقسمة إلى إمارات وشعوب مختلفة متناحرة؛ مما أعطى الهجرة الجديدة الفرصة للدخول والسيطرة. (2)
أما الهجرة الحديثة لليهود إلى فلسطين فتختلف جذريا في أسبابها وتوجيهها عن الهجرة القديمة، فاليهود منذ فترة طويلة موزعون على دول كثيرة في الشرق والغرب، ولا يكونون تجمعا حضاريا في مكان واحد، والاضطهاد الذي عاشوه في أوروبا لم يكن يرجع إلى أسباب حضارية، بل إلى حرب اقتصادية بينهم وبين الشعوب الأوروبية التي عاشوا فيها؛ مما أدى إلى استفحال اضطهادهم.
وفضلا عن ذلك فإن الهجرة الحديثة لم تكن عشوائية كما كان في الماضي، بل مخططة وموجهة عمدا نحو فلسطين كموقع أرضي له علاقاته المركزية في عالم أوائل القرن الحالي. إذن فالهدف السياسي هو جذور الدعوة الصهيونية العالمية: محاولة إيجاد مركز أرضي لهم على مشارف طريق الشرق والغرب التاريخي في أوائل هذا القرن - قناة السويس - وبذلك يضيف اليهود لأنفسهم قوة اقتصادية سياسية جديدة إلى جانب سيطرتهم على كثير من حياة رأس المال الموجود في العالم العربي. (3)
وبمجرد الصدفة البحتة فإن هذا المكان الاستراتيجي الذي هدفت إليه الصهيونية كان مرتبطا بتاريخ اليهود القديم، ولا شك أن ذلك كله قد أدى إلى قوة في الدعوة الصهيونية، فهي تبدو مدعمة بحجج تاريخية، فلو كانت الدولة العبرانية القديمة قد نشأت في أوغندا مثلا - وهي التي كانت من بين المناطق التي اقترحها الإنجليز على زعماء الصهيونية لإقامة الوطن القومي اليهودي - فإننا نعتقد أن الصهيونية ما كانت تتوقع تأييدا مماثلا لذلك الذي حدث بين الساسة اليهود، بل أعتقد أن الصهيونية كانت سوف تجد صدى دينيا فقط بين اليهود، وهكذا فإن عدة ملابسات جغرافية وتاريخية واقتصادية قد ساهمت في قوة الدعوة الصهيونية. (4)
وليس من شك أن الدعوة الصهيونية قد ارتبطت في أذهان اليهود العاديين وعند الرأي العام الغربي بأن فلسطين سوف تكون مأوى ليهود العالم أجمع، ولكن ليس من شك أيضا في أن زعماء الصهيونية لا يتصورون فعلا أنه بإمكان فلسطين أن تأوي كل يهود العالم الذين يبلغ عددهم قرابة 13,5 مليونا من الأشخاص،
6
فهي الآن تستوعب حوالي المليونين من اليهود، ولحل هذا التناقض بين الأهداف العامة للسياسة الصهيونية وبين واقع الأمر نجد أحد الاحتمالين: (أ)
أن الخطط الصهيونية تستهدف التوسع الأرضي إلى أبعد مدى ممكن داخل المنطقة العربية، ولكن ذلك سوف يتم تدريجيا، وعلى هذا الضوء يمكن أن نفسر التوسع المستمر خلال ربع القرن الماضي في فلسطين وجيرانها من الدول العربية. (ب)
أن المخطط الصهيوني لا ينوي بالفعل نقل كل يهود العالم إلى فلسطين؛ إذ لا يعقل أن تضحي الصهيونية بالمراكز القوية في عالم المال والاقتصاد والسياسة والعلم والتكنولوجيا التي يحتلها اليهود في الدول الغربية بصفة عامة وأوروبا الغربية والولايات المتحدة بصفة خاصة.
ويبدو أن الاحتمالين مكملان لبعضهما، وأن السياسة الصهيونية عامة تنفذ المخططين معا، خاصة وأن بقاء اليهود في العالم الغربي يضمن لإسرائيل قوة مالية ودعائية واقتصادية واضحة، ويكون جسرا دائما بين إسرائيل والعالم الغربي بما لهؤلاء اليهود من نفوذ مؤثر في شتى مجالات الحياة العامة في العالم الغربي، وهم بذلك احتياطي عددي ومعنوي ومادي لإسرائيل، وبعبارة أخرى؛ هم إسرائيل عبر البحر.
ولسنا هنا بصدد مناقشة موضوع إسرائيل ككل، لكننا بصدد أن نوضح أن إسرائيل اليوم ليست ولا تمت بصلة سلالية أو حضارية إلى الدولة العبرانية القديمة، وأن التشابه بينهما سطحي وراجع فقط إلى رابطة الدين والمكان، ويكفي أن نعرف أن إسرائيل الحالية لا تعيش على مواردها المكانية المحلية، بل لا بد من أن تمتد موازناتها إلى المساعدات والمعونات الخارجية، بينما كانت الدولة اليهودية القديمة تعيش على مصادر الثروة المحلية فقط، وعلى هذا فإن التفسير التاريخي لأحداث السياسة يلقي بعض الضوء على الماضي ويختلف جذريا عن الحاضر بعلاقاته المختلفة.
إن الحتم التاريخي يمتد بمبادئه في أحيان كثيرة لكي يستخلص قواعد جغرافية وبيئية تفسر نمو الأمم والدول إلى حدود لا تستطيع أن تمتد بعدها، ومن الأمثلة على ذلك أنه يحلو للبعض أن يفسر توقف الدولة الإسلامية العربية عند معركة تور-بواتيه في فرنسا بأن العرب والإسلام غير متكيف مع بيئات غير البيئة الطبيعية للنطاق الصحراوي وهوامشه، وبذلك فإنه توقف وانسحب حينما خرج خارج حدود تلك البيئة إلى غرب أوروبا، ولكن مثل هذه الدعوى الحتمية تحتاج إلى تعليلات أخرى إذا أريد تطبيقها على انتشار الإسلام في بيئات أخرى غير البيئة الصحراوية واستقراره فيها مثل المناطق الاستوائية في أفريقيا وجنوب شرق آسيا، والبيئة الموسمية في الهند، وبيئات أخرى في القوقاز والبلقان وإسبانيا.
إن التعنت الحتمي التاريخي الجغرافي لا يحسب حسابا للكثير من العناصر البشرية والحضارية والتكنولوجية، بل يحسب حسابا للمصادفات التاريخية أيضا، وفي حالة توقف الإسلام عند معركة تور-بواتيه يجب علينا أن نطرح عددا من الأسئلة: هل كان التوغل العربي حربا حقيقية أم مجرد مغامرة عسكرية؟ ما هي القوة العددية للعرب في تلك المعركة؟ هل بدا لهم ضرورة مواصلة القتال بعد هزيمتهم أم وجدوا ما يثبط هممهم؟
وعلى ضوء أن العرب دخلوا إسبانيا عام 711م، وأن هزيمتهم في فرنسا كانت عام 732م، فإن ذلك يعطينا صورة خلفية واضحة لمعركة تور-بواتيه، ففيما بين التاريخين عشرون سنة فقط، هل كانت حاسمة في تدعيم سلطات العرب في إسبانيا بحيث تصبح قاعدة أمامية لمزيد من التوسع في فرنسا؟
لو كان هناك تصميم مسبق على التوسع إلى فرنسا فإن هزيمة العرب في تلك المعركة لم تكن كافية لوقف التيار العربي، ففي الحروب تحدث انتصارات وهزائم متعددة قبل أن يتحدد مصير الحرب لصالح واحد من الفريقين المتصارعين، ومجرد هزيمة واحدة لا تنهي حربا حقيقية؛ ولهذا يجب أن نقول إن تور-بواتيه لم تكن سوى مواجهة هامشية بين العرب والفرنجة، مجرد احتكاك عسكري بعيد عن صورة المواجهة الحقيقية، وقد كان في الإمكان أن تصبح حملة طارق بن زياد على إسبانيا مماثلة لمواجهة تور-بواتيه، لكن تصادف النجاح أو الفشل في مثل هذه المواجهات الهامشية يؤدي إلى تغير جذري في النتائج بصورة لا تتناسب إطلاقا مع حجم المواجهة، فضلا عن غياب تصميم مسبق في مثل هذه المواجهات إلا في أضيق حدود الاستراتيجية، وكثير من المعارك الحاسمة كسبها أو خسرها موقف مغامر من أحد الضباط لا يرضى عنه القائد العام كتكتيك عسكري أصولي.
إن الأديان لا تعرف حدودا بيئية، والإنسان في مجموعه أيضا لا يعرف حدودا بيئية لانتشاره، بل هو دائم التكيف مع الإيكولوجيات الطبيعية المختلفة، وربط الإسلام بالعرب نظرة ضيقة جدا، فالدولة العربية الإسلامية خارج الجزيرة العربية لم تنطو على طرد أو إبادة السكان الأصليين وحلول العرب محلهم، بل إن هناك رواد العرب المسلمين الذين استقروا هنا وهناك بين منغوليا والأندلس وبقية الدولة الإسلامية التي تكونت من تحول السكان الأصليين إلى الإسلام، وكذلك كان يمكن أن يكون الحال في فرنسا وبقية أوروبا: رواد من مسلمي العرب وسكان فرنسيين أو غيرهم يتحولون إلى الدين الجديد، وهكذا تسقط حجة الحتميين التاريخيين والجغرافيين بأن للإسلام حدودا بيئية لا يتعداها! (3) المنهج المورفولوجي
يدرس هذا المنهج مشكلات الدولة السياسية من حيث الشكل بحيث تنطوي الدراسة على مجموعة من العناصر الجغرافية تنتظم تحت عنوانين رئيسيين هما النمط والقالب، والتركيب أو البناء.
وتشير الدراسة النمطية إلى الترتيبات والتنظيمات التي يكونها الارتباط السياسي للوحدات والأقاليم التي تكون الدولة، وإلى الارتباطات السياسية للدولة ككل في التكتلات السياسية الإقليمية من ناحية، والاتجاهات والتحالفات العالمية من ناحية ثانية.
أما التركيب أو البناء فإنه يشير إلى المظاهر المكانية التي تشترك فيها الوحدات السياسية مثل مراكز الثقل السكانية والاقتصادية داخل الدولة والعاصمة، ومكونات الدولة والحدود السياسية ومشكلات خاصة بالدولة كخطط التنمية ومشكلات السكان والاقتصاد والأقليات، وتدرس هذه العناصر أيضا على مستوى الدراسة المقارنة بين الدول المختلفة.
ومن الأمثلة على الدراسة السياسية على ضوء المنهج المورفولوجي نمط الدولة الإيطالية، فموقع إيطاليا يمكن أن يدرس داخل تنظيم إقليمي أوسع هو الاتحاد الأوروبي الاقتصادي، فلقد كسبت إيطاليا كثيرا نتيجة عضويتها للسوق الأوروبية المشتركة، مثلا صناعة الصلب في شمال إيطاليا ربحت مميزات كثيرة من بينها تخفيض أسعار النقل للحديد الخردة على السكك الحديدية من فرنسا إلى تورينو.
وموقع إيطاليا كشبه جزيرة طويلة تمتد داخل البحر المتوسط قد جعلها تنتمي إلى حلف الأطلنطي كوسيلة من وسائل الدفاع المشترك، وترتب على ذلك بروز مهمة وأهمية إيطاليا عندما اعتبرت كقاعدة وركيزة لأساطيل الحلف في البحر المتوسط، وقد كان لانسحاب فرنسا من القيادة العسكرية لهذا الحلف ضعف في القوى البحرية في هذا البحر، وزاد من أعباء إيطاليا البحرية، وفي مقابل ذلك أصبح الأسطول الإيطالي يحظى بنصيب كبير من الدعم والعتاد والتدريب داخل الحلف.
هذا فيما يختص بالدراسة النمطية لإيطاليا، ومن بين مظاهر البناء والتركيب الجيوبوليتيكي في إيطاليا نجد المشكلات التالية ... (3-1) مناطق التركيز السكاني والاقتصادي
يتركز في حوض نهر البو في شمال إيطاليا: (أ) الصناعة. (ب) معظم مناطق الإنتاج الزراعي. (ج) نسبة لا بأس بها من السكان مع كثافة سكانية عالية. ولقد كان لوقوع هذا الحوض على أطراف الألب أثره في حصول الإقليم ككل على مصدر اقتصادي للطاقة المولدة من المساقط المائية والسدود، وفي هذا يجب أن نأخذ في الاعتبار فقر إيطاليا الطبيعي في مصادر الفحم الحجري بأنواعه، وإلى جانب ذلك نجد أن حوض البو يرتبط بواسطة مجموعة من الممرات الطبيعية والأنفاق الاصطناعية بقلب أوروبا وشمالها عبر جبال الألب، ومن ثم كان لهذا أثره الواضح في سهولة الاتصال والتجارة مع شمال وغرب أوروبا، وعلى هذا فإن مجموعة من الظروف الطبيعية المرتبطة بالموقع وعلاقات المكان والمناخ الملائم والتربة الفيضية والمساقط المائية قد أدت إلى أن يصبح شمال إيطاليا عامة مركز الثقل الإنتاجي الزراعي والصناعي والتجاري والسكاني والحضاري، وذلك على عكس بقية إيطاليا التي تتكون من عدة أحواض نهرية صغيرة تمثل جيوبا تمتد في وسط وحول سلسلة جبال الأبنين فضلا عن المناخ غير المنتظم وقلة المياه لمدة طويلة خلال الصيف.
وبطبيعة الحال تزداد الحالة سوءا كلما توغلنا جنوبا في شبه الجزيرة الإيطالية حتى نصل إلى أسوأ الظروف - بالنسبة لإيطاليا - في أقصى الجنوب وصقلية. (3-2) العاصمة
روما مدينة كبيرة ذات تاريخ طويل، لكنها اليوم تقع بعيدة عن القلب الاقتصادي والسكاني لإيطاليا، وفضلا عن ذلك فإنه لا يوجد في إقليم روما المحيط بها أي مصدر من مصادر العمالة الصناعية؛ ولهذا فإن الحياة الاقتصادية في روما تقوم على العمالة الحكومية والإدارية والسياحة وصناعة السينما، وعدد من الصناعات الاستهلاكية كالملابس والأزياء والأغذية.
وقد ترتب على عدم وجود العمالة الصناعية ضعف بارز في الانتماءات السياسية اليسارية عامة في منطقة روما، هذا إلى جانب وجود دولة الفاتيكان التي تؤثر - بطريقة أو أخرى - على تدعيم الأجنحة السياسية المعادية لليسار الإيطالي، وترتب على هذا أيضا أن منطقة روما أهدأ كثيرا من مناطق الشمال الصناعية اليسارية، ومن مناطق الجنوب الكثيرة القلاقل بسبب الفقر الذي يؤدي بالسكان إلى التطرف الأيديولوجي بين أقصى اليسار وأقصى اليمين. (3-3) الحدود الإيطالية
لقد ظلت حدود إيطاليا الشمالية مصدرا من مصادر عدم الاستقرار السياسي المستمر؛ مما كان يؤدي إلى تذبذب خط الحدود، وبعد الحرب العالمية الثانية كان أكبر تعديل في حدود إيطاليا هو ذلك الذي انتاب المنطقة الشمالية الشرقية حينما أعطيت يوجسلافيا شبه جزيرة إستريا وميناء أحرا في تريستا منذ عام 1953، وفي منطقة الحدود الفرنسية الإيطالية عدلت الحدود في مساحات ضيقة لصالح فرنسا، وكانت المناطق التي انتابها التعديل هي: ممر سان برنار الصغير الذي يشرف على طريق بريانسون-مودانا، هضبة مون كنيس التي تشرف على تورينو وتمدها بالطاقة المائية، ومنطقة تند بريجا التي تمد محطاتها المائية السكك الحديدية الإيطالية بالطاقة الكهربائية في منطقة ليجوريا والبيدمونت الجنوبية.
وكل هذه المناطق في الواقع كانت المراكز التي هاجمت منها القوات الفاشية الإيطالية جنوب فرنسا خلال بدايات الحرب الثانية، ومن ثم فإن استيلاء فرنسا عليها كان وسيلة من وسائل تأمين حدودها استراتيجيا.
وأخيرا فإن مشكلة التيرول الإيطالي - وخاصة ألت أديجو - لا تزال تشكل مصدرا من مصادر القلق السياسي بين النمسا وإيطاليا نتيجة وجود عدد كبير من النمساويين في التيرول الذي ضم لإيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى. (3-4) مشكلات جنوب إيطاليا
سبق أن ذكرنا أن جنوب إيطاليا يمثل منطقة ضعف اقتصادي وتخلف اجتماعي بالنسبة لشمال إيطاليا، وذلك بالرغم من وجود بعض المشروعات الصناعية التي تقيمها الحكومة في الجنوب لتحسين أحواله الاقتصادية - وهي مشروعات غير مربحة كثيرا إذا نظرنا إليها من ناحية الأماكن الصناعية المثلى - إلا أن أهم مورد اقتصادي للجنوب يتمثل في تصدير الأيدي العاملة إلى شمال إيطاليا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، وينظر كثير من زعماء الجنوب بعين السخط على شمال إيطاليا الذي يحظى بالنصيب الأوفر من الاستثمارات الصناعية والتجارية.
وعلى هذا النحو كان لشكل الدولة وبنائها المرتبط بعلاقات المكان والظروف الطبيعية المختلفة أثره في هذا التركيب غير المتكافئ بين الشمال والجنوب. (4) المنهج الوظيفي
يهتم هذا المنهج بدراسة وظيفة منطقة ما أو إقليم ما كوحدة سياسية، وكل منطقة أو وحدة سياسية تتكون من عدة وحدات سياسية أصغر وخاضعة لسلطان الوحدة الكبرى، ولا بد أن تكون الأقسام السياسية الصغرى مرتبطة ارتباطا قويا بالدولة أكثر من ارتباطاتها ببعضها البعض أو بدولة خارجية، فلكي تقوم الدولة بوظائفها على الوجه الأكمل، فإنه يلزمها أن تكون الوحدة السياسية لكل أقسام الدولة واضحة وقوية ومتناسقة في كل نواحي الحياة الاقتصادية والاستراتيجية، وفي علاقة الدولة ككل بالدول الخارجية.
وعلى هذا فالمنهج الوظيفي يركز على دراسة القوى المركزية للدولة، أو مراكز تقوية الدولة، أو تلك التي تؤدي إلى ضعف معين فيما يختص بالمساحة والمكان.
إن وظيفة الدولة في مجال التجارة الخارجية هي الإبقاء على ميزان تجاري لصالح الدولة وصالح المنتجات الوطنية، ولهذا تفرض كل دولة قوانينها الخاصة على التجارة الخارجية، وتشتمل هذه القوانين على القواعد الجمركية، والمساعدات التي تقدم من أجل تشجيع صادرات معينة، والتشريعات التي تمنع دخول أو خروج سلع معينة، وهذه القوانين عامة ترمز إلى وظيفة الدولة في مجال التجارة الخارجية.
فمثلا تقود رغبة بريطانيا في تسويق سلعها - وخاصة السيارات والكيميائيات إلى أوروبا الغربية - إلى دخول السوق الأوروبية المشتركة، برغم أن ذلك يؤدي إلى إضعاف علاقات بريطانيا التجارية مع الولايات المتحدة، ويجعلها خاضعة لقوانين الائتلاف الأوروبي الاقتصادي أكثر من خضوعها لمصالحها الخاصة، ولكن يبدو أن العلاقات التجارية مع أوروبا الغربية - بحكم القرب المكاني والكثافة السكانية - أحسن لبريطانيا من مجرد محافظتها على تجارتها الأمريكية.
وعلى وجه العموم فإن القوانين الخاصة بالتجارة لا ترضي كل فئات المنتجين داخل الدولة الواحدة المتعددة الإنتاج، فمثلا رفعت الولايات المتحدة الجمارك على وارداتها من القمصان الرجالية اليابانية لكي تحمي إنتاج القميص الأمريكي المركز في منطقة الساحل الشرقي الأمريكي، ويؤدي ارتفاع سعر القميص الأمريكي إلى التوسع بالنسبة لسوق العمل الأمريكي في شرق الولايات المتحدة - نظرا لرواج الصناعة وتزايد إنتاجها بعد اختفاء المنافس الياباني - ولكن هذه النتيجة الجيدة في القسم الشرقي ليس لها نظير في منطقة الساحل الشمالي الغربي الأمريكي حيث لا توجد صناعة كبيرة للقميص؛ ولهذا فإن سكان المنطقة الغربية عامة سوف يقاسون من ارتفاع سعر القميص بدون أن يكون هناك تعويض مماثل لما حدث في الشرق.
ومثال آخر هو عكس هذه الحالة تماما، فسكان الساحل الشمالي الغربي الأمريكي يطلبون من الحكومة إصدار تشريعات تحمي حرفة ومنتجات السماكة الأمريكية في هذه المنطقة من منافسة التونة والسلمون الياباني ، وعلى هذا فإن إرضاء منطقة ما أو صناعة ما لا يؤدي إلى إرضاء سكان كل مناطق الدولة أو كل صناعاتها، فالمنطقة الوسطى من الولايات المتحدة غير راضية على الحد من منافسة الإنتاج الياباني في مجال القمصان والأسماك على حد سواء، وهي في الوقت نفسه تشجع المساعدات الأمريكية لليابان؛ لأن ذلك يشجع ويرفع واردات اليابان من الأدوات الميكانيكية من أمريكا - وهي الصناعة التي تظهر بوضوح في المنطقة الوسطى من أمريكا - وبعبارة أخرى فإن هذه المساعدات الأمريكية سوف تعود بالنفع على سكان المناطق الوسطى، وتزيد من طاقتهم الإنتاجية في الوقت الذي ينظر فيه سكان شرق وغرب الولايات المتحدة إلى المساعدات الأمريكية لليابان بنظرة غير راضية؛ لأن هذه المساعدات ترفع من قدرة اليابان على منافسة إنتاجهم. (5) المكان عنصر جغرافي متغير
بالرغم من أن المناهج الأربعة تختلف اختلافا كبيرا فيما بينها إلا أنها تلتقي في عنصر واحد هو «المكان»، ولا شك أن المكان يلعب دورا هاما أو حاسما في كثير من الظاهرات الجغرافية والسياسية، ولكن علينا أن نأخذ في الاعتبار أن المكان برغم أنه عنصر ثابت في حقيقته المجردة، إلا أنه عنصر متحرك ومتغير بصفة مستمرة في ارتباطاته بالإنسان؛ لأن الإنسان في جوهره عنصر متحرك.
لهذا يجب أن نكيف «المكان» بعلاقاته، وبذلك فإن «علاقات المكان» هي أهم ما يجب أن يدور حوله البحث في العلوم الجغرافية عامة والبشرية والسياسية بصفة خاصة؛ لأنها تعبر عن «المكان» المتحرك والمتغير أبدا.
وقد أكد هالفورد ماكيندر
H. Mackinder
دور التغير بالنسبة للمكان في دراساته الجيوبوليتيكية حينما عدل مرتين نظريته الخاصة بقلب العالم، فقد تكلم عن عنصر الإنسان المتحرك
man-Travelling element
ليعبر عن الحركة المستمرة للإنسان والأفكار والمنتجات، وكذلك تكلم جان جوتمان
Gottmann
7
عن عامل الحركة
Circulation movement Factor
على أنه يساعدنا على فهم الدوافع والملزمات المؤدية إلى خطط وسياسات معينة، ولكن الحركة تسمح بالمرونة والتغيير في الخطط والقرارات.
وقد أكد جوتمان أن الحركة والأفكار القومية هما القوة الرئيسية في الجغرافيا السياسية، ويفهم جوتمان الحركة على أنها تشمل المواصلات والنقل بكافة أشكالهما، والتجارة الدولية، ويقول إنه بدون حركة لا توجد علاقات دولية على الإطلاق.
وتشتمل دراسة الحركة على ثلاثة أوجه هي: الطريق الذي تتخذه الحركة، وميدان الحركة (يشمل كل منطقة طريق الحركة من البداية إلى النهاية)، وأخيرا وسيلة الحركة (البر والبحر والجو). وتحديد الحركة على هذا النحو يعطينا على الفور انطباعا صحيحا عن أن الحركة في دقائقها ومشتملاتها هي عنصر أو عامل شديد التغير، وأنه يجلب معه تغيرات جذرية على «المكان»، فيحيله من عنصر ثابت إلى عنصر نشط متحرك ومتغير.
وخلاصة ما يتفق عليه المتخصصون في الجغرافيا السياسية أن موضوعات هذا العلم الأساسية هي ... (5-1) دراسة علاقات المكان داخل الدولة
أقاليم القلب والأطراف.
علاقة المدن الرئيسية بأقاليمها.
علاقة المدن الرئيسية بعضها بالبعض الآخر.
التنظيم الإقليمي الداخلي، «المحافظات» وحدودها.
مراكز الثقل السياسية في الدولة.
التركيب السكاني والسكني والاقتصادي والمواصلات.
العلاقة بين الدولة والأقليات (سلالية - لغوية - دينية - اجتماعية). (5-2) دراسة علاقات المكان بين الدول
الحدود السياسية الأرضية والمائية والجوية.
نوع الحدود الأرضية (طبيعية - بشرية).
مشكلات الحدود والعلاقات الدولية. (5-3) دراسة أنماط الدول
من حيث المساحة (الدول العملاقة - الدول الصغيرة - الدول القزمية).
الموقع والتوجيه (دول الجيوب ودول المدينة القديمة - دول الجبال والممرات - دول الأنهار والسهول - دول الجزر - دول البحر الواحد والدول المطلة على أكثر من بحر - الدول الداخلية - الدول الحاجزة - الدول العالمية).
التكتلات الدولية (الأحلاف الكبرى - التجمعات الاقتصادية للإمبراطوريات القديمة - التجمعات الاقتصادية السياسية الحديثة).
هوامش
الفصل الثالث
فريدريك راتزل مؤسس الجغرافيا السياسية
في منتصف القرن السابع عشر كتب وليام بني - وهو طبيب بريطاني - كتابا أوضح في كثير من البراعة العلاقة بين الدول ونظمها ونموها وبين ظروف البيئة الجغرافية، فقد تكلم عن المساحة المثالية للدولة التي تستطيع أن تسيطر عليها وتبسط نفوذها في أرجاء هذه المساحة، ويمكن للسكان استغلالها على الوجه الأكمل، وفطن إلى أهمية المدن الكبرى في ربط وتوجيه السكان نحو مراكز القوة والجذب في الدولة، وذكر أهمية كثافة السكان وغنى الدولة وانتشار العمران حتى تصبح الدولة وحدة سياسية متماسكة في الداخل وقوة لها اعتبارها في الخارج.
وبعد وليام بني بقرنين صدر كتاب الجغرافيا السياسية
(1897) الذي ألفه العالم الجغرافي الألماني فريدريك راتزل
F. Ratzel
أستاذ الجغرافيا في جامعة ليبزيج، ويعد هذا أول كتاب منهجي في الجغرافيا الحديثة يتناول الموضوع السياسي من الجغرافيا؛ إذ إن راتزل قد اعتبر الجغرافيا السياسية جزءا لا يتجزأ من ميدان البحث الجغرافي، وقد نشر راتزل مقالا بعنوان «القوانين السبعة للنمو الأرضي للدولة»، والقوانين السبعة هي: (1)
أن رقعة الدولة تنمو بنمو الحضارة الخاصة بالدولة، فكلما انتشر السكان وحملوا معهم طابعا خاصا للحضارة فإن الأرض الجديدة التي يحتلها هؤلاء تزيد مساحة الدولة. (2)
أن نمو الدولة عملية لاحقة لمختلف المظاهر الخاصة بنمو السكان ذلك النمو الذي يجب أن يتم قبل أن تبدأ الدولة بالتوسع، وهو بهذا يسلم بصحة نظرية أن العلم - الراية - يتبع التوسع التجاري. (3)
يستمر نمو الدولة حتى يصل إلى مرحلة الضم وذلك بإضافة وحدات صغرى إليها. (4)
أن حدود أي دولة هي العضو الحي المغلف لها والذي يحميها - الحدود لا توضح سلامة الدولة فحسب، بل إنها أيضا توضح مراحل نموها. (5)
تسعى الدولة في نموها إلى امتصاص الأقاليم ذات القيمة السياسية، بمعنى أن هذه الأقسام إما أن تكون سهولا أو مناطق ساحلية أو مناطق تعدينية أو ذات قيمة في إنتاج الغذاء. (6)
أن الدافع الأول للتوسع يأتي للدولة البدائية من الخارج، معنى هذا أن الدولة الكبرى ذات الحضارة تحمل أفكارها إلى الجماعات البدائية التي تدفعها زيادة عدد السكان إلى الشعور بالحاجة إلى التوسع. (7)
أن الميل العام للتوسع والضم ينتقل من دولة إلى أخرى ثم يتزايد ويشتد، فتاريخ التوسع يدل على أن الشهية تزداد نتيجة لتناول الطعام.
الخلاصة
إن راتزل يرى في الدولة كائنا حيا تدفعه الضرورة للنمو عن طريق الحصول على الأعضاء التي تعوزه، حتى ولو دفعه هذا إلى استخدام القوة، وهذا الرأي هو نظرة بيولوجية بحتة للدولة.
وفي كتابه «الجغرافيا السياسية» كان فريدريك راتزل أول من درس علاقات المكان والموقع
Raum, Lage
دراسة أصولية للدول المختلفة، ولهذا السبب وحده يعد راتزل مؤسس الجغرافيا السياسية عن جدارة.
ولقد كان راتزل يكتب في أواخر القرن الماضي متأثرا بالجو العلمي العام المشحون بكل ثقل النظرية التطورية في العلوم الطبيعية، ولهذا نراه ينظر إلى الجغرافيا السياسية على أنها فرع من فروع العلوم الطبيعية، ونراه يؤسس فكرة المكان على أنها عنصر مؤثر ومتأثر في ذات الوقت بالصفات السياسية للجماعة أو الجماعات التي تسكن المكان، وأما الموقع فإنه يراه العنصر الذي يلون المكان بصبغة تجعله دائم الاختلاف عن غيره من الأماكن، ومن ثم يصبغ الدولة بصبغة مغايرة لغيرها من الدول.
ولا شك أن أفكار راتزل التطورية قد ظهرت بوضوح في القوانين السبعة التي سبق ذكرها، والتي تحدد الدول في أماكنها ومواقع هذه الأماكن، ومصدر هذه القوانين التطورية في آراء راتزل نابع من اعتقاده أن الدولة كائن عضوي: هي كينونة بيولوجية جذورها في الأرض، وكينونة معنوية وخلقية مستمدة من ارتباط الإنسان بأرض يعمل فيها ويتغذى على مصادرها ويحتاج إلى حمايتها «وحماية حياته».
وعلى العموم فإن قوانين راتزل السبعة كانت أساسا قوانين خاصة بالمكان والموقع، فنشاطات الإنسان وصفاته وكثافة السكان في الدولة ليست - في نظره - سوى نتاج الموقع والحجم والبيئة الطبيعية والحدود، وفوق كل هذا نتاج المكان.
وقد أعطى راتزل للحدود السياسية أهمية خاصة معتبرا إياها العضو الخارجي للدولة «كالجلد بالنسبة لجسم الأحياء»، وهي بذلك تعطي للباحث الدليل على مراحل نمو الدولة أو ذبولها وقوتها أو ضعفها.
ولعل من أهم ما أعطاه لنا راتزل من تراث هو تلك الرابطة التي أوجدها بين المساحات القارية الكبيرة للدولة وبين القوة السياسية، ففي رأيه أن المسطح الكبير - المكان - هو طاقة سياسية يمكن أن تظهر وتبرز مع حسن استخدامها، ولقد كان راتزل متأثرا بشدة في ذلك من مثال حي: نمو الولايات المتحدة كقوة كبيرة داخل إطار من «المكان» الكبير، وكان بذلك يشعر أن دور أوروبا سوف يتضاءل، وأن تاريخ السياسة العالمية سوف تسيطر عليه في القرن العشرين الدول العملاقة المساحة التي تحتل مكانا كبيرا من القارات مثل أمريكا وروسيا وأستراليا.
بعد راتزل تعرضت الجغرافيا السياسية للكثير من النقد والجدل حول الموضوع والمنهج، ورفض عدد من الأساتذة أن تصبح الجغرافيا السياسية جزءا من الدراسة الجغرافية بقدر كونها ملحقا من ملاحق دراسة الأرض، وعلى الرغم من أن فريدريك راتزل جغرافي ألماني إلا أن الجغرافيا السياسية لم تجد بين عدد كبير بين الجغرافيين الألمان استجابة وتحمسا بقدر ما وجدت في الأوساط الجغرافية الأخرى خاصة الولايات المتحدة، ولكن عددا من الجغرافيين الألمان المحدثين بدءوا يهتمون بالجغرافيا السياسية بعد فترة الإعراض عنها، وهي الفترة التي نشأت فيها وازدهرت فكرة الجيوبولتيكا، ثم فشلت وسقطت بعد الحكم النازي الذي استغل الجيوبوليتيكا كجزء من سياسة السيطرة والتفوق الجرماني.
ومن أهم الجغرافيين الألمان المحدثين الذين تناولوا الجغرافيا السياسية بالدراسة والبحث الأستاذ هاسنجر
M. Hassinger
والأستاذ أوفربك
H. Overbeck
وقد عارض الجغرافيون الألمان فكرة الجغرافيا الحتمية التي ظهرت في كتابات راتزل السياسية والجغرافية عامة، وفي هذا المجال كتب هاسنجر يقول:
إن هدف الجغرافيا السياسية عند راتزل هو شرح وتصوير الدولة على أنها كينونة حية مرتبطة بالأرض، وعلى أنها جهاز متغير مع حركة التاريخ، وهكذا فإن المكان والموقع والتغيرات التي تطرأ على الشكل السياسي للمكان هي في نظر راتزل عوامل أساسية جوهرية، بينما يقف العامل البشري الذي يتمثل في صورة الشعوب في خلفية الصورة.
وعلى هذا الأساس فإن هاسنجر
1
في دراسة لراتزل يوضح كيف أن المكان - في نظر راتزل - يلعب دورا هاما، ولكنه ليس العامل الوحيد الذي يجب أن تنظر إليه الجغرافيا السياسية، وبعبارة أخرى فإن هاسنجر يعترف بأهمية المكان ويضيف إليه عوامل بشرية أخرى لها دورها في الأوضاع السياسية للدولة، وإلى جانب مبدأ راتزل «أن كيان الدولة يمنح أقاليمها قوى معينة» يضيف هاسنجر مبدأ آخر: «الدولة تستمد قواها من أقاليمها»، وذلك في إطار العلاقة المتبادلة بين الدولة والمكان.
ويرى الأستاذ أوفربك أن راتزل قد أكد دور العوامل المعنوية والإدارية للبشر إلى جانب عاملي المكان والموقع، ويقول أوفربك إن راتزل قد أشار إلى هذه العوامل إشارات خفيفة في كتابه الأساسي في الجغرافيا السياسية، ولكن دور العوامل الأخرى يبدو واضحا وقويا في دراساته التفصيلية مثل دراساته وأبحاثه السياسية عن دول حوض البحر المتوسط والولايات المتحدة وكاليفورنيا، ففي كتاب راتزل الأساسي عن الجغرافيا السياسية تطغى على راتزل فكرة «الدولة كائن مربوط إلى الأرض»، ومن ثم فإن راتزل كان يعالج موضوعات الدولة ومشكلاتها على أساس مناهج البحث في العلوم الطبيعية، ولهذا فإن المكان الطبيعي كان يظهر عند راتزل على أنه العامل الأساسي وحجر الزاوية في الجغرافيا السياسية.
ولا شك أن سقوط الكثير من الدول في الماضي والحاضر كان راجعا إلى أن هذه الدول قد تعدت «مكانها» الجغرافي، أو أنه عائد إلى تصورات خاطئة عن تنظيم «المكان» الجغرافي للدولة، وفي الحالتين تكون النتيجة سقوط الدولة؛ لأنها أصبحت غير قادرة على تحمل أعباء إضافية في حالة التوسع المستمر، أو لأنها أفسدت المكان الجغرافي في حالة إعادة تنظيم المكان مما يترتب عليه تخريب في الإنتاج ومراكز القوة في الدولة.
وهكذا تبرز دراسات هاسنجر وأوفربك وغيرهما أن راتزل لم يكن في واقع الأمر متحيزا تماما لفكرة المكان، وإن كان في أحيان يؤكد على العامل الطبيعي بحيث يطغى على إشاراته العديدة لعوامل أخرى تلعب دورها في الجغرافيا السياسية.
وفي هذا يقول جوستاف فوشلر هاوكه إن راتزل قد حذر من التغالي في فهم دور المكان والموقع في الجغرافيا السياسية، وإن صفات الشعوب تساهم مساهمة فعالة في إعطاء الدولة القيمة السياسية التي لها، ويؤكد هاوكه أن راتزل لم يتغاض عن قيمة العامل الاجتماعي وإن لم يبرز ذلك على النحو الذي نعرفه اليوم، خاصة بعد أن تطورت ونمت كثير من معارفنا ومناهجنا الجغرافية وغير الجغرافية مثل علم الاجتماع والأنتروبولوجيا والجغرافيا الاجتماعية.
والواضح أن راتزل كان على علم بأهمية المجتمع وتأثير المظاهر الحضارية والأيديولوجية على تكوين الدولة، كما كان واضحا لديه فكرة أن الدولة تتأثر بوظيفة المكان على مر الزمن.
ويمكننا أن نختتم الكلام عن راتزل بما ذكره الجغرافي الفرنسي ديمانجيون
A. Demangeon
مقدرا جهود راتزل العلمية: لقد كان راتزل أول من أدرك تعقيد حياة الدولة ووظائفها وأعطى لدراساتها الطابع العلمي. وإلى جانب ذلك يتفق كل الدارسين على أن فريدريك راتزل حمل عبء القيام بأول دراسة أصولية في الجغرافيا السياسية.
هوامش
الفصل الرابع
الجيوبوليتيكا قديما وحديثا
إن جوهر الجيوبوليتيكا هو تحليل العلاقات السياسية الدولية على ضوء الأوضاع والتركيب الجغرافي، ولهذا فإن الآراء الجيوبوليتيكية يجب أن تختلف مع اختلاف الأوضاع الجغرافية التي تتغير بتغير تكنولوجية الإنسان وما ينطوي عليه ذلك من مفاهيم وقوى جديدة لذات الأرض، وفي هذا قال ماكيندر: «لكل قرن جيوبوليتيكيته، وإلى اليوم فإن نظرتنا إلى الحقائق الجغرافية ما زالت ملونة بمفاهيمنا المسبقة المستمدة من الماضي «لتلك الحقائق» وذلك لأغراض عملية.»
1
وعلى هذا فإن نظرتنا إلى الأوضاع الجغرافية في هذا القرن هي تلك القائمة على الترابط بين توزيع أشكال سطح الأرض وأنماط الحركة، بينما كانت النظرة في القرن الماضي مبنية على توزيع الكتل القارية فقط، وفيما قبل القرن التاسع عشر كانت النظرة إلى الأوضاع والحقائق الجغرافية نابعة من التوزيعات المناخية وأشكال السطح الإقليمية، وتشير المناقشات الجارية بين المختصين إلى أن أسس النظرة إلى الأوضاع والحقائق الجغرافية في القرن القادم سوف ترتكز على توزيع الكتل السكانية والتكاملات الاقتصادية أكثر بكثير مما يعطى لها من وزن في الوقت الحاضر.
لكن ما هو هدف وغرض التحليل الجيوبوليتيكي؟ يرى بعض الباحثين
2 «أن التنظيم الجيوبوليتيكي قد يخدم أغراض البحث التأملي أو أغراض تخطيط السياسة والدعاية أو غير ذلك من الأغراض السياسية العملية، مثال ذلك أعمال الجيوبوليتيكيين الألمان في خلال العهد النازي.»
والحقيقة أن الأفكار الجيوبوليتيكية قديمة قدم الفكر الإنساني في حضاراته العليا القديمة، ولعل أقدم فكرة صريحة وصلت إلينا هي أفكار الفيلسوف الإغريقي أرسطو الذي أكد أن موقع اليونان الجغرافي في الإقليم المعتدل «المناخي» قد أهل الإغريق إلى السيادة العالمية على شعوب الشمال «البارد» والجنوب «الحار» (أرسطو في كتاب السياسة). وعلى أية حال فإن الجيوبوليتيكا تخدم كافة الأغراض العلمية والعملية من وجهة النظر المشار إليها سابقا، على شرط ألا يشوه الكاتب عمدا تفسيره ونظرته إلى الأوضاع الجغرافية، وهذا يتطلب من الكاتب ألا يكون مشاركا أو داعيا للتطبيق العملي لاتجاهات فكرية أو سياسية معينة، لكن السؤال الأخطر هو: هل يمكن للكاتب أن يتحرى الموضوعية الدقيقة في الكتابة؟
يقوم التحليل الجيوبوليتيكي على موضوعين أساسيين:
الأول:
وصف الوضع الجغرافي وحقائقه كما تبدو بالارتباط بالقوى السياسية المختلفة.
الثاني:
وضع ورسم الإطار المكاني يحتوي على القوى السياسية - الدول - المتفاعلة والمتصارعة.
ومن الصعب - في الوقت الحاضر - أن نحاول القيام بمثل هذا التحليل بالقياس إلى سهولة ذلك في الماضي، وذلك راجع إلى تداخل الأطوار المكانية للقوى والتكتلات الدولية الحالية، وما يتبع ذلك من استمرار لعملية إدخال أو إخراج واحدة من القوى داخل حلف أو آخر، وبذلك لا يمكن وضع حدود مكانية واضحة وفاصلة؛ إذ لا بد أن تعتريها التداخلات الزمانية من آن إلى آخر.
ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك أن الحدود المكانية للكتلتين الشرقية والغربية في أوروبا كانت خلال الخمسينيات واضحة كل الوضوح في صورة خط حاد فاصل بين ألمانيا الغربية من جانب وألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا من جانب آخر، بينما يتميع الخط الفاصل تميعا يجعل الأمور غير واضحة المعالم في منطقة النمسا بأسرها، ومنطقة يوجسلافيا بأسرها، ويعود الخط إلى الوضوح متمثلا في الحدود المشتركة بين بلغاريا من جانب، واليونان وتركيا من جانب آخر. واليوم - مرورا بالستينيات - نجد بداية تميع واضح في خطوط الفصل المكاني للكتلتين نتيجة التقارب بين دولتي ألمانيا وتوقيع معاهدة بينهما، والتقارب المسبق بين ألمانيا الغربية والاتحاد السوفيتي وبولندا وتوقيع اتفاقيات الاعتراف بحدود بولندا الجديدة على الأودر والنيسه، فتفاعل القوى السياسية يغير الإطارات المكانية بصورة سريعة على مر الزمن يصعب معها تنظير محدد في التحليل الجيوبوليتيكي.
في الماضي كانت المحاولات الجيوبوليتيكية ممكنة، فحتى نهاية القرن التاسع عشر كانت القوى الدولية الرئيسية عبارة عن ارتباطات بالإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، فمركز هذه القوى كان محددا بمنطقة ضيقة في أوروبا ودول البحر المتوسط البحرية، وفي خلال ثلاثة آلاف سنة كانت مراكز القوى العالمية عبارة عن «قلوب» صغيرة تنقلت من مكان إلى آخر في الشرق الأوسط وأوروبا: مصر - العراق - فارس الغربية - الإغريق - قرطاجة - روما - بيزنطة - بغداد (الخلافة العباسية) - القاهرة (الفاطمية والمملوكية) - الأستانة (العثمانية) - إسبانيا والبرتغال - فرنسا - إنجلترا - هولندا - ألمانيا.
هذه المراكز السياسية على مر الزمن تزامنت أو تلاحقت الواحدة تلو الأخرى بعد صراع زمني، وكانت هذه في مجموعها تكون «العالم ذو الأهمية» في رأي جيمس فيرجريف،
3
فهذا العالم - بموقعه وأوضاعه الجغرافية الخاصة - مكن شعوبه وسكانه من أن يطوروا وينموا موارد بلادهم المحلية أولا، ثم التوسع بعد ذلك إلى أقاليم وموارد خارجية في مناطق أقل نموا وتقدما.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر وجد بعض الجيوبوليتيكيين أن «العالم ذو الأهمية» لم يعد قاصرا على أوروبا الغربية والوسطى، بل تمدد ليشمل الكتل الأرضية في نصف الكرة الشمالي بين درجات العرض 30 و60، ووجد آخرون أن هذا النمط السائد لم يعد قاصرا على دول سواحل أوروبا الغربية، بل أخذ ينتقل تدريجيا إلى داخلية القارات في العروض 30-60 شمالا، أو بعبارة أخرى؛ أخذت مراكز القوى تظهر في كل من الولايات المتحدة وروسيا.
ولكن في الوقت الحاضر لا نستطيع أن نتفق مع تحديدات السابقين على أن ما بين درجتي العرض 30-60 هي مراكز القوى العالمية، فالأساس الحالي المرتبط بالتكتل السكاني عدديا والموارد الاقتصادية ورغبات الشعوب والأيديولوجيات القومية وغيرها تجعل من المستحيل على الباحث أن يقول إن النطاق الشمالي سيظل محتكرا لمراكز القوى العالمية، وعلى هذا فإننا نجد بوادر ظهور مراكز قوى عالمية تمثلها الهند والصين والبرازيل، وفوق هذا يمكننا أن نطرح سؤالا للمستقبل عن مراكز قوى أخرى في العالم العربي ككل أو في جزء منه.
ومن ثم فإن اصطلاح «العالم ذو الأهمية» لم يعد وجوده بالوضوح الذي كان عليه في أوائل هذا القرن، ولكن هل يعني هذا أنه لا يمكن تبين مناطق من العالم ستظل في ظل دول وقوى أخرى؟ هل أصبح أو سيصبح العالم متكافئا تماما؟ إن الإجابة على هذا التساؤل لا يجب أن تكون جازمة وملزمة، لكن الحقائق الجغرافية تضع أمامنا احتمالات كثيرة.
فلا شك أن هناك مناطق أسهل اتصالا بالموارد الاقتصادية الهامة من غيرها بحكم التنظيم العام لأشكال السطح والعلاقة المكانية، وهناك مناطق تتمتع بكفاءة أعلى - تكنيك - في استخدام الموارد، ولمثل هذه المناطق احتمالات بقاء واستمرار لنفوذها الذي تبسطه على أجزاء من العالم بحكم حقائق الجغرافيا الطبيعية والحضارية معا. (1) الفكر الجيوبوليتيكي القديم
ارتبطت الأفكار الجيوبوليتيكية القديمة عامة بالظروف الجغرافية المحيطة بشعب أو مملكة أو مفكر، ويبدو أن السياسات القديمة: عشائرية أو على مستوى القبيلة بالنسبة للرعاة وأمثالهم من المتحركين، أو الإمارات أو الدول التي كونت الحضارات العليا القديمة في الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط؛ هذه السياسات كانت تقودها وتسيطر عليها فكرة الوحدات الجغرافية المتكاملة مثل الأودية النهرية: وادي النيل الأدنى الذي تكونت فيه الدولة المصرية القديمة، وما بين النهرين الذي تكونت فيه دول سومر وأكاد وبابل وآشور، ووادي الأردن الذي اختاره لوط وقومه حينما انفصلوا عن إبراهيم الخليل، وقد فضل الأخير أن يقيم حياة أساسها التجوال في التلال والهضاب المعشوشبة.
وفي عهود هذه الدول القديمة ظلت الصحارى والجبال مناطق متميزة بوضوح خارج الدولة أو داخل نفوذها السياسي غير المباشر، وقد أجبر هذا الأمر تلك الدول أن تقيم حدودا ومعسكرات لأجنادها في أقاليم الحركة المستمرة للرعاة لإجبارهم على احترام الدولة وإقامة علاقات تجارية فقط، أو لإخماد ثوراتهم وحركاتهم الغازية التي قلما تهدأ، وبرغم ذلك اجتاح الرعاة بابل وممالك العراق القديم مرات، واجتاحوا مصر في صورة الهكسوس.
ولا شك أن الكفاح المستمر بين الأخضر والأصفر قد أدى إلى تغيرات مستمرة في التركيب السياسي والعسكري لدول الشرق الأوسط، ولكن ذلك لم يكن كل أشكال الصراع، فقد ظهرت دول قوية في الهضاب المحيطة، وخاصة في هضبة إيران (ميديا والأخمينيون) وهضبة الأناضول (الحيثيون)، وعلى سبيل المثال انتهى الصراع بين العراق والفرس بسقوط دولة بابل الثانية وامتداد الإمبراطورية الفارسية على كل أنحاء الشرق الأوسط، أما الصراع بين مصر والحيثيين فقد ألجأ المصريين إلى اتباع سياسة جيوبوليتيكية أساسها فرض الصراع على أرض بعيدة عن مصر، ولهذا يحتل المصريون ساحل اللفانت حتى أقدام جبال طوروس ويؤمنون المنطقة كلها حتى حدود المملكة الحيثية في هامش الهضبة، وبذلك أصبحت جيوبوليتيكية الفراعنة في الدولة الحديثة تشمل الامتداد الأرضي الخصب على طول ساحل البحر المتوسط، بينما كانت سياساتهم فيما قبل ذلك تجعل لهم حدودا حتى سيناء فقط.
أما الفكر الجيوبوليتيكي الإغريقي فقد انبنى على فكر نظري في مجموعه، وقد عكس الأفكار السياسية العملية لدول الشرق الأوسط، ولعل ذلك الشيء كان مرتبطا بالصراع المستمر لهذه الدول بينها وبين بعضها، وبينها وبين قوى الرعاة في الصحارى والهضاب المحيطة، أما الإغريق فلم يكونوا دولة بالمعنى المفهوم، إنما دويلات تلتئم في تركيب حضاري شامل أساسه الاقتصادي التجارة البحرية الواسعة من البحر الأسود إلى البحر المتوسط الغربي والشرقي.
لهذا فالجيوبوليتيكا الإغريقية ترتبط بأقاليم مناخية عامة وعالمية، عكس الأفكار الإقليمية البيئية المحددة لدول الشرق الأوسط، وأقدم ما وصل إلينا هو خريطة هيكاتيوس
Hecateus - القرن السادس ق.م - التي قسمت العالم إقليمين مناخيين: البارد، ويشتمل على أوروبا وشمال آسيا، والدافئ المشتمل على آسيا وأفريقيا، وفي رأيه أن الإقليم الدافئ أكثر ملاءمة للسكن وتكوين القوى الدولية، وفي القرن الخامس ق.م نجد بارمينيدس
يقسم العالم إلى خمسة أقاليم مناخية: إقليم شديد الحرارة، وإقليمان شديدا البرودة، وإقليمان معتدلان. وقد بنى أرسطو سياسته على تقسيمات بارمينيدس وقال إن الإقليم المعتدل الذي يسكنه الإغريق هو الإقليم الذي يحمل في طياته بذور القوة.
وأخذ آخرون يفسرون التغايرات السياسية بين المدن والدول على ضوء أشكال السطح المختلفة، فإقليم أتيكا - الذي برز على سطح السياسة الإغريقية فترة طويلة - قد نما سياسيا وازدهر حضاريا نتيجة الظروف الطبيعية التي جعلته آمنا من الغزو، وعلى هذا أصبحت أتيكا مكانا يلتجأ إليه لفقره الطبيعي في موارده المحلية، ويرى ثيوسيددس
Thucydides
أن هذه الظروف عكس غنى إقليم هيلاس الذي جعله مسرحا مستمرا للصراع.
وقد رأى الجغرافي الروماني سترابو
Strabo
أن القوى العالمية مركزة في الأقاليم القارية الكبيرة - وليس الهوامش البحرية - وأن أوروبا هي مركز هذه القوى، ويرى سترابو أن الجزء المسكون من العالم يتكون من ثلاث كتل قارية هي أوروبا وليبيا وآسيا، وأن أذرع المحيط وخلجانه وبحاره تشكل هذه القارات، وأن أوروبا هي أكثر القارات الثلاث ملاءمة للنمو والازدهار الفكري والاجتماعي.
ولعل سترابو كان أول من أشار في تقسيمه إلى «العالم ذو الأهمية» الذي حدده بامتداد من «أعمدة هرقل (جبل طارق) إلى خليج المحيط الشرقي (البنغال)، ومن إيرنا (أيرلندا) إلى سينامون (سيلان: سريلانكا) ... أما الأراضي التي تقع على حدود ذلك الإقليم فهي غير مسكونة، ولا تهم الجغرافي، فالعلم بها لا يعطي أية معلومات يمكن الإفادة منها سياسيا، خاصة إذا كانت جزرا لا يستطيع سكانها إعاقتنا أو إفادتنا تجاريا.»
وفكرة وجود أكثر من عالم واحد مسكون بالناس، ومن ثم إمكان وجود أكثر من نواة للقوى العالمية، فكرة لم يلق إليها بالا الإغريق أو الرومان حتى سترابو، لكن بذور الفكرة نجدها في أفكار شائعة عن القارة المفقودة «أتلانتس»، كما ورد ذكرها في جمهورية أفلاطون على أنها كانت الدولة المثالية القوية القادرة على رد أي دولة أخرى من قارة أخرى، ولكن الروماني ميلا
Mela
يؤكد أن الإقليم المعتدل الجنوبي مسكون، وكذلك شاعت باستمرار فكرة وجود أرض جنوبية عظيمة
terra australis
وبرغم ذلك كله فإن أفكار سيادة أوروبا القارية لم تتزعزع.
وقد رفض الجغرافي بطليموس فكرة أن هناك محيطا كاملا من البحار حول الجزيرة الأرضية، وجعل الأرض تمتد شمالا وجنوبا وشرقا في أراض مجهولة، وكان الجغرافيون القدماء عامة يتخذون مظهرا طبيعيا واحدا على أنه حد لإقليم من الأقاليم، فقد قسم هيرودوت آسيا إلى أشباه جزر
actae
واستخدم الخلجان حدودا، وفضل سترابو أن يستخدم الفواصل الأرضية حدودا كبرزخ السويس بين آسيا وليبيا، وطوروس بين آسيا وأوروبا.
لكن الجغرافي الروماني بليني
«الكبير» رسم صورة جيوبوليتيكية فريدة للإمبراطورية الرومانية، متخذا طرق الحركة البرية والبحرية لتحديد الإمبراطورية، وأوضح أن روما تمد نفوذها الإقليمي في اتجاهات مختلفة حول البحر المتوسط في صورة اتفاق متكامل مع امتداد الطرق الرومانية، وفي بعض الأحيان تنتهي هذه الطرق إلى عائق نهري مثل نهر الراين أو الدانوب أو الفرات والنيل، وعلى هذا النحو تصبح نهايات نظام الطرق الرومانية إطارا يحدد الدولة من أطرافها القصوى، بينما هناك إطار آخر داخلي متمثل في طرق الملاحة في البحر المتوسط التي سيطرت عليها روما تمام السيطرة طوال مجدها .
وفي العهد الإسلامي نجد الجغرافيين العرب يهتمون أساسا بالجغرافيا الوصفية والإقليمية والفلكية ورسم الخرائط، ولكن في إطار الجغرافيا الإقليمية لكل دولة أو إقليم على حدة كانت تبرز المعالجات المختلفة القدر لموضوعات الجغرافيا السياسية. وعلى وجه العموم فإن النظرة الجيوبوليتيكية العربية والإسلامية كانت تقسم العالم المسكون - وهو النصف الشمالي من الأرض - إلى قسمين رئيسيين هما أوروبا في الشمال وأفريقيا وآسيا في الجنوب، وهم في الحقيقة لم يميزوا بين أفريقيا وآسيا، بل اعتبروها كتلة قارية واحدة. ويفصل بين هذين القسمين البحر المتوسط والأسود، ويقتربان في منطقتي جبل طارق وبحر مرمرة، وقد قوى هذا التقسيم انقسام حضاري مماثل: عالم إسلامي عربي الطابع في معظمه يقوم في جنوب وشرق هذا البحر، وعالم مسيحي أوروبي في شمال هذا البحر، والاستثناء الوحيد كان الخلافة الإسلامية في إسبانيا.
وعلى هذا النحو كانت الأفكار الجيوبوليتيكية العربية عامة موجهة نحو السيطرة القارية السياسية، والسيطرة التجارية - البحرية والبرية إلى المحيط الهندي وشرق آسيا ووسطها وأفريقيا الزنجية - على الهوامش، وبهذا نستطيع أن نقول إن ثمة اختلافا بين الإمبراطورية الإسلامية في أوجها والإمبراطورية الرومانية في أوجها، ولكن هذا الاختلاف يرتبط بموقع القلب والتوجيه القاري، فروما كانت ترتكز على القارة الأوروبية والبحر المتوسط، بينما كانت مدينة بغداد ترتكز على العالم الأفروآسيوي والمحيط الهندي، وبذلك كانت القاعدة الإسلامية كبيرة وامتداداتها الأرضية شاملة لمسطح أرضي وبحري واسع بالمقارنة بروما. وفيما عدا هذا الاختلاف فإن الطرق البرية والبحرية الإسلامية كانت عصب الامتداد الإمبراطوري في كل اتجاه، وكانت الكتلة الأرضية الوسطى هي الحلقة التي تكون الإطار الداخلي للإمبراطورية الإسلامية، وحدود هذه الكتلة كانت جبال طوروس وهضبة أرمينيا وجبال القوقاز وبحر الخزر - قزوين - في الشمال، وساحل البحر المتوسط الشرقي والجنوبي حتى برقة في الجنوب، ثم الإطار الصحراوي الذي يحف ببرقة ومصر، والبحر الأحمر والقرن الأفريقي والبحر العربي حتى بلوخستان في الغرب والجنوب، بينما كانت أطراف السند وخوراسان وما بين النهرين تكون الحدود الشرقية لهذا القلب الداخلي، وإلى جانب ذلك كانت هناك حدود أخرى تمثل الحلقة الخارجية للعالم الإسلامي تمتد غربا إلى إسبانيا وشمال غرب أفريقيا، وجنوبا حتى موريتانيا وسواحل أفريقيا الشرقية، وشرقا إلى الهند وتركستان حتى حدود الإستبس.
وأخيرا نجد النظرة الجيوبوليتيكية القارية الموجهة نحو الحضارات العليا في الشرق الأوسط والبحر المتوسط والعالم الإسلامي قد تغيرت جذريا على إثر الكشوف الجغرافية، وتحول مركز القوى إلى أقاليم الهامش الأوروبي الغربي (البرتغال وإسبانيا - هولندا - فرنسا - بريطانيا)، وذلك بعد أن اتضحت سهولة ومرونة الطريق البحري بعيدا عن التصارعات العسكرية والسياسية للدول القارية الإسلامية، وبعيدا عن متاعب النقل البري، على هذا نمت السيطرة البحرية وتسلطت على الأفكار الجيوبوليتيكية بعد نجاحها في تكوين الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية الواسعة منذ القرن 16م. (2) الفكر الجيوبوليتيكي الحديث
لقد جاءت محاولات الجيوبوليتيكا الحديثة تسير مع تطور العلوم الجغرافية، وقد كان الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانت» أول من عالج من المحدثين هذا الموضوع السياسي العالمي، فأعرب عن اعتقاده بأن وجود «الدولة العالمية» أمر مؤسس على طبيعة الأشياء، وقد أيد هذا الاعتقاد بالأدلة التالية: (1) أن الطبيعة قد حبت الإنسان بإمكانية السكن والعيش في كل أجزاء العالم. (2) أن الطبيعة قد بعثرت الإنسان نتيجة استمرار الحروب مما أدى إلى سكن الناس في معظم الجهات القابلة للسكن. (3) وأن العاملين السابقين معا قد أجبرا الإنسان على أن ينهي حروبه دائما بعقد الصلح وإقامة السلام. ولقد رأى «كانت» أن الدولة الأوروبية دائمة الحروب فيما بينها بسبب رغبة هذه الدول في إخضاع بعضها البعض، ومن ثم فإن إيجاد اتحاد أوروبي من الدول المستقلة الحرة يمكن أن يؤدي إلى إحلال السلام في العالم «نتيجة لأن أوروبا في عصر «كانت» كانت تسيطر على أقدار العالم السياسية.»
وعلى عكس الاتحاد العالمي للدول كما رآه «كانت» في صورة «الدولة العالمية»، فإن مؤسسي الجغرافيا الحديثة قد أكدوا على مفهوم الإقليمية المرتبط بالأنماط الإقليمية، وقد أصبحت هذه الأفكار الإقليمية أسس الجيوبوليتيكا الحديثة.
وتأخذ الأفكار الحديثة في الجيوبوليتيكا العالم على أنه ينتظم في أنماط من توزيعات اليابس والماء وخطوط تصل هذه التوزيعات فيما بينها، فعلى سبيل المثال ترى إحدى الأفكار الجيوبوليتيكية أن التركيز يجب أن يصب على الكتلة القارية المتكونة من أوروبا وآسيا وأفريقيا معا، فهنا 56٪ من مساحة اليابس العالمي، 84٪ من سكانه، وحول هذا التكتل الأرضي الكبير مسطحات مائية واسعة تبلغ ثلاثة أضعاف مساحة اليابس، هذه هي فكرة «الجزيرة العالمية»، وواضح أن مركز ثقل هذه الفكرة يرتبط بأكبر مساحة من الأرض اليابسة.
وفكرة أخرى تركز على النصف الشمالي من الكرة الأرضية: أورو آسيا وشمال أفريقيا وأمريكا الشمالية والوسطى، وهنا نجد 60٪ من مساحة اليابس الأرضي و40٪ من السكان، والتركيز هنا على مسطحات الماء والهواء التي تربط أورو آسيا بأمريكا، وهناك أفكار أخرى عالمية مثل تلك التي تركز على الأطلنطي على أنه رابط بين الأمريكتين وأوروبا وأفريقيا معا باعتبار هذه القارات الأربع والمحيط الذي يربط بينها هي التكتل الأرضي ذو الأهمية والمغزى في العالم، ولا شك أن هذه الفكرة تستمد جذورها من العلاقات التجارية وخطوط الاتصال البحري والجوي الكثيفة التي تتمركز في الأطلنطي بالقياس إلى بقية المحيطات.
وقد ترتبت على هذه الأفكار نظريات استراتيجية مختلفة، فاستراتيجية الجزيرة العالمية تؤكد أن من يحكم أورو آسيا قد يحكم العالم، ويرتبط بالجزيرة العالمية كفكرة جيوبوليتيكية نظرية استراتيجية أخرى مغايرة تماما لفكرة قلب العالم، تلك هي الاستراتيجية الخاصة بالتحكم في أطراف الجزيرة العالمية المتمثلة في أشباه الجزر الضخمة حول أورو آسيا: أوروبا - كشبه جزيرة لآسيا - والشرق الأوسط والهند وجنوب شرقي آسيا، وتقول هذه النظرية إن من يحكم هذه الأطراف قد يحكم العالم، ونظرية ثالثة تقول إن حكم العالم القطبي قد يؤدي إلى النفوذ العالمي، وإلى جانب هذه النظريات نجد نظرية تقف موقف التوفيق بينها، فلا هي تطالب بحكم قلب الجزيرة العالمية ولا قطبها أو أطرافها، ولا تدعو إلى السيطرة العالمية، بل ترى هذه النظرية أن في الإمكان إحداث تعادل في ميزان القوى العالمية بين قوتين أو ثلاث على المستوى العالمي.
وبغض النظر عن هذه النظريات وتفصيلاتها فإن ما يجب أن نتذكره هو أن كل الاستراتيجيات في الماضي والحاضر ترتبط بظروف الزمان والتكنيك الذي يصله الإنسان، كما ترتبط بالأوضاع الجغرافية.
وأصول النظريات الحديثة ترجع إلى القرن الماضي على يد مؤسسي الجغرافيا الحديثة: ألكسندر فون همبولت وكارل ريتر، وقد أكد كل من هذين العالمين أن هناك علاقات متبادلة بين الإنسان والدولة والمحيط الطبيعي، وقد طور كارل ريتر
4
أفكاره في صورة تقسيمات إقليمية داخل الكرة الأرضية الموحدة، فهو أولا يقسم العالم إلى قسمين أساسيين: الأرض (القارات) والماء (المحيطات)، والحدود بين هذين القسمين هي دائرة عظمى تمر من بيرو إلى جنوب آسيا، ثم قسم ريتر اليابس إلى قسمين هما العالم القديم والجديد، ويتميز العالم القديم بتشابه مناخي كبير لأنه يمتد امتدادا كبيرا مع درجات الطول؛ أي من الشرق إلى الغرب على طول دوائر عرضية محدودة، أما العالم الجديد فتظهر فيه اختلافات مناخية أكبر لأنه يمتد من الشمال إلى الجنوب امتدادا كبيرا.
وعلى هذا النحو يتناول ريتر القارات كلها على أنها وحدة طبيعية كاملة، وأخيرا يصل إلى أقسام ذات شخصية داخل كل قارة. وكذلك قسم ريتر المحيطات إلى حوضين هما الأطلنطي والباسيفيكي، وقد فسر الجغرافي الفرنسي أرنولد جويه
A. Guyot
5
آراء ريتر في منتصف القرن 19، ووصف العالم القديم بأنه عالم الجبال والهضاب وأن سهوله محدودة الاستغلال، بينما يتصف العالم الجديد بثروة السهول، كذلك قال في مجال المفاضلة بين المحيطين الأطلنطي والباسيفيكي إن الأول هو الأكثر ملاحة، وإن حوضه تسوده البحار الداخلية، وإن سواحله ذات انحدارات هينة، بينما الباسيفيكي في رأيه هو أكثر المحيطات محيطا وانحدارات سواحله سريعة وعنيفة.
وقد كان جويه أول جغرافي حديث يؤكد أهمية الموقع المركزي للقارة الأوروبية داخل المحيط «الذي هو في الحقيقة الطريق الرئيسي في العالم»، وقد نبعت أفكار جويه الجيوبوليتيكية من نظرة ريتر إلى القارات على أنها كل متكامل طبيعي، وواحدة من أهم أفكار جويه في هذا الموضوع هي أن زعامة العالم آخذة في الانتقال من أوروبا إلى أمريكا الشمالية.
والمبدأ الثاني عنده أن القارات تنتظم في ثلاث مجموعات مزدوجة واحدة إلى الشمال والثانية جنوبها، وأن الشمالية تعطي الجنوبية حضارتها ومدنيتها، كما أنه يعتقد أن آسيا كانت مهد الحضارة، وأن أوروبا المكان الذي نضجت فيه الحضارة، وأن أمريكا الشمالية هي نقطة النهاية العظمى لهذه العملية الحضارية، وكذلك أعرب جويه عن اعتقاده - في أسلوب صوفي غامض - بأن وحدة السلالة وروابط الديانة المسيحية والقرب المكاني هي الأسس التي تجذب وتصنع وحدة القارات الشمالية. (2-1) القوى القارية في الجيوبوليتيكا
ماكيندر والجزيرة العالمية
مر بنا من قبل أن عبء إنشاء الجغرافيا السياسية قد قام على مجهودات راتزل الجغرافية، وفي مجال الجيوبوليتيكا نجد لراتزل مكانة كبيرة أيضا، فهو أول من درس وعالج المكان والموقع معالجة أصولية مقارنة بين الدول، وكذلك سبق أن شرحنا بشيء من التفصيل مجمل آراء راتزل الجغرافية، ولكن يمكننا أن نعيد تأكيد ما ذكره راتزل من وجود روابط قوية بين القوى القارية والقوى السياسية، فالمساحة الكبيرة والموارد التي تتيحها المساحة تلعب دورا هاما عند راتزل في نشأة وتدعيم القوى السياسية، ومثل هذه المساحات الكبيرة لا توجد إلا في الدول القارية ذات الامتدادات الضخمة كالولايات المتحدة وروسيا وأستراليا - بالمقارنة بدول أوروبا الغربية ذات المساحات الصغيرة والموارد المحدودة.
لكن هالفورد ماكيندر
H. Mackinder
كان هو الذي ربط بين المساحات الضخمة والموقع المكاني في جزء من قارة واحدة أعطاها المكانة الأولى في العالم، وقد ارتبط اسم ماكيندر بنظرية «قلب العالم
Heartland »، وهي النظرية التي شغل بالبحث فيها والنشر حولها طوال النصف الأول من قرننا الحالي، وكان لهذه النظرية تأثيرها الواضح على الجيوبوليتيكا الألمانية من حيث أنها دفعت الألمان إلى إيجاد ردود ومبادئ لتنفيذها لصالح ألمانيا.
خريطة (1).
خريطة (2).
وقد كان ماكيندر متعدد الدراسات التعليمية والاتجاهات، فقد درس البيولوجيا والتاريخ والقانون والطبوجرافيا والاستراتيجية والجغرافيا، وهذا يوضح ويفسر اهتماماته بالمتشابهات التاريخية والدراسات الإيكولوجية التي قادته إلى الجغرافيا، وأخيرا إلى العمل الدبلوماسي. ولعل مصدرا جذريا من مصادر تفكيره اعتقاده بأن الإنسان يملك المبادأة وليست القوى الطبيعية، وأن القوى الطبيعية هي التي تتحكم في المبادآت تحكما كبيرا.
وقد بدأ ماكيندر
6
نظرية «الهرتلاند» 1904 حيث رأى أن الجزء الداخلي من أورو آسيا هو مركز العالم سياسيا (انظر خريطة 1) وقد حذر من أن حكم قلب أكبر كتلة أرضية في العالم يمكن أن يعطي الأسس التي تنبني عليها السيطرة العالمية، وقد شعر ماكيندر أن في إمكان القوة التي تحكم قلب العالم - سواء كانت روسيا أو ألمانيا أو الصين - أن تنافس بنجاح الدول البحرية وأن تتغلب عليها، ولم تمض إحدى عشرة سنة على أقوال ماكيندر الأولى حتى أكد فيرجريف جيمس
J. Fairgrieve
في كتابه «الجغرافيا والسيطرة العالمية» (1915) بقوة أن الصين في موقع ممتاز للسيطرة على داخلية أورو آسيا.
ولا شك أن من محاسن ماكيندر - التي لم يتنبه إليها كثير من النقاد - أنه كان دائم التغيير في حدود قلب العالم ونظرته للعالم ككل. ولقد كان ماكيندر - كجغرافي - على علم تام بأن استغلال الإنسان لمحيطه الطبيعي كان دائم التغيير، وأن المحيط الطبيعي كان أيضا يتغير، وإن كان ذلك يسير ببطء. وتوضح خريطة 1 حدود قلب العالم عند ماكيندر 1919، ويتضح من مقارنة هذه الحدود بحدود 1904 (انظر خريطة 3) أن ماكيندر قد أدمج في قلب العالم التبت وأعالي أنهار الصين والهند من منغوليا والتبت، كذلك أضاف أوروبا الشرقية والوسطى إلى قلب العالم كإضافة ذات قيمة استراتيجية، وقد أخذ ماكيندر في اعتباره تغيرات وسائل النقل واستحداثها والنمو السكاني والصناعي.
خريطة (3).
خريطة (4): نمط لأفكار الجيوبوليتيكا الألمانية. خطوط القوى في البحر المتوسط الآسيوي الجنوبي عام 1938. عن خريطة لالبرخت هاوسهوفر. (1) خطوط القوى البريطانية (2) خطوط القوى الفرنسية (3) خطوط القوى الهولندية (4) خطوط القوى الأمريكية (5) خطوط القوى اليابانية.
ونتيجة لهذا النمو في المواصفات والسكان والصناعة شعر ماكيندر أن البلطيق والبحر الأسود قد أصبحا جزءا من قلب العالم، وهذه البحار وأحواضها النهرية تكون جزءا من السهول الأورو آسيوية الكبرى.
وفي بحثه عام 1919 أعلن ماكيندر «أن من يحكم شرق أوروبا يحكم الهرتلاند، ومن يحكم الهرتلاند يتحكم في الجزيرة العالمية، ومن يتحكم في الجزيرة العالمية يتحكم في العالم»، وعلى هذا أصبحت المناطق الحاجزة بين الجرمان والسلاف، الممتدة من إستونيا إلى بلغاريا - في رأي ماكيندر - مفتاح السيطرة العالمية، وهي بذلك مناطق مفتوحة لكل من النفوذين الألماني والروسي.
وفي سن ال 83 أعاد ماكيندر صياغة أفكاره عن جيوبوليتيكية العالم في مقال نشره عام 1943، وفي هذا المقال نجد ماكيندر يخرج حوض لينا - سيبيريا الشرقية - من الهرتلاند الذي أصبح يتكون من سيبيريا الوسطى والغربية - حدود حوض الينسي وانجارا في الشرق - بالإضافة إلى وسط آسيا السوفيتية كلها وأوروبا السوفيتية وشرق أوروبا وحوض البلطيق، وبعبارة أخرى نجده يركز الهرتلاند في الأراضي الجديدة التي كسبها الاتحاد السوفيتي في نطاقي الإستبس والغابات المخروطية بتحويلها إلى قلب الدولة الزراعي والصناعي الجديد - بالإضافة إلى أوروبا السوفيتية.
كذلك نجد ماكيندر يعطينا مفهوما جديدا في التغير الذي طرأ على العالم؛ فهو هنا يتكلم عن المحيط الأطلنطي الشمالي على أنه المحيط المتوسط أو الأوسط
Midland Ocean
رابطا بذلك أراضي أوروبا الغربية وشمال غرب أفريقيا بمعظم مناطق العمران في الولايات المتحدة وكندا وأمريكا الوسطى والكاريبي وفنزويلا في وحدة عضوية جديدة هي وحدة أو إقليم الأطلنطي الشمالي، ويعطي ماكيندر لهذا الإقليم الجديد أهمية مماثلة للهرتلاند وقوة مواجهة له.
كما يعطي ماكيندر أقاليم آسيا الموسمية وحوض الأطلنطي الجنوبي أهمية مستقبلية، وأخيرا يصف إقليما خامسا جديدا بأنه «العباءة الخالية
Mantle of Vacancies » وهو ذلك الإقليم الخالي أو شبه الخالي من السكان والنشاط: حلقة الصحارى والفيافي والقفار الرملية أو القطبية في كل من شمال وشرق سيبيريا وشمال كندا وغرب الولايات المتحدة، وتفصل هذه الحلقة الفارغة بين مركزي الثقل الشماليين: الهرتلاند وأراضي المحيط المتوسط عن أراضي الأهمية المستقبلية المتناثرة داخل المحيط الكبير أو الواسع
Great Ocean : أمريكا الجنوبية وأفريقيا الزنجية وآسيا الموسمية وأستراليا المحيطية.
ولعل أهم ما يمكن أن نفسره من تغيرات آراء ماكيندر في 1943 عنها في 1904، 1919 أنه نقل الأهمية الجيوبوليتيكية للهرتلاند من مجرد الاعتماد على الموقع والتكتل الأرضي وسهولة الحركة للقوى القارية إلى الاعتماد على الناس والعمران والموارد والخطوط الخلفية للحركة.
وفي الحقيقة لا نجد نظرية فرد واحد قد أثارت العرض والنقد الذي أثارته نظرية ماكيندر خلال هذا القرن، لكن ما هي قيمة نظرية ماكيندر الفعلية في هذا الخضم من التغيرات الاستراتيجية والنظريات الجيوبوليتيكية؟
في كثير من الآراء التي تعرضت مؤخرا لماكيندر أن الهرتلاند ليس مؤهلا لحكم العالم تأهيلا تاما، فإلى جانب مزايا الهرتلاند والحركة نجد أن توسط الهرتلاند يجعله عرضة لائتلاف الهوامش ويركز الضرب عليه كهدف محدد بواسطة الأسلحة الجوية الحديثة؛ أي أن توسط الهرتلاند له مزاياه وعيوبه.
لكن إلى جانب هذه النقطة الاعتراضية فإننا نجد اعترافا صريحا من جانب واضعي الاستراتيجيات الحديثة في الدول الغربية والأطلنطية بأن ماكيندر كان على حق في آرائه، فأولا لم تتمكن ألمانيا من السيطرة على الأراضي الحاجزة بين الجرمان والسلاف، وأصبحت هذه الأراضي من البلطيق إلى البلقان كلها في دائرة النفوذ السوفيتي المؤهل - بحكم موقعه في الهرتلاند - لحكم هذه الأراضي، وأصبح الاستراتيجيون الغربيون ينظرون إلى العالم اليوم نظرة ماكيندر إليه طوال النصف الأول من هذا القرن، ومن ثم فإن الاستراتيجية الغربية بأحلافها العديدة - حلف شمال الأطلنطي، الحلف المركزي، حلف جنوب شرق آسيا - ما هي إلا محاولات من جانب هذه الاستراتيجية لتطويق القوى السوفيتية، وبعبارة أخرى؛ محاولة لاستخدام الهامش لتطويق الهرتلاند، محاولة لمنع الهرتلاند السوفيتي من السيطرة العالمية.
وبعد كل ما قيل عن ماكيندر، فإن هناك أحداثا أخرى تجعلنا أقل وثوقا من مجمل آراء ماكيندر والمحاولات النظرية والتطبيقات الاستراتيجية التي دارت وتدور حولها، فهناك تساؤلات عديدة يجب أن نطرحها نجمت عن تطور الأحداث منذ 1943، ومنذ الخمسينيات التي أنشئت فيها أحلاف الغرب العسكرية حول الهرتلاند، ومن أهم هذه التساؤلات ما يلي: (1)
ما هو دور الصين في الصراعات العالمية بعد تحولها إلى قوة يسارية كبرى، هل نستعيد آراء جيمس جريف عن إمكاناتها العالمية في التحكم في الهرتلاند الآسيوي؟ (2)
ما هو مصير الأحلاف الغربية نتيجة لانسحاب فرنسا ونشأة السوق الأوروبية وانضمام بريطانيا والدانمرك وغيرهما، هل يؤدي هذا إلى تكوين قوة ثالثة في العالم الشمالي وتغير وحدة شمال الأطلنطي عبر المحيط المتوسط؟ (3)
ما هو مصير الأحلاف الغربية نتيجة فشل حملة فيتنام وانفصال بنجلاديش؟ (4)
ما هي القوى التي تعمل في أكثر مناطق حلقة الفيافي والصحارى حساسية وخطورة ونعني بها منطقة الشرق الأوسط؟ ما هي النتائج التي يمكن أن تنتهي إليها صراعات الشرق الأوسط المتعددة على المستوى العربي، والمستوى العربي الإسرائيلي، والمستوى الأمريكي السوفيتي، والمستوى الأوروبي الغربي، والمستوى العالمي؟ (5)
ما هي نتائج ظهور القوميات الفتية الجديدة في جنوب آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية؟
على ضوء هذه التساؤلات المتعددة المعقدة وغيرها من المشكلات الدولية الأخرى، يمكن أن نقول إن فكرة الهرتلاند - برغم ثقلها - هي من البساطة بحيث تكاد أن تلغي دور المناطق الأخرى في الصراعات العالمية، ولو كان ماكيندر بيننا فإنه ربما أعاد صياغة أفكاره مرة رابعة إلى احتمال تكوين ائتلاف شمالي يشمل الهرتلاند والمحيط المتوسط.
الجيوبوليتيكا الألمانية
لقد كان رودلف كيلين
R. Kjellen
7 - المؤرخ والعالم السياسي السويدي (1864-1922) - هو أول من بدأ استخدام مصطلح الجيوبوليتيكا، وقد كتب كيلين كتابين أولهما نشر في ليبزيج عام 1917 باسم «الدولة كمظهر من مظاهر الحياة»، والثاني نشره عام 1920 باسم «الأسس اللازمة لقيام نظام سياسي»، وفي هذين الكتابين نجد كيلين يستخدم خلفية كبيرة من: (1) الفلسفة العضوية. (2) فلسفة هيجل. (3) الكثير من الآراء المتعارضة التي تظهر من كتابات راتزل وماكيندر.
وقد طور كيلين أبحاثه إلى ما عرف فيما بعد باسم نظرية الدولة، وقد قسم الدراسات المرتبطة بالدولة إلى الموضوعات التالية: (أ)
السياسة الأرضية: الجيوبوليتيكا
Geopolitik . (ب)
السياسة الشعوبية: إتنوبوليتيكا
Ethnopolitik . (ج)
السياسة الاجتماعية:
Sozialpolitik . (د)
السياسة الاقتصادية:
Oekopolitik . (ه)
السياسة الإدارية:
Kratopolitik .
وقد نقل عن راتزل أفكار الدولة ككائن عضوي، تكون الأرض التي يعيش عليها الجسد، وتكون العاصمة القلب والرئتين، وتكون الطرق والأنهار الأوردة والشرايين، ومناطق التعدين والإنتاج الزراعي هي بمثابة الأطراف، وأن أهم ما تعنى به الدولة هو القوة، وأن حياة الدولة تعتمد على التربية والثقافة والاقتصاد والحكم وقوة السلطان، وفي رأيه أن الجغرافيا يجب أن تسخر لخدمة الدولة، التي هي الفرض الأسمى للدراسة، وبذلك تتحول الجغرافيا في مجملها إلى جيوبوليتيكا، وخلاصة القول أن أفكار كيلين كلها ليست جديدة، بل عالجها آخرون من قبله، وإن كان هو أول من نادى بقوة بجعل الدراسة موجهة توجيها خاصا لخدمة الدولة، وهو ما سنجد له تطبيقا عمليا على يد مؤسس الجيوبوليتيكا الألمانية كارل هاوسهوفر وابنه البرخت. (2-2) كارل هاوسهوفر
K. Haushofer
ومدرسة ميونخ
بدأ هاوسهوفر حياته ضابطا في الجيش القيصري الألماني، وذهب إلى اليابان معلما للمدفعية في الفترة 1908-1909، وكان لهذه الرحلة أثر كبير على تكوينه السياسي والعسكري - ذهب بحرا عبر قناة السويس، وعاد برا بطريق سيبيريا - وخدم خلال الحرب العالمية الأولى ووصل إلى رتبة جنرال، وبعد الحرب تقاعد ولكنه كان قد حصل على درجة الدكتوراه عام 1911؛ مما أدى إلى تعيينه أستاذا للجغرافيا والتاريخ الحربي في جامعة ميونخ سنة 1920. وفي عام 1924 أسس «معهد ميونخ للجيوبوليتيكا» و«مجلة السياسة»
8
التي ظلت تنشر آراء السياسة وجذبت معه مجموعة من كبار أساتذة الجغرافيا الألمانية مثل إيريخ أوبست
E. Obst
وأوتو ماول
O. Maull
و جوستاف فوشلر هاوكه
G. F. Hauke
وأوتو يسن
O. Jessen
وغيرهم كثير، بالإضافة إلى البرخت هاوسهوفر.
وقد تأثر هاوسهوفر كثيرا بآراء كل من سبقوه في كتابات السياسة الأرضية العامة وخاصة راتزل وكيلين وماكيندر وماهان، وأخطر ما كان في فلسفة هاوسهوفر السياسية الدعوة إلى التوسع الألماني والصراع والحرب الشاملة.
وأكثر المصطلحات الجديدة التي عبرت عن آراء مدرسة ميونخ - التي تصادف أنها أيضا كانت مهد ومكانة ولادة النازية الهتلرية - هي مصطلحات توسيعية أو ذات صبغة استراتيجية حربية، ومن أكثر المصطلحات شيوعا تلك التي تعبر عن فكرة «المجال الحيوي
Lebensraum » التي تدعو لأن يكون لألمانيا - وغيرها من القوى التي أهلها هاوسهوفر للنمو - مجال تمد فيه جذورها الاقتصادية والسياسية، كذلك كان مصطلح «الكفاية الذاتية الاقتصادية» من المصطلحات الشائعة في كتابات هذه المدرسة في فترة بناء ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى.
وإلى جانب هذه المصطلحات نجد ثلاثة مبادئ أساسية تتردد دائما في كتابات مدرسة ميونخ وتحدد الاستراتيجية العامة لهذه المدرسة، تلك المبادئ هي: (1)
مبدأ «الدولة العملاقة أو الكبرى» الذي دعا إليه فريدريك راتزل. (2)
مبدأ «الجزيرة العالمية» الذي طوره ماكيندر في كتاباته 1904، 1919. (3)
مبدأ ازدواجية القارات: واحدة في الشمال والأخرى في الجنوب، وتكونان معا كتلة إقليمية قارية ذات اكتفاء ذاتي؛ فالشمالية تقدم المصنعات والجنوبية هي مجالها الحيوي في إنتاج الخامات والتسويق (انظر خريطة 5).
لقد تفاعلت هذه المبادئ الثلاثة معا وكونت الخطوط الرئيسية لأفكار هاوسهوفر، ففي رأيه أن عالم الغد - بالنسبة له - يجب أن يسير على نمط الدول الكبرى، وهو يتوقع أن تكون هذه هي الموجة السياسية المستقبلية . ونحن نعتقد أن ما توقعه هاوسهوفر في محله، فالاتجاه العام - بعد نصف قرن من كتاباته - هو تكوين مقدمات الدولة الكبرى في أنحاء عديدة من العالم، وخاصة أوروبا ذات التاريخ الطويل في التركيبات الدولية صغيرة المساحة - كتلة السوق الأوروبية الغربية، وكتلة دول الكوميكون في شرق أوروبا، وفي هذا المجال نجد نوايات غير ناضجة لتكتلات إقليمية في أفريقيا والعالم العربي لأسباب داخلية وخارجية معا.
ولكن هاوسهوفر كان ينظر إلى الدولة الكبرى من زاوية قومية بحتة، وليست زاوية تشاركية بين الشعوب والدول - كما هو حادث الآن - لهذا يرى أن من المحتم على ألمانيا أن تبتلع الدول الصغرى غرب وشرق ألمانيا، وأنه لا بأس من تنفيذ ذلك بقوة السلاح لتأمين سيطرة ألمانيا الكاملة على أوروبا القارية.
ورأى هاوسهوفر في جزيرة ماكيندر العالمية الإطار العام المكاني للسيطرة الألمانية وتكوين نظام عالمي جديد، وقد كان لمدرسة ميونخ هدفان جوهريان في الجزيرة العالمية: الهدف الأول السيطرة على روسيا لتأمين الحكم الألماني على كل أورو آسيا، والهدف الثاني تدمير الإمبراطورية البريطانية وقوتها البحرية لتأمين السيطرة الألمانية الكاملة على كل الجزيرة العالمية (أوروبا - آسيا - أفريقيا).
لكن تحقيق هذين الهدفين لا يستدعي بالضرورة الحرب الشاملة، فقد كان هاوسهوفر يرى أن الدول القارية تمتلك مميزات جوهرية بالقياس إلى القوى البحرية، ومن ثم كان ينظر إلى تحقيق اتحاد أو تحالف ألماني روسي على أنه حجر الزاوية في تكوين نواة الوحدة الأورو آسيوية التي تشتمل على إضافة تكتل واسع آخر يتكون من الصين واليابان، وفي الحقيقة نجد أن كارل هاوسهوفر لم يأل جهدا خلال منشوراته وأبحاثه في العشرينيات والثلاثينيات من أجل الدعوة إلى صداقة ألمانية سوفيتية، ودعوة إلى اليابان أن تطور علاقاتها مع كل من الصين والاتحاد السوفيتي.
لقد أثرت أفكار راتزل عن الرابطة الموجودة بين القوى الدولية الكبرى والمسافات القارية الكبيرة على الجيوبوليتيكيين الألمان تأثيرا مباشرا تجلى في ظهور مبدأين: أولهما فكرة أوروبا الكبرى، وثانيهما فكرة الأقاليم الكبرى (انظر خريطة 5) ولقد تكلم هؤلاء السياسيون عن شرق أوروبا على أنه جزء أرضي واقع تحت تأثير القوانين الجيوبوليتيكية الأوروبية، ومن ثم دعوا إلى وحدة أوروبية لكافة أرجاء القارة على أنها شيء وراثي ومن طبيعة الأشياء. وحدود أوروبا في الشرق - كما خططها هؤلاء السياسيون - هي خط يمتد من مصب نهر الدينسنر إلى بحيرة بيبوس - تشود حاليا - الواقعة على حدود جمهورية إستونيا السوفيتية، وبعبارة أخرى كان الحد الشرقي لأوروبا هو خط حدود الاتحاد السوفيتي عام 1939.
خريطة (5).
خريطة (6)، (7): نماذج للحدود المتداخلة في أوروبا. نظرا لتحدد القوميات بوضوح فإن الحدود تتداخل بكثرة في معظم أجزاء أوروبا في المناطق التي يسودها الاستقرار كسويسرا وهولندا واسكندنافيا، ويكون تداخلها مثارا للنزاعات في المناطق التي لم تستقر كالبلقان.
وقد اعتبر هاوسهوفر أن الاتحاد السوفيتي هو بداية آسيا، ولهذا فإنه رأى أن أوروبا - بما فيها دول شرق أوروبا السلافية (بولندا وتشيكوسلوفاكيا والبلقان) - يجب أن تتحد تحت زعامة ألمانيا، وذلك كشرط أساسي لإمكان قيام اتفاقات مع الاتحاد السوفيتي على مصير أورو آسيا كلها؛ أي أن ألمانيا يجب أن تقوى مساحيا بحيث تغطي كل أوروبا لكي تستطيع أن تكون في موقف القوة حين التفاوض مع الاتحاد السوفيتي. بعبارة أخرى نجد في هذا تأكيدا واضحا لمبدأ راتزل عن ارتباط الدولة الكبيرة والمساحة الكبيرة.
وعلى هذا النحو نرى هاوسهوفر وزملاءه يعتنقون مبدأ الاستيلاء على شرق أوروبا كمفتاح لقوة ألمانيا وإمكانها إجبار الاتحاد السوفيتي - دون حرب - على الجلوس مع الألمان للتفاوض بشأن حكم أورو آسيا، هنا أيضا نجد واحدا من مبادئ ماكيندر يلعب دوره في أفكار مدرسة ميونخ السياسية، فقد سبق لماكيندر أن أكد دور شرق أوروبا كعنصر حاسم في التأثير على مصير قلب العالم، وكان ماكيندر يرى أن احتمال استيلاء الألمان على شرق أوروبا أو استيلاء الروس عليه عامل ممهد لتدعيم نفوذ الدولة المنتصرة في التحكم في قلب العالم، وبعبارة أخرى كان ماكيندر يرى أن شرق أوروبا هو مفتاح التحكم في الجزيرة العالمية؛ لأنها العتبة المؤدية إلى قلب العالم.
وفي هذا المجال يجب أن نذكر أن مدرسة ميونخ لم تطالب أبدا بحرب شاملة تدخلها ألمانيا ضد الاتحاد السوفيتي، بل إن هاوسهوفر كان يتشكك في إمكانيات وقدرات استراتيجية حرب الصاعقة الألمانية ضد المساحة الضخمة والموارد الكبيرة للاتحاد السوفيتي، فإن كانت هذه الاستراتيجية قد نجحت في بلاد ذات مساحة محدودة كبولندا وفرنسا وهولندا إلا أن نصيبها من النجاح في المساحات السوفيتية الواسعة أمر محفوف بالمخاطر.
وقد اقترحت مدرسة ميونخ الجيوبوليتيكية نظاما جديدا للسيطرة على القارات في صورة مفهوم الأقاليم الكبرى
Regions (انظر الخريطة 5) وتتكون هذه الأقاليم من:
أمريكا الكبرى:
وتضم كلا من دول الأمريكتين تحت زعامة الولايات المتحدة.
أورو أفريقيا:
وتضم كل أوروبا عدا الاتحاد السوفيتي وكل أفريقيا وكل العالم العربي الآسيوي وتركيا وذلك تحت الزعامة المشتركة لبرلين وروما.
روسيا الكبرى:
وتضم معظم الاتحاد السوفيتي عدا شرق سيبيريا، كما تضم أيضا إيران وأفغانستان والهند كلها - بما في ذلك باكستان الحالية - وكان مصير روسيا الكبرى معلقا باتفاقات روسيا مع ألمانيا، وإذا لم يحدث هذا الاتفاق فإن كل روسيا الكبرى كانت ستصبح جزءا من الإمبراطورية الألمانية.
آسيا الشرقية الكبرى:
وهذه تضم اليابان وشرق الاتحاد السوفيتي والصين وجنوب شرق آسيا وبورما وإندونيسيا وأستراليا ومعظم عالم المحيط الهادي تحت زعامة اليابان، ويلاحظ أن هذه الأقاليم الكبرى تسير وفق مبدأ القارات المزدوجة الشمالية والجنوبية حسب ما أشرنا إليه من قبل، وكانت مدرسة ميونخ ترى أنه لا بد من وجود مناطق فاصلة بين الدول الكبرى داخل التقسيمات القارية، وأن هذه المناطق ونظام الاكتفاء الذاتي للدول الكبرى سوف يؤدي إلى إيجاد التوازن الدولي المرغوب.
ولا شك أن هاوسهوفر لم يتمكن من إيجاد صيغة التوازن اللازمة بين أقاليمه الكبرى الثلاث في العالم القديم - أورو أفريقيا وروسيا الكبرى وآسيا الشرقية الكبرى - وبين العالم الجديد - أمريكا الكبرى - ولهذا يرى أنه لا بد من اتحاد كل أقاليم العالم القديم للوقوف على قدم المساواة مع العالم الجديد، ويعني هذا أن بذور الحرب بين ألمانيا واليابان كانت واردة عند أصحاب مدرسة ميونخ على أنها احتمال مستقبلي من أجل السيطرة العالمية.
وفشل فكرة الأقاليم الكبرى أمر واضح؛ لأنها لا يمكن أن تتحقق إلا بالحرب ، كما أن القارات الجنوبية في كل إقليم كبير ليست بعيدة البعد الكافي عن مراكز القوى الأخرى في القارات الشمالية، وبالتالي يمكن أن تمارس قوة أخرى شمالية دورا هاما على قارة جنوبية تابعة لقوة شمالية غيرها، فمثلا أمريكا الجنوبية لا تبعد عن أمريكا الشمالية بمسافة أقل كثيرا من بعدها عن أوروبا، بل إنها أقرب إلى أورو أفريقيا منها إلى أمريكا الشمالية، وبذلك يمكن أورو أفريقيا أن تمارس نفوذا متزايدا في أمريكا الجنوبية يناهض وينافس النفوذ الذي تمارسه أمريكا الشمالية عليها، وبالمثل أفريقيا كجزء مكمل لأورو أفريقيا ليس بعيدا بعدا كافيا عن روسيا الكبرى بحيث يمكن للنفوذ الروسي أن يمارس دورا منافسا في أفريقيا لدور أوروبا على وجه العموم، وألمانيا على وجه الخصوص، وكذلك الهند تقع قريبة من آسيا الشرقية الكبرى أكثر من قربها للاتحاد السوفيتي.
هذا عن المبادئ العامة لمدرسة ميونخ السياسية، أما عن المبادئ الأساسية التي شكلت المنطلق الأساسي للجيوبوليتيكا الألمانية فقد تلخصت في عدة اعتبارات أهمها ما يلي ...
الدولة كائن حي (راتزل)
ومن ثم جاء تشخيص هاوسهوفر للأمراض التي تشكو منها الدولة مبنيا على مشكلة الأرض التي تحتلها؛ ولهذا ظهر مبدأ «المجال الحيوي» للدولة الذي يدعوها إلى التوسع الأرضي من أجل إيجاد حلول لمشاكلها السكانية والاقتصادية والعسكرية، ويحسن موقعها وعلاقاتها المكانية الأرضية.
مبدأ الكفاية الاقتصادية للدولة
وهذا المبدأ يقوم على عدة مقاييس رسمها هاوسهوفر وزملاؤه كشروط أساسية لمقومات الدولة القوية، وقد أكدت النظرية على أربعة مقاييس هي: (أ) عدد وفير من السكان. (ب) نسبة مواليد مرتفعة. (ج) تماثل وتشابه تام بين دم السكان (السلالة). (د) توازن عادل بين سكان الريف والمدن. والمقياسان الأول والثاني مفهومان تستند إليهما الدولة لتدعيم قواها وتجديد هذه القوى بارتفاع نسبة المواليد، ولهذا يأتي المقياس الرابع مؤيدا لهذا الاتجاه، فهاوسهوفر لا يحبذ السكن المدني كثيرا؛ لأنه بطبيعته يؤدي إلى إنقاص نسبة المواليد، كما أن قلة سكان الريف سوف تقلل بالضرورة مدى تحكم الناس في إنتاج التربة الزراعية بمعناها الواسع، وبذلك يشترك العاملان معا في تقليل قوة الدولة العسكرية وتجديد هذه القوة، وفي تقليل الإنتاج الزراعي العام مما يؤدي إلى إضعاف الكفاية الذاتية للدولة. وأخيرا فإن المقياس الثالث يريد أن يفترض أن تجانس الشعب سلاليا هو أحد دعامات قوة الدولة، لكن هذه النظرة الضيقة - السلالة فقط - تعبر عن منطلق عنصري يرتبط بسيادة الجرماني، وهو في ذلك مؤيد للعنصرية النازية تمام التأييد.
9
لكن الكفاية الذاتية للدولة الكبرى يجب أن تمتد إلى مسطحات كبيرة من اليابس الأرضي في صورة «الاقتصاد الكبير مكانيا
Grossraum Wirtschaft » ولهذا نجد الدعاية والمصالح الألمانية تتوغل في كثير من أجزاء القارة، وخاصة في جنوب شرق القارة - بلغاريا ورومانيا - وفي وسط القارة. والاهتمام بالبلقان عامة في نظر الاقتصاد الألماني راجع إلى أنه كان في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية يكون منطقة إنتاج الأغذية والمواد الأولية، وهي ما تحتاجه ألمانيا الصناعية، وبذلك فإن التكامل الاقتصادي بين الصناعة والزراعة - في نظر الجيوبوليتيكيين - كان يتمثل خير تمثيل في الارتباط بين ألمانيا والدول المتخلفة صناعيا وعلى رأسها دول البلقان، وتجدر الإشارة إلى أن 80٪ من صادرات بلغاريا فيما قبل الحرب كانت تتجه إلى ألمانيا، وكذلك كانت المجر داخلة في دائرة النفوذ الاقتصادي الألماني بدرجة كبيرة، كما كان لبترول رومانيا أثره في جذب المصالح الألمانية، وكانت ألمانيا تدفع مقابل المواد الأولية التي تحصل عليها من دول البلقان سلعا صناعية ألمانية بأسعار أعلى من الأسعار العالمية كثيرا؛ مما جعل ألمانيا مدينة مزمنة لدول البلقان، وهكذا أدت الروابط الاقتصادية الألمانية المتغلغلة في البلقان بمعظم دول المنطقة إلى الانضمام إلى الحلف الألماني راضية أو مكرهة، وفي هذا كتب الأستاذ أوتو ماول قائلا: «إن التغلغل الاقتصادي الكامل له تماما نفس الآثار المترتبة على الاحتلال العسكري.»
العواصم والتأثيرات النفسية
اهتمت مدرسة ميونخ بموضع العواصم على أنه دليل على قوة واستقرار الدولة، ولهذا فإن عددا من الدول نقل عواصمه من مكامن الخطر إلى مناطق أكثر حماية في الداخل، وأهم الأمثلة على ذلك نقل العاصمة من إسطنبول إلى أنقرة، ومن سان بطرسبرج - ليننجراد - إلى موسكو، «ويمكننا أن نضيف إلى ذلك ما حدث مؤخرا من نقل العاصمة الباكستانية من كراتشي إلى إسلام أباد، والعاصمة البرازيلية من ريو ديجانيرو إلى برازيليا»، ولكن يجب أن ننظر إلى هذه العملية من زاويتين: الأولى ما أوردته مدرسة ميونخ من أسباب استراتيجية، والثانية أن نقل العواصم من الأطراف إلى الداخل دليل على اعتناء الدولة بالتنمية الداخلية لبلادها.
وترى مدرسة ميونخ أن للعواصم تأثيرا نفسيا على الشعوب، فسقوط العاصمة يؤدي إلى إشاعة اليأس بين السكان، خاصة إذا كانت العاصمة في موقع جغرافي متوسط وجيد، مثل باريس أو موسكو، وترى هذه المدرسة أن سقوط باريس قد عجل بسقوط فرنسا، ولهذا نجد الألمان يحاولون الحصول على موسكو، وفي مقابل ذلك وقف السوفيت إلى النهاية مانعين سقوطها؛ مما كان له أثره الكبير في ضعضعة العزيمة الألمانية وتقوية الإرادة السوفيتية.
استراتيجية المواقع والاستراتيجية العسكرية
في المجالات العسكرية كانت مدرسة ميونخ ترى أن القوة برغم انقسامها إلى القوات البرية والبحرية والجوية إلا أن للقوة البرية دورا حاسما؛ لأنها هي التي تستولي على المجالات الأرضية، ولكن ذلك لا يقلل من دور القوات البحرية والجوية، وإن كانت - في نظر هاوسهوفر - قوات مكملة للقوات البرية.
ويرى أن القواعد الحربية قد أصبحت تفقد قيمتها الاستراتيجية التي كانت لها في الماضي فلم يعد لجبل طارق أو لسنغافورة الأهمية التي لكل إسبانيا أو ماليزيا، وعلى هذا النحو فإن التحكم في قناة السويس دون التحكم في مصر يصبح قليل الأهمية، ومن هنا فإن المناطق التي تقع فيها هذه القواعد الحربية أو البحرية تصبح أهم من الناحية الاستراتيجية من قيمة القاعدة ذاتها.
مناطق الصدام بين الدول المتنافسة
يرى هاوسهوفر أن نفوذ الدول المتصارعة على السلطة ينتهي إلى مناطق حساسة هي مناطق الاحتكاك الحقيقي بين نفوذ دولتين، وفي مثل هذه المناطق غالبا تبدأ المعارك السياسية أو العسكرية، وقد ضرب هاوسهوفر مثالا لذلك بالفلبين الواقعة بين دائرتي النفوذ الأمريكية واليابانية، وحينما ينشغل اليابانيون بأمور سياسية أو عسكرية داخلية أو بعيدة عن الفلبين نرى مطالب أهل الفلبين من أجل الاستقلال عن أمريكا تشتد وتظهر على مسرح السياسة المحلية الفلبينية، لكن هذه المطالب سرعان ما تخبو وتحل محلها مظاهر الولاء نحو أمريكا حينما تصبح روح التوسع العسكري الياباني تجاه الفلبين ملموسة وواضحة.
وليست مناطق الصدام وحدها هي التي تظهر في كتابات هاوسهوفر وغيره، بل مصطلحات أخرى متعددة مثل مجالات الدفع
Zerrungaraeume
ونطاقات الخطر
Gefahrenzonen
ومناطق الاهتزاز
Schuetterzonen
وخطوط القوى
Kraflinien ، والأخيرة توضح اتجاهات القوى المتصارعة في إقليم من أقاليم الصدام أو الخطر (انظر خريطة 6) كمثال.
والملاحظ أن هاوسهوفر الأب
10
والابن ومدرسة ميونخ عامة لم تضع فقط تصورا نظريا لسياسات الأرض كما فعل ماكيندر وغيره، بل أتبعوا هذا التصور بمبادئ تطبيقية في نظرهم من أجل تنفيذ ما افترضوه من صور، ولهذا تخلو كل الكتابات الجيوبوليتيكية العلمية من مبادئ تطبيقية، بل إنها تصور إمكانيات الماضي والحاضر على ضوء العلاقات الأرضية حسبما يرى الكاتب، أما مدرسة ميونخ فقد كانت حقا محاولة تنفيذية لمخططات نظرية تعسفية أريد لها التطبيق بالقوة العسكرية وحدها، ولهذا فشلت هذه المدرسة فشلا ذريعا ونقدت نقدا مرا، وذلك بالرغم من أن الكثير من الكتابات العلمية لهذه المدرسة هي كتابات جغرافية ممتازة، فمثلا ذكر البرخت هاوسهوفر في كتابه الذي لم يكتمل بعنوان «الجغرافيا السياسية العامة والجيوبوليتيكا» أن هناك في الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا حقيقة أساسية يجب تركيز الدرس عليها، ألا وهي مسألة العلاقات المتغيرة بين المحيط المكاني للإنسان وبين أشكال الحياة السياسية.
وخلاصة القول أن الجيوبوليتيكا الألمانية كانت مليئة بالمتناقضات الجغرافية؛ لأنها كانت لا تعرف حدودا علمية تنتهي إليها، وهي بارتباطها بالتطبيق العملي للسياسة التوسعية الجرمانية، لم يعد يهمها أن تواجه بالنقد العلمي، وبذلك فقدت العنصر الأساسي في تكوينها كنظرية علمية. (2-3) القوى البحرية في الجيوبوليتيكا
على عكس راتزل وماكيندر وهاوسهوفر ومدرسة ميونخ الذين تبنوا افتراض سيطرة متعاظمة للقوى الأرضية، نجد مجموعة أخرى من الجيوبوليتيكيين الذين يرون للقوى البحرية أفضلية تمكنهم من السيطرة العالمية.
وأقدم هؤلاء الجيوبوليتيكيين المحدثين هو الأميرال ألفرد ماهان
A. T. Mahan (1840-1914) القائد البحري الأمريكي، والذي نال شهرة واسعة كمؤرخ واستراتيجي بحري ممتاز، لم يكن ماهان إذن جغرافيا، لكنه تعرض في دراساته للموقع الجغرافي وأثره في نمو السيطرة البحرية، وهو حينما يكتب عن القوة البحرية فإنه يعني القوة العسكرية التي يمكن نقلها بالبحر إلى المكان المطلوب، دون أن يعني مجرد الأسطول البحري، ومن ثم فإن التحكم في البحار يعني لديه التحكم في القواعد البرية التي تتميز بالمواقع الاستراتيجية المتحكمة في النقل البحري والقواعد البحرية التي تحميها أشكال السواحل من جهة وعمق خلفيتها الأرضية من جهة ثانية.
وتصبح كتابات ماهان عن السيطرة البحرية مهمة وذات طابع جغرافي حينما يتناول العالم كله في نظرة استراتيجية، وقد أعرب عن ذلك الاتجاه الجغرافي الجيوبوليتيكي لأول مرة في كتابه «مشكلات آسيا» المنشور 1900،
11
الذي يركز فيه على مشكلات أورو آسيا، وقد شعر أن قارات العالم الشمالية هي مفتاح السيطرة العالمية، وأن قناتي السويس وبنما هما الحدود الجنوبية لعالم الشمال المتميز بتكاثف الحركة التجارية والسياسية العالمية.
ويؤكد ماهان أن أورو آسيا هي أهم جزء في العالم الشمالي، وأن روسيا تحتل موقعا أرضيا مسيطرا في آسيا، وأكد أنها ذات منعة ضد المهاجمين، بل شعر أن من غير الممكن مهاجمتها، ومع ذلك فهو يرى في هذا الموقع الأرضي المنيع مساوئ معينة أهمها أنها كتلة أرضية محبوسة.
ويصف ماهان المناطق الآسيوية بين درجات العرض 30، 40 شمالا بأنها نطاق الاحتكاك والصراع بين روسيا وبريطانيا - بين القوى الأرضية والقوى البحرية. وبما أنه يرى في القوى البحرية مفتاح السيطرة العالمية فإنه - بناء على ذلك - يتنبأ بأن بإمكان كل من بريطانيا وأمريكا المتحالفتين الحصول على السيادة العالمية باستخدامهما - احتلال - قواعد عسكرية تحيط بأورو آسيا نظرا لتفوق الحركة البحرية على الحركة الأرضية.
بل إن ماهان قد تنبأ بأن تحالفا بين الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا واليابان قد يحدث في يوم من الأيام ضد روسيا والصين معا، وعلى هذا فإن باستطاعتنا أن نقول إن ماهان قد كتب قبل ماكيندر بأربع سنوات عن أهمية الجزيرة العالمية - أورو آسيا - وعن الهرتلاند - روسيا - لكنه توصل إلى نتائج عكسية تماما لما توصل إليه ماكيندر من نتائج، ولعل ذلك مرتبط بشخص ماهان كرجل بحر يؤمن باستراتيجية البحار قبل كل شيء، كما أننا لا نعفي ماهان من تأثره بالأحوال السياسية التي عاصرها، حينما كانت بريطانيا في أوج مجدها العالمي مستندة في ذلك إلى موقع جزري آمن - قاعدة بحرية ذات عمق أرضي - وأكبر أسطول بحري حربي وتجاري في العالم، وقواعد حربية هامة عند مداخل البحار وعلى طول شرايين التجارة البحرية العالمية، كما أن تنبؤه ببزوغ نجم أمريكا يرتكز هو الآخر على كونها دولة شاسعة في صورة جزيرة ضخمة آمنة من أحداث وقوى أورو آسيا.
والحقيقة أن ماهان قد قام بدور كبير في الدعوة إلى إنشاء أسطول أمريكي قوي، وشق قناة «بنما» والحصول على قواعد بحرية أمريكية في الخارج - احتلال الفلبين 1898 بعد الحرب مع إسبانيا، وكذلك فرض حمايتها على جزيرة كوبا واحتلال جزر جوام وهاواي في وسط المحيط الهادي واحتلال بورتوريكو لتأمين مدخل الملاحة في البحر الكاريبي - وبذلك فإنه قد أثبت أن الآراء الجيوبوليتيكية يمكن أن تعمل لخدمة مصالح الدولة، تماما كما فعل هاوسهوفر ومدرسة ميونخ، لكن الفارق بين ماهان والجيوبوليتيكا الألمانية ربما يكمن في هزيمة ألمانيا!
ويمكننا أن نعد نيكولاس سبيكمان
N. Spykman
12
خليفة ماهان في استراتيجيته التي تناهض تفوق الهرتلاند وسيادته، لكنه لا يتفق مع ماهان في سيادة القوى البحرية، بل نراه في كل أفكاره يتأثر تأثرا عميقا بماكيندر في كل شيء سوى النتائج السياسية (انظر خريطة 4).
لقد كان سبيكمان يخشى من سيطرة ألمانيا على القارة الأوروبية ومن ثم على الهرتلاند الأورو آسيوي، وبذلك يمهد الطريق للسيطرة العالمية الجرمانية، لهذا كان هدفه التطبيقي أن تعقد محالفة بين أمريكا وبريطانيا كقوة بحرية، والاتحاد السوفيتي كقوة أرضية لمنع ألمانيا من تنفيذ مخططها العالمي.
وقد رأى سبيكمان في «الهلال الهامشي» الذي يحيط بالهرتلاند عند ماكيندر مفتاح السياسة العالمية، ولهذا يسمي هذه الأراضي «الإطار
Rimland » أو الحافة التي تضم أوروبا البحرية - الغربية - والشرق الأوسط والهند وجنوب شرق آسيا والصين، هذا الإطار يتمتع بعدد كبير من السكان ومصادر ثروة غنية بالإضافة إلى استخدام البحر كخطوط حركة أساسية للتجارة والحرب.
وفي الحقيقة نجد سبيكمان يتبنى كل آراء ماكيندر، لكنه يعكس النتائج في قول مأثور مشابه لقول ماكيندر ويغايره، فهو يقول: من يحكم الإطار يحكم أورو آسيا، ومن يحكم أورو آسيا يتحكم في مصير العالم، ولكن تقطع الإطار وتقسمه بين القوى الأوروبية والأمريكية يجعل من المستحيل قيام الإطار بهذا الدور، أما إذا تمكنت دولة واحدة من السيطرة عليه فإن دور الإطار سيصبح واضحا في الحصول على السيطرة على العالم، وهو يخشى أن تتمكن ألمانيا من السيطرة على الإطار بعد أن تحتل أوروبا الغربية، ويصف سبيكمان الهرتلاند بأنه حقا قلب الكتلة الأرضية الكبيرة، لكنه قلب ميت لأنه حبيس الإطار من ناحية والتندرا والمحيط القطبي من ناحية ثانية، كما أنه قليل الثروات باستثناء التركستان والأورال؛ لأن بقية القلب تتكون من أراض موحشة جافة أو تحتلها مساحات شاسعة من الغابات المخروطية الباردة وأراضي الصقيع الدائم.
لكن نتائج سبيكمان تتميز بعدم الكفاية والبعد عن الإمكانية العملية، فمن الواضح أن منطقة الإطار لا يمكن أن تكون قوة واحدة، كما أن الإطار ليس سوى نطاق هامشي مهدد من الهرتلاند في الداخل والقوى الهامشية البحرية
off Shore
من الخارج وبريطانيا واليابان وشمال أفريقيا من مصر إلى المغرب، ولهذا إذا كان لقوى الإطار أن تنجح في تكوين وحدة أوروبية غربية، فإن هذا النجاح يتوقف على أن تفرض أوروبا المتحدة سلطانها المطلق على البحر المتوسط كله والشرق الأوسط كخطوة أولى، ثم السيطرة على بقية أفريقيا وأستراليا كخطوة ثانية تمهيدا للخطوة الحاسمة، وهي الاستيلاء على بقية الإطار في آسيا الجنوبية والشرقية.
وواضح مدى صعوبة هذه الإمكانية التي تجعلها في باب المستحيل، وبفرض أن المستحيل يمكن أن يحدث، فإن ذلك لا يدخل باب الاحتمالية إلا إذا كان هناك اتفاق وتفاهم بين هذه القوة الأوروبية المتوسعة وبين قوة الهرتلاند أو القوة الأمريكية، وفي مثل هذه الحالة توافق إحدى القوتين - الهرتلاند أو أمريكا - على مثل هذا التوسع دون أن يصيبها شيء منه؟ فإذا أصابت جزءا من الإطار، فإن فكرة تكوين قوة واحدة تسيطر على الإطار كله فكرة لا يمكن تحقيقها.
وعلى الصورة نفسها يمكن أن نقول إن الصين قد يمكنها أن تستولي على جنوب آسيا وشرقها، لكنها لن تتمكن من الاستيلاء على الإطار في الشرق الأوسط أو أوروبا دون اتفاق مع الهرتلاند.
إن أهمية الإطار اليوم لا تقع في إمكان قيامه كقوى موحدة، بل في أنه يقع تحت تأثير المنافسة بين القوى الخارجية عنه: أمريكا واليابان وبريطانيا والاتحاد السوفيتي، بل إن أفريقيا جنوب الصحراء وأستراليا تقع أيضا ضمن مجال هذه المنافسة، ودور أفريقيا في هذه المنافسة والصراع أصبح يتضح بجلاء كلما مر الوقت، وقد سبق لماكيندر أن أطلق على أفريقيا اسم الهرتلاند الثاني، لكنها حتى الآن ما زالت مرتبطة بعلاقات سياسية استراتيجية اقتصادية بدول الإطار.
وهكذا فإن بقاء الإطار مقسما بين دول عديدة مستقلة أو محايدة أو داخلة في فلك دول أخرى يبقي على توازن القوى العالمية، ويمنع تكوين قوة واحدة تسيطر على العالم، لكن ليس معنى هذا أن الإطار مؤهل للسيطرة العالمية على النحو السابق الشرح. وفي الوقت الحاضر نجد خطوط الحركة الداخلية بين الإطار والقوى الداخلية الكبرى كالصين أقوى من القوى البحرية التي يمكن أن تدعم دول الإطار دون تدخل القوى الداخلية، ولنا على ذلك مثالان في آسيا الشرقية والجنوبية الشرقية، فإن القوى البحرية الأمريكية - تدعمها قواعدها الضخمة في اليابان والفلبين وحلف جنوب شرق آسيا - لم تستطع أن تمنع خطوط الاتصال الأرضي الداخلي بين الصين والاتحاد السوفيتي وكوريا الشمالية أو فيتنام الشمالية، وقد ظلت كل من كوريا وفيتنام الشمالية مركزا لقوى مناهضة بنجاح للقوى الأمريكية البحرية والجوية والأرضية، وهذا دليل واضح على أن القوى البحرية قد نالت أكثر مما هي عليه من مميزات في آراء كل من ماهان وسبيكمان.
إن تغلغل النفوذ الصيني عبر الخطوط الحديدية إلى سنكيانج - تركستان الصينية - والنفوذ الصيني إلى التبت وكوريا وفيتنام ليعبر عن قوى كبيرة من قوى الإطار في اتجاه الداخل، لكن يقابل ذلك أيضا القوى السوفيتية المتقدمة من الهرتلاند صوب التركستان، ولعل الخط الحديدي الجديد يربط سنكيانج بتركستان الروسيا أكثر من الصين، على أي الحالات فإن ماكيندر في عام 1904 قد أشار إلى إمكانية نمو القوى الصينية صوب الداخل، وأن نطاق الهضاب الشاسعة والجبال العالمية والصحارى الواسعة في منغوليا والتبت وحوض تاريم وجبال كون لون وغيرها تعد عائقا طبيعيا أمام منافسة السوفيت الجدية، وبذلك فإن الصين هي الدولة الوحيدة من دول الإطار التي يمكن أن تتوسع داخليا على خطوط الانتقال والحركة إلى مساحات كبيرة، بينما لا يمكن لأوروبا أن تتوسع في الأراضي المقابلة لها من الداخل؛ لأنها تقع تحت الضغط المباشر للهرتلاند والقوى السوفيتية الجديدة. (2-4) القوى الجوية في الجيوبوليتيكا
إن نمو عصر الطيران والفضاء قد أدى إلى أنواع مختلفة من الآراء حول التشكيل الجيوبوليتيكي لعالم أواسط وأواخر هذا القرن.
وواحد من هذه الآراء كان رأي جورج رينر
G. Renner
13
في 1944 الذي قال إن الطرق الجوية قد ربطت بين الهرتلاند الأورو آسيوي وهرتلاند أصغر في أمريكا الشمالية عبر المنطقة القطبية، وبذلك فإن تشكيلا جديدا للهرتلاند بواسطة الطيران قد جعله يمتد في نصف الكرة الشمالي عبر المنطقة القطبية، لكن هذا الهرتلاند الجديد يتصف بأنه مهدد بالخطر من إحدى القوتين اللتين تحتلانه: الاتحاد السوفيتي يهدد بقية الهرتلاند في أمريكا والعكس صحيح، لكن رينر يقول إن الهرتلاند الجديد يمكن أن يكون قاعدة السيطرة العالمية؛ لأنه يتميز بالقرب المكاني من بعضه بواسطة خطوط الطيران وإمكانيات النقل البحري والبري أيضا، وبذلك تتحول المنطقة القطبية الشمالية إلى بؤرة الحركة، ومن ثم تصبح مفتاح النفوذ العالمي.
وهناك رأي آخر نادى به ألكسندر دي سفيرسكي
A. de Seversky
14
في بحث باسم «القوة الجوية: مفتاح البقاء (1950)»، وقد رسم سفيرسكي خريطة ذات مسقط قطبي وضع فيها الأمريكتين جنوب القطب وأورو آسيا وأفريقيا في شمال القطب، وعلى هذا فإن أول تقسيم استخدمه سفيرسكي هو التقسيم المتعارف عليه: العالم القديم والعالم الجديد، وفي هذه الخريطة يتضح أن السيادة الجوية الأمريكية تشتمل على كل الأمريكتين، بينما منطقة السيادة الجوية السوفيتية تغطي جنوب وجنوب شرق آسيا وأفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى.
لكن منطقتي النفوذ الجوي تتلاقيان وتتصادمان في مناطق أخرى هي أوروبا الغربية وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، فضلا عن أن نفوذ القوة الجوية السوفيتية يغطي أمريكا الشمالية، وبالمثل تغطي القوة الجوية الأمريكية الهرتلاند الأورو آسيوي، ويرى سفيرسكي أن مناطق تداخل القوى الجوية للدولتين هي مناطق الحسم في أي معركة بينهما، ومن ثم فإن سفيرسكي يرى للقوة الجوية الأثر الحاسم في كسب السيطرة أو السيادة على العالم.
وآراء سفيرسكي يمكن أن نعدها استكمالا لآراء رينر السابق شرحها، لكنها تختلف عنها في نتيجتين هامتين رغم كونهما غير مؤكدتين، وأول هذه النتائج غير المؤكدة ينبع من مسقط الخريطة التي اعتمدها سفيرسكي في بحثه، فإن المسقط القطبي الذي استخدمه قد أدى إلى إبعاد أفريقيا عن أمريكا الجنوبية بصورة لا وجود لها في الطبيعة، ومن ثم فإن هذا الابتعاد قد جعل كلا من القارتين في حوزة القوة الجوية للسوفيت والأمريكيين على التوالي، بينما في الحقيقة تبعد أفريقيا عن الولايات المتحدة بالمقدار الذي تبعد به أمريكا الجنوبية عنها.
والنتيجة الثانية التي توصل إليها سفيرسكي مرتبطة بمبدأ أن السيطرة الجوية تقود فورا إلى السيادة العالمية، فلقد تكلم سفيرسكي عن الدولتين الكبيرتين فقط مع بعض إشارات خفيفة إلى قوى بريطانيا الجوية، لكن كلامه يحمل معه بذور نقده، ذلك أن أي دولة - كبيرة أو صغيرة، في النصف الشمالي أو الجنوبي من الأرض - يمكنها، إذا تجمعت لديها الأسباب التي تجعل منها قوة عسكرية جوية قوية، وإذا تكونت لديها الرغبة الأكيدة في النمو والسيطرة السياسية، أن تحصل على السيادة العالمية، مثلا يمكن لأستراليا أو البرازيل أو الأرجنتين أن تحقق السيادة، خاصة وأننا في عصر تطورت فيه القاذفات الجوية والصواريخ العابرة للقارات، لكن هذه الأفكار العامة قد تناست إمكانية تدمير السلاح الجوي للدولتين المتعاديتين معا، فالمسألة ليست مجرد هزيمة واحدة منهما كي تصبح الأخرى مسيطرة على أجواء العالم، ويجب أن نضيف إلى ذلك في الوقت الحاضر تعاظم أسلحة الدمار النووية والصاروخية من قواعد برية، وطائرات حاملة للقنابل الذرية، وغواصات حاملة أيضا لهذه الأسلحة المدمرة. وكلها عوامل أدت إلى توازن كبير في القوى الدولية؛ إذ إنها أدت إلى منع الحرب الشاملة حتى الآن.
ومع ذلك فإن تفوق السلاح الجوي العادي ما يزال له دور فعال في الحروب الصغيرة، ولكنه لا يلعب الدور الحاسم وحده، ومن ثم فإن نجاح الحروب الصغيرة يتوقف على تكامل كل الأسلحة الجوية والبحرية والبرية، بالإضافة إلى المميزات التي يحصل عليها طرف أو آخر من أطراف النزاع في المواقع الاستراتيجية التي يسيطر عليها أو يحتلها.
ولهذا فهناك كتاب يعتقدون أن السلاح الجوي لم يضف بعدا ثالثا للقوى البرية والبحرية، وإنما يعدونه إضافة تكاملية لإبعاد القوى البرية فقط، وبعبارة أخرى فإن القوة الجوية ليست في حد ذاتها عاملا حاسما وجديدا في الحروب ينهي دور القوى البرية والبحرية. •••
يتضح من هذه الدراسة للجيوبوليتيكا أن هدفها الأول هو دراسة الأوضاع العامة للكتل القارية وإعطاؤها أهميتها السياسية بالنسبة لموضوع واحد وجوهري هو السيادة العالمية، وبذلك فإن الجيوبوليتيكا علم سياسي أساسا يستمد جذوره من الجغرافيا وحقائقها، ويعمل على الإفادة منها لخدمة خطط سياسية معينة في غالبية الأحوال، ولهذا فإن هناك فروقا كثيرة بين الجيوبوليتيكا والجغرافيا السياسية يمكن أن نجملها فيما يلي: (1)
الجيوبوليتيكا ترسم خطة لما يجب أن تكون عليه الدولة، بينما تدرس الجغرافيا السياسية كيان الدولة الجغرافي. (2)
تضع الجيوبوليتيكا تصورا لحالة الدولة في المستقبل، بينما تقنع الجغرافيا السياسية برسم صورة الماضي والحاضر. (3)
الجيوبوليتيكا تتسم بالتطور والحركة، بينما تميل الجغرافيا السياسية إلى الثبات. (4)
تحاول الجيوبوليتيكا أن تجعل الجغرافيا وحقائقها في خدمة الدولة، بينما الجغرافيا السياسية ليست سوى صورة للدولة.
هوامش
الفصل الخامس
الدولة
تركيب الدولة كوحدة جغرافية سياسية (1) عناصر تكوين الدولة
الدولة هي موضوع الجغرافيا السياسية الأول والأساسي، والدولة هي الوحدة الأساسية في النمط السياسي العالمي، كل دولة مظهر قائم بذاته، غير متكرر في أي صورة من صور الدول الأخرى، الدولة إذن مظهر متفرد بكل وحدة سياسية؛ لأن لكل دولة مظاهرها المتفردة غير المتكررة في الموضوعات التالية: (1)
الموقع وعلاقات المكان تميز كل دولة عن غيرها بظروف وعلاقات مختلفة. (2)
المظاهر الطبيعية لأرض كل دولة متغايرة عن غيرها. (3)
اختلاف المساحة المسكونة والمستغلة داخل كل دولة تترتب عليه نتائج خاصة في كل دولة. (4)
اختلاف علاقات كل دولة بالوحدات السياسية الأخرى على المستوى الإقليمي والعالمي.
وهذا التفرد الوظيفي لكل دولة على حدة لا يلغي أن كافة الدول يجب أن تمتلك خمسة عناصر أساسية لقيامها واستمرارها، وهذه العناصر هي: (1)
مساحة من الأرض تحدها حدود متعارف عليها (أو متنازع عليها). (2)
نظام حكم إداري كفء لضمان سيادة الدولة على سطحها - الأرضي والمائي والجوي. (3)
شعب مقيم بصفة دائمة (بغض النظر عن الهجرة من أو إلى الدولة). (4)
بناء اقتصادي أيا كان شكله. (5)
نظام من النقل وخطوط للحركة داخل أراضي الدولة.
ولا شك أن الدول تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا في درجة امتلاكها لعنصر أو أكثر من العناصر الخمسة السابقة، فهناك دول ذات مساحات عملاقة على رأسها الاتحاد السوفيتي، ودول ذات أعداد سكانية هائلة على رأسها الصين، ودول ذات موارد قوية ومتعددة كالولايات المتحدة، ودول ذات بناء اقتصادي متكامل، وأخرى تعتمد على نوع أو آخر من مصادر الثروة، وأخيرا دول ذات شبكة نقل كثيفة، وأخرى تفتقر إلى خطوط الحركة الأساسية.
وتوضح الجداول التالية بعض هذه الحقائق في اختلاف الدول فيما بينها:
جدول 5-1: نماذج لأحجام الدول - عناصر متفرقة.
الحجم المساحي
الحجم السكاني
الدولة
المساحة (مليون كم مربع)
الدولة
عدد السكان (بالمليون)
الاتحاد السوفيتي
22,0
الصين
700 (؟)
كندا
9,9
الهند
500
الصين
9,5
الاتحاد السوفيتي
240
الولايات المتحدة
9,3
الولايات المتحدة
200
البرازيل
8,5
إندونيسيا
110
أستراليا
7,7
اليابان
100
الهند
3,0
البرازيل
85
السودان
2,5
نيجيريا
61
زائيري والجزائر
2,3
ألمانيا الغربية
59
السعودية
2,2
بريطانيا
55
سويسرا
0,04
سنغافورة
2
هولندا وبلجيكا
0,03
الكويت
0,5
لكسمبورج
0,003
مالطة، لكسمبورج
0,3
مالطة
0,0002
أيسلندا
0,2
موناكو
0,000001
موناكو
0,02
جدول 5-2: حجم السكان غير الزراعيين.
الكويت
99٪
ألمانيا الغربية/كندا/مالطا/لكسمبورج
89٪
بريطانيا
96٪
السويد
88٪
الاتحاد السوفيتي
67٪
الولايات المتحدة
94٪
نيوزيلندا
87٪
مصر/لبنان
45٪
بلجيكا
94٪
الدانمرك
85٪
الصين
37٪
هونج كونج
93٪
الأرجنتين
82٪
الهند
30٪
سنغافورة
93٪
شيلي
74٪
السودان
22٪
هولندا
91٪
اليابان
73٪
نيجيريا
20٪
أستراليا
90٪
فنزويلا
71,٪
إثيوبيا
20٪
سويسرا
90٪
جنوب أفريقيا
71٪
تنزانيا
5٪
وإلى جانب ذلك فإننا نرى تغيرات كبيرة قائمة بين ترتيب الدول في حصة الفرد بالنسبة للإنتاج القومي العام، فهناك الكويت التي تحتل المرتبة الأولى بحوالي 3410 دولارات للفرد سنويا من قيمة الإنتاج القومي العام، تليها الولايات المتحدة 3250 ثم السويد 2270، ولا تظهر دول أخرى لها قيمتها الاقتصادية إلا في مراتب متأخرة، فألمانيا الغربية تحتل المرتبة السابعة وبريطانيا المرتبة التاسعة، بينما تحتل مستعمرة صغيرة أمريكية - بورتوريكو - المرتبة الثانية عشرة، وتنخفض أنصبة الفرد كثيرا في معظم دول العالم إلى ما بين 500 و50 دولارا في السنة.
وعلى هذا النحو تختلف أقدار الدول وقلما ترتبط عدة عناصر معا لتعطي لدولة ما أهمية رئيسية في العالم، ولكن كل ذلك لا يلغي أن هناك دولا كبرى وصغرى ودولا متقدمة وأخرى متخلفة تكنولوجيا، ودولا مستقلة تماما وأخرى في مراحل مختلفة من الارتباط التام - مستعمرات - أو الارتباط الاقتصادي بدول أخرى. وبرغم عوامل الاختلاف هذه فإن الدولة هي الدولة سواء كانت من هذا النوع أو ذاك أو ذات عمق تاريخي أو جديدة كل الجدة بحكم علاقات الاستعمار الحديث.
ولهذا كله فالدولة - كما قلنا - هي الموضوع الأول والأساسي في الجغرافيا السياسية التي تحاول أن تلقي الضوء على كل مكونات الدولة الطبيعية والبشرية في تفاعلها معا لإعطاء البناء السياسي لوحدة من وحدات الأرض السياسية. (2) ماهية الدولة
فالدولة إذن هي أعقد الأنظمة الإنسانية الاقتصادية والاجتماعية معا، ولكي يكون للدولة كيانها فالمفترض أن تفرض سيادتها على أرض معينة، لكن الحياة السياسية عامة لأي دولة تخضع بدرجات متفاوتة لصفات المجتمع التي تتحدد بواسطة البيئة الطبيعية التي ينمو فيها الشعب ويتكون، وما في هذه البيئة من مصادر للثروة، سواء كانت هذه المصادر مجرد الموقع المكاني أو أيا من أشكال مكونات الثروة الاقتصادية الأخرى.
ويرى الكثيرون من الكتاب أن الدولة لا تعني مجرد مساحة من الأرض ومجتمعا يعيش على هذه الأرض، بل إنها حقيقة اجتماعية اقتصادية مستقلة عن السلالة والعلاقات السلالية واللغوية والدينية إلى آخر ذلك من مكونات الشعوب.
وبذلك فإن مهمة الجغرافيا هي دراسة الدولة ككائن عضوي نشأ عن تجمع إنساني معين على سطح جزء من الأرض. (3) الأسس الجغرافية للدولة (3-1) المقومات الطبيعية
تشتمل الأسس الطبيعية للدولة على عدة عناصر هامة على رأسها الموقع والحجم والشكل، إلى جانب المناخ والتضاريس والتربة والجغرافيا الحيوية: مصادر المياه والحياة النباتية والطبيعية، وأخيرا مكونات الموارد المعدنية للدولة.
وتشابك وترابط هذه العناصر معا يعطيان للإنسان حدودا يمارس خلالها أنشطته الاقتصادية في كل منطقة على حدة، ولكن من بين هذه العناصر يبرز عنصر واحد أو أكثر لكي يعطي للإقليم صفاته الأساسية مثل تربة أوكرانيا الخصبة أو بترول دول الخليج العربي، وبرغم ذلك فإن هذه الصفات لا تظهر من تلقاء نفسها، بل لا بد من مستوى حضاري معين يسمح للناس أن يحسنوا استغلال هذه المصادر، ومثل ذلك المواقع الطبيعية للدول أو تجميع مصادر القوى والطاقة إلى آخر ذلك من الظروف التي تظهر أو لا تظهر بالارتباط بالمستوى الحضاري والتكنيكي للشعوب.
الموقع
يكون الموقع أهم عنصر طبيعي في مكونات الدولة الطبيعية، وتتناول المواقع عدة عناصر منها الموقع الفلكي، وإلى الآن لم تظهر في العروض القطبية أو الاستوائية دول ذات أهمية سياسية إقليمية كبيرة، فهل يرتبط ذلك بعنصر المناخ الرديء بمعانيه المختلفة؟ لا شك أن في ذلك بعض الحقيقة، لكن هناك عناصر أخرى من أهمها ابتعاد هذه النطاقات عن خطوط الحركة الدائمة الموغلة في القدم؛ أي أنها كانت في عزلة شبه تامة عن التيارات التجارية والاجتماعية والحضارية.
هناك أيضا ارتباط من نوع آخر بالمواقع، فمعظم مصادر الفحم العالمية تقع بين درجتي العرض 40 و60 شمالا؛ أي العروض المعتدلة. وهو ارتباط النمو الصناعي خلال القرن الماضي والحالي بدول معينة تقع في هذه العروض، لكن تعدد مصادر البترول في نطاقات أكثر جنوبية من نطاق الفحم - الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وفنزويلا وإندونيسيا وبعض مناطق أفريقيا المدارية - يمكن أن يؤدي إلى أساس جديد لنمو صناعي غير الفحم في دول العروض المعتدلة، لكن تصنيع البترول واستهلاكه حتى الآن ما زال - بطبيعة شركات إنتاجه - حكرا على دول الصناعة التقليدية، ومثل هذا ينطبق على الموارد الذرية التي يوجد قدر كبير منها في المناطق المدارية الأفريقية، فلو انتقلت الصناعة إلى الطاقة الذرية يمكن أن يصبح للدول المدارية شأن غير شأنها الحالي، لولا الاحتكارات الصناعية التقليدية أيضا.
ولعلاقة اليابس والماء دور آخر في علاقات الموقع، فالمناطق الجزرية والساحلية عامة أقل قارية في مناخاتها من المناطق الداخلية، وأكثر قربا من مواصلات بحرية سهلة ورخيصة مما يشجع النشاط البحري التجاري، وحالة بريطانيا فريدة في ذلك المجال، لكن يكفي أن تعرف أن الكثير من دول العالم كانت تتصارع وتحارب من أجل الحصول على واجهة بحرية حتى ولو كانت ضيقة مثل بولندا (1918-1939) أو الأردن أو زائيري، فالواجهة البحرية هي في حد ذاتها جائزة تعطي استثمارا مستمرا لاقتصاديات الدولة: مواصلات قومية حتى ساحل البحر، وربما مواصلات بحرية قومية أيضا، وكلاهما يقلل كثيرا من نفقات النقل ورسوم الجمارك أو الأرصفة البحرية في حالة الدول غير البحرية.
وإذا كان ذلك هو الحكم العام، فإن الواجهة البحرية كانت غالبا نقطة الانطلاق للدول الاستعمارية في اتجاهات معينة، مثال ذلك واجهة فرنسا البحرية على البحر المتوسط أدت إلى انطلاقها تجاه شمال أفريقيا واهتماماتها المتزايدة بقناة السويس وحوض البحر المتوسط عامة.
لكن الواجهات البحرية تختلف اختلافا كبيرا في قيمة كل منها، فهناك واجهات بحرية ميتة أو شبه ميتة مثل سواحل الاتحاد السوفيتي أو كندا أو ألاسكا على المحيط الشمالي، وذلك بالمقارنة بواجهات بحرية ضيقة لهذه الدول على بحار مفتوحة الحركة: البلطيق والأسود وبحر اليابان بالنسبة للاتحاد السوفيتي، أو مصب سانت لورنس وقناة الهدسن، موهوك وساحل كولمبيا البريطانية بالنسبة لكندا.
وعلى هذا فإن الواجهة البحرية لا تقاس أهميتها بطولها، بل بقيمتها المتعددة الأطراف - بحار خالية من الجليد، وتطل على مسارات الحركة البحرية التجارية العالمية - ومن ثم فإن معظم واجهات الدول على المحيط الأطلنطي أهم من واجهاتها البحرية الأخرى إن وجدت، مثال ذلك واجهة المكسيك والولايات المتحدة على الأطلنطي أهم من تلك على الباسيفيكي.
ويقودنا هذا إلى تعدد الواجهات البحرية، فهناك دول عظيمة الإنتاج لكنها تعاني من امتلاكها لواجهة واحدة مثل ألمانيا الغربية بواجهتها على بحر الشمال، «ولكن لحظها الحسن فإن هذه الواجهة تطل على مسارات الحركة الثقيلة في المحيط الأطلنطي»، بينما تتمتع فرنسا بثلاث واجهات بحرية مهمة: بحر المانش وخليج بسكي والبحر المتوسط، وفيما بين هذه الواجهات الثلاث نجد الواجهة الشمالية أهم لعلاقاتها بعالم الصناعة الأورو أمريكي، تليها الواجهة المطلة على البحر المتوسط التي تشرف على حركة بحرية كثيفة في ذلك البحر وقناة السويس، وكلها تجلب خامات صناعية ممتازة منذ القدم زاد عليها البترول الخام.
وتبلغ قيمة الواجهات البحرية أقصاها حينما تصبح مهمة لعدد من الدول المجاورة بالإضافة إلى أهميتها بالنسبة للدولة ومصالحها القومية، مثال ذلك الواجهة البحرية اللبنانية التي تخدم لبنان وتجارة الترانزيت لعدد آخر من الدول العربية، أو واجهة تنزانيا البحرية بالنسبة لمصالح زامبيا وزائيري الاقتصادية.
ومن بين عناصر الموقع أيضا المميزات ذات الحدين بالنسبة للدول الجزرية القريبة من الدول القارية الكبيرة، مثال ذلك اليابان وبريطانيا، فكلاهما يتميز بأن موقعه الجزري يعطيه متعة استراتيجية ويجعلهما قادرين على التأثير السياسي والاقتصادي والعسكري في أوقات مختلفة على دول القارة المواجهة، لكن هذه الميزة تنعكس في حالة نمو الدول القارية الكبيرة، وتصبح قادرة على مواجهة هذه الدول الجزرية بالحرب والاحتلال.
وأخيرا فإن من أهم ما يحتويه الموقع هو علاقات الدول المكانية المتجاورة عبر خطوط الحدود، والحدود تثير دائما مشكلات الدفاع والهجوم والمراكز الاستراتيجية والعلاقات الاقتصادية بين الجيران، ومن ثم فإن الحدود دائمة التغيير مع نمو سيادة الدولة أو ضياعها، وخير مثال لذلك هو دولة بولندا التي تغيرت حدودها كثيرا خلال القرون الماضية والقرن الحالي، وكذلك حدود فرنسا وألمانيا المشتركة، وحدود يوجسلافيا وإيطاليا والنمسا.
حجم الدولة
لا شك أن لمساحة الدولة ميزة استراتيجية خاصة وميزات اقتصادية عامة؛ فالدولة ذات المساحة الكبيرة تتصف بمميزات عسكرية تجعل غزوها واحتلالها صعبا للغاية، مثال ذلك الصين التي حاربت العسكرية اليابانية خلال الثلاثينيات ونجحت بفعل عوامل مختلفة أهمها مساحتها الكبيرة، وخير الأمثلة يعطيه لنا الاتحاد السوفيتي ووقوفه صامدا - بمساحته وحجمه الكبير - أمام غزوة نابليون وغزوة هتلر.
كذلك تتميز المساحة الكبيرة بإمكانيات تجنب الضغط السكاني وتوزعه على أقاليم متعددة إذا ما كانت الظروف الإنتاجية تسمح بذلك مثل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وأستراليا، بينما مساحة مصر الكبيرة معظمها - 96٪ - معاد للسكن بدرجات كبيرة.
وأخيرا فإن من مميزات المساحة الكبيرة إمكانية مستقبلية في الحصول على موارد زراعية أو رعوية، أو مصادر للثروة المعدنية مما يشجع على نمو النظام الاقتصادي وقوته.
وفي مقابل هذه المميزات فإن الحجم الكبير قد يعاكس الإشراف المباشر لسيادة الدولة في كل أجزائها الواسعة، ويتطلب لذلك خطوط اتصال كثيرة سريعة، لتمكن السلطة السياسية من القبض على ناصية الأمور، ومن الأمثلة على ذلك ضعف النفوذ الصيني على أقاليمها الخارجية البعيدة مثل منغوليا والتركستان الصينية «سنكيانج».
شكل الدولة
يؤثر شكل الدولة على استراتيجيتها العسكرية سواء للمحافظة على الإدارة القومية أو للدفاع العسكري، فالدولة التي تمتد في صورة شريحة طويلة مثل شيلي أو النرويج تجد صعوبة في الدفاع عن نفسها لطول المسافات التي تقطعها القوات من مراكز التجمع العسكري، وكذلك تجد الدولة التي تمتد أجزاء منها في صورة شرائح طولية داخل الدول المجاورة صعوبة في الدفاع عن هذا الجزء المنعزل، مثال ذلك لسان كابريفي التابع لناميبيا، والذي يقع بين أنجولا البرتغالية وزامبيا في الشمال وبين روديسيا وبوتسوانا في الجنوب. وبالمثل نجد اللسان الأفغاني الشمالي الشرقي الممتد بين الاتحاد السوفيتي في الشمال وباكستان وكشمير في الجنوب وسنكيانج الصينية في الشرق. وبصورة مماثلة نجد ألسنة متبادلة لكل من سويسرا وألمانيا، وسويسرا وإيطاليا، واللسان السويسري في مقاطعة جنيف الذي يتوغل داخل الأراضي الفرنسية، ومنطقة شافهاوزن السويسرية التي تمتد داخل الحدود الألمانية (انظر مجموعة الخرائط 6، 7، 8).
خريطة (8): نماذج للحدود المتداخلة. استخدمت الحدود المتداخلة في أحيان كثيرة كنطاقات سياسية حاجزة بين نفوذ الدول المتصارعة، وأفغانستان كلها كانت دولة حاجزة من هذا النوع بين النفوذ الروسي من الشمال والبريطاني من الجنوب، أما الممر الأفغاني فهو فعلا نطاق حاجز بين الاتحاد السوفيتي والصين وباكستان بما في ذلك كشمير أزاد، وتمثل بنجلاديش - باكستان الشرقية - نمطا من الحدود المتداخلة القائمة على التقسيم السياسي حسب الديانة، وقد أدى ذلك إلى مسطح غريب للدولة - شكلا وحدودا - في صورة جيب متعمق داخل الهند؛ مما أدى إلى مساعدة الهند للحركة الانفصالية على الاستقلال عن باكستان وتكوين دولة بنجلاديش. لاحظ أن بوتان وسيكم ونبال تمثل دولا صغيرة حاجزة بين الصين والنفوذ البريطاني القديم في الهند، وقد ورثت الهند مشكلات هذه الدول الصغيرة بما في ذلك الأراضي التي تدعيها الصين في شمال آسام.
خريطة (9): التركيب السياسي للاتحاد السوفيتي. (1) جمهورية روسيا الاتحادية «وتشتمل على جمهوريات ذاتية مثل جمهورية ياكوتيا، وأقاليم ذاتية الحكم مثل إيفنكي». (2) جمهورية إستونيا. (3) لاتفيا. (4) لتوانيا. (5) بيلوروسيا (روسيا البيضاء). (6) أكرانيا. (7) مولدافيا. (8) جورجيا. (9) أذربيجان. (10) أرمينيا. (11) كازاكستان. (12) تركمانيا. (13) أوزبكستان. (14) كزجيزيا. (15) تادجيجكستان.
خريطة (10): التوسع الإقليمي للولايات المتحدة. (1) الولايات ال 13 الأصلية (1783). (2) التوسع إلى عام 1820. (3) التوسع إلى عام 1860. (4) التوسع إلى عام 1890. (5) التوسع بعد 1890. (6) الحدود المكسيكية القديمة. (7) الحدود المكسيكية الحالية.
ولا شك أن التداخل في حدود الدول - سواء كان في صورة ألسنة أو مناطق معزولة داخل الحدود الأخرى - يؤدي إلى ضعف عام في الدولة في تلك المناطق الهامشية ما لم يكن السلام مستتبا بحيث تصبح هذه المناطق صعبة الاتصال وذات اتصالات سهلة مع الوطن الأم عبر أراضي الدولة المجاورة، ويتم ذلك باتفاق معين بين الدولتين وخاص بتلك المناطق، أو تتفق عدة دول على تأمين هذه الامتدادات الإصبعية، وبدون شك فإن أحسن أشكال الدولة هو ذلك الذي يتجنب الشرائح الطولية والحدود المتداخلة. (4) الأسس الجغرافية للدولة (4-1) المقومات البشرية
حينما تكلم أرسطو عن الإنسان على أنه حيوان سياسي فإنه قد فتح كشفا هاما في الجغرافيا البشرية؛ إذ عرفنا أن أي مجتمع بدائي يمتلك عناصر من التنظيم الاجتماعي أعقد عادة من أشكال الاقتصاد والحياة البسيطة التي يحياها.
منذ العصور الحجرية عاش الإنسان في عشائر تنتظم فيها روابط المجتمع المحلي التي ترتبط كلها بأصل واحد حقيقي أو أسطوري، وفي بعض الأحيان يصبح المؤسس نصف إله له قوى وطاقات تعمل من أجل إسعاد النسل في حدود وإطار التنظيم المتعارف عليه: وهو تنظيم اجتماعي اقتصادي سياسي ديني معا، وهذه التنظيمات لا تعيش في عزلة دائما، فعند الرعاة تنظم العشائر في وحدات أعلى وأكبر هي القبائل، وبعض القبائل كانت قد تأثرت بالنظام الإقطاعي، وبعضها تعيش بالحكم الأوتوقراطي المتوارث، وبعضها تعيش على أنظمة حكم استشارية «ديموقراطية»، وعند الزراع كان مجتمع القرية هو أول شكل تنظيمي للدولة، يحكمه زعيم أو مجلس رؤساء العائلات.
عدد السكان كأساس للدولة
الدولة تمثل شكلا أكثر تعقيدا من مثل هذا التنظيم، وفي خلال التاريخ زاد عدد الدول باستمرار؛ لأن طموح كل الشعوب كان يؤدي بهم إلى تكوين دولة جديدة عندما يصلون إلى مرحلة معينة من المدنية والقوة، فكلما كان عدد أفراد التجمع كبيرا ونشاطهم متنوعا تشتد الحاجة لتنظيم مركب، وكان الاعتقاد أن العدد الصغير لمجتمع ما يؤدي إلى تنظيم سياسي بسيط يعتمد على النسب والقرابة كالعشيرة والقبيلة، بينما يؤدي التكوين الكبير لمجتمع متجانس سلاليا أو لغويا أو دينيا إلى تكوين الدولة حينما يصل هذا المجتمع إلى درجة معينة من المدنية العليا، لكن الواقع يشير إلى أن وجود الدولة لا يعتمد على مثل هذه العوامل، فالنرويج تكون دولة برغم أن سكانها نصف التجمع السكاني لباريس، وفي نفس الوقت لم يكون الأوكرانيون أو المانشوريون دولا برغم أن تعداد كل منهما يزيد عن 40 مليونا.
السلالة كأساس للدولة
الوحدة - الإثنية - قد تشجع على ولادة دولة، مثل المجر أو بلغاريا أو تايلاند، لكن دولا عديدة تتكون من عدة شعوب وسلالات مثل الولايات المتحدة والبرازيل حيث نجد كافة سلالات العالم متمثلة في مواطني هاتين الدولتين.
كذلك لوحظ أن الدولة حينما تنشأ وتنمو تحاول أن توجد لنفسها طابعا إثنيا أو سلاليا بصورة مصطنعة، وأكبر دليل هو ألمانيا النازية التي ادعت لنفسها سلالة آرية نقية بعد أن كانت ألمانيا قد توحدت في دولة مركزية واحدة منذ 1870.
اللغة كأساس للدولة
وحدة اللغة ليست بالضرورة حافزا لتكوين الدولة، بل إنه من النادر أن نجد لغة واحدة داخل أي دولة مع استثناء السويد أو النرويج أو إسبانيا والبرتغال، وعلى عكسها نجد القطالونية تنتشر في إقليم البرانس الشرقي الفرنسي، والفرنسية توجد في وادي داوستا
ValD’Aosta
في الألب الإيطالية، والفلمنك توجد في شمال فرنسا مرورا بالحدود البلجيكية، وفي أوروبا دول منذ القدم تتكلم لغتين أو ثلاث : بلجيكا فلمنك/والون سويسرا: ألماني فرنسي إيطالي رومانش.
منذ البداية يبدو أيضا أن اللغة لم تكن عنصرا أساسيا في تكوين الدولة، بل على العكس نجد أن تدعيم سلطان الدولة قد أدى إلى توسيع نطاق لغة الحكام أو إقليم الحكم المركزي على حساب بقية اللغات، فانتشار الإغريقية في شرق البحر المتوسط لم يتم إلا بعد تكوين دولة الإسكندر وما تبعها من دول إغريقية كالبطلمية في مصر، وكذلك تبعت اللاتينية انتشار نفوذ وسيطرة روما على بقية إيطاليا التي كانت تتكلم عددا من اللغات كالهندو أوروبية وغيرها، وفي الحرب البونية لم تكن كل قوات روما التي حاربت هانيبال تتكلم اللاتينية.
كذلك نلاحظ تغيرا في اللغة مرتبطا بتغيرات الحدود، فالفرنسية انتشرت شرقا حينما امتد نفوذ الدولة إلى الشرق، ففي نهاية العهد الكاروليني (القرن 5 - 10 - شرلمان القرن 9) كانت حدود اللغة الألمانية والفرنسية غرب نهر الميز وجنوب السوم، وفي القرن 16 وما بعد حرب الثلاثين عاما تقدمت الفرنسية بقوة صوب الشرق والشمال الشرقي في اتجاه اللورين والألزاس والفلاندرز، وفي العهد الكاروليني أيضا كانت الحدود الألمانية في الشرق تقف عند نهر الألب والسالي، ثم زحفت بعد عدة قرون شرقا إلى «الأودر» على حساب السلافية، بعبارة أخرى كان هناك زحف سياسي لغوي من الغرب إلى الشرق في السهل الأوروبي على عكس الزحف الشرقي-غربي البربري خلال نهاية العصر الروماني.
وقد فرضت دولة الصين لغتها ونفوذها وحضارتها على سلالات مختلفة، وبنفس الطريقة انتشرت العربية في مساحات شاسعة من آسيا وأفريقيا، وفي مصر تغيرت اللغة عدة مرات حسب نوع الحكم، فمنذ انتهاء الحكم الفرعوني تحولت إلى الإغريقية ثم القبطية في العهد الروماني ثم العربية. وفي العادة لا تمتد مساحة اللغة بنفس السرعة التي تمتد بها مساحة الدولة، والدول الكبرى القديمة كانت تتكون أصلا من عدة شعوب ولغات، كالإمبراطورية الفارسية أو الرومانية أو العربية، وغالبا ما يستخدم المهزومون لغة الحكام، ولكن في أحيان أخرى نجد العكس وتنفصل الأمم عن بعضها غالبا باستخدام لغات منفصلة، خاصة إذا كتبت هذه اللغة. وكثيرا ما يتسبب الوطنيون أو الكتاب والأدباء في فصل لغة عن أخرى أو تحويل لهجة عامية إلى لغة قومية مثل الإيطالية التي نشأت كلغة كتابة بعد جهود عدد من الأدباء أهمهم الشاعر المشهور دانتي الليجيري.
الدين كأساس للدولة
لم يكن الدين أيضا عاملا موحدا لنشأة الدولة، فالدولة العثمانية كانت تمثل الخلافة الإسلامية، لكنها كانت تحكم رعايا مسيحيين ويهودا، ولا شك أن بعض الدول حاولت أن تجعل الوحدة الدينية سائدة داخل حدودها كنوع من تدعيم السلطة، لكن ذلك لم يكن تاما ولا ناجحا، ففي العصور الوسطى حاولت بعض دول أوروبا أن تكون موحدة دينيا أمام موجة الإصلاح الديني وظهور البروتستانتية، لكن كان على هذه الدول في النهاية أن تتقبل وجود عدة أديان ومذاهب كما هو الحال في سويسرا.
وخلاصة القول أن الإمبراطوريات التاريخية الكبرى (الرومانية - العثمانية - العربية - النمسا والمجر) كانت تضم داخل حدودها متجمعات مختلفة سلالية ولغوية ودينية. (5) أين تنشأ نواة الدولة جغرافيا؟
بعض الدول لا تنشأ في الأصل في مناطق جغرافية محددة، فبعض المناطق تصبح مهدا لدولة تقوم بالتوسع فيما بعد في الجوار، وبعض أشباه الجزر كانت أيضا مهيأة لقيام الدول، خاصة إذا كانت محمية بالجبال التي تعزلها عن الخارج، كإسبانيا وإيطاليا والهند. وفي بعض الأحيان قوى الإنسان صناعيا الحواجز المانعة بأسوار من الحجر أو الطين المجفف، كذلك أقدم دول العالم قامت في وديان محمية مع مجار أو مجرى نهري دائم، كمصر والعراق والسند والصين في هونان وشنسي؛ إذ نشأت جميعها في مناطق جافة أو في أماكن تحيط بها الصحارى على ضفاف الأنهر كالنيل والفرات والسند وهوانجهو.
مع ذلك فليس مجرد وجود الحواجز المانعة مؤديا من تلقائه إلى نشأة الدولة، فلم تنشأ أية دولة في المناطق القطبية أو التاييجا، فالعزلة الشديدة وقلة السكان وتبعثرهم ومرحلة الاقتصاد المتخلفة لم تؤد إلى نشأة مثل هذه الدول الشمالية، وعلى عكس ذلك نجد مناطق محدودة قد شاركت فيها أكثر من دولة، فجزيرة هسبانيولا تضم جمهوريتي هايتي والدومنيكان، وأيرلندا ليست كلها دولة واحدة واسكندنافيا تضم السويد والنرويج، وأيبريا تضم إسبانيا والبرتغال، مقابل ذلك تمتد إيطاليا بعد شبه الجزيرة لتحتل سهل لمبارديا الغني وتصل إلى الألب، وهو جزء من وسط أوروبا، طبيعيا وحضاريا، ولهذا فالدولة لا تحتاج إلى سلالة أو لغة أو دين واحد لنشأتها، وبالمثل لا تحتاج إلى وحدة إقليم واحد، فكثير من الأمم تنشأ وتنمو على حدود المدنيات المختلفة حيث نجد موارد اقتصادية مختلفة عن بعضها ومكملة لبناء الدولة، كما أن نطاقات الاحتكاك توجد بين سكان السهول والجبال، أو الزراع والبدو، أو بين مجتمعات التجارة على ضفاف الأنهار أو شواطئ البحار وسكان المناطق الداخلية، أو بين سكان الغابات وسكان الإستبس والسفانا، أو بين رعاة السفوح العليا وزراع الوديان السفلى.
يقول بلوتارخ إن دولة أثينا نشأت بعد الاضطرابات التي حصلت في عام 612ق.م نتيجة لتفاهم سياسي اجتماعي، وبالارتباط بالتقسيم الجغرافي لإقليم أتيكا
Attica ، وقد أدى هذا إلى تجمع رعاة السفوح العليا - فقراء يرغبون في إنشاء حكم ديموقراطي - مع الزراعيين في السهول - الذين يضمون معظم الأسر الغنية ويميلون إلى حكم أوليجاركي - مع بحارة الساحل وسماكين وتجار كانوا يريدون ويسعون لتحقيق نوع من الحكم الوسط بين الطرفين، وإن كانوا أميل إلى تأييد نمط حكم ديموقراطي، والسؤال هو: كيف يمكن ربط السكان الذين ينتمون إلى ثلاث مناطق جغرافية ربطا سياسيا برغم تفرقهم في تركيبهم السياسي الأصلي؟ إن بعض الدول كروسيا والصين نشأت عند مناطق التقاء الزراع ورعاة الحيوان، فعاصمة الصين ومركزها السياسي كان دائما قرب حافة الإستبس والزراعة، وذلك لكي يواجه الحكام برابرة الغرب والشمال ويحمون الزراع في الجنوب والتجار، وكانت العاصمة إما
Si-Ngan
أو
Lo-Yang
أو بكين، وفي هذا النطاق الحيوي بني السور العظيم بين عامي 214-204ق.م.
هناك دول أخرى قامت عند التقاء طرق التجارة التي تأتي بموارد ومصادر مختلفة، ففي آسيا نشأت إمبراطورية المغول في القرن 12م على طريق القوافل الذي يربط الصين وأوروبا إما عن الطريق المرتفع الذي يخترق بوابة زونجاريا، أو بحذاء طريق القوافل من بكين إلى أورجا - شينا - أركوتسك. هنا نشأت إمبراطورية جنكيز خان ثم توسعت شرقا إلى الصين وغربا إلى أوروبا، حيث تقع عاصمته كاركوم على المجرى الأعلى لنهر أوركهون
Orkhon
وقد أصبحت مركزا سياسيا هاما في القرن 13م.
وفي أوروبا نشأت في القرن 15م دولة برجانديا على طول الطريق العابر على وادي الساءون عند تقاطع طرق المتوسط والفلاندرز والمانش وجنوب ألمانيا.
كلما استطاعت الدولة أن تتكامل وتضم نشاطات اقتصادية مختلفة، فإن احتمال بقائها فترة زمنية كبيرة هو احتمال كبير، فالدولة التي ترتبط بنشاط واحد تمر بمخاطر الضعف والتمزق، ويمكننا ملاحظة أن الإمبراطوريات التي أقامها الرعاة لم تعمر طويلا كما هو الحال بالنسبة لإمبراطوريات الزراعة، فقبائل الرعاة الذين يجبرون على التنقل من مراع إلى أخرى موسميا لا يمكن أن يرتبطوا بالأرض، ولا يعلقون أهمية خاصة لحدود الإقليم كما يفعل الزراع حين يرتبطون بالأرض، ولهذا فإمبراطوريات الرعاة كانت عبارة عن دول ذات حدود متغيرة متذبذبة وفي نزاع دائم ولا تقوم إلا باستمرار وجود القوة العسكرية، بينما عاشت الدول المستقرة برغم هزائم عنيفة منيت بها، وعانت اقتطاع بعض أراضيها دون أن تفقد شخصيتها وكيانها، في حين كان يكفي لكي تنهدم ممالك الرعاة وإمبراطورياتهم حصول بضع هزائم حاسمة.
وصحيح أن الزراعة هي رمز الاتحاد بين الإنسان والأرض، وبذلك فهي عنصر قوي في بناء الدولة، إلا أن ذلك لا ينطبق على كافة أنواع الزراعة، فالزراعة المدارية الواسعة التي لا تأخذ في الحسبان عمل مدخرات من الحبوب والغذاء وتترك الإنسان تحت رحمة المجاعات ليست عاملا مساعدا لبناء الدولة؛ لأن الدولة يجب أن تنظم أشكال الإنتاج. (6) تنظيم الدولة
نلاحظ عنصرين في الدولة: (1) تجمع من الناس من مختلف السلالات، لكنهم جميعا عند مرحلة حضارية معينة. (2) مساحة ما من الأرض أيا كانت أشكالها التضاريسية.
والمجموعة الإنسانية هي المسئولة عن تكوين الدولة التي تعتمد على القدرات التنظيمية للمجتمع، ويقول بيربيلو
1
إن الأوروبيين كجماعة نشطة وعاملة ومجدة قد أقاموا في أستراليا وجنوب أفريقيا دولا، بينما السكان الأصليون كانوا غير قادرين على ذلك واكتفوا بحياة عشائرية بائسة! لكن أين دور المستوى التكنولوجي الذي يتناساه بيربيلو؟
ولا شك أن الأرض عنصر أساسي في تكوين الدولة، فلم توجد دولة متكونة من مجموعة من الناس دون أرض قط، مثلا الغجر يعيشون متفرقين محافظين على تقاليدهم ولغتهم وسلالتهم وديانتهم، اليهود كذلك قبل وعد بلفور، وكلاهما لم يكون دولة.
وتجد الدولة في العاصمة تعبيرا عن جهودها للتوحيد، وكذلك في مد خطوط المواصلات وتثبيت حدود لها والدفاع عنها، وعلى عكس ما نظن فليس أول واجبات الدولة أن تضع لنفسها حدودا ومساحة معينة، بل إن هذا يحدث دائما فيما بعد خلق الأمة، فالحدود ليست مماثلة لحدود ملكية زراعية، بعض الجغرافيين وصفوها بأنها نظام الهامش
تقوم بدور الحدود، لكن لها وظائف استراتيجية وارتباطية بغيرها من الدول بواسطة التبادل بين الناس والسلع. (6-1) العاصمة
إن اختيار العاصمة يعكس غالبا التفكير السياسي وراء عمل الدولة؛ لأن وظيفة العاصمة تأمين العمل القومي بسهولة ويسر، ففي الدولة ذات المساحة المتمركزة نجد العاصمة غالبا تحتل مركزا متوسطا، مثل موسكو وبراج وبودابست ووارسو وبوجوتا، أو في الماضي شتوتجارت وهانوفر بالنسبة لدولتي فيرتمبورج وهانوفر وبرلين بالنسبة لبروسيا القديمة، وقد اختار فيليب الثاني مدريد عاصمة له؛ لأنها في مركز وسط هندسي بالنسبة لأيبيريا، وكانت العاصمة قبل ذلك توليدو أو فالدوليد، كذلك كانت واشنطن في الماضي في مركز الولايات الثلاث عشرة سنة 1790، بينما هي اليوم بعيدة جدا عن هذا المركز. وفي دولة ساحلية نجد العاصمة تحتل مكانا مركزيا سهل الاتصال بالبحر، كليشبونة وروما وأثينا وليما وسنتياجو وسدني وكانبرا.
الموقع الغريب للعاصمة يمكن أن يفسر بتميز الإقليم الذي كون بذور الدولة، حينما تمتد مساحة الدولة فوق مساحات مختلفة من المناخ والاقتصاد فإن الحكومة تختار العاصمة في أحسن الأقاليم، ولهذا نجد كل عواصم أقاليم كندا توجد في الجنوب من كيبك حتى فانكوفر، وموقع هلسنكي وستوكهولم وأوسلو وإدنبرة يفسره غنى الإقليم المحدود الذي تقع فيه العاصمة، وكانت عواصم إيران دائما في أحسن مناطق الري: سوسه وبرسيبوليس - قرب شيراز - وطهران، وعواصم أخرى كبرلين وفيينا وبكين تقع قرب الحدود كانت في الأصل قلاعا يعيش فيها الحاكم قرب أماكن الخطر - السلاف بالنسبة لبرلين ، الأتراك لفيينا، المغول والمانشو بالنسبة لبكين.
والفكر السياسي وراء صنع بكين ينعكس في الخطة المنتظمة للمدينة وارتفاع أسوارها القديمة، وتقسيم المدينة إلى ثلاث مدن، كل منها تحميها قلعة. وتقدم العواصم الموانئ نموذجا آخر عكس الموقع المركزي ويوضح أهمية الملاحة البحرية في اقتصاديات الدول، كلندن ولشبونة وأوسلو وبيونس أيرس.
هذا ويتغير موضع العاصمة بتغير الظروف السياسية والاقتصادية، فقد نقلت إيران العاصمة من أصفهان إلى طهران، كما نقل المغرب عاصمته من مراكش إلى فاس ثم الرباط، ونقلت إثيوبيا عاصمتها أيضا من أنكوير إلى أنتوتو إلى أديس أبابا، والأخيرة ثبتت بعد بناء خط حديد جيبوتي. وفي الماضي كان نقل العاصمة يعكس إعادة التوازن في الدولة وتغير مركز الثقل، ففي روسيا كانت العواصم كييف وسوزدال وفلاديمير وموسكو وسان بيترسبورج وموسكو، والسويد أبسالا وسيجتونا وستوكهولم، والنرويج تروندهايم، كونجهالي
Kongehalle
وأسلو.
ثم إن نمو أو تقلص المساحة عادة يؤدي إلى تغير العاصمة، فقد انتقلت عاصمة إسبانيا من يورجوس إلى فالدوليد وتوليدو ثم مدريد، وفي مصر نمت العواصم في الشمال الشرقي مع نمو تجارة المتوسط، وانتقل المركز من ممفيس إلى بوباستس وسايس، وبعد غزو الصين نقل قبلاي خان العاصمة من كراكورم إلى خامباليك
Khamh lik - بكين - الواقعة في قلب المنطقة التي غزاها.
مع تقلص الدولة أو اتساعها تتغير العاصمة، فالأتراك غيروا من قونيا إلى بروسه إلى أدرنه ثم إسطنبول ثم أنقرة، وفي بعض الأحيان يكون نقل العاصمة عائدا إلى أسباب اقتصادية أكثر منها سياسية، مثلا نمو الاهتمامات البحرية في اليابان أدى إلى انتقال العاصمة من
Kamakura
إلى كيوتو ثم طوكيو 1868، وكذلك حلت أوسلو محل تروندهايم على أثر اهتمامات النرويج بالبلطيق وتجارة عبر البلطي، وغير بطرس الأكبر العاصمة من موسكو إلى سان بيترسبورج ليجعل الدولة ذات اهتمامات بحرية، وبعد ثورة 1917 أعاد السوفيت اهتماماتهم بالكتلة الأرضية الشاسعة، ونقلت العاصمة من ليننجراد إلى موسكو وهي أقرب وأسهل اتصالا ببقية مدن الاتحاد.
ونرى اليوم دولا تجعل عواصمها مزدوجة أو تبحث عن مواقع جديدة، فمنذ نهاية الحرب استمر ملوك هولندا في لاهاي وانتقلت الحكومة إلى أمستردام وهي العاصمة القديمة، وحينما نمت مقاطعات ساوباولو وميناس جرايس وبدأت الاستغلال المنتظم لأمازونيا أصبحت ريو بعيدة وهامشية، وبنيت عاصمة جديدة هي برازيليا التي افتتحت 1960. فنقل العواصم هو رمز لعدم الاستقرار، ويشير إلى الحاجة إلى التعديل السياسي أو تغيرات أساسية في اقتصاديات الدولة. (6-2) المواصلات
هي عامل موحد للدولة ومشجع على التكامل بين السكان وشعورهم بالانتماء والقومية إلى جانب الفوائد الاقتصادية والاستراتيجية، فمصر وطريق النيل والرومان والطرق الرومانية أعطت ترابطا للدولة المترامية الأطراف لمدة أربعة قرون، والفرس أقاموا طرقا من سوسه إلى ساردس فربطوا بذلك أطراف الإمبراطورية في الأناضول وإيجه، والأنكا ربطوا كوزكو العاصمة بالأطراف الشمالية والجنوبية للدولة وفتحوا الروابط بين الهضاب العالية وسهول الساحل، وفرنسا نمت بواسطة الطرق المنبعثة من باريس إلى أطراف الدولة.
وفي الوقت الحديث كان للطريق أهميته أيضا، فكولمبيا البريطانية لم توافق على دخول الاتحاد الكندي إلا بشرط ربطها بطريق إلى أوتاوا، وكاليفورنيا لم ينجح ضمها إلى الولايات المتحدة إلى بعد إنشاء سكة حديد «وسترن يونيون» - اسم الشركة والخط ذو دلالة على الهدف الاتحادي الغربي.
وفي آسيا أنشئت خطوط عابرة رئيسية؛ فسيبيريا والقوقاز وقزوين وأرال كان لها دور استراتيجي اقتصادي لتدعيم النفوذ الروسي وتكوين الاتحاد السوفيتي وتدعيم جمهورية روسيا الاشتراكية، وفي المستعمرات أيضا سعت الدول إلى تدعيم وحدة داخلية للمستعمرة بواسطة الطرق الحديدية التي خلقت مشاعر جديدة لدى السكان المختلفين بالانتماء إلى وحدة سياسية معينة فساعدت بدون شك على نشوء الدول الجديدة، وانفصالها عن بعضها رغم أنها تكون أجزاء من وحدات اقتصادية أوسع وأعم كما هو الحال في معظم دول أفريقيا الجديدة. (6-3) مهام التنظيم الداخلي للدولة
وإلى جانب ذلك تهتم الجغرافيا السياسية بدراسة مقدار مجهودات الدولة الداخلية من ناحية فرض نوع معين من الوحدة على الأقاليم التي تضمها حدودها بحيث تصل إلى أقرب الصور من الوحدة الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، كذلك تهتم بدراسة مجهودات الدولة الخارجية، وهي العمل على ولاء سكان أقاليمها المختلفة لها، وتجعل هذا الولاء يطغى على ما قد يشعر به سكان هذه الأقاليم أحيانا من روح إقليمية ضيقة؛ إذ نادرا ما تقتصر الدولة - الوحدة السياسية - على إقليم يسوده التجانس؛ لذا يتطلب من الدولة بذل الجهود لإنشاء وتوطيد أسس الوحدة الوطنية بين أقاليمها المختلفة، وكثيرا ما تقابلها في ذلك مشاكل قد تكون مشاكل طبيعية كوجود جبال أو صحارى أو تباعد أطرافها أو مناطق خالية من السكان، أو مشاكل بشرية مثلا كتعدد النواحي الاجتماعية الثقافية والتاريخية واللغوية والدينية، وتعتبر المشاكل الاقتصادية أبسط من بقية المشاكل الطبيعية أو البشرية الأخرى.
وأهم المشاكل التي تقابل الدولة هي الوحدة السياسية، فالدولة ليست منطقة ذات حدود سياسية اتخذت لها اسما، واحتلت لها مركزا في مصاف الدول، واعترف بها المجتمع الدولي فحسب، ولكنها وحدة تنشأ وتتبلور بفضل توافر عدد من القوى التي تعمل على توثيق العلاقات بين جهاتها المختلفة، وفي مقدمة هذه القوى فكرة الدولة أو سبب قيامها، ومن هنا ذكر راتزل أنه يجب دراسة الفكرة الفريدة المتميزة التي تكمن وراء قيام أو بقاء أي منطقة من الأرض عامرة بالسكان في صورة دولة.
وعلى الجغرافي أن يتتبع مدى تغلغل هذه الفكرة، فقد تشيع في جزء أو عدة أجزاء من الدولة أو تشمل جميع أنحاء الدولة، فحين يشعر سكان منطقة معينة بأن لهم قيما مشتركة في نواح خاصة بهم، ويرون أنه للمحافظة على هذه القيم - بل ونشرها - يجب أن يتحدوا في شكل دولة متحدة ذات حدود سياسية تفصلها عن جيرانها، وتتحول الوحدة السياسية إلى دولة قوية، وقد تؤدي الرغبة في التخلص من الحكم الأجنبي إلى إنشاء دولة بظهور الروح القومية فيها، أو يحدث العكس بحيث إن ظهور الدولة يسبق وجود الروح القومية بين سكانها، والمثال على الحالة الأولى هو أيرلندا التي طالبت بإنشاء دولة خاصة بها، وتمثل الدول الأفريقية الجديدة في معظمها الحالة الثانية.
وقد تختفي الدولة ولكن تظل الروح القومية موجودة بعد اندثارها كما حدث في بولندا، والواقع أن الروح القومية أو الشعور بالوحدة قد لا يشكل كل أجزاء الدولة التي تعينها الحدود السياسية، وهكذا يمكن أن نتعرف على مقومات القومية في منطقة ما أو بمعنى آخر على الأسباب التي أدت إلى قيام الوحدة بين أجزاء الدولة، ثم ندرس مدى تغلغل هذه الروح القومية في أقاليم الدولة المختلفة فنميز بين حدود الدولة وحدود القومية أو الشعب الذي يحس بالروح القومية فيه. ويتصل بهذا الموضوع محاولة البعض تتبع منطقة المركز أو الوسط والدور الذي لعبته في الدولة لا في تكوينها وامتدادها فحسب، بل ظهور وتأصل الروح القومية في جهاتها المختلفة، ولكن ليس من الضروري وجود هذه المنطقة المركزية؛ فأحيانا تتقاسم هذه الوظيفة مراكز متعددة كما في الولايات المتحدة أو تكون مركزا ضعيفا كما في مدريد، ولا يغني ذلك عن ظهور روح الانفصال في المناطق التي تجتذبها هذه المناطق المركزية، ومن ثم نلاحظ أن بعض الدول وحكومتها المركزية تقدر مدى التفاوت في مصالح أجزاء الدولة المختلفة فتعمل على الاعتراف في دستورها بنظم خاصة لكل منطقة حتى تتيح للدولة البقاء والاستقرار، مثل إقليم كويبك في كندا.
هوامش
الفصل السادس
حياة الدول
(1) مقدمة
الدولة - مثل أي كائن عضوي - يجب أن تنمو وتتغذى لكي تبقى، وفي الماضي رأينا كيف اشترك كل من النضوج والقوة باستمرار لضم الأراضي الجديدة للدولة، وعلى العكس كيف يرتبط أو يلتقي فقدان القوة المادية والروحية باقتطاع الأراضي من مساحة الدولة، وفي عالمنا الحاضر أدت المواصلات إلى اعتماد الدول على بعضها، ومن النادر أن نرى دولة مكتفية بذاتها مهما كانت مساحتها، ومن ثم نجد الميل عند الدول المتمدينة أن تندمج في اتحادات أو ائتلافات سياسية أو اقتصادية أو هما معا مع فقدان جزئي للسيادة القومية، وخاصة في مجال الجمارك. (2) النمو في المكان
إن نمو الدولة سواء كان سلميا أو حربيا يعتمد على الوصول إلى هدفين - تصل إليهما مستقلين أو معا - وهما: (1) أرض حرة خالية أو قليلة السكان قادرة على استيعاب هجرة السكان الزائدين. (2) طرق تجارة أو مصادر جوهرية لتدعيم المصادر القومية. ويمكن تحقيق هذين المطمحين بوسيلتين تؤديان إلى تركيبين سياسيين مختلفين: (أ)
يمكن ضم الأراضي المجاورة إلى ما لا نهاية؛ بمعنى أنه يمكن استمرار الضم لمساحات شاسعة قد تغطي قارة أو بعض قارة، ومثل ذلك الإمبراطوريات القارية القديمة، وفي العصور الوسطى الإمبراطوريات الفارسية والرومانية والمغولية، وحديثا الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. (ب)
إيجاد مستعمرات عبر البحار إما بواسطة المستوطنين المهاجرين من الوطن الأم إلى الأراضي الخالية، وإما بإنشاء شكل من الحكم العسكري والتشريعي والاقتصادي يؤمن استقلال السكان في المستعمرات لتنمية اقتصاديات الدولة صاحبة المستعمرات، وبهذه الطريقة نشأت الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى القديمة والحديثة؛ كالأثينيين والبرتغال والإسبان والإنجليز - الكومنولث حاليا - والفرنسيين - التجمع الفرنسي
Communauté .
وعلى وجه العموم نجد أن الدول تنشأ من بدايات صغيرة، فمهد الإمبراطورية الآشورية كان نطاقا ضيقا بين الفرات وجبال زاجروس، ونمت إمبراطورية بابل من مدينة بابل، والرومانية من إقليم لاتيوم، والصينية من واحة خوتان - على رافد من تاريم في تركستان الشرقية - ويقارن
O. Maull
الدول الجديدة الولادة بالخلية الحية نواتها؛ فهي مراكز السكان المستقرين في الأراضي الزراعية، وأعضاؤها الغابات والمراعي والجبال.
هذا ولا تزال القوانين التي تحكم تدهور الدول غير معروفة برغم إمكانية تسجيلها تاريخيا، فالدولة الرومانية سجلت ذروتها في أول العام الثاني قبل الميلاد بضمها داشيا وأطراف سوريا وبلاد العرب وأرمينيا والعراق، ثم بدأ تقطيع أوصالها في آسيا الصغرى، ولم يمض قرنان حتى كانت الإمبراطورية قد انهارت تماما، فقبل هجوم البرابرة كان التحلل الداخلي قد بدأ بمدة طويلة، وفي حوالي عام 235م وتحت قيادة الأباطرة العسكريين، كانت الأقاليم تناضل للحصول على القوى السياسية، وهددت الأطراف القلب، وهذا الاتجاه كان يقوى ويضعف، ولم يؤد تقسيم الإمبراطورية على يد
Dioclet
إلى قلب أو عكس هذا الاتجاه، وفي سنة 395م اتخذت خطوة حاسمة للتجزئة بفصل الشرق الهليني من الغرب الروماني في الوقت الذي كان العدو يعبر الحدود من الشمال والشرق.
وبنفس الطريقة انهارت الإمبراطورية العربية بالتجزئة ابتداء من خسارة الأندلس 755م، والمغرب 790، وبقية المغرب 800، ومصر وبرقة 872-891، وكردستان والفرس 934 ... إلخ.
ومن واقع الملاحظة أن الدول التي تريد أن تبقى كان عليها أن تحصل على مركز هام على طرق التجارة، وأن تقوي بذلك اقتصادياتها، فمعظم الدول حاولت أن تسيطر سياسيا على حقل التجارة وطرقها، وكثير من الدول خصصت جزءا كبيرا من نشاطها للوصول إلى منفذ لها على البحر.
أحد أسباب نمو الميديا
Medes
وفارس هو رغبة الفرس في التحكم في التجارة البحرية التي يحتكرها الإغريق على بحر إيجه، وعلى أثر تقسيم دولة شرلمان حاولت الدول الثلاث التي نجمت عن ذلك الوصول إلى منافذ بحرية، وكذلك ناضلت بروسيا للوصول إلى واجهة بحرية؛ ففي منتصف القرن 17 حصل المنتخب الأكبر
Grand Elector
البروس على ميناء أمدن على بحر الشمال، وفي خلال عام 18ق.م حصل فريدريك الأكبر لبروسيا على ميناء ستتن على مصب الأودر، وعلى جزء من بومرانيا والأودر، وفي منتصف القرن 16م ضمت بروسيا شلزفيج وهولشتين لتتحكم في مداخل البلطيق جنوبي الدانمرك، وللحصول على قاعدة قوية على ركن بحر الشمال.
كذلك ظلت الإمبراطورية النمساوية المجرية تواصل جهودا مستمرة لإطالة واجهتها البحرية بضم البوسنة والهرسك عام 1907، ومحاولة احتلال سالونيكا عن طريق ضم أو على الأقل تحويل الصرب ومقدونيا إلى محمية لها، وهناك أمثلة كثيرة أخرى: بولندا وبلغاريا في أوروبا وبوليفيا في أمريكا، ولكن من الأمثلة ذات الدلالة سعي روسيا المستمر للحصول على منفذ بحري مفتوح متناسب مع حجمها القاري الكبير: أولا زحزحة الأتراك والوصول إلى البحر الأسود، ثم إلى البلطيق معترضين بذلك ادعاءات السويد وألمانيا وفنلندا، وإلى الشمال صوب أركانجل ثم مورمانسك وعلى حساب فنلندا، وأخيرا إلى الشرق الأقصى بالحصول على النطاق الساحلي على بحر اليابان من الصين وبناء فلاديفوستك.
والوصول إلى منفذ بحري يعتبر غالبا خطوة أخرى للتوسع، فالدولة القوية التي تطل على حوض بحري تسعى إلى تقوية قبضتها على كل خط الساحل، وعلى هذا نجد دولة أثينا تمد نفوذها على معظم سواحل وجزر إيجه، واستولى الرومان على كل البحر المتوسط قبل أن يعبروا الألب شمالا إلى الراين والدانوب، وفي عام 11ق.م حكم ملوك الدانمرك معظم سواحل بحر الشمال وامتد نفوذهم على البلطيق في عام 13ق.م، وفي منتصف عام 17ق.م نجح ملوك السويد في طرد الدانمرك وتحويل البلطيق إلى بحيرة سويدية عمليا .
وتميل الدول القوية - أكثر من ذلك - إلى النظر بعين التملك والحيازة إلى البحار التي تعبرها أساطيلها وبحارتها، مثلا بيزنطة كانت تنظر إلى بحر إيجه على أنه ملك لها في عام 12ق.م، وأطلق الرومان على البحر المتوسط اسم «بحرنا
Mare nostrum »، وكان ملوك إنجلترا منذ عام 16ق.م يفضلون أن يسمى بحر المانش أو القنال الإنجليزي باسم «قناتنا»، والمضيق الذي يصل المانش بالشمال له تسميتان: الإنجليزية مضيق ووفر، والفرنسية مضيق كاليه
Calais ، وهذا يرمز بدون شك إلى نظرة الحيازة التي لكل دولة على مياه غير إقليمية واسعة.
وهذه الادعاءات ونظرات الحيازة قد أدت إلى منازعات دولية خطيرة منذ القرن الحادي عشر حتى الآن، وذلك حينما بدأ البرتغال والإسبان محاولة احتكار التجارة البحرية، وعادة تبدأ السيادة على البحار من دول مطلة على بحار شبه مقفلة كالمتوسط ثم تمتد إلى المحيطات المفتوحة، وكانت الجزر تستخدم أيضا كنقطة بداية مثل قبرص للفينيقيين والبطالمة وسالميس للأثينيين وصقلية وكورسيكا وسردينيا للرومان وإيطاليا، «قبرص وكريت لمصر الفرعونية».
وعادة كانت الخطوة الحاسمة هي تأسيس السيادة على الساحل المقابل للدولة البحرية مثل ساحل آسيا الصغرى بالنسبة للإغريق وساحل فينيقيا بالنسبة لمصر وسواحل غرب المتوسط بالنسبة لقرطاجة، وسواحل المتوسط الغربي ثم الشرق بالنسبة لروما.
والخطوة التالية هي إنشاء مستعمرات على الشواطئ الجديدة: البرازيل والبرتغال، جنوب أفريقيا والهولنديين، سواحل أمريكا اللاتينية بالنسبة للإسبان. ولكن هناك دائما خطوات وسط بين الخطوة الأولى (احتلال الجزيرة) والأخيرة (إقامة مستعمرات على السواحل البعيدة)؛ الفينيقيون تقدموا من جزيرة إلى أخرى: صور - قبرص - رودس - كريت - تيرا - مالوس - باروس - مالطا بنتلاريا قرطاجة - صقلية - سردينيا - البليار.
كذلك احتل النورمان جزر فارو وشتلند وأيسلندا وجرينلاند والهبريدز وأيرلندا، والبرتغال بدءوا بالأزورس ثم ماديرا ثم جزر كيب فرد على طريق الأطلنطي التجاري البحري، وفي مرحلة أخرى سيطروا على سيلون - سيريلانكا - ثم ملقا ومولوكوس - مولوقا - بعد أن ثبتوا أنفسهم على بعض من سواحل أفريقيا، واتبع الهولنديون النمط نفسه فثبتوا أنفسهم في ساوتومي وسانت هيلانة وموريشس وسريلانكا وسومطرة وجاوة وتيمور وفرموزا. وبعد أن ورثت بريطانيا الزعامة البحرية من إسبانيا وهولندا استولت على الجزر والمواقع الاستراتيجية وأسست قلاعا لها على البحر المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي.
وفي العصر الحديث نجد توسع الولايات المتحدة كدولة بحرية يبدأ باحتلال جزيرة بورتوريكو وبنما وهاواي وجوام والفلبين.
ولكن في هذا المجال نجد نفوذ الدول الكبرى كثيرا ما يتصارع، أو تنظمه القوانين الدولية التي كان أهم ما فيها الاتفاق على حياد المحيطات، كما حاولت أن تحدد نفوذ الدولة بالمياه الإقليمية، لكنها من حيث الاتساع غير متفق عليها حتى الآن. (3) العوامل الاقتصادية
من الصعب دائما على الدول الكثيفة السكان أن تعيش على مواردها المحلية فقط، فالحاجة إلى أسس اقتصادية أوسع من أرض الدولة حقيقة عرفتها الدول القديمة، فمنذ 4500 سنة مضت توسعت مصر إلى ساحل الليفانت لتأمين مصادر الأخشاب اللازمة لبناء الأسطول المصري، وركزت اهتماماتها على المناطق ذات المظهر الغابي، ومن ثم كان اهتمام مصر الفرعونية كثيفا حول منطقة ساحل لبنان الحالي، ولكي يحصل المصريون على النحاس وعدد آخر من المعادن والأحجار الكريمة وسعوا رقعتهم بصفة مستمرة إلى سيناء منذ عام 3000ق.م ونصت معاهدة فردان 843م التي قسمت مملكة شارلمان - فرنسا، لوترنجيا وجرمانيا - بين أحفاده الثلاثة: شارل ولوثر ولويس، على حدود كل من الممالك الثلاث، تضمن لهم المراعي للخيول في سهول الشمال الطينية، وحقول القمح على التربة اللومية في الداخل، وحدائق الكروم على الراين والبحر المتوسط في الجنوب.
وفي القرن 17م أصرت سويسرا على أن يخصص الفلاحون في الجبال والسهول الأرض لزراعة الحبوب حتى يكفي الإنتاج استهلاك الناس ويقيهم شر المجاعات، وكانت الدولة تلجأ إلى تأمين النقص في أي من أنواع الإنتاج في إقليم من الأقاليم بمد نفوذها على أقاليم أو إقليم إنتاجها المجاور وضمه إليها، وهكذا فإن دولة فنيسيا توسعت على الأدرياتيك من أجل تأمين احتياجات معينة: البوسنة تمدها بالخشب اللازم لبناء الأساطيل، ودلماشيا تمدها بالخيول، والمناطق الجبلية الألبية بالأبقار، وجزر إيونيا بالفواكه والنبيذ.
وقد أسس الأوروبيون مستعمراتهم في القرن 16م لكي تمدهم - تحت إشرافها - بالسكر والتوابل والأحجار الكريمة والذهب والفضة وغير ذلك، وكان المبدأ الاقتصادي وراء الرق هو العمالة الرخيصة، ومن ثم كانت بداية الاحتكاك الأوروبي الحقيقي لأفريقيا الحصول على الثروة البشرية، وهي أعلى مراحل الثروة الاقتصادية . وكان الذهب والفضة والنحاس وراء التوسع الأمريكي صوب الغرب الوحشي، والحاجة للمنتجات المدارية - قطن، سكر، أرز، بترول - كانت وراء اندفاع المستوطنين إلى الولايات الجنوبية المطلة على خليج المكسيك، وطرد فرنسا الإسبان والمكسيك على التوالي منها بالإضافة لوجود الرقيق.
ولقد ازدادت الحاجة بصفة مستمرة إلى مزيد من المنتجات المضافة الجديدة منذ القرن 19م حيث أمكن صنع آلات جديدة بصفة مستمرة في الدول الصناعية تظهر حاجة مستمرة أيضا إلى أنواع مختلفة وجديدة من الخامات لتصنيعها، وحينما بدأت صناعة النسيج تستهلك المزيد من الأصواف التي تقدمها أغنام أوروبا كان الإنجليز أول من فتحوا آفاق المراعي الواسعة في البقاع النائية في المستعمرات كأستراليا وأفريقيا، ويوضح هذا مدى أهمية هاتين المنطقتين لصناعة الأصواف الإنجليزية. ومع تزايد اعتماد السكان الأوروبيين على الصناعة، وقلة وفاء المنتجات الزراعية لحاجاتهم الغذائية وللخامات الصناعية، أصبح من الضروري الحصول على هذه الأشياء من الخارج.
ويكمل الدائرة الاقتصادية أن الخامات المستوردة من المستعمرات تصنع في الدول صاحبة المستعمرات، التي تقوم بتوريد جزء من منتجاتها بقوة ما لديها من حقوق سياسية إلى شعوب المستعمرات، وبذلك تضمن سوقا لهذه المنتجات، ففي عهد المركنتالية - الاستعمار الأول - كان الأوروبيون يتركون للمستعمرات وظيفة مصدر الخامات فقط، ويحتفظون لأنفسهم تماما باحتكار الصناعة، وقد عبر عن ذلك وليام بت
إذ قال: «إذا أخذت المستعمرات الأمريكية - الولايات المتحدة حاليا - على نفسها صناعة الجوارب أو حتى حدوة الحصان؛ فإنني سوف أجعلها تشعر بكل ثقل القوة البريطانية.» إن الحاجة إلى السوق جعلت اليابان تحتل كوريا 1907، لكن كوريا كانت مزدحمة بالسكان، ومع مرور الوقت لم تعد الدول تتحكم في المستعمرات بهذه القسوة، وبعض المستعمرات بدأت تدخلها الصناعة مثل الهند قبل استقلالها - الصلب/النسيج بدلا من الاستيراد - ومع ذلك نرى حتى اليوم أن أقوى وسائل تدعيم الائتلاف بين الدول هو ذلك الذي تخلقه الاقتصاديات التي تكمل بعضها ولا تتعارض فيما بينها. (4) أنواع مختلفة من الدول: تطور الدول
يقول الجغرافيون الألمان إن أوضع شكل للدولة هو ذلك الذي يسمى «دولة الخلية» عند المجتمع البدائي، ويتكون من العشيرة أو القبيلة أو القرية، كما كان الحال عند العشائر الأسترالية أو المجموعات المحلية الأسترالية والقزمية التي تتكلم كل منها لغة أو لهجة خاصة، وعند المجتمعات الزراعية المستقرة في غينيا الجديدة أو ميلانيزيا كانت القرية هي الوحدة السياسية، وفي جنوب الهند كانت القرى داخل الغابات تكون أيضا وحدات سياسية مستقلة، ومثل هذه الأشكال وجدت في أمازونيا وأمريند كاليفورنيا.
وقد تطور هذا الشكل السياسي من مجتمع القرية إلى مجتمع المدن الصغيرة في العهود القديمة الذي استمر حتى القرون الوسطى، ويمتد ظهوره حتى الآن في صورة مبعثرة مثل إمارات أندورا وموناكو وسان مارينو، وعلى نطاق أوسع ليختشتاين ولكسمبورج، وبصورة ما الفاتيكان. وبعد «الدولة الخلية» نجد التجمع السياسي الناجم عن ارتباط عدة دول خلايا في مساحات ذات قدر لا بأس به، فدولة أثينا نشأت عن تجمع ثلاث خلايا سياسية في إقليم أتيكا، وظهرت إسبرطة نتيجة تجمع سبع إمارات صغيرة، وكذلك الحال في دولة هاواي، وتوحيد ميكروتيزيا وروما وممالك أفريقيا الزنجية المختلفة، كلها جاءت نتيجة حروب ضمت أقاليم ودولا أخرى إلى الدول الجديدة.
والدول القديمة كانت أعقد من هذه العملية لضم أجزاء أو إمارات مختلفة، كما كانت تنطوي على أفكار جيدة للتنظيم السياسي، ونحن لا نعرف الكثير عن بدايات ونمو تلك الدول بالدرجة الكافية، وكلها كانت في مناطق جافة واحية الشكل؛ كمصر والعراق والهند والصين، لكنها كلها اتبعت الري في الزراعة بوسائل مبتكرة، ويميز أوتو ماول
O. Maull
عدة أنواع من هذه الدول القديمة التي ظلت طوال تاريخها غير متغيرة البناء برغم اختلاف التفاصيل، ولعلنا نعيد أسباب تدهورها إلى هذه الحالة من الجمود في الشكل البنائي وبالتالي نقص تطورها.
هناك «نوع شرقي» من الدول القديمة ذلك الذي أدى إلى نشأة دول النيل والفرات والسند التي كانت تكون ثلاث بؤرات من الحياة المدنية العالية، وكلها كانت تقفلها وتحميها الجبال والصحارى ، ويقع سهل العراق في وسط هذا العالم الحضاري؛ مصر إلى الغرب والسند إلى الشرق منه. وفي الألف الثالثة قبل الميلاد كانت بابل قد نظمت وسائل للري، وأصبحت مركزا للصناعة صدرت منتجاتها إلى الخارج، وكانت تشتمل على عدة مدن كل منها ممالك مدن صغيرة تحارب بعضها، وكانت تسعى إلى توحيد الدول في دولة واحدة تمتد من الخليج العربي إلى البحر المتوسط، وقد صادفت دول العراق القديم الكثير من التقلبات السياسية من مد وتقلص للنفوذ السياسي في هذه المنطقة، وبوجودها على طول طريق التجارة القديمة بين الشرق والغرب قامت دول العراق بدور الوسيط التجاري في العالم المعروف لمدة 2500 سنة، وبعد أن دخلت المنطقة كجزء من إمبراطوريات أوسع كالفارسية والإغريقية والعربية ظلت في هذا الموقع التجاري العظيم الذي مكن دول العراق من الإبقاء على بناء اجتماعي إقطاعي ديني على أسسه الاقتصادية، وكان مصدر العمل أعداد هائلة من الرقيق ومن سكان الهوامش الذين كانت الدول تجلبهم للعمل في الداخل.
وكانت أعمال إعادة توزيع السكان وطردهم من أراضيهم بداية لحركات من الهجرة لم تكن السلطة السياسية قادرة على الإشراف عليها، فمثلا توغل العرب القادمين من الصحارى الفقيرة إلى داخل الدولة في موجات متتابعة، مما كان يعطي الدولة قوة مضافة لبعض الوقت.
وتعطينا دولة آشور نموذجا آخر لنوع الدول القديمة الشرقية، فقد ولدت في سفوح الجبال الشرقية للعراق، وكانت بذلك مضطرة من البداية إلى الحرب المستمرة مع سكان الجبال وعصابات البدو المتنقلين الذين كانوا يأتون عبر الممرات الجبلية في أرمينيا وميديا، ولهذا السبب كانت حروب آشور مستمرة مع عيلام وأجزاء من أرمينيا لصد هؤلاء الرحل. وعلى عكس بابل، يبدو أن آشور قد بنت دولتها على تركيب اجتماعي قوامه ائتلاف الملاك الأحرار الصغار الذين يكونون جيشا متساندا من الفلاحين الملاك، ويبدو أن الصراع مع بابل لم يكن بغرض ضم مساحات جديدة لآشور، ولكن بغرض الحصول على مركز قوي لبابل في احتكار طرق التجارة الدولية، وقد أكمل سارجون الثاني الإمبراطورية الآشورية التي امتدت فوق مساحة هائلة من الأرض تقدر بأكثر من مليون كم
2
من بابل إلى المتوسط بما في ذلك سوريا وفلسطين وأرمينيا وأطراف فارس الغربية وشمال بلاد العرب وقبرص، وأضاف الملك أسرحدون مصر، وقد غيرت هذه الممتلكات الشاسعة التركيب الاجتماعي الذي كان سببا في قوة آشور - كما حدث في روما - فحل جيش المرتزقة محل جيش فلاحي آشور في الوقت الذي بدأت فيه أملاك آشور الخارجية في الثورة وطرد الآشوريين كما حدث في مصر وميديا وبابل.
أما إمبراطورية ميديا وفارس التي ورثت آشور فقد اكتفت في البداية بنقل مركز الثقل السياسي من سهول العراق إلى الهضبة الإيرانية، وقد سارع الفرس بعد ذلك بتوسيع رقعة الدولة أكثر من آشور إلى أن وصلوا إلى الدانوب في الغرب، وطوران والسند في الشرق، وفي عصر ازدهارها بلغت فارس من الدانوب إلى السند ومن وسط آسيا إلى برقة في مساحة زادت عن خمسة ملايين كم
2 - أقل ب 30٪ عن مساحة الولايات المتحدة حاليا.
أما مصر فقد نشأت في مهد زراعي خصيب بين البحر الأحمر والمتوسط وعلى طريق التجارة بين الهند وبلاد العرب والمتوسط، وقد استفادت من ضعف دول العراق فاتسعت حدودها وفرضت سيادتها على سوريا ووصلت إلى الفرات في عهد تحتمس الثالث، إلا أنها في المجموع لم تشارك تماما في طريق التجارة الدولي لموقعها المتطرف وقبعت في الوادي الخصيب المحمي، فاستمرت حضارتها أزمانا أطول ولم تمد نفوذها إلا في أوقات معينة - أفريقيا كانت الاتجاه الحقيقي عبر النيل.
وفي البنجاب والسند نما مهد حضاري آخر كان يمتد تحت تأثير الحضارة الغربية - العراق - ثم الشرقية فيما بعد - الصين والهند - وتحت شكل البناء الاجتماعي الطبقي لم يمتد نفوذ حضارة السند كثيرا خارج منطقة النشأة، ومع ذلك كانت هذه الحضارة مكان نشأة لعدد مؤقت من الدول في جنوب شرق آسيا أدت إلى توسيع النفوذ الهندي الحضاري إلى أعتاب الحضارة الصينية. في القرن الأول الميلادي أصبحت مملكة
Unan
على الميكونج الأدنى فرعا مزدهرا للحضارة الهندية، وفيما بعد كانت مملكة
Champa
التي استمرت من القرن 2 إلى القرن 15م حتى تغلبت عليها مملكة أنام، وفي الوقت نفسه نمت ممالك برما و
وكانت طبقة الحكم فيهما وحياتها هندية، فهذا الاستعمار الحضاري المشابه للإغريقي قد أكمله في القرن الأول م إنشاء مملكة
Majapahit
التي احتلت سومطرة وجاوة ومعظم إندونيسيا الحالية، وفي منطقة الهند الصينية انصهر العنصر الهندي خلال القرن 13م بواسطة غزو التاي في المنطقة الوسطى والغربية، والأناميين في المنطقة الشرقية.
النوع الثاني من الدول هو نوع البحر المتوسط الذي يمثله كل من الإغريق والرومان، وكانت إمبراطورية الإسكندر مشابهة في الشكل للإمبراطوريات الشرقية، لكن البناء الاجتماعي مختلف، فبدلا من طرد السكان بدأ بناء المدن التي ساعدت على اندماج الحضارات ونشر المدنية الهلنية، ولمدة ألف سنة ظلت سوريا ومصر وآسيا الصغرى جزءا من حضارات البحر المتوسط، وأصبحت الإسكندرية وأنطاكية مدنا إغريقية مزدهرة أكثر من بعض المدن الإغريقية مثل كورنيث وأثينا ذاتها، ولم تغير هذه المناطق اتجاهها الحضاري إلا بعد انتشار الإسلام وتعريب المنطقة.
ولقد قامت الدولة الرومانية أيضا على أساس حضارة المدينة المتكونة من المواطنين الأحرار، وكان الجيش يتكون من هؤلاء أيضا ومن المزارعين المواطنين الأحرار، ومما دعم الإمبراطورية سيادتها على البحر المتوسط وطرق التجارة وبناء الطرق البرية، وقد انتشرت روما على مساحة قدرها حوالي خمسة ملايين كم
2 ؛ أي أقل بقليل من إمبراطورية الإسكندر، وقد انتشرت أيضا خارج حدود البحر المتوسط إلى وسط أوروبا.
الدول الأمريكية قبل كولمبس
هناك نوع آخر من الدول المنظمة وسط مناطق كثيرة من التنظيم السياسي البدائي، وهي في مجموعها تشابه دول العالم القديم، ومهد هذه الدول كان الهضاب العالية في النطاق المداري الأمريكي، حيث ساعد تعدل المناخ والنمو النباتي المتوسط على الاستقرار الزراعي، كنشأة دولة الأزتك في المكسيك الوسطى والأنكا في الأندييرو، والسمة الأساسية هي بناء عسكري ديني مما يجعلهم مكونين لنظام سياسي اجتماعي شديد الجمود والصرامة، ومن المحتمل أنهم أول من أنشئوا دولا ديكتاتورية يضحى فيها بالفرد من أجل المجتمع، فالفرد كان عنصرا صغيرا في العجلة، وحياته يقررها المجتمع وما يقدمه له من وظائف، هذا النوع الكامل من الدولة الشيوعية بما يضمه في دائرته من سلالات ولغات مختلفة استمر فترة طويلة برغم أنه بني على أسس جغرافية واقتصادية ضيقة.
كانت هذه الدول تدعمها جيوش قوية وسلسلة من الحصون لتأمين الخلايا ، الوحدات المتعددة المتباعدة التي تكون الإمبراطورية، وكانت هذه الوحدات مرتبطة بالدولة بواسطة تركيب اجتماعي يشابه تجمع النمل، يضاف إلى ذلك شبكة طرق واسعة مثل الطرق الرومانية هي التي ترمز إلى إمبراطورية الأنكا، ويضاف أيضا استخدام لغة
Quechua
كلغة موحدة، لكن هذا التركيب الوحدوي الضخم قد أعطاهم مظهرا خادعا للتوحيد والترابط والقوة، فلم تنبع منها وحدة حضارية ولا تقليد قومي أو قوى روحية، لقد هلكت هذه الممالك؛ لأنها لم تتخذ مبدأ تطوريا كان يمكن أن يحقن الدولة بقوى جديدة وتغيرات تركيبية جديدة، ولهذا انهارت عند الضغوط الخارجية انهيارا تاما. (5) إمبراطوريات العصور الوسطى في العالم القديم
بعد سقوط الإمبراطوريات القديمة نشأ نوع جديد من الدول انبثق أساسا من تحرك الناس في صورة موجات من الهجرات الواسعة، ويختلف تاريخ هذه الدول في أوروبا عنه في آسيا.
في أوروبا ظهرت ممالك عديدة هامشية التنظيم سريعة الانهيار مثل القوط الغربيين الذين تحركوا من جنوب فرنسا - تولوز - إلى إسبانيا، والقوط الشرقيين الذين دخلوا إيطاليا قادمين من الدانوب، هذه الدول لم تكن قادرة على التطور أو على أن تؤمن أساسا ثابتا لنموها وبنائها، ومثل ذلك ينطبق على ممالك بورجاندي والأنجلو ساكسون، وكل منها كان يريد أن يمد جذوره إلى الدولة الرومانية وما خلفته من أسس للإدارة والحكم في الميدانين الديني والعلماني، وقد كونت في هذه الممالك عدة خلايا ووحدات طفيلية غير قادرة على استيعاب مواردها الاقتصادية أو الإبقاء على هذه الموارد، ولا على سكانها الأصليين، وذلك لعدم وجود جيش كاف.
ولقد اختفت بسرعة كل القوى والدول الجرمانية في حوض المتوسط بعد غزواتها السريعة للمنطقة؛ لأنها كانت عبارة عن إضافات اصطناعية لمنطقة حضارية لم تكن مستعدة لتقبلهم وهضمهم، وهكذا أيضا كان حال دول الصليبيين في الشرق.
أما في آسيا فقد نشأت دول أكثر استقرارا وأهمها دولتان ذواتا دوام طويل، كما لو أن تقليد الدول الكبيرة قد بقي بين سكان آسيا من خلال البقاء الطويل للدولة الرومانية الشرقية-البيزنطية، ووراء حدود بيزنطة نجح المسلمون في بناء الدولة على المفاهيم الشرقية التي نشرت التعاليم الإسلامية من الملايو وإندونيسيا إلى أواسط أفريقيا، ومن المحيط الهندي إلى أواسط آسيا، هذا البناء السياسي الجديد الذي ما زالت أسسه تعيش معنا قد ارتبط أوثق ارتباط بالخلفيات الدينية، وقد خرج العرب من الجزيرة في اتجاهين عارمين مسلحين بالدعوة الدينية الاجتماعية الجديدة: في اتجاه بلاد فارس ووسط آسيا والهند، وفي اتجاه مصر وشمال أفريقيا وجنوب أوروبا وفرنسا، وبذلك تمت السيادة على نظم التجارة الدولية وطرقها البرية والبحرية، وصحيح أن العرب البدو كانوا طليعة هذا التوسع إلا أن استقرار الدولة الإسلامية لم يتم إلا بناء على إعادة الحياة الاقتصادية الزراعية ومشاريع الري والعمران المدني، وفتح طرق التجارة وبناء الأساطيل.
وبرغم أن دولة الخلافة - وخاصة العباسية - قد اقتبست الكثير من نمط الدولة الشرقية في فارس ومقدونيا، إلا أنها أضافت عنصرا سياسيا جديدا، فقوتها كان مصدرها موقعها الطبيعي بين سهول ووديان البحر المتوسط والصحراء؛ مما أدى إلى توقف غارات البدو التي كانت تقلق الممالك القديمة، ذلك لأن البدو وجدوا أنفسهم جزءا من هذه الدولة، أو هم الذين أسهموا في إنشائها بالنصيب الأوفر، وظلوا حماة هذه الدولة مع ضم التركمان البدو أيضا، وبذلك فإن الدولة العربية عامة هي أول وأقدم تجميع لمجموعتين بشريتين متعاونتين بحكم أسس حياة كل منهما: الرعاة والزراع.
لكن هذا التكامل لم يكن قويا لمدة طويلة، وبذلك عادت المناطق النائية إلى الثورات والانفصال، وظهرت دول صغيرة في أوقات مختلفة.
وفي خارج الدولة الإسلامية الكبيرة الشرقية أو الأندلسية نشأت ممالك أخرى إسلامية مبنية على أسس من التركيب الإقطاعي وحياة المدن: ممالك في نطاق السفانا الأفريقي كالفنج وغانا ومالي وستفاي الفولاني، وممالك محلية: الموسى والماندنجور والبورنه وكانم وباجرمي وواداي ودارفور، وممالك تأثرت بالهجرات والحركات السكانية وبعض التعاليم الإسلامية كالأشانتي واليوربا. وفي آسيا نشأت سلطنات عدة بعد انهيار الخلافة العباسية: سلطنات مكسر وجوا
Sula wesi Gowa
التي انتشرت من لمبوك وزمباوا وقلورس خلال القرن 16-17.
سقطت خلافة بغداد أمام تيار المغول الذين أنشئوا آخر دولة كبيرة قارية الشكل في العالم القديم، ورثتها في الضخامة والاتساع الدولة التركية التي نشأت على أنقاض بيزنطة واحتوت العالم الإسلامي في غرب آسيا وشمال أفريقيا وحوض المتوسط، وكان نظام الدولتين المغولية والتركية قائما على القوة العسكرية وليس له جذور قوية في الأرض أو الناس، وبذلك تحول الترك إلى حكام وإداريين لحياة قبلية أو مجتمعات محلية ذات صبغات قومية قديمة، وقد أدى ذلك إلى تدمير جذور الدولة العثمانية بانفصال الوحدات السياسية الذاتية الواحدة تلو الأخرى.
وفي أوروبا كان التطور السياسي مختلفا، فعلى أنقاض الدولة الرومانية بدأت إقامة الدولة على أسس القوميات بسرعة، معطيا قيمة للدولة بارتباطها بتراث حضاري سيكولوجي واقتصاد مؤسس على أرض الأسلاف والوطن واهتمامات بتطوير الاقتصاد ونظمه، وبرغم شكل إيطاليا الجغرافي كشبه جزيرة ذات حدود واضحة إلا أنها بقيت لفترة طويلة مقسمة مجزأة، القسم الشمالي أصبح جزءا من الإمبراطورية الجرمانية، بينما ظل القسم الجنوبي لفترة طويلة تحت حكم بيزنطة، وإسبانيا هي الأخرى ظلت تحت تأثير الإسلام جزئيا، وكونت مناطق العزلة الجبلية الشمالية في أستوريا وتافارا وأراجون وكاستيل - قشتالة - وليون عدة إمارات مسيحية، ولم ينجحوا في توحيد شبه الجزيرة وطرد المسلمين إلا بعد قرون، ومع ذلك انقسمت إلى دولتين.
أما فرنسا فكانت أسرع الدول في تكوين دولة قومية في انتظام، فعلى عكس الدول التي أقامها البرابرة نجد قبائل دولة الفرانك - الفرنجة - تقيم روابط قوية بالأرض التي نشأت عليها، مثلا أسرة
نشأت في منطقة الميز، كذلك حافظ الفرنجة على روابط وثيقة مع الحضارة الغالية الرومانية والاقتصاد المديني في العالم الروماني، وكانت التوسعات السياسية لدولة الفرنجة غير قائمة على الغزو العسكري فقط، بل مبنية على استعدادات مسبقة بواسطة بناء وحدات من الاستقرار الميروفيني
Merovingian
داخل بلاد الغال، ويفسر هذا التحول السريع للفرنجة إلى المسيحية التي ربطت الغالب والمحكوم معا، ويمكن دراسة التطور السياسي للفرنجة: في البداية عند نشأة القوة الميروفينية أمنت الحكم طبقة من الفلاحين الأحرار، وفي ظل حكم الكاروليني تحولت الطبقة الحاكمة إلى أرستوقراطية علمانية أو دينية لها صفة ملاك الأراضي من الطبقة المتوسطة، وخلال التطور البطيء للفرنجة حصل انشقاق واضح بين الأقاليم الرومانية الصبغة مثل
Neustria
وبرجاندي في جانب والأقاليم الجرمانية الصبغة مثل
Austrasia
وظهر الاختلاف السلالي في الشئون السياسية بوضوح في تخطيط الحدود في الأقاليم، ففي الشرق - وسط أوروبا - ظهرت دويلات سريعة وانهارت، بينما ظلت الدولة لفترة طويلة في الغرب والشمال، وقوي بذلك عنصر سياسي أعد فرنسا لتنفصل عن ألمانيا وإيطاليا. وبين هذه القوى ظهرت دول حاجزة مؤقتة مثل مملكة برجندي والرل في الأوقات التي تصبح فيها الاختلافات القومية صريحة وجادة.
وتلخص هذا بأن الجغرافيا السياسية يجب أن تدرس على ضوء التاريخ، فإننا نكسب صورة مبسطة ومجردة بمقارنة الدولة بالكائن الحي الذي يولد ويعيش ويموت، وله احتياجات ضرورية، فظروف الحياة في الدول الكبرى تقوم تبعا للمستويات المادية والخلقية للمجموعات البشرية والتنظيم العام لعلاقات الناس وحياتهم على سطح الأرض في الأوقات المختلفة، والحقيقة أن كل البشرية يمكن مقارنتها بالكائن الحي، والدولة ليست سوى وسيلة مؤقتة تتغير بتغير الظروف، ووظيفتها في أحيان تأمين السلامة وحماية الوراثة العامة، وفي أحيان أخرى المساعدة على نشر تركيب مادي أو روحي غني «التراث». (6) الدول الحديثة
في الشكل المركب السياسي الاقتصادي الحالي نجد ظروفا مختلفة تماما عن تلك التي سارت في الماضي والعصور الوسطى، فالدولة الحديثة لديها احتياجات جديدة وطرق أخرى لتغطية هذه الاحتياجات مختلفة عما كانت عليه الطرق في الماضي.
فبعض الدول الحديثة تحتل كتلا قارية ضخمة وتشغل مساحات شاسعة داخل حدودها بما فيها من الموارد اللازمة للأمم الكبرى، مثال ذلك الاتحاد السوفيتي والصين، لقد بدأت الصين تبني نفسها في صورة دولة موحدة في القرن الثالث ق.م حينما بدأ أباطرة أسرة هان
Han
في توحيد أقاليم هوانجهو وياتجنسي كيانج وسيكبانج تحت حكمها، وبذلك جمعوا في دولتهم محاصيل النطاق المعتدل - القمح - في الشمال ومنتجات النطاق المداري - الأرز والحرير والسكر - في الجنوب، وداخل الصين التي كان يحميها السور العظيم في الشمال ، أخذ السكان يتنافسون في إنتاج الأرض ويطلبون المزيد من أراضي الزراعة، وكان هذا سهل المنال في النطاق الهامشي بالنسبة لآسيا؛ فأخذ الصينيون يكدحون لإنشاء حقول جديدة في منغوليا الداخلية ومنشوريا، وقد بلغ المهاجرون الصينيون إلى منشوريا أكثر من أربعين في السنوات ال «35» الماضية، وبرغم التهديدات والنكبات التي تعرضت لها الصين إلا أنها استطاعت بطريقة أو أخرى أن تحافظ على كل أراضيها التي تمتد في مساحة تبلغ قرابة 9,8 مليون كم
2
تحت حكم موحد حتى اليوم.
وحياة هذه الدولة تمثل ظاهرة غير طبيعية، فهي تمتد فوق مساحات من النطاقين المعتدل والمداري، نطاقات ممطرة وأخرى شديدة الجفاف، وتشتمل على هضاب وسهول وأنهار عريضة طويلة وأودية نهرية ضيقة ومستنقعات دلتاوية شاسعة وتلال مليئة بالغابات، وتشتمل على عدد كبير من السلالات المغولية الفرعية التي تتكلم لغات مختلفة، ولكن الدولة الصينية قد بنيت على أساس واحد جمع كل هذه المتفرقات: فكرة الوحدة الحضارية. ولقد بقيت الصين حتى اليوم مجتمعا زراعيا شاسعا ريفيا بكل معنى الكلمة، شديد المحافظة، وأحسن مثال لذلك أن الكتابة الصينية - التي ترمز إلى الشيء وليس إلى الكلمة - قد ساعدت السكان على أن يتبادلوا أكثر الأفكار تجريدا وحساسية وأعمق المعاني، وأن يقرءوا نفس الكتاب دون أن يستطيعوا فهم لغة بعضهم المنطوقة.
هذا الترابط الغريب قد قوي أكثر وأكثر بعد 1949 نتيجة وصول الحزب الشيوعي إلى الحكم، الذي كان يحلم بخلق دولة «ديكتاتورية» جماعية يمكن أن يوجه فيها نشاط كل الناس من قوى مركزية، ولكي ينفذ هذا البرنامج حصل الحزب على كل الصناعات الكبرى لكي يتحكم في الإنتاج ويعطي العمالة للناس، وتنتج الصين كميات ضخمة من المحاصيل الزراعية؛ فهي أكبر منتج للأرز في العالم وأول أو ثاني دول العالم في إنتاج القمح، ومع ذلك تكاد لا تكفي الاستهلاك الداخلي لسكانها الذين يبلغون حوالي 650 مليونا، وإلى جانب إنتاج عال للقطن والحرير، تمتلك الصين بعض عناصر الصناعة الكبيرة، وعلى الأخص مواردها الهائلة من الفحم الذي لم يكد يمس بعد - إنتاج 1958 كان 150 مليون طن، ارتفع إلى 420 عام 1967.
أما الاتحاد السوفيتي فقد نشأ عن ضم عدة إمارات في النطاق الغابي من وسط روسيا، وأصبح اليوم أضخم دولة في العالم مساحة، تمتد كالقارة من البلطيق إلى الباسيفيك، ومن البحر الأسود إلى المحيط الشمالي، في مساحة تزيد قليلا عن 22 مليون كم
2 - منها 6 ملايين كم
2
تندرا وغابات - ويحتوي على 240 مليونا من الناس من سلالات عدة يتكلمون 140 لغة رسمية، يكون الروس 58٪ من السكان. والاتحاد السوفيتي سياسيا يتكون من اتحاد عدد من الجمهوريات والجمهوريات الذاتية، في داخلها يصبح الناس أحرارا في الإبقاء على لغتهم وتقاليدهم وطرق حياتهم، والرابطة التي توحدهم تبدو في ممثلي الحزب «الوطني» الشيوعي الذي يرأس كل الحكومات المحلية وعضو في الهيئة المركزية في موسكو.
فمنذ 1925 أخذت الدولة على عاتقها التعرف على مساحتها الشاسعة ومواردها واستغلالها، وقد وجدت في سيبيريا أراض جيدة لزراعة الحبوب والقطن، ومراع لتربية الماشية ومناجم كبيرة للذهب والحديد والفحم والبترول ومعادن أخرى عديدة، وهي واحدة من أكبر اثنين في إنتاج القمح في العالم، وتفوق الدول في إنتاج سكر البنجر، وتلي الولايات المتحدة
USA
في إنتاج الفحم والمعادن الحديدية، وثالثة دول العالم في الألومنيوم، والثالثة أو الرابعة في إنتاج البترول، وهكذا تمتلك من الموارد ما يمكنها من الانعزال عن العالم إذا رغبت في ذلك، ولا تزال التجارة السوفيتية محدودة، وتستهلك كامل إنتاجها من القمح الذي كان الصادر الأول في العهد القيصري، وتصنع منسوجاتها من مواردها المحلية، وكانت لفترة مستوردة للآلات، ولكنها اليوم تمتلك صناعة معدنية قوية، يمكنها أن تغطي احتياجاتها من الجرارات الزراعية والقاطرات والقضبان الحديدية والطائرات والسيارات، وبدأت تجد لها سوقا لبعض هذه المنتجات الصناعية، وتعتمد الدولة على قوتها الاقتصادية لتحسن تجارتها الدولية أكثر من محاولة مد نفوذها السياسي.
ولقد أدى إنشاء الدول الشيوعية - جمهوريات الشعب الديموقراطية - في أوروبا الشرقية والصين إلى تسهيل التبادل التجاري السوفيتي مع هذا الجزء من العالم، ويمكنها أن تحصل على الفحم من «بولندا» والبترول من «رومانيا وهنغاريا» ومصنوعات «تشيكوسلوفاكيا»، وتجد سوقا لمنتجاتها الحديدية والصلب في الصين، ولو كانت قد استطاعت أن تجذب الصين إلى اتحادها ، لكنا قد شهدنا أكبر وأقوى دولة قارية في التاريخ. وقد كان نموذج يوجسلافيا دليلا على أنه بالإمكان اتباع المبادئ الشيوعية دون الاندماج في نفوذ الاتحاد السوفيتي الاقتصادي، ولقد قلت الروابط الاقتصادية الملزمة بين الاتحاد والدول الأوروبية الشرقية في السنوات الأخيرة، كما أن الصين تتقدم بخطى هائلة نحو التصنيع والإنتاج الصناعي، ويمكنها أن تنافس السوفيت في سوق الشرق الأقصى بسهولة، وهو بذلك يضع حدا للتوسع السوفيتي.
وتعطينا الولايات المتحدة نموذجا آخر للدول الاتحادية وتوسعها، فحتى 1790 كانت هناك الولايات الثلاث عشرة التي استقلت عن بريطانيا، وكلها على الساحل الشرقي يحدها غربا سلسلة الأبلاش ووادي أوهايو، ثم أخذت تتوسع تدريجيا فوصلت إلى المسيسبي في ثلاثين عاما، ومن ثم إلى الباسيفيك في ستين سنة أخرى، وقد تم ذلك بخلق «35» ولاية جديدة تحدها حدود هندسية، سبع منها كانت أجزاء من المكسيك، وقد ظلت الدولة تتكون من «48» ولاية حتى 1945 حين ضمت هاواي وألاسكا، وهكذا نجد الدولة تشغل رقعة تبلغ مساحتها 7,8 ملايين كم
2
منها أكثر من خمسة ملايين كم
2
في صور كتلة أرضية متصلة، ويشغلها أكثر من مائتي مليون شخص معظمهم نتيجة تاريخ طويل - نسبيا - من الهجرة المفتوحة من الدول الأوروبية بين 1880 و1914 قاموا بعمليات الاستيطان الهائل الزراعي والرعوي والصناعي، ونتيجة لهذا تتصدر الولايات المتحدة العالم في معظم أشكال الإنتاج: الفحم والحديد والبترول والنحاس والقطن والحبوب، وكميات كبيرة من اللحوم والألبان والسكر والفواكه، وقد سمحت هذه الموارد الضخمة بأن تعتمد الدولة على نفسها وبدون تفكير في الاقتصاد من ثروتها الهائلة، وحتى عام 1890 كانت الدولة منكبة على أمورها لا تعنيها أحداث العالم الخارجية كثيرا باستثناء منع أوروبا من الحصول على مستعمرات أو على أي نفوذ اقتصادي في القارة الأمريكية.
لكن في الخمسين سنة الماضية أصبحت أمريكا دولة صناعية كبيرة، وكان عليها أن تنظر في الخارج إلى الأسواق، كما كان عليها أن تبحث في الخارج عن عدد من الخامات والمواد الأولية مثل المطاط والقصدير والبترول، وقد أدى هذا الاتجاه لتدعيم روابطها التجارية مع مناطق الكثافة السكانية والأسواق الكبيرة في الشرق الآسيوي، فضلا عن أمريكا اللاتينية غير الصناعية، رغم أن مستوى حياتها المدنية يؤهلها لأن تصبح سوقا رائجة للمصنوعات الأمريكية.
وأدت هذه الاتجاهات إلى تأمين مركز وخطوط التجارة مع أمريكا الجنوبية، واشترت جزءا من الدانمرك في الأنتيل وحفرت قناة بنما على أرض تنازلت عنها جمهورية بنما، وقد ساعدت هذه القناة الأمريكيين على أن يفرضوا سيادتهم واحتكارهم على التجارة التي كانت بريطانيا تحتكرها مع كولمبيا وإكوادور وبيرو وشيلي. تضاعفت تجارة أمريكا مع أمريكا الجنوبية خمس مرات خلال ربع القرن الماضي واستثمرت البنوك الأمريكية رءوس أموال ضخمة في المزارع الاحتكارية (بن - كاكاو - فواكه) والمناجم والمصانع والسكك الحديدية، وشبكة الطيران الأمريكية كثيفة واحتكارية حول أمريكا الجنوبية.
ولقد اقترحت أمريكا أكثر من مرة دمج كل دول الأمريكتين في اتحاد اقتصادي، ومثل هذا يؤدي إلى إنشاء اتحاد أمريكي هائل تكمل فيه أمريكا الجنوبية بإنتاجها المداري والحيواني والزراعي التكامل الاقتصادي الأمريكي المعتمد على أشكال الإنتاج الأرضية في الأقاليم المعتدلة + مركز الثقل الصناعي فيها، وبذلك فإن هذا التكامل يخدم المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية أكثر من غيره.
أما الارتباطات السياسية الكبيرة كالكومنولث والكومينيثيه فإنهما قد حلا محل الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، وفي نهاية القرن 19 كانت المستعمرات وأصحابها تكون 42٪ من مساحة الأرض و39٪ من سكانها - 22 مليون ميل
2
و850 مليون شخص. ونظام إمبراطورية الاستعمار يختلف كثيرا عن الدول القارية الكبرى: الصين وأمريكا والاتحاد السوفيتي؛ إذ إنه كان يضم أراضي في أية أحجام من «ميناء واحد» (جبل طارق - عدن) إلى قارات بأكملها - أستراليا - وكانت المستعمرات مبعثرة في كل قارات العالم وتبتعد أية مسافات عن الدولة صاحبة المستعمرات، وكانت هذه الممتلكات تنقسم إلى نوعين:
النوع الاستيطاني:
الذي يستوطن فيه مهاجرون من أصل أوروبي كأستراليا وكندا وجنوب أفريقيا.
النوع الاستغلالي:
الذي يسكنه شعوبه الأصلية ويدار استغلال موارده وسكانه من أجل الدولة الأصلية مثل الهند، وكانت أكبر وأغنى المستعمرات في العالم هي تلك التابعة لبريطانيا وفرنسا وهولندا، وكانت تشترك في صفة واحدة هي أن المستعمرات كانت أكبر بكثير من الدولة صاحبة المستعمرات، وتركزت المستعمرات الفرنسية في أفريقيا والهولندية في آسيا والإنجليزية انتشرت في كل القارات. وقد تقسمت هذه الإمبراطوريات فيما بعد بواسطة الثورات الوطنية وبوصول بعض المستعمرات المستوطنة إلى مرحلة الدومنيون مثل كندا وجنوب أفريقيا وأستراليا ، ولقد تأثر الكومنولث من هذه التحولات التي أحاطت بكل المستعمرات، وكانت الرابطة البحرية هي التي اعتمدت عليها بريطانيا في ضم هذه الرابطة: خطوط بحرية منتظمة وقواعد استراتيجية في الجزر أو المضايق ومحطات للبرق والفحم، وتنقسم هذه الرابطة سياسيا إلى خمسة أقاليم دومنيون استقلت فيما بعد إلى دول ذات سيادة، ودول ذاتية الحكم كاتحاد ماليزيا وسيرلانكا، ومستعمرات تحت الإدارة البريطانية المباشرة، ولقب ملك بريطانيا - تنازل عن لقب إمبراطور الهند - لم يكن معترفا به في كل دول الكومنولث، وهي فعلا رابطة حرة بين دول ذات سيادة، ويعقد في لندن أو أي مدينة كبرى اجتماعات دورية يحضرها ممثلو دول الكومنولث ويرأسها واحد من رؤساء الوزارات، وذلك لدراسة المشكلات الخاصة بالدفاع والتراث المشترك.
خريطة (11): نمو القوى الاستعمارية الأوروبية 1700م. والموقع المركزي للدول المقاومة للاستعمار وخاصة الدول العثمانية.
ومنذ 1958 تحول الاتحاد الفرنسي إلى الرابطة الفرنسية، وفيما قبل الحرب كانت الإمبراطورية الفرنسية تشتمل على عدد من المحميات، دول وطنية احتفظت بأشكال الحكم فيها، لكن يسيطر عليها المقيم الفرنسي، مثل تونس والمغرب وكمبوديا وأنام ولاووس، وقد تحولت هذه المحميات بشيء من السهولة إلى دول مستقلة مع الاحتفاظ بروابط قوية ثقافية واقتصادية مع فرنسا، وكان هناك أجزاء أخرى من الإمبراطورية الفرنسية في صور مختلفة سياسيا، بعضها أصبح أجزاء من محافظات فرنسا عبر البحار، سكانها لهم نفس حقوق الفرنسيين، وبعضها كان يصطبغ بالحكم الذاتي في درجات مختلفة، وأيا كان الشكل السابق فكل هذه الأقاليم قد اختارت الانضمام إلى الرابطة الفرنسية باستثناء غينيا التي انفصلت عنها، وتنص لوائح الرابطة على أن رئيس الجمهورية الفرنسية هو أيضا رئيس الرابطة وإنشاء مجلس منتخب دائم للرابطة مقره باريس، بينما تعقد مؤتمرات دورية مشابهة لمؤتمرات دول الكومنولث في إحدى عواصم الرابطة ويحضره رؤساء وزارات الدول أو ممثلوهم.
ويرى بعض الكتاب أن الرابطة الإنجليزية أو الفرنسية كانت حلا موفقا، جمعت بين الرغبة في الاستقلال من جانب المستعمرات والإبقاء على العلاقات الوثيقة الاقتصادية والسياسية، وبهذا نجد فارقا بين تقطع أوصال الإمبراطوريات القديمة والحديثة، ويجب أن نضيف إلى ذلك أن علاقات العالم بعد الحرب الثانية وظهور قوى جديدة في الاتحاد السوفيتي والصين والولايات المتحدة وأدوارها في العلاقات الدولية قد ساعد على سرعة استقلال المستعمرات + تطورها الاقتصادي الذاتي، تضاف إلى ذلك رغبة بريطانيا وفرنسا في الإبقاء بصورة أو أخرى على حمايتها لهذه الدول الجديدة ومعظمها دول متخلفة ونامية.
وعلى العموم فإن مجالات النفوذ الاقتصادية في الدول الحديثة لم تعد قاصرة على العلاقات القومية الضيقة، بل تعدتها في غالب الأحوال إلى علاقات أبعد من الحدود السياسية للدول الأم ولمستعمراتها، وفي وقتنا الحاضر تسيطر المصالح الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية على الحياة السياسية للدولة أو الاتحادات الدولية، ولم يعد من المستطاع ضم أراض جديدة للحصول على ثرواتها، إن التوسع الاقتصادي يجلب منافع أكثر ومشاكل أقل من الغزو السياسي أو العسكري، ويسهل هذا التوسع الاقتصادي اتجاه كل أشكال الصناعة في الدول الحديثة إلى فرض قواها الاحتكارية على سلع معينة مع استمرار رقابتها وتحكمها على الخامات الأساسية لهذه السلع وعلى وسائل إنتاجها تصنيعا، وأخيرا هيمنتها وسيطرتها على السوق.
وعلى هذا الشكل تنشأ الكارتلات والاحتكارات الاقتصادية التي تجمع في يديها السيطرة ورأس المال اللذين هما في أغلب الأحيان أعلى من سلطان الدولة، مثلا واحدة من أكبر الاحتكارات الدولية هي هيئة الصلب الأمريكية
Steel Corporation
تجمع كل وسائل إنتاج الصلب: حقول الفحم - مناجم الحديد - مصانع الكوك - أفران صهر الحديد - معامل الدرفلة - معامل صنع الأنابيب + خطوط حديدية وقنوات وموانئ خاصة بحرية ونهرية، تستخرج 46٪ من خام الحديد الأمريكي، تصنع 38٪ من الحديد الزهر، و40٪ من الصلب الأمريكي.
ويجد الإنسان احتكارات أخرى كبيرة في شتى المجالات الصناعية والاقتصادية، ففي مجال إنتاج البترول وتصنيعه نجد شركات شل «رويال داتش» «أنجلو داتش» وستاندرد «أمريكا» تمتلك حقول بترول في كل أرجاء العالم وشبكة من الأنابيب وأساطيل من الناقلات، وفي مجال الإنتاج تحتكر المجموعات الأمريكية 70٪ وشل 18٪، وتمتلك شركة فورد للسيارات مصانع للسيارات في دول عديدة خارج أمريكا، بالإضافة إلى امتلاكها مزارع مطاط في أمريكا الجنوبية وأفريقيا الغربية، وتمتلك شركة الفواكه المتحدة الأمريكية مزارع ضخمة من الأناناس والموالح والموز في بيرو وإكوادور وفنزويلا وجزر الهند الغربية وأمريكا الوسطى، وتسيطر بأسطولها وشبكتها التلغرافية على أمريكا الوسطى كلها.
لا يوجد في العالم جزء بعيد عن نفوذ الأعمال الاحتكارية التجارية، وتملك الدول الصناعية كل تسهيلات إنشاء المصانع والموانئ والسكك الحديدية في البلاد النامية، ويمكنها أن تبيع وتشتري وتصنع السلع تحت الظروف المناسبة لها، مثلا أنشأت شركة ستاندرد عدة معامل تكرير ضخمة في فرنسا، بينما أنشأت شركة فورد مصانعها في ضواحي لندن وباريس.
وحتى الحرب العالمية الأولى كانت الدول الكبرى تتنافس في إنشاء السكك الحديدية في أراضي الدولة العثمانية (ألمانيا وبريطانيا وفرنسا)، وفي الصين (اليابان وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة)، وفي منشوريا (روسيا واليابان)، واليوم نجد البنوك الكبرى في أمريكا هي التي تمول شركات الطيران في كافة دول أمريكا الجنوبية.
وقد أدت هذه الاحتكارات والمصالح إلى ربط الدول المختلفة وتجميع ميولها وأهدافها - رغما عنها أحيانا - في طريق واتجاه موحد، وبدلا من المنافسة نجد التعاون والعمل المشترك بين الدول في استغلال موارد معينة، وقد أصبحت الدول شديدة الاعتماد على بعضها بهذه الطريقة لدرجة أن أي حرب بينها ستكون مدمرة للمنتصر أكثر من المهزوم.
وبرغم ذلك فإن تجميع الموارد على المستوى العالمي لم نصل إليه بعد، ولا يزال التجميع قاصرا على عدة كتل اقتصادية ذات ارتباطات وثقل سياسي وإقليمي إلى حد بعيد، مثل ذلك كتلة البنلوكس
Benelux
التي تربط بين بلجيكا وهولندا ولكسمبورج، أو منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي
Organization for European Economie Cooperation (O. E. E. C.)
ومجتمع الفحم والصلب الأوروبي
European Goal and Steel Community (E. G. S. C.)
ومجموعة دول السوق الأوروبية التي تتكون من فرنسا وإيطاليا وألمانيا ولكسمبورج وبلجيكا وهولندا، وينتظر أن ينضم إليها بريطانيا والدانمرك، وقد سعت إلى توسيع التعاون الاقتصادي إلى ما وراء الصناعات المعدنية كالنقل والتجارة العامة بواسطة السوق المشتركة.
ويمتد التعاون الاقتصادي الدولي إلى آفاق أخرى غير الجوانب الاقتصادية، مثلا من أجل التقدم في عمليات الطرق الحديدية نجد مجموعات الاتحاد الدولي للسكك الحديدية - مجموعة تنتمي إلى 37 دولة - في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا، وكذلك نجد إكسبريس عبر أوروبا
T. E. E.
ينظم النقل السريع عبر حدود ثماني دول أوروبية من أوسلو في الشمال إلى جنوا وروما في الجنوب، ويمتد التعاون الدولي إلى النقل الجوي حيث نجد رابطة النقل الجوي الدولي
Int. Air Traffic Assoc
والمنظمة الدولية للطيران المدني
Int. Org. Civil Aviation
ولهما لوائحهما التي تلتزم بها 64 دولة.
وتعكس هذه التنظيمات الدولية، على المستوى الاقتصادي، المجهودات المبذولة على المستوى السياسي للأمم المتحدة، وهي في حد ذاتها محاولة لإنشاء برلمان فوق القومية.
وبينما يؤكد الساسة والاقتصاديون أن الدول التي تنتمي إلى هذه المؤسسات الدولية تفقد بعض حقوق سيادتها، إلا أن مثل هذا الأمر يجب ألا يخيف الدول من فقدانها استقلالها أو وحدتها القومية، وقد قال أحد الجغرافيين الإنجليز - مع قليل من الفكاهة - إن المدن يمكن أن تتشابه في نظم إنارتها ووسائل النقل الداخلي فيها وأشكال الخدمات، ولكن لن يؤدي ذلك إلى أن يرتدي سكانها ذات اللباس ويأكلوا نفس الطعام ويستمتعوا بنفس أشكال الترفيه.
الفصل السابع
السكان في الجغرافيا السياسية
تهتم الجغرافيا السياسية بدراسة السكان الذين يدينون بالولاء للدولة وتهتم بناحيتين:
الأولى:
الناحية الحضارية أو الأنتروبولوجية؛ وتشتمل على السلالة والمقومات الثقافية أو الحضارية التي تجعل منهم أمة أو أكثر، خاصة اللغة والدين.
الثانية:
الناحية الديموجرافية؛ وهي تعطي فكرة عن عدد السكان وبالتالي عن مقدار قوة الدولة وحيويتها وقيمتها في المجال الدولي، وهذه الدراسة تقوم على الإحصاء.
أما عن الناحية الأنتروبولوجية فسبق أن أشرنا أن الدولة هي تطور تاريخي بمعنى أن جماعة من الناس التصقت بوطن من الأوطان وكونت شعبا معينا وأقامت دولة، وتطورت تطورا حضاريا أو ثقافيا معينا، وكونت تقاليد خاصة بها أو لهجة مختلفة عن جيرانها، وكونت عاطفة معينة في نفوس أفرادها نحو هذا الوطن بحيث أصبحوا شخصية متميزة تطلق على نفسها اسم أمة، وقد يكون لهذه الأمة دولة أو تنطوي تحت لواء دولة أخرى. (1) السكان حضاريا (1-1) اللغة
وتتمثل مقومات الأمة - وخاصة النواحي الحضارية منها التي أهمها اللغة والدين بجانب الأصول المشتركة - بنسب مختلفة في تكوين الأمم، ويمكننا القول أن اللغة أهم مقومات الأمة والحاجز اللوني أهم الحواجز التي تفصل السلالات بعضها عن بعض، فاللغة العربية مثلا هي الرباط الهام الذي يربط شعوب العرب ويجعلهم أمة واحدة تمتد من المحيط إلى الخليج.
ونشأة اللغة البرتغالية ميزت البرتغاليين وفصلتهم عن الإسبان، وحتى في إسبانيا هناك شبه قوميتين قائمتين على اللغة القطالونية واللغة القشتالية.
في الجزر البريطانية سادت اللغة الإنكليزية على اللغات الغالية القديمة بعد أن فرض الأنجلو ساكسون أنفسهم سادة وحكاما على سكان الجزيرة؛ مما أدى إلى اندثار بعض اللغات الغالية القديمة مثل لغة كورنول. واتفاق المهاجرين الأوروبيين إلى أمريكا الشمالية في لغة واحدة هو في النهاية الأساس الذي تكونت عليه الأمة الأمريكية، وقد عملت القوميات الحديثة التي كونت دولا بعد الحرب الأولى على دعم قوميتها بجعل لغتها هي اللغة الرسمية الوحيدة وفرضها على الأقليات اللغوية والقومية الموجودة داخل حدودها، ونلاحظ أن بعض الدول عملت على إحياء لغتها القديمة كإحياء اللغة العبرية في إسرائيل أو اللغة الكلتية في أيرلندا الحرة، ومحاولة الفرنسيين إحياء اللغة البربرية في الجزائر وإنشاء قومية بربرية تناهض بها القومية العربية السائدة في شمال أفريقيا.
وقد اعترفت بعض الدول بوجود أكثر من لغة بها، ففي اتحاد جنوب أفريقيا تعتبر لغة البوير - وهي لغة هولندية قديمة - اللغة الرسمية بجانب اللغة الإنجليزية، وفي كندا تعتبر اللغة الفرنسية لغة رسمية بجانب الإنكليزية، وفي بلجيكا لغتان رسميتان: لغة الفلمنك ذات الأصل الجرماني في الشمال، ولغة الوالون ذات الأصل اللاتيني في الجنوب.
وتوجد في سويسرا أربع لغات هي: الفرنسية والألمانية والرومانشية والإيطالية، ويصل عدد اللغات أقصاه في الهند حيث توجد أكثر من 200 لغة مختلفة، وفي الملايو اثنتا عشرة لغة آسيوية ومن ثم كان لا بد من
Lingua Franca . (1-2) الدين
رغم أنه عنصر هام في بناء المجتمع إلا أنه في المجتمعات المتطورة ليس عاملا حاسما في تكوين القومية، بل ربما كانت اللغة أبلغ أثرا في التمييز بين الشعوب وتكوين القوميات من الدين، ولا يشذ عن هذه القاعدة سوى اقتران الدين اليهودي بالقومية الصهيونية من ناحية، واقتران الدين الإسلامي بالقومية الباكستانية من ناحية أخرى، وهاتان هما الدولتان الوحيدتان في العالم اللتان تقومان على أساس الدين في الوقت الحاضر باستثناء الفاتيكان، وهي مقر البابا الرئيس الروحي للكنيسة الكاثوليكية في العالم، ولا شك أن العاطفة الدينية تربط الشعوب بعضها بالبعض الآخر عبر الحدود السياسية المرسومة، فهناك عاطفة قوية تربط دول أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية بالدول الكاثوليكية بأوروبا، وللبابا نفوذ سياسي لا شك فيه في كثير من الدول الكاثوليكية مما جعل بعض الدول تعمل على فصل الدولة عن الكنيسة مثل فرنسا، وفي بلجيكا التي حاولت إبعاد الكنيسة الكاثوليكية، غير أن عوامل القومية قد تغلبت في بعض الأقطار القومية على الدين، والإسلام يعتبر قوة دينية كبيرة في العالم، وهو يتكتل وينتشر من المحيط الأطلسي غربا حتى غرب الصين شرقا، ومن البحر الأسود وقزوين شمالا إلى خط الاستواء جنوبا، وهذه القوة نمت بالتدريج من نواتها الأولى في شبه جزيرة العرب، وبعد قرن من الزمان كانت قد امتدت وشملت العالم العربي كما نعرفه في الوقت الحاضر، ومنه انتشر الإسلام بالتدريج شمالا وشرقا في آسيا كما انتشر عبر الصحراء الكبرى في أفريقيا إلى إقليم الحشائش، ومن شرق أفريقيا وجنوب الجزيرة العربية انتشر عبر المحيط الهندي مع التجار العرب إلى جزر إندونيسيا، ولم يعرف هذا العالم الإسلامي الكبير الوحدة السياسية الكاملة في تاريخه الطويل، غير أن أجزاء كبيرة منه عرفت تلك الوحدة في فترات من تاريخها مثلا أثناء الدولة العباسية. ويعتبر العالم الإسلامي بقومياته المختلفة - وهي العربية والإيرانية والتركية والإندونيسية - وحدة ثقافية من ناحية الدين والتقاليد وإن اختلفت اللغات.
ومن الدول التي تكونت في الوقت الحاضر «حديثا» على أساس الدين الإسلامي الباكستان وإندونيسيا، رغم أن إندونيسيا لم تزعم أنها استقلت على أساس الدين، ولكن فكرة باكستان قامت على أساس فصل الأقلية المسلمة الكبيرة التي بلغت 15٪ من سكان الهند بثقافتها ولغتها عن الأغلبية الهندوكية.
إن الدول التي تكون الغالبية العظمى من سكانها - أي 90٪ فما فوق - من دين واحد، لا توجد فيها عادة مشاكل أقلية دينية، فمصر وشمال أفريقيا حتى السودان وشبه جزيرة العرب والدول العربية الآسيوية ما عدا لبنان، وتركيا وإيران وأفغانستان وباكستان وإندونيسيا ذات أغلبيات عظمى إسلامية، وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا وفرنسا وجمهوريات أمريكا الوسطى واللاتينية تتكون من غالبيات كاثوليكية، ودول اسكندناوة وأستراليا وجنوب أفريقيا أغلبيتها العظمى بروتستانتية، أما دول البلقان فغالبيتها العظمى أرثوذكسية.
أما الدول ذات الأغلبية الكبيرة من الناحية الدينية فهي التي يتكون 60-80٪ من سكانها من دين واحد، فالولايات المتحدة الأمريكية توجد فيها أقلية كبيرة كاثوليكية تتركز في شرقي الولايات المتحدة وفي الولايات الجنوبية القريبة من المكسيك، أما في أوروبا فهناك نطاق يعتبر منطقة انتقال بين الدول الكاثوليكية والدول البروتستانتية، وهذا النطاق يمتد من بحر الشمال إلى بحر البلطيق شمالا حتى جبال الألب، وهناك أقلية كاثوليكية في الجزر البريطانية، بينما معظم الأيرلنديين كاثوليك والفلمنك في بلجيكا بروتستانت، بينما الوالون كاثوليك، وهناك أقلية كاثوليكية كبيرة أيضا في ألمانيا.
هذا بينما يوجد 27٪ من السكان بروتستانت في المجر الكاثوليكية توجد أقلية بروتستانتية كبيرة في شمال أيرلندا، أما بولندا فهي معقدة إلى حد كبير فنجد أغلبيتها الكبيرة كاثوليكية ثم 12٪ أرثوذكسية و2٪ بروتستانت، وكان هناك 10٪ يهود ولكن معظمهم هاجر إلى فلسطين. والأقليات الإسلامية الموجودة في أوروبا هي التي بقيت بعد انسحاب الأتراك من البلقان: هؤلاء من السكان المحليين الذين دخلوا الدين الإسلامي أثناء الحكم الإسلامي للبلقان أو من بقايا الحكام والجنود والتجار الذين آثروا البقاء في البلقان واتخذوه وطنا لهم، وأعظم فئة إسلامية في البلقان تتمركز في وسط ألبانيا حيث يكونون 70٪ من السكان يحيط بهم 20٪ من الأرثوذكس في الشمال و10٪ من الكاثوليك في الجنوب، كما توجد أقليات إسلامية قديمة في كل من رومانيا وبلغاريا واليونان وخاصة في مقدونيا، أما يوجسلافيا فهي تشبه بولندا في تكوينها الديني؛ إذ إن الكروات قد تأثروا بالكاثوليك ويكونون 37٪ من السكان، بينما الصرب أرثوذكس، ويضاف إلى ذلك أقلية إسلامية كبيرة تبلغ 11٪ من السكان في منطقتي البوسنة والهرسك.
وعلى العموم يمكن أن نقسم أفريقيا إلى ثلاثة نطاقات: الشمالي مسلم والجنوبي وثني فيما عدا المستوطنين الأوروبيين، والوسط توجد فيه العقائد الثلاث بدرجات متفاوتة.
أما في آسيا فتوجد أقليات مسيحية في دول الشرق العربي، ففي سوريا 20٪ مسيحيون و80٪ مسلمون، وفي لبنان تتساوى الفئات الإسلامية والمسيحية، أما فلسطين فلها وضع خاص حيث كانت نسبة اليهود 10٪ في بداية الانتداب البريطاني ثم أصبحت 30٪ في نهاية الانتداب، وقد زاد هذا العدد نتيجة لسياسة الهجرة اليهودية التي نفذتها بريطانيا في فلسطين، وقد اقتطعت أجزاء من فلسطين تشمل السهل الساحلي والجليل وصحراء النقب ومرج ابن عامر، وكونت ما يعرف بدولة إسرائيل، ولكن عدد اليهود تطور من 386 ألف نسمة 1937 إلى 2376000 إلى 2500000 سنة 1965 وتضم عددا بسيطا من العرب هو 80 ألفا.
وفي بعض الجمهوريات السوفيتية أغلبيات إسلامية كبيرة مثلا 65٪ القزاق - قوزاق - وفي تركستان الروسية 75٪ من السكان مسلمون، أما الصين ففيها أقلية إسلامية تبلغ 20 مليون نسمة معظمهم في الولايات الغربية، وفي جنوب شرقي آسيا 50٪ من سكان الملايو مسلمون و4٪ من سكان الفلبين مسلمون، ويعتبر هؤلاء أطراف الأغلبية الإسلامية المتمركزة في إندونيسيا، والخلاصة أن الدين عامل قوي مرتبط في بعض الأحيان بالقومية، وينفصل عنها في أحيان أخرى، فالقومية الصهيونية دينية في الأصل وهي المسئولة عن إنشاء إسرائيل، أما في البلاد العربية فالثقافة إسلامية والدعوة القومية تقوم على أساس اللغة. (1-3) السلالة
يقسم العلماء سكان العالم إلى سلالات رئيسية لكل منها صفاتها الجسمانية الخاصة، والتي تميزها كمجموعة وتفصلها عن غيرها من السلالات الأخرى، وأهم هذه السلالات البشرية الرئيسية هي القوقازية والمغولية والزنجية بجانب بعض سلالات أخرى ثانوية. وتنقسم السلالات الرئيسية إلى سلالات فرعية عديدة مثلا السلالة الرئيسية القوقازية التي تنقسم إلى السلالة النوردية والسلالة الألبية وسلالة البحر المتوسط.
وقد اختلطت هذه السلالات منذ فجر البشرية بوسائل الاختلاط الكثيرة عن طريق الغزوات والهجرات والزواج، وأصبحنا حاليا لا نجد سلالة بشرية نقية إلا فيما ندر بين أشد الشعوب بدائية وعزلة مثل الأقزام في داخل الغابات الاستوائية، ولا بد أن نميز بين السلالة بمفهومها البيولوجي، وهي عبارة عن جماعة تتصف بصفات جسمانية معينة تميزهم عن غيرهم من الجماعات الأخرى، وبين الاصطلاحات الأخرى اللغوية أو الدينية أو القومية التي حصل خلط بينها وبين مفهوم السلالة، مثال ذلك الاصطلاحات التي انتشرت لفترة من الزمن حول السلالة الآرية أو السامية أو السلالة اليهودية أو السلالة العربية، وهذا خطأ لأن هذه الاصطلاحات - كما سبق وأشرنا - اصطلاحات حضارية «لغوية أو دينية»، ولا شك أن الذين يصرون على استعمال الخطأ لهذه الاصطلاحات هم دعاة العنصرية والقومية السياسية.
والواقع أنه نتيجة الاختلاط الشديد الذي حصل بين السلالات نجد الشعوب مكونة من اختلاط أكثر من سلالة؛ ولذا لا توجد مشاكل سلالية إلا حيث توجد جماعات من سلالات مختلفة يسهل التعرف عليها بسرعة وتعيش معا في دولة واحدة كما في الولايات المتحدة الأمريكية حيث توجد المشكلة الزنجية، وكما في جنوب أفريقيا حيث تظهر بشدة مشكلة الملونين وفي أستراليا قوانين الهجرة القائمة على أساس التمييز العنصري.
المشكلة السلالية في الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية
إن سكان الولايات المتحدة - برغم أن غالبيتهم الساحقة من الأصول الأوروبية - يكونون خليطا كبيرا من السلالات العالمية الرئيسية، فهناك 350 ألفا من سلالة الأمريند - الهنود الحمر - وهم السكان الأصليون لأمريكا والذين أبادت الحروب البيضاء معظمهم، ولكن أكبر المشاكل السلالية هي الناجمة عن وجود الزنوج والمغول والملونين.
والخوف الأكبر للبيض ليس راجعا فقط إلى الخوف من الاختلاف السلالي وفقدان لون البشرة الأبيض والصفات القوقازية الأخرى، إنما أكبر ما يثير الخوف هو أن إزالة كافة أنواع التمييز العنصري سوف تؤدي إلى منافسة قوية لكل الملونين في أشكال الحياة الاقتصادية والسياسية، وبذلك ينزل الأبيض الفقير من مكانته الاجتماعية التي يكتسبها لمجرد لون بشرته.
وفي الولايات المتحدة حوالي 20 مليونا من الزنوج (1960) غير أولئك الذين تسربوا داخل الكتلة السكانية البيضاء، وهم يتمركزون أساسا في عدد من الولايات الجنوبية ويكونون أكثر من ثلث هذه الولايات عامة، بينما تقل نسبتهم إلى مجموع سكان الولايات الأخرى كلما اتجهنا شمالا (انظر الخريطة 8) ويتضح هذا التتابع على الساحل الشرقي بوضوح شديد؛ فنسبة الزنوج في كارولينا الجنوبية 35٪ تنخفض إلى 25٪ في كارولينا الشمالية، وإلى 21٪ في فرجينيا، 16٪ في ديلاور، و8,5٪ في نيوجرسي ونيويورك، و4,2٪ في كونيتيكت، و2,2٪ في ماساشوستس، و0,3٪ في نيوهامشاير ومين.
ويتكون 20٪ من السكان الأمريند والإسكيمو، بينما 32٪ فقط من سكان ولاية هاواي هم من الأوروبيين، وإلى جانب ذلك توجد أقليات صينية ويابانية مركزة في منطقة الساحل الغربي الأمريكي، لكن التمييز العنصري موجه بعنف ضد الزنوج أكثر منه ضد غيرهم، ويرجع ذلك إلى كثرتهم العددية التي تساوي في مجموعها حوالي 10٪ من مجموع سكان الولايات المتحدة.
ولا شك أن مشكلات الأقليات عامة والزنوج خاصة تميل إلى إضعاف التضامن والتواجد السياسي العام في أمريكا، ويرى البيض أن حل المشكلة يكمن في بقاء الزنجي مستقلا اجتماعيا، بينما هو مندمج اقتصاديا في العمل الأمريكي، لكن الزنوج يرفضون هذا الاستقلال الاقتصادي، وتنادي هيئاتهم السياسية المتطرفة باستقلالهم في ولاية واحدة مثل كارولينا وجورجيا.
أما أمريكا اللاتينية فهي تختلف عما تقدم؛ إذ حدث فيها اختلاط كبير بين سلالات متباينة، ويمكن إرجاع عناصر السكان إلى ثلاث مجموعات هي: (1)
الهنود الأمريكيون (الأمريند). (2)
الأوروبيون. (3)
الزنوج.
ويتمركز الهنود الأمريكيون في الجمهوريات الشمالية الغربية من أمريكا اللاتينية حيث كانت تقوم مدنيات هندية قديمة، ففي جمهورية المكسيك كانت حضارة الأزتك وفي جمهورية جواتيمالا حضارة المايا، وفي الإكوادور وبيرو وبوليفيا كانت حضارة الأنكا، والهنود يكونون أغلبية عددية في كل من بوليفيا وجواتيمالا ونصف سكان بيرو ولهم أقلية كبيرة في المكسيك، أما الأوروبيون فأغلبهم من سكان جنوب أوروبا وأقدمهم الإسبان والبرتغال، ويوجد معهم عدد كبير من السوريين واللبنانيين وكذلك في شيلي، وتكاد هذه الجمهوريات الثلاث تكون خالية من الهنود أو الزنوج، ويفوق عدد الأوروبيين فيها عدد العناصر المختلطة «المستيزو»، كذلك يفوق عدد العنصر الأوروبي العناصر المختلفة والهندية في أورجواي وفي كوستاريكا.
أما الزنوج فتركز عددهم في الجمهوريات الاستوائية الحارة في البرازيل وفنزويلا، كذلك في جزر البحر الكاريبي في بنما وجاميكا وهايتي، وتقل نسبتهم في بقية جمهوريات أمريكا اللاتينية، وقد اختلط الزنوج بالبيض؛ لأن البرتغاليين لم ينفروا من الزنوج كما نفر الأوروبيون الآخرون، ويقبل سكان هذه الجمهوريات أصولهم الزنجية بنفس الروح التي يقبل الأمريكي في الولايات المتحدة أصله الإيطالي أو التشيكي، ونشأ عن اختلاط الزنوج بالأوروبيين عناصر المولاتو وعددهم في العالم الجديد حوالي 8 ملايين نسمة، كذلك حدث اختلاط بنسبة قليلة بين الزنوج والهنود والأمريكيين، وحدث اختلاط أكبر بين الأوروبيين والهنود الأمريكيين، والعناصر الجديدة هي التي تسمى بالمستيزو، وتسود عناصر المستيزو في بعض الجمهوريات؛ فهي في بارغواي 97٪ من السكان، وفي فنزويلا ما بين 70 و90٪ مستيزو، وعددهم في أمريكا الجنوبية حوالي 16 مليونا، ويقدر بعض الكتاب نسبة الإسبان والبرتغاليين الخلص بحوالي 10٪ من السكان، وتدل القرائن على أن هذه القارة قد انصهرت فيها عناصر مختلفة واختلط فيها أيضا المولدون، وقد تنتهي هذه العملية بسلالة واحدة تغلب فيها صفات الأوروبيين والهنود الأمريكيين، فتصبح أمريكا اللاتينية المثل الصالح للتسامح العنصري، ولا سيما إذا اقترن هذا برفع مستوى الطبقات الفقيرة التي يحتشد فيها الهنود الأمريكيون والزنوج والمولدون والمستيزو.
الدول الناضجة عنصريا
ونختم هذا الموضوع بالإشارة إلى أن الدول التي تكون من سلالة واحدة قليلة العدد في الوقت الحالي، وتختلف الدول من حيث تجانسها السلالي فقد يكون التكوين للدولة من الناحية السلالية من ناحية تجانسها بسيطا أو ملتئما أو مركبا، فالتكوين البسيط هو الذي لا يلحظ فيه الغريب أي تنافر سلالي في الشعب الذي يكون الدولة، فمثلا المصريون متجانسون أتم تجانس رغم تعدد السلالات التي دخلت في تكوينهم؛ إذ استطاعت البيئة المصرية على مدى القرون أن تتمثل جميع العناصر التي دخلتها بحيث أصبحت جميعا مصرية، وتشبه هذه الحالة أيضا الأمة الفرنسية؛ فهي أمة متجانسة رغم وجود ثلاث سلالات أوروبية رئيسية ممثلة داخلها فقد حدث الانصهار والتمثيل خلال تاريخها الطويل بين العنصر الغالي الكلتي والعناصر النوردية، وامتزجت الثقافات وكونت أصول الثقافة الفرنسية الحديثة رغم وجود عنصر الباسك في الجنوب الغربي والبريتون في شبه جزيرة برتني.
ويتمثل التكوين الملتئم في جمهوريات العالم الجديد؛ إذ من السهل التعرف على عناصر السكان المختلفة دون عناء كبير في أي وحدة سياسية فيه، ويمكن اعتبار البريطانيين تكوينا ملتئما؛ فهناك ثلاث قوميات لكل لغتها المتميزة وهي: الإنجليزية والغالية والاسكتلندية، هذا رغم وحدة اللغة والتقاليد ووحدة المصالح المادية والفرص الواحدة المتساوية أمام هذه القوميات جميعا في العمل والحكم، وكانت كلها عوامل تمثيل قوية تؤدي إلى وحدة قومية واحدة.
أما التكوين المركب فهو لا يميز إلا الدول التي لم تنضج قوميا، وهذا التكوين يشبه تكوين العناصر التي لم يمتزج بعضها ببعض إلى جانب احتفاظ كل منها بشخصيته الحضارية، بل وولائه القومي، ومن ثم كان هذا التكوين مصدر ضعف للدولة، ومن ثم أيضا كانت المشكلة التي يطلق عليها مشكلة الأقليات. وتنقسم الأقليات إلى أقليات قومية وأقليات غير قومية، والأقليات القومية هي التي تدخل في تكوين القومية الأصلية في الدول، مثل: الفرنسيون في كندا، والإيطاليون في الأرجنتين، والألمان في البرازيل وشيلي، كذلك هناك أقليات قومية سلالية مثل: الزنوج في الولايات المتحدة، واليابانيون في البرازيل، والباسك في فرنسا، والأتراك في بلغاريا، واللاب في السويد. أما الأقليات غير القومية فبعضها قانع راض بوضعه في الدولة التي وجد نفسه فيها، وبعضها له ميول للانفصال والانضمام إلى بقية أفراد قوميتها الموجودين خارج الحدود، من الأمثلة على القنوعيين الدانمركيون والهولنديون في ألمانيا، وعددهم قليل، كذلك الكروات والسلوفيون في جنوب شرق النمسا، وكلاجنفورت في جنوب النمسا، والأرمن في تركيا وسوريا، والإيطاليون في ساحل دالماشيا - الساحل الشرقي لبحر الأدرياتيك.
وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى عقدت تركيا عدة اتفاقيات مع اليونان ورومانيا أعيد بمقتضاها الأتراك الموجودون في اليونان ورومانيا إلى تركيا، وأخطر الأقليات جميعا هي التي تأمل في الانضمام إلى الدولة الأم، ولقد استغل القوميون المتطرفون هذه الأقليات لأغراض توسعية كالحزب النازي المسئول عن إحياء حركات الانفصاليين في بولندا والسوديت، وكانت ألمانيا العظمى في نظر الحزب تشمل كل مكان يسكن فيه ألماني بغض النظر عن القوميات الأخرى، والألمان الموجودين خارجها لأن حدودها - لأسباب اقتصادية وتاريخية وسياسية عديدة - لم تستطع أن تضمهم جميعا، فهناك الألمان في شلزويج «جنوب الدنمارك»، والألمان الموجودون في بلجيكا في إقليم مالميدي وفي التيرول الإيطالي وفي سويسرا وفي إقليم بانات في رومانيا ويوجسلافيا، والألمان الذين كانوا يسكنون في دول البحر البلطي مع الألمان الذين كانوا يسكنون شرق نهر الأودر قد نقلوا عبر الحدود إلى ألمانيا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية، وهي إحدى عمليات نقل السكان الكبيرة التي تمت بعد الحرب العالمية الثانية، فلم يبق الألمان في ممل أو بروسيا الشرقية أو الممر البولندي القديم أو سيليزيا العليا.
وتوجد أقلية مجرية في إقليم الزكلر في رومانيا، وقد طلب هؤلاء الانضمام إلى المجر عندما خضعت للغزو الألماني خلال الحرب العالمية الثانية، وتعمل المبادئ الماركسية على إذابة الخلافات بين الأقليات، خاصة في البلقان الذي يمتلئ بأقليات لغوية ودينية كثيرة في رومانيا ويوجسلافيا على وجه التحديد، ولم يحن الوقت الكافي لمعرفة نتائج السياسة الجديدة وانعكاساتها على التركيبات السكانية المختلفة داخل الدول، سواء كانت سلالية أو لغوية أو حضارية. (2) السكان ديموجرافيا
يبلغ عدد سكان العالم الآن حوالي 3,7 مليارات من الأشخاص، وقد كان عدد السكان أقل من مليارين في عام 1925، وينتظر أن يصل إلى أربعة مليارات عام 1975، وإلى ستة مليارات عام ألفين.
ويتوزع سكان العالم بطريقة غير متعادلة على أجزاء العالم، فهناك 60٪ من مجموع السكان متمركزون في ثلاث مناطق محددة هي: (1) الصين واليابان. (2) الهند وباكستان وبنجلاديش. (3) أوروبا. وهذه المناطق الثلاث تساوي 15٪ من مساحة اليابس الأرضي فقط، وحتى في داخل هذه المناطق الثلاث لا يتوزع السكان بعدالة، فالازدحام السكاني الهائل في سهل الهندوستان عامة لا يوازي الكثافة المعتدلة للسكان في هضبة الداكن، والحال مثل ذلك في السهل الصيني والسهل الأوروبي بالقياس إلى بقية أراضي هاتين المنطقتين.
وإلى جانب هذه المناطق الثلاث نجد تجمعات كثيفة للسكان في مناطق محدودة من بقية العالم، فهناك مائة مليون نسمة يزدحم أكثرهم في جنوب اليابان ووسطها، وبضع عشرات من الملايين يتكاثفون في جزيرة جاوة أو في وادي النيل في مصر، أو في شمال شرقي الولايات المتحدة أو نيجيريا الجنوبية والغربية.
ومساحة اليابس الأرضي - باستثناء قارة أنتاركتيكا - تبلغ نحو 136 مليون كيلومتر مربع، والكثافة السكانية العالمية في عام 1969 - موزعة على هذه المساحة - كانت 27 شخصا للكيلومتر المربع الواحد، بافتراض أن كل مناطق العالم مسكونة، لكن النظر إلى خرائط توزيع السكان يوضح لنا أن هناك مساحات شاسعة تكاد تكون خالية، ومناطق أخرى يبلغ فيها التكاثف البشري ما بين شخص وشخصين للكيلومتر المربع الواحد، ومناطق ثالثة ترتفع فيها الكثافة إلى أضعاف أضعافها بالنسبة للكثافة العالمية.
وإذا كانت الكثافة تعبر عن تناسب السكان والمساحة العامة للدولة، فإنها تعبر - من ناحية أخرى - عن ضغط السكان على ما تقدمه المساحة من موارد حالية واحتمالات مستقبلية، ولكن الكثافة ليست عنصرا ثابتا، بل هي عنصر متغير باختلاف نسبة الزيادة الطبيعية سنة بعد أخرى وجيلا بعد جيل، ولهذا فإن التغير السكاني هو عنصر ديناميكي يجب أن يحسب له حسابه في دراسة القوى السكانية للدولة وعلاقة ذلك بالموارد المتاحة.
وعلى هذا النحو فإن ما يهم الجغرافيا السياسية من الموضوع الديموجرافي ثلاثة عناصر رئيسية هي: (1) عدد السكان. (2) الكثافة السكانية بأنواعها المختلفة (عامة وفيزيولوجية). (3) التغير السكاني وتأثيره على تركيب الدولة في شتى نواحيه الاقتصادية والعسكرية والبنائية - بما في ذلك الهجرة بأشكالها الداخلية والدولية.
جدول 7-1: الدول العشر الكبرى سكانيا.
الدولة
عدد السكان (بالمليون)
الكثافة العامة (شخص/كم
2 )
التغير السكاني (الزيادة لكل ألف)
الصين
720
75
14
الهند
511
156
25
الاتحاد السوفيتي
235
11
12
الولايات المتحدة
199
21
13
إندونيسيا
110
74
24
اليابان
100
270
10
البرازيل
85
10
30
نيجيريا
61
67
27
ألمانيا الغربية
60
242
10
بريطانيا
56
226
6
يوضح هذا الجدول أن الدول العشر الكبرى في أعداد السكان في الوقت الحاضر تختلف كثيرا في كثافة السكان، وبعبارة أخرى؛ إن إمكانيات الزيادة المستقبلية في الدول المزدحمة - الهند واليابان وألمانيا الغربية وبريطانيا - أقل بكثير من تلك التي نجدها في دول أخرى وخاصة البرازيل والاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، ومن ثم فإن مشكلة الضغط السكاني على الموارد تظهر حادة في الدول كثيفة السكان، وهذا مما يسبب ضرورة اعتمادها على التجارة والعلاقات الحرة بين الدول - باستثناء الهند التي يمكن أن تتجه إلى أنشطة اقتصادية كثيفة العمالة كالصناعة والخدمات.
وتتغير الصورة كثيرا بدراسة أرقام التغير السكاني الحالية، ويظهر منها أن نمو السكان يبلغ صورة حادة في البرازيل والهند ونيجيريا وإندونيسيا أكثر منها في البلاد الأخرى، علما بأن متوسط التغير السكاني العالمي هو في حدود 20 في الألف، وتوضح الأرقام التالية احتمالات الزيادة السكانية في أربع دول خلال قرن محسوبة على أساسين: (1) اضطراد الزيادة الحالية. (2) نسبة زيادة معدلة ومتناقصة:
عدد السكان (بالمليون)
التغير السكاني
بريطانيا 0,7٪
الولايات المتحدة 1,4٪
البرازيل 2,4٪
الهند 3,2٪
السنة
زيادة مضطردة
زيادة معدلة
مضطردة
معدلة
مضطردة
معدلة
مضطردة
معدلة
1966
55
55
200
200
86
86
510
510
1986
63
62
260
252
156
146
802
761
2006
73
67
344
304
302
229
1289
1050
2066
110
67
791
371
1937
426
5347
1513
عدد مرات التضاعف السكاني
2
4
23
10
ملاحظات على الجدول: (1)
تمثل بريطانيا والولايات المتحدة نمط الدول التي يظهر فيها التغير السكاني بمعدل أقل من المتوسط العالمي، بينما تمثل البرازيل والهند النمط الآخر المعاكس. (2)
يتضح من الجدول أن التغير السكاني سوف يؤدي إلى انعدام التوازن في طاقة الدول البشرية، تحتل بمقتضاه الدول النامية الصدارة، ويصبح الفرق شاسعا بينها وبين الدول المتقدمة عامة. (3)
هل يترتب على هذا اختلاف آخر في موازين القوى والنشاطات الاقتصادية على المستوى العالمي، خاصة وأن الدول النامية هي مجالات الاستثمار الكبرى الراهنة؟ (4)
يجب ملاحظة أن هذا التنبؤ خاضع لثبات نسبة التغير السكاني وهو أمر لا يمكن التكهن به إطلاقا، فالتغيرات تطرأ بصفة دائمة، ويكفي أن نشير إلى أن السكن المدني - الناجم عن نمو الصناعة والخدمات في الدول النامية - يؤدي بطبيعته إلى تقليل النمو السكاني، وبرغم ذلك فإن القاعدة العريضة لسكان الدول النامية تسمح بأن يزيد عدد سكانها كثيرا خلال القرن القادم عن الدول الكبرى الحالية.
وأيا كان الأمر في المستقبل فإن مجرد القوة العددية للسكان ليست في حد ذاتها العنصر الوحيد في علاقة السكان بالدولة، ففي أحيان كثيرة يصبح الازدحام السكاني عائقا أمام التنمية الاقتصادية، وعلى أي الحالات فإن درجة الازدحام السكاني مسألة اعتبارية محضة لا تصدق إلا على فترة زمنية معينة بالارتباط بالنشاط الاقتصادي السائد في تلك الفترة، فالكثافة العامة في ألمانيا الغربية أعلى منها في الصين، لكن المشكلة السكانية في الصين تكون ضغطا واضحا على سياسات الصين الداخلية، بينما ازدحام الألمان لم يصبح مشكلة ضغط على كافة أشكال الموارد الصناعية والتجارية.
ولهذا فإن مشكلة السكان والدولة يمكن أن تقاس بمقياس أكثر صدقا - في حدود - من مقياس الكثافة، ذلك المقياس هو نصيب الفرد من قيمة الإنتاج القومي العام
GNP
كما يوضحه الجدول التالي:
نصيب الفرد من الإنتاج القومي العام (بالدولار) (1967) والنسبة المئوية للسكان غير الزراعيين (أرقام 1966).
الدولة
نصيب الفرد (بالدولار) ٪ سكان غير زراعيين
الولايات المتحدة
3520
94
الكويت
3410
99
السويد
2270
88
سويسرا
2250
90
كندا
2240
89
نيوزيلندا
1930
87
لكسمبورج
1920
89
أستراليا
1840
90
الدانمرك
1830
85
أيسلندا
1740
65
ويتضح من هذا الجدول أن الدول الكبرى باستثناء الولايات المتحدة لا تظهر بين الدول العشر الأولى في العالم في ترتيب أنصبة الفرد من الإنتاج القومي العام، وربما كان ذلك من أسباب عدم موضوعية هذا العنصر في التقييم السياسي لعلاقة الدولة والسكان، ومع ذلك فإنه مؤشر واضح من مؤشرات الرخاء الاقتصادي إذا ربطناه بعامل آخر مثل نسبة السكان الذين لا يعملون في قطاع الزراعة، ففي اليابان 73٪ غير زراعيين وفي الاتحاد السوفيتي 70٪ أيضا غير زراعيين، وفي كلتيهما نجد نصيب الفرد من الإنتاج القومي العام هو 860 و890 دولارا على التوالي.
وتظهر هذه الارتباطات بشدة في الدول النامية كما يتضح من الأرقام التالية:
الدولة
نصيب الفرد (بالدولار) ٪ سكان غير زراعيين
الصين
100
37
الهند
90
30
إندونيسيا
100
34
باكستان (1967)
90
26
نيجيريا
80
20
مصر
180
45
جنوب أفريقيا
550
71 (؟)
البرازيل
240
48
شيلي
510
74
الأرجنتين
780
82
ويمكننا أن نلخص دور السكان في بناء الدولة في النقاط التالية: (1)
العدد الكبير للسكان يكون في حد ذاته قوة في المجالات العسكرية حتى برغم الحرب الحديثة، ولا شك أن ذلك ينطبق بنوع خاص على الماضي حين كانت الجيوش البرية تحدد مصير المعارك بين الدول. (2)
العدد الكبير للسكان يعطي للدولة طاقات اقتصادية كثيرة في مجال استغلال الموارد المتاحة ومجال التسويق، وفي هذا نستطيع أن نقارن بين أستراليا بمساحتها الضخمة وأعداد سكانها القليلة بدولة أخرى كهولندا تشابهها في عدد السكان - 12، 12,5 مليونا على التوالي - بينما تزيد عنها أستراليا في المساحة نحو 23 مرة، ومع ذلك فإن نصيب الفرد من الإنتاج القومي متشابه - 1840، 1420 دولارا على التوالي. (3)
يكون العدد الكبير للسكان في الدول النامية عبئا كبيرا على اتفاقات الدولة في جانب الخدمات الصحية والتعليمية، ومن المشكلات التي تواجهها هذه الدول سوء التغذية ومكافحة الأوبئة والأمراض المتوطنة وتقليل نسبة الوفيات عامة، وقد ترتب على نجاح كثير من الدول في هذه الخدمات ارتفاع متوسطات الأعمار، ومن ثم يمكن أن ترتفع فترة العمالة المنتجة في حياة الأفراد. (4)
ولكن انخفاض الوفيات لم يقابله انخفاض نسبة المواليد بسرعة موازية لانخفاض الوفيات مما أدى إلى وجود قاعدة كبيرة من الأطفال رفعت بذلك نسبة الإعالة، وفي الوقت نفسه أدى ارتفاع متوسطات الأعمار إلى ضغط السكان على الموارد الاقتصادية المحدودة في الدول المتخلفة. (5)
في الدول المتقدمة نجد توازنا واضحا بين الوفيات القليلة والمواليد المضبوطة، وباستثناء حالات قليلة حمد فيها النمو السكاني على نسبة ضئيلة - 0,5٪ في النمسا و0,6٪ في بريطانيا، 0,7-0,9٪ لغالبية دول اسكندنافيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا - فإن مجموعة الدولة المتقدمة لا تعاني المشكلات السكانية العنيفة التي تعانيها الدول المتخلفة، وقد أدى هذا إلى زيادة المصاعب أمام التنمية الاقتصادية أمام الدول المتخلفة، وتسبب في ظهور ضعف أساسي جديد في بناء هذه الدول من النواحي الاقتصادية والسياسية معا. (6)
برغم أن عددا من الدول المتقدمة قد فتحت أبوابها للعمالة من بعض الدول المتخلفة - كدول السوق الأوروبية التي تحتاج إلى أيد عاملة من اليونان وتركيا وجنوب إيطاليا وإسبانيا والبرتغال ... إلخ - إلا أن هذه الدول لا تستطيع امتصاص الزيادة السكانية لمثل هذه الدول المتخلفة، وإنما تستوعب أعدادا محدودة في جوانب العمالة غير الماهرة فقط. (7)
أدت الأوضاع السكانية إلى صورة من عدم التكافؤ في التوزيع الجغرافي لم يكن لها مثيل من قبل، فقد أصبح 55٪ من سكان العالم مركزين في آسيا الشرقية والجنوبية، وحوالي 25٪ في أوروبا والاتحاد السوفيتي والشرق الأوسط والباقي موزعين على أجزاء العالم الأخرى بتركيز واضح في مناطق محددة وخاصة الولايات المتحدة، وتتوزع هذه الكتل الرئيسية في السكان على المعسكرات السياسية السائدة على النحو التالي:
التوزيع الاسمي للكتل السكانية الرئيسية على المعسكرات السياسية (أرقام 1966).
القارة والأقاليم
الكتلة الغربية
الكتلة الشرقية
العالم الثالث والمحايد
أوروبا والاتحاد السوفيتي
310
355
48
أمريكا الشمالية
220
أمريكا اللاتينية
240
18
آسيا الشرقية والجنوبية
375
765
615
الشرق الأوسط والعالم العربي
58
120
بقية أفريقيا وأوشينيا
52
160
المجموع
1255
1138
943
والمقصود بالتوزيع الاسمي هنا أن الاعتماد قائم على التحديد الرسمي لسياسة الدول، وليس على الانتماءات الفعلية، ومما يوضح ذلك أن الكثير من دول الحياد والعالم الثالث مرتبطة اقتصاديا - ومن ثم في واقع الأمر - بدول متعددة من العالم الغربي الأورو أمريكي. (8)
لقد كان الضغط السكاني في أوروبا يجد له متنفسا في الهجرة إلى العالم الجديد ومناطق المستعمرات الأوروبية في أفريقيا الجنوبية وأستراليا، ولكن بعد تقسيم العالم ونشأة الدول القومية فإن مجالات الهجرة أصبحت خاضعة للكثير من القيود المرتبطة بالمصالح القومية عامة، التي تكاد تقتصر على هجرة أبناء الشعوب الأوروبية بوجه خاص.
لهذا نجد أن المشكلة السكانية تقفز لتحتل الصدارة في مشكلات الدولة الكثيفة السكان في آسيا وأفريقيا، ولكن الضغط السكاني لم يظهر بعد على السطح كمشكلة من بين المشكلات السياسية التي تعانيها بعض الدول كالصين والهند ومصر، ولا شك أن هذه المشكلة تحتاج إلى مرونة كبيرة في علاقات الدول المستقبلة للمهاجرين، وإلى تطوير خاص في البناء الاقتصادي للدول التي تشكو الازدحام السكاني.
الفصل الثامن
الحدود في الجغرافيا السياسية
(1) مقدمة
توضح خريطة العالم السياسية مجموعة من خطوط الحدود الفاصلة بين الدول المختلفة، وتجري هذه الحدود على اليابس في شتى الاتجاهات مرتبطة أحيانا بظاهرات طبيعية كالجبال والأنهار والغابات والمستنقعات، ومتعارضة في أحيان أخرى مع هذه الظاهرات الطبيعية لكي تحدد ظاهرات بشرية مختلفة أو توضح مجهودات القوة العسكرية للدول في تخطيط حدودها، لكن الحدود في الواقع لا تنتهي عند ساحل البحر أو المحيط، فهناك حدود للدول تمتد فوق المسطحات المائية المختلفة، وهي لا تظهر على الخرائط السياسية العادية، كما لا تظهر مرسومة إلا حين تظهر مشكلة من مشاكل استغلال المسطحات المائية: الثروة السمكية أو المعدنية.
وقد ثارت كافة الحروب بين الدول من أجل تعديل الحدود على اليابس، ولم تقم حتى الآن حرب واحدة من أجل تعديل الحدود فوق المسطحات المائية، ولكن الحروب الاقتصادية بدأت بين بعض الدول مثل أيسلندا وبيرو ضد أساطيل الصيد البريطانية والأمريكية على التوالي، فهل تتحول الحرب الاقتصادية إلى حرب ساخنة في فترة لاحقة، خاصة حينما يشتمل الأمر على استغلال الثروة المعدنية عامة والبترولية خاصة؟ (انظر الخريطة 12).
وفي الوقت الحاضر - في عصر حركة الطيران المتكاثفة - لم تعد الحدود مقتصرة على تلك الملامسة لليابسة وسطوح الماء، بل أصبحت هناك حدود للدول ترتفع في الغلاف الغازي فوق رقعات الدول المختلفة، فإلى أي مدى ترتفع سيادة الدولة على أجوائها؟ وما هي المشكلات المترتبة على سيادات الدول على الغلاف الغازي؟ وهل يمكن أن تؤدي بدورها إلى نزاعات وحروب؟
على هذا النحو يتضح لنا أن الحدود مشكلة معقدة لم تعد تمتد في بعد واحد مرتبط بالتنظيم الأرضي للدولة، بل تعددت أبعاد الحدود إلى مسطحات الماء وأعماقها، وامتدت إلى أغوار الفضاء الذي يغلف كرتنا الأرضية. (1-1) مشكلة تعريف الحدود وأقاليم الحدود أو التخوم
1
أيا كان تعقد مسألة الحدود في الوقت الراهن فإن مشكلة الحدود البرية قد أثارت - وما زالت تثير - كافة المشكلات المتضمنة في جوهر العلاقات السياسية بين الدول، كما أنها راسخة في الأذهان كافة، المتخصصين وغير المتخصصين؛ لأنها تمثل الإطار الذي تمارس فيه الدولة سيادتها الفعلية، ذلك لأن الحدود البرية للدول هي الأماكن أو النقاط التي تلتقي فيها الدول وتحتك فيها كتل الناس وتتفرق فيها المصالح الاقتصادية بتوجيه الدولة، ولهذا أثارت الحدود البرية مشكلات كثيرة خاصة بتعريفها: هل هي خط الحدود أم نطاق الحدود والتخوم؟
خريطة (12): الحدود السياسية الحديثة في بحر الشمال. ارتباط الحدود الجديدة باستغلال مصادر الغاز الأرضي في القسم الجنوبي من بحر الشمال، وبالبترول والغاز الأرضي في الوسط، وبحقول البترول الممتازة في القسم النرويجي والبريطاني في شمال ذلك البحر.
وقد كان فريدريك راتزل من أوائل الجغرافيين المحدثين الذين تناولوا مشكلة تعريف الحدود، وفي كتابه «الجغرافيا السياسية» (1895) ذكر راتزل عدة إيضاحات لهذه المشكلة، فهو يقول: إن نطاق الحدود هو الحقيقة الواقعة، أما خط الحدود فليس سوى تجريد لهذا النطاق (ص538). ويقول أيضا: في مناطق الحدود يقع جزء كبير من ثقل التوازن السياسي (ص584). وفي مكان ثالث يؤكد أن نطاق الحدود هو المكان الذي يشير إلى نمو أو تقلص الدول، ففي الدول القوية يظهر ارتباط وثيق بين نطاق الحدود وقلب الدولة، فإن أي ميل إلى ضعف هذا الارتباط يؤدي إلى ضعف الدولة وإلى خسارة جزء من أراضيها، وعلى الدول أن تسعى إلى الحصول على أقصر خطوط للحدود لأنها أقواها وأحسنها، وأن تقيم استحكامات عسكرية على طول مناطق الحدود، ويدعم هذا التدبير باتخاذ الجبال والأنهار مناطق للحدود.
لكن راتزل لم يغفل مقومات أخرى للحدود الجيدة، فإلى جانب ارتكاز الحدود على بعض الظاهرات الطبيعية يتكلم راتزل عن نوع السكان والموارد المتاحة والبناء السياسي داخل الدولة كمقومات للحدود الجيدة، وقد كان راتزل يسوق نهضة ألمانيا السياسية وتغير حدودها وتوسعها كمثال للحدود المتغيرة تعبيرا عن نظريته العضوية للدولة [راجع القسم الأول الفصل الثاني: مناهج الدراسة في الجغرافيا السياسية].
وقد ظهرت في الكتابات اللاحقة لراتزل نقاط ضعف في النظرية العضوية للدولة، لكن من المدهش أن الكثير من مفهومات راتزل عن الحدود بقيت دون أن تهدم، ولعل ذلك راجع إلى أن راتزل حاول أن يؤسس قوانين خاصة لنمو وسلوك الحدود، ولا شك أن تعميم مثل هذه القوانين أمر خاطئ، فكل حد سياسي له ظروفه وخلفيته مما يجعله ظاهرة خاصة، ومع ذلك فإن قوانين راتزل عن الحدود يمكن أن تطبق على بعض الحدود بشيء كثير من الصحة.
ومن أمثلة قوانينه التي يمكن أن تطبق على كثير من الحدود قوله: إن القانون العام لنمو «المكان» التاريخي هو أن حدود المنطقة الأكبر تنمو على حساب حدود المنطقة الأصغر، وكذلك قانونه القائل: إن تطور الحدود هو السعي إلى تبسيطها، وإن التبسيط هو السعي إلى تقصير «أطوال» خط الحدود، ولا شك في صحة هذه القوانين، فالخط المتعرج المتداخل طويل ضعيف، بينما الحد القصير أقوى في الدفاع والهجوم.
وقد أيد عدد من الكتاب أفكار راتزل في عدد من النقاط، وخاصة تلك التي تفصل بين نطاق الحدود وخطوط الحدود، وفي ذلك قالت ألين سمبل (1911): إن الطبيعة تكره خطوط الحدود والانتقالات الفجائية، بل إن كل القوى الطبيعية تتكاتف ضد مثل هذه الخطوط ... وإذا حدث فاصل طبيعي لسبب من الأسباب فإن القوى الطبيعية تبدأ على الفور في إزالة هذا الخط بخلق أشكال انتقالية وبذلك تنشئ منطقة الحدود، وكذلك قال الكولونيل ت. ه. هولديك (1916):
2
الطبيعة لا تعرف خط حدود، وحقا إن للطبيعة تخومها - نطاقات انتقال - لكنها تكره الخطوط، وخاصة الخطوط المستقيمة.
وإلى خبير الحدود المعروفة اللورد كرزون يرجع الفضل في التمييز بين «الحدود الطبيعية» - وهي تلك المبنية على مظهر من المظاهر الطبيعية - وبين مجموعة «التخوم الطبيعية»، وهي تلك التي تدعيها الأمم حدودا طبيعية بدافع من الرغبة في التوسع أو تحت إلحاح عواطف قومية، ويقول لورد كرزون إن محاولة تحقيق مثل هذه التخوم الطبيعية كانت المسئولة عن الكثير من الحروب والمآسي في التاريخ (1907).
3
وقد رأى المحامي الفرنسي ب. دي لابرادل (1928)
4
أن الحدود والتخوم أمران مختلفان، فهو بذلك يتفق مع راتزل في أن الحدود لا يمكن فصلها عن إقليم الحدود أو التخوم، ويرى أن التخوم قائمة كأمر واقع قبل تحديد الحدود، وأنها لها صفاتها الخاصة السياسية والاقتصادية والقانونية، فالتخوم عنده هي بيئة انتقالية ويقسمها إلى ثلاثة أقسام: (1)
المنطقة الحدية
territoire limitrophe : وهي المنطقة التي يمر فيها خط الحدود. (2)
نطاق الحدود
Frontières : وهي المنطقة التي تمتد على جانبي الحدود وتخضع كل منها لقوانين الدولة التي تنتمي إليها. (3)
الجوار
Le Voisinage : وهي المنطقة كلها التي تشتمل على القسمين السابقين.
أما الجغرافي الفرنسي ج. آنسل
J. Ancel
5
فيقول إن دراسة الحدود ومناطق الحدود ليست مثمرة قدر دراسة محتوى العلاقات الدولية، فهو يقول: ليس الإطار هو المهم بل المهم هو ما يحتويه، وكذلك يقول: لا توجد مشكلة حدود وتخوم، بل المشكلة هي مشكلة أمم (1938)، ويستند في ذلك إلى أمثلة من الشعوب البدائية مؤكدا - على سبيل المثال - أن القبائل البادية ليس لها حدود، وأن السيادة على أرض ما مرتبطة بالمجتمع البدوي أكثر من ارتباط ذلك بالأرض نفسها، «لكن لا شك أن البدو يدعون ملكية أرض معينة».
ويقول آنسل إن هناك نوعين من الحدود: الحدود الثابتة والمتحركة، ويعارض آراء راتزل التي تؤكد أن الحدود عضو من أعضاء الدولة يعكس قوة أو ضعف الدولة، ويؤكد أن الحدود عبارة عن خط توازن بين قوتين، لكن هذا الرأي في واقعه لا يختلف عن وصف راتزل للحدود، فهي خط يفصل بين العضوين الخارجيين لدولتين متجاورتين.
وقد تعرض آخرون لتعريف الحدود والتخوم مثل س. ب. جونز (1932)،
6
مودي (1943)،
7
أ. فيشر (1949)
8
وغيرهم. وبرغم بعض الاختلافات فإن الاتفاق سائد بين الدارسين حتى الآن على التمييز بين الحدود التي تمثلها الخطوط الفاصلة بين سيادتين مختلفتين، وأقاليم الحدود، أو التخوم أو الجوار التي تمثل نطاقا انتقاليا بين الدولتين المتجاورتين.
ويمكننا أن نلخص مجمل الآراء في تعريف الحدود بأن كل خط من خطوط الحدود هو في الواقع خلق متعمد عبارة عن خط تجريدي يفصل بين دولتين أو جهازين عضويين - على حد تعبير راتزل - وبالتالي يعرب عن نبض كل من الدولتين.
إن هذا الشكل التجريدي من الحدود الخطية الفاصلة لم تصل إليه القوى السياسية والقومية إلا مؤخرا نتيجة تضاغط المصالح والقوى في كل دولة، وعلى هذا فإن الحدود السياسية الحالية تمثل طغيانا حديثا على مناطق الحدود والتخوم القديمة، التي قال بها غالبية الجغرافيين ابتداء من فريدريك راتزل، واقتسام هذه المناطق الحدية إلى آخر شبر يمكن أن تصل إليه القوى الضاغطة من جانب واحد أو من الجانبين.
ففي الماضي كان المتبع ترك مناطق حدية فاصلة - تخوم - بين المجتمعات القبلية أو الدول القديمة، وهذه المناطق هي ما نعرفه حاليا باسم «الشقة الحرام
No man’s Land » التي تلجأ إليها الدول المتحاربة أحيانا في محاولة لتقليل فرصة الاحتكاك بين هذه الدول، مثال ذلك الأرض منزوعة السلاح بين فيتنام الجنوبية والشمالية، وهذه الشقة الحرام كانت عبارة عن أراض مهجورة من السكان تتكون غالبا من بيئة صعبة مثل التلال أو المستنقعات أو الغابات والأحراش. وفي الماضي أيضا كان يمكن إنشاء دويلة أو إمارات صغيرة كمنطقة حاجزة بين دولتين أو مجتمعين متحاربين، وذلك أيضا من أجل تحقيق الحد الأدنى من الاحتكاك العسكري، ومن الأمثلة المشهورة على ذلك سويسرا التي قامت كدولة حاجزة بين فرنسا وألمانيا وإمبراطورية النمسا في منطقة التخوم الجبلية الفاصلة.
وتعطينا الخريطة رقم 12 نموذجا لأنواع الحدود عند مجتمعات قبلية ودول قديمة في نيجيريا، وأهم ما توضحه هذه الخريطة تعدد أنواع حدود الاتصال والانفصال في الدولة الواحدة، فإمبراطورية الفولاني - التي تتمثل في الخريطة في دولتي سوكوتو وجاندو - ترتبط وتنفصل عن الدول والقبائل المجاورة بشتى أنواع الحدود، على سبيل المثال الحدود الشمالية معظمها حدود فاصلة تعبر مناطق شبه جافة تفصلها عن إمارات زندر وجوبير وغيرها من إمارات الهوسا، بينما حدودها الجنوبية عبر نهر النيجر مع ممالك اليوربا الصغيرة هي حدود اتصال وعدم استقرار في منطقة إيلورين كدليل على اتجاه التوسع الفولاني صوب نطاق الغابات الاستوائية الغني في جنوب نيجيريا، كما أن حدودها مع مملكة بورنو كانت مناطق تخوم وغابات في الجنوب وقبائل وثنية في الشمال وإمارات صغيرة في الوسط، وعلى هذا تتضح مرونة الحدود القديمة بالقياس إلى تصلب الحدود الفاصلة الحالية الناجم عن الضغوط السكانية والاقتصادية الحديثة. (1-2) تأثير الحدود السياسية الحديثة على مناطق الحدود
يؤدي مجرد وجود الخط السياسي الفاصل بين الدول إلى إحداث تغييرات جغرافية في إقليم الحدود، كما يؤدي في أحيان أخرى إلى خلق وحدات جغرافية صغيرة عبر حدود الدولتين.
ففي الحالة الأولى نجد أن الحدود السياسية تصبح عوائق اقتصادية تؤدي في أحيان إلى اختلافات غريبة في المنطقة التي يقسمها خط الحدود إلى قسمين، فمثلا خط الحدود الفرنسية البلجيكية يظهر منطقتين مختلفتين: ففي الجانب الفرنسي من إقليم الحدود نجد نطاقا من حقول القمح، بينما لا يظهر ذلك بنفس الصورة على الجانب البلجيكي، ولا يرجع ذلك إلى ملاءمة أو جودة التربة في الجانب الفرنسي، وإنما يرجع إلى التوجيه العام للاقتصاد الفرنسي، فالقمح يتمتع في فرنسا بالحماية الجمركية، ومن ثم فإن زراعته تصبح زراعة نقدية مؤمنة بالنسبة للفلاح الفرنسي، بينما لا توجد مثل هذه السياسة الاقتصادية في بلجيكا، ويصبح القمح البلجيكي معرضا لمنافسة القمح المستورد.
خريطة (13): أنماط من حدود الاتصال والانفصال. إمبراطورية الفولاني في نيجيريا 1860م. نقلا عن برسكوت
J. R. V.
(1967) ص51.
وتؤدي ارتباطات مناطق الحدود بمواصلات جيدة إلى داخل الدولة إلى إمكان قيام استثمارات وتحسينات في موارد إقليم الحدود الإنتاجية، بينما تحرم المنطقة من ذلك إذا خلت من الطرق الحديثة، ففي إقليم الحدود الفرنسية الإسبانية في منطقة البرانس نجد أن المنطقة الفرنسية من هذه الحدود مخدومة بالسكك الحديدية في بعض أجزائها، بينما المنطقة الإسبانية محرومة في معظم أجزائها من مثل هذه الخدمة، وقد ترتب على ذلك أن المناطق الفرنسية من هذا الإقليم القريبة من الخطوط الحديدية تزرع محاصيل السوق، وعلى رأسها الخضروات المبكرة التي تنقل بالخطوط الحديدية إلى أسواق استهلاكها في فرنسا، أما المناطق الإسبانية فإنها تمارس زراعة الحبوب التقليدية لاستهلاكها ونقل بعض الفائض منها بوسائل النقل العادية إلى سوق برشلونة الصناعي، وعلى هذا النحو تتغير مناطق وأقاليم الحدود بعضها عن البعض الآخر نتيجة عدد كبير من العوامل البشرية.
ولكن يقابل ذلك التغير في أقاليم بعض الحدود أقاليم أخرى يحدث فيها تشابه كبير على جانبي خط الحدود، خاصة في المناطق الكثيفة السكان، وهذه هي الحالة الثانية من التأثيرات الجغرافية التي تحدث وتؤدي إلى خلق أقاليم متشابهة برغم وجود خطوط الفصل السياسية.
فعلى الحدود الفرنسية السويسرية عند لسان جنيف نجد أن هذه المدينة تكون سوقا رائجة للمنتجات الغذائية الفرنسية القريبة؛ لأن موقع جنيف - بعيدا عن مناطق الإنتاج السويسري - يجعلها معتمدة على المنطقة الفرنسية المجاورة، والحال نفسه في منطقة بازل السويسرية المرتبطة باستيراد الغذاء في إقليم الألزاس الفرنسي. وعلى الحدود الفرنسية البلجيكية يعمل البلجيكيون بكثرة في مصانع النسيج الفرنسية وحقول الفحم بينما هم يسكنون داخل الحدود البلجيكية، وهكذا يعبر هؤلاء العمال الحدود يوميا مرتين للذهاب إلى أعمالهم داخل الأرض الفرنسية دون أن تقف هذه الحدود عقبة في وجه اتصال سكان إقليم الحدود.
وعلى هذا النحو نجد في مناطق الحدود الكثيفة السكان أن حركة عبور الحدود تشتد بين سكان إقليم الحدود، خاصة إذا كان هناك مجال سهل للعمل وأجور أعلى مما تقدمها إمكانات إحدى الدولتين المتجاورتين، وبطبيعة الحال هنالك شرط أساسي هو حسن العلاقات السياسية بين الدولتين المتجاورتين، وإلا قطعت الحدود كل الطرق على الاتصال بين سكان المنطقة. (1-3) تصنيف الحدود
كان اللورد كرزون (1907) هو أول من أشار إلى تصنيف للحدود: طبيعي واصطناعي ، وقد تبعه في ذلك فوست (1918)
9
وبوجز (1940)
10
اللذان أضافا الكثير من الدراسة التفصيلية لأنواع الحدود وصنوفها.
وقد قسم كرزون الحدود الاصطناعية إلى ثلاثة أقسام: (1)
الحدود الفلكية
astronomical : وهي تلك التي تتبع خطوط عرض أو طول مثل جزء كبير من الحد الأمريكي الكندي الذي يتبع خط العرض 49 شمالا، أو مثل كثير من الحدود في أفريقيا. (2)
الحدود الرياضية
mathematical : وهي تلك التي تربط بين نقطتين معينتين بخط مستقيم. (3)
حدود المنحنيات
Referential : وهي تلك التي تربط عدة نقاط في صورة أقواس وخطوط مستقيمة، وهذه تظهر في تحديد الخطوط في مناطق محدودة.
وكذلك اهتم كرزون اهتماما بالغا بأثر الحدود فجعلها قسمين: الحدود الحاجزة أو الفاصلة، وحدود الاتصال والحركة (انظر الخريطة 13)، وقد تبعه في ذلك فوست وبرسكوت (1965). وقد هاجم فوست فكرة أن هناك حدودا طبيعية وأخرى اصطناعية، ولكن هجومه لم ينطو على إلغاء هذه أو تلك، فالحدود تتطور وتتغير وقد تلتحق في بعض مساراتها بظاهرات طبيعية كالأنهار والجبال، وهو بذلك يهاجم اصطلاحي حدود طبيعية وأخرى اصطناعية مؤكدا أن تطور الحدود كلها أمر طبيعي؛ لأن وظيفة الحدود الأساسية هي حماية الدولة عسكريا وتجاريا، كما أنها منطقة التقاء الدولة بالأخرى، وهي بذلك منطقة الاتصال والتبادل، ويرى فوست أنه حينما ترتبط الحدود بمنطقة حاجزة طبيعيا - كالجبال - فإن ذلك يؤدي إلى نشأة حدود الانفصال.
ويفصل فوست ثلاثة اتجاهات في تطور الحدود السياسية: (1)
اتجاه إلى تدقيق شديد في تخطيط الحدود ومساراتها. (2)
اتجاه إلى ترابط شديد بين الحدود السياسية والحدود اللغوية (خاصة في أوروبا). (3)
اتجاه إلى رسم الحدود في مناطق وأقاليم حدود الانفصال.
وباستثناء الاتجاه الأول فإننا نجد أن الحدود السياسية، وإن اتجهت إلى التقارب من الحدود اللغوية، إلا أن معاهدات الصلح بعد الحربين العالميتين قد دفعت بالحدود الألمانية والنمساوية بعيدا عن حدودهما اللغوية، ولتجنب مشكلة الأقليات الألمانية النمساوية أعيد توزيع السكان من جديد وهجر الألمان من بولندا والسوديت والتيرول الإيطالي، فالضغط السياسي هنا كان أقوى من الاتجاه الطبيعي للحدود لكي تشمل المتكلمين بالألمانية، كذلك فإن رسم الحدود في مناطق حدود الانفصال لم يؤد إلى تقليل الاحتكاكات بين القوميات، فخط الحدود الذي رسم في عام 1919 للنمسا في منطقة انفصال حدية بينها وبين إيطاليا - التيرول الإيطالي - قد اقتطع أقلية نمساوية كبيرة في هذه المنطقة الجبلية، وبالمثل فإن إنشاء دولة تشيكوسلوفاكيا وتخطيط حدودها مع ألمانيا في مناطق انفصال متمثلة في جبال غابة بوهيميا وجبال الأرتز قد اقتطع ألمان السوديت عن ألمانيا وأدخلهم تشيكوسلوفاكيا، وكانت تلك ذريعة هامة من ذرائع هتلر في توسعه في وسط أوروبا.
وإلى جانب هذه الأنواع من الحدود نجد الكولونيل هولديك (1916) والجنرال هاوسهوفر (1927) يؤكدان أهمية الحدود الاستراتيجية القوية التحصين، وفي ذلك قال هولديك: يجب أن تكون الحدود عوائق، وهي إذا لم تكن كذلك جغرافيا وطبيعيا فيجب أن تكون قوية صناعيا بالقدر الذي تمكنه لنا الوسائل الحربية، أما هاوسهوفر فقد دعا إلى إنشاء ما أسماه ب «حدود عسكرية
Wehrgrenze » في صورة إطار خارجي يحيط بحدود الحضارة الألمانية من بعيد ليجنبها الغزو وضرب المدفعية. وقد تناول هاوسهوفر موضوع الحدود من زاوية قوة الدولة، وصنفها بذلك صنوفا مختلفة: حدود الهجوم، حدود الدفاع، حدود النمو، حدود التدهور والتآكل.
وبرغم الاختلافات الكثيرة في تصنيف الحدود فإنه مما لا شك فيه أن الحدود السياسية الحالية ترتبط في مساراتها بثلاث مجموعات من الظواهر الجغرافية الرئيسية هي: (1)
الحدود التي ترتبط بالظاهرات الطبيعية: جبال - أنهار - بحيرات - بحار - غابات - مستنقعات - صحارى. (2)
الحدود التي ترتبط بالظاهرات البشرية: لغات وحضارات وديانات. (3)
الحدود التي ترتبط بالظاهرات الفلكية: خطوط هندسية غالبا في مناطق التقسيم السياسي الجديدة، وفيما يلي دراسة موجزة لهذه الأشكال الرئيسية من الترابط في الحدود السياسية. (2) الحدود المرتبطة بالظاهرات الطبيعية
يميل الناس إلى الاعتقاد بأن حدود القوميات تقف عند عوائق طبيعية معينة، مثال ذلك جبال الهملايا بين الهند والتبت، والبرانس بين فرنسا وإسبانيا، ونهر الدانوب بين البلغار والرومانيين، وجبال الألب بين اللاتين والجرمان، لكننا نستطيع أن نعدد أمثلة أخرى كثيرة لا تقف فيها الحدود القومية عند عقبات طبيعية، بل تتعداها وتمتد حولها وعبرها، ذلك لأن الجبال في أحيان كثيرة - بأوديتها وسفوحها - غالبا هي موطن قومية منعزلة أو قوميات متعددة، فالأكراد يحتلون المنطقة الجبلية الوعرة من شرق الأناضول إلى زاجروس، وغابات السويد الشمالية كانت عائقا أمام القومية السويدية، في الوقت الذي كانت فيه مسرحا لنشاط الفن و«اللاب». والأنهار في غالب الأحيان لا تكون فاصلا بل رابطا بين أجزاء الوادي الذي يجري وسطه النهر، ولذلك فإن جريان الحدود السياسية بمحاذاة مجرى النهر يؤدي إلى تقطيع أوصال إقليم متكامل جغرافيا بكل معاني الإقليم الجغرافي، مثال ذلك حدود فرنسا وألمانيا وسويسرا المحاذية لنهر الراين، أو حدود أمريكا وكندا على طول سنت لورنس والبحيرات العظمى، وفي مثل هذه الحالات لا تعرف أين تبدأ ألمانيا أو سويسرا أو كندا وأمريكا إلا عند مخفر شرطة الحدود. (2-1) الجبال كحدود طبيعية
إن المدقق في الأمثلة التي يسوقها الباحثون عن الفواصل الطبيعية المتفقة مع الحدود السياسية والقومية يجد أنها كلها مليئة بالاستثناءات، فجبال البرانس في مجموعها فاصل بين القوميتين الإسبانية والفرنسية، لكن أطرافها الغربية تسكنها قومية منفصلة هي الباسك، وأطرافها الشرقية تعبرها «شبه» قومية هي القطالونية المتحدرة من شمال شرق إسبانيا إلى جنوب فرنسا، وفي الوسط نجد إمارة أندورا التي يعود استقلالها إلى عام 1278م، وكذلك الحال في جبال الهملايا لا تكون الحد الفعلي للقومية الهندية أو الصينية، فهناك تسرب كثير للمغول عبر السفوح الجنوبية للهملايا مما يجعل معظم الهملايا خارجة عن الحدود القومية للهند، ولكن في هذه المناطق المنعزلة قامت عدة إمارات وممالك حاجزة مثل كشمير ونبال وبوتان، وهنا اختلاط شديد بين الهندوكية والبوذية واللامائية، إذن أين الحدود الطبيعية؟
إن جبال الألب لم تكن حدودا للإمبراطورية الرومانية إلا في أوقات محدودة وسرعان ما نفذ الرومان عبر ممرات الألب إلى بافاريا والنمسا، ولقد صعد عدد ملحوظ من السكان الحاملين لنوع من القومية الإيطالية جبال الألب ويعيشون فوقها في منطقة جنوب سويسرا - الرومانش - بينما هبط النمساويون في التيرول صوب السفوح المشمسة الجبلية المطلة على سهل لمبارديا الإيطالي.
وفي الواقع نجد أن هناك اختلافات كثيرة حول مسارات الحدود المتوازية مع الجبال، هل ترتفع الحدود إلى خطوط تقسيم المياه ؛ أي إلى أعالي الجبال؟ أم يمكن أن تسير الحدود بموازاة السفوح؟ وما هي المشاكل الاستراتيجية والاقتصادية المترتبة على كل منهما؟ وقد يبدو من الطبيعي أن تسير الحدود مع خطوط تقسيم المياه بحيث تضمن لكل دولة حرية التصرف في منابع أنهارها، خاصة وأن مناطق المنابع مؤهلة لتكوين مصادر عظيمة للطاقة الكهرومائية ، لكن الأمور لا تسير دائما على هذا المنوال، فالجبال ليست أراضي خالية من السكان في معظم الأحيان، ولهذا لا يمكن التصرف فيها بدون مراعاة لانتماءات السكان اللغوية والحضارية.
لكن الأمور السياسية لا تسير وفق الظروف الجغرافية الطبيعية والبشرية، بل حسب قوة الدولة في زحزحة ادعاءاتها على الأراضي، أو حسب الاتفاقات التي يمكن أن تصل إليها الدول، وإذا عدنا إلى جبال البرانس مرة أخرى نجد أنها في حقيقة الأمر لا تكون حدودا فاصلة بين فرنسا وإسبانيا، فالرعاة الذين يسكنون الجبال غالبا ما يتنقلون بقطعانهم على السفوح الشمالية والجنوبية حسب المواسم المواتية، ولهذا ظلت مشكلة حدود البرانس معلقة بين فرنسا وإسبانيا منذ عام 1659 برغم أن الاتجاه كان نحو تثبيتها على قمم الجبال - خط تقسيم المياه - وفي أواخر القرن 19 اتفقت الدولتان على ما كان سائدا منذ القرن 13؛ وهو السماح للرعاة بالتنقل على السفوح المختلفة، وبذلك فإن البرانس ليست حدا فاصلا، إنما هي منطقة اتصال حدية: تخوم. (2-2) الغابات والمستنقعات ونشأة الدول الحاجزة
تكون الغابات والمستنقعات أشكالا مختلفة من العقبات والعوائق الطبيعية ضد سهولة الاتصال عبرها، ولا شك أن المستنقعات - خاصة إذا كانت تمتد في مساحات كبيرة - تشكل عقبة كئودا أمام تقدم الجيوش الزاحفة، وبذلك فإنها تحتاج إلى تكتيك حربي خاص بها، لكن أسهل منه الالتفاف حولها إن أمكن، وبذلك فإن الحدود التي تجتاز المستنقعات إنما كانت في الماضي حدودا دفاعية جيدة، مثال ذلك حدود روسيا القيصرية في منطقة مستنقعات البريبت بينها وبين بولندا، وكذلك مستنقعات بحيرة كيوجا وما جاورها التي كونت حماية طبيعية لمملكة بوجندا القديمة من الناحية الشمالية، وهناك عشرات الأمثلة على دور المستنقعات في إقامة حدود دفاعية قوية بالنسبة لكثير من المجتمعات البدائية، وإمارات ودول العصور القديمة والوسطى، فلقد نمت القومية الهولندية وسط عشرات المجاري والمستنقعات في دلتا الراين، كما أن مستنقعات شمال الدلتا المصرية قدمت حماية طيبة للدلتا الغنية من جهة الشمال بحيث إن مصر لم يجر غزوها من الشمال إلا في حالة واحدة: الحملة الصليبية على المنصورة ودمياط التي فشلت أيضا نتيجة الدفاع المملوكي والاستعانة بمياه الفيضان معا.
وما من شك في أن تكنيك الحروب الحديثة قد وجد حلا لمعارك المستنقعات متمثلا في دبابات وسيارات من نوع خاص، وقوارب عسكرية مؤهلة للحركة في المستنقعات أيضا، لكن ذلك لا يعني أنها فقدت قيمتها تماما، ولا أدل على ذلك من أن مستنقعات دلتا الميكونج في فيتنام الجنوبية ظلت مسرحا لنشاطات الفيتكونج العسكرية طوال عشر سنوات من الحرب ضد التكنيك العسكري الأمريكي البري والجوي، المتنوع والمستفيد دائما من خبرة المعارك، ذلك أن حرب العصابات تشكل نوعا جديدا من الحروب التي تستفيد دائما من العقبات الطبيعية، خاصة الجبال والغابات والمستنقعات.
والغابات هي الأخرى عقبة طبيعية ضد حدود الاتصال، ومما يزيد هذه العقبة قوة أن الغابات في النطاق المعتدل البارد تنمو في المناطق الجبلية الوعرة القليلة الاستخدام والسكن، وبذلك تتضافر عدة قوى طبيعية على جعل مناطق الغابات حدود انفصال واضحة، ولهذا نجد الكثير من المناطق الغابية تشكل إمارات صغيرة خاضعة بصورة من الصور لحكم ذاتي يستمد قوته أحيانا من قوى أخرى مجاورة، تغذيه وتساعده على البقاء كنوع من الدول الحاجزة، وفي أحيان أخرى كانت الدولة تنشئ إقطاعا لأمراء في مناطق الحدود الغابية، ومن ثم نشأت مصطلحات قديمة بهذا المعنى مثل «مارك
Mark-March » وقد نشأت عنها ألقاب نبالة قديمة مثل المركيز (صاحب المارك) ومارك جراف (بالألمانية أيضا صاحب المارك).
فالمارك كان جزءا من إقليم الحدود ينظم دائما على أساس شبه عسكري من أجل المحافظة على الحدود، وقد نظم شارلمان وأوتو عددا من هذه التنظيمات العسكرية على الحدود لمنع الزحف السلافي إلى وسط أوروبا، وقد تطورت هذه «الماركات» فيما بعد لتصبح دولا ذات قومية خاصة توسعت في المستقبل وكونت إمبراطوريات وممالك في وسط أوروبا، ومن أهم هذه «الماركات» مارك براندنبرج الذي كان نواة الإمبراطورية البروسية والقومية الألمانية، ومن الماركات الأخرى بوهيميا، مورافيا (في تشيكوسلوفاكيا حاليا)، وصوربيا (الصرب قاعدة الوحدة اليوجسلافية فيما بعد)، ومارك بريتاني (في غرب فرنسا)، ومارك إسبانيا في جنوب فرنسا. وبذلك طوق شارلمان مملكته بإمارات حاجزة لحمايتها من الشرق والجنوب الشرقي والغرب.
ولقد تطورت فكرة «المارك» إلى فكرة المحميات في العصر الاستعماري، والمحمية هي دولة ذاتية الحكم تستند في بقائها إلى قوة الاستعمار المجاورة، وتقوم بوظيفة منع الاحتكاك المباشر مع القوى الأخرى، ومن أشهر الأمثلة على المحميات دولتا بوتان وسيكيم، اللتان تفصلان جانبا من الحدود الهندية مع التبت، فقد ظلتا محميتين بريطانيتين، وبعد استقلال الهند ظل هناك مندوب هندي يساعد في تصريف الأمور، وعلى هذا النحو يمكن أن نفسر بقاء سيام (تايلاند حاليا) دولة حاجزة بين النفوذين الاستعماريين الإنجليزي (في بورما) والفرنسي (في الهند الصينية: فيتنام وكمبوديا ولاووس حاليا). وبالمثل كانت نشأة دولة أورجواي على مصب لابلاتا اتفاقا بين النفوذين الإسباني (في الأرجنتين) والبرتغالي (في البرازيل) لمنع الصدام بينهما في هذه المنطقة الحساسة، كذلك كان إنشاء المنطقة المحايدة بين الكويت والمملكة السعودية عازلا دون احتكاك مصالحهما.
وفكرة المناطق المحايدة أو الحاجزة فكرة قديمة مارستها الجماعات البدائية كما سبق أن ذكرنا، فعند المجتمعات البدائية كانت الحدود عبارة عن مناطق غير مأهولة بين مناطق الاستقرار والتجمعات البشرية، وبذلك فإن هذه الحدود تشابه مناطق اللامعمور بين الدول - الشقة الحرام - وهي على هذا النحو لم تكن خطوط اتصال على الإطلاق، بل نطاقات فصل، فحيث ينتهي السكن تنتهي حدود المجتمع، وقد أخبرنا الرحالة الألماني بارث وغيره من الذين جابوا أفريقيا خلال القرن التاسع عشر أن مناطق اللامعمور هي حدود الجماعات، وفي خلال فترات الحروب تمتد هذه النطاقات الحاجزة مسافات أوسع كنوع من نطاقات الأمان كانت تصل أحيانا إلى أكثر من مائة كيلومتر اتساعا، مثلا تلك التي توجد بين دولة الفولاني وبورنو في شمال شرق نيجيريا، أو بين الأزاندي والبونجو في السودان الجنوبي، وفي اسكندنافيا كانت حدود السلاف والجرمان والفن مماثلة للحدود الموجودة في أفريقيا، كما كانت حقول الثلج الشاسعة تفصل بين السويد والنرويج، وإلى الشمال من تروندهايم كانت الأرض في أقاليم ترومز ونورلاند ولابلاند تعد أرضا مشتركة بين النرويجيين والسويديين والروس، وكان اللاب المتنقلون يدفعون ضرائب صغيرة لهذه الدول الثلاث، وقد ظلت هذه المساحات الواسعة بدون سكان مستقرين حتى القرن السابع عشر حينما استقرت جماعات من الفن في نورلاند، وهكذا نجد عنصر الفن واللاب يتداخل بين السويد والنرويج اللتين لم تتفقا على حدود فاصلة بينهما إلا في عام 1751، كما خططت الحدود بين النرويج وروسيا في عام 1862.
مثل هذه المناطق الخالية كانت تعتبر لمدة طويلة أحسن وسائل الدفاع عن الدولة؛ لأن العدو يخترق الأراضي غير المواتية لمسافة طويلة قبل أن يهاجم الدولة، ومن المعروف أن بعض القادة كان يتعمد ترك مناطق خالية حاجزة، مثال ذلك أن الزعيم أتيلا طلب من بيزنطة أن تترك نطاقا بعرض مائتي كيلومتر جنوب الدانوب خالية من السكن والزراعة، وكذلك ترك البارونات الإنجليز مساحات غير مستغلة على طول الحدود بين إنجلترا واسكتلندا لتأمين الحماية، وعلى حدود لتوانيا ترك الأمراء التيوتون نطاقات من الغابات غير المأهولة يتراوح عرضها بين مائة ومائتي كيلومتر عند منطقة ممل التي تمر فيها ثلاثة طرق محصنة بالقلاع تتجه إلى جرودنو وكوفنو وأونتلسبورج، وهذا معناه أن فرسان التيوتون الذين احتلوا لتوانيا في منتصف القرن السادس عشر قد تركوا أكثر من نصف المساحة التي احتلوها فراغا حاجزا لتأمين أملاكهم الجديدة ضد السلاف.
وأغرب أنواع الحدود المهجورة كانت بين الصين وكوريا، فقد طرد السكان من نطاق عرضه حوالي مائة كيلومتر، ودمرت كل القرى والمزارع الموجودة داخل هذا النطاق، وهددت السلطات كل من يقبض عليه داخل هذا النطاق المهجور بالموت الفوري، وكانت التجارة بين الدولتين تسلك طريقا واحدا مصرحا به من قبل السلطات، وزيادة في الحيطة والحذر لم يكن هذا الطريق مفتوحا طوال العام، بل كان يؤمر بفتحه ثلاث مرات في العام لمرور القوافل.
وفي أغلب الظروف كانت هذه المناطق المهجورة كنطاقات حاجزة بين الدول والمجتمعات البدائية تفقد قيمتها لأسباب كثيرة على رأسها حدوث غزو أو تحسين العلاقات بين الدول المتنازعة، أو اضطرار الدول والمجتمعات إلى إلغائها نتيجة للضغط السكاني الداخلي والحاجة إلى أرض وموارد جديدة، ولكن هذه المناطق كانت تتحول قبل ذلك بالتدريج إلى مأوى وملجأ للمجرمين والفارين من الدولتين المتجاورتين أو إلى مأوى للثوار على أنظمة الحكم، ومن الأمثلة الحديثة على ذلك أن المناطق غير المأهولة على طول الحدود الأمريكية المكسيكية كانت مأوى للخارجين على القانون خلال العشرات الأولى من هذا القرن، ولما استفحل أمرهم اضطرت الحكومة الأمريكية إلى تجريد حملات عسكرية واستخدام الجيش والوسائل الحربية للقضاء عليهم.
ولا شك في أن المناطق الخالية عمدا - تلالا أو غابات أو مستنقعات أو أراضي جيدة غير معمورة - صالحة لقيام نطاقات حاجزة بين الدول في حالة وجود مزيد من الأرض وقليل من السكان، ومع اقتصاد زراعي أو نشاطات اقتصادية أولية، ولكن مع نمو الحضارة الصناعية والنمو السكاني الحديث مع النزاعات القومية وظهور الدول القومية بأشكالها الحديثة، لم تعد الحاجة إلى هذه التخوم المهجورة قائمة، بل على العكس ظهرت الحاجة إلى مزيد من الأرض ومزيد من الموارد، ومن ثم اختفت هذه المناطق الحاجزة تماما من خريطة أوروبا وغيرها من الدول إلا من بقايا تاريخية قديمة كإمارات لكسمبورج وليختشتاين وأندورا ونبال، واتخذت المناطق الحاجزة وضع المناطق المحايدة في الأراضي قليلة السكان ذات الموارد المحتملة ريثما يتم اتفاق الدول على تقسيمها في ظل ظروف سياسية مواتية. (2-3) المسطحات المائية والحدود السياسية
تشكل المسطحات المائية - أنهارا وبحيرات وبحارا - عقبات طبيعية أمام الاتصالات البرية المعتادة، ويلزم وجود وسيلة خاصة لعبورها - قوارب وسفن وجسور - وبذلك فإنها في الحقيقة نوع من أنواع الحدود الاستراتيجية المانعة، ولكن الأنهار والبحيرات مشكلات خاصة تختلف عن البحار والمحيطات، ومن ثم يجب التفريق بينهما. (أ) الأنهار والبحيرات
منذ القدم كانت الأنهار تعد عائقا طبيعيا تستقر بموازاته الحدود الاستراتيجية للدول مثل الراين قديما (الرومان) وحديثا (فرنسا وألمانيا وسويسرا)، وريوجراندا بين الولايات المتحدة والمكسيك ، وآمور بين الصين والاتحاد السوفيتي، والكنغو بين زائيري وجمهورية كنغو برازافيل، والزمبيزي بين روديسيا وزامبيا، وأوروجواي بين الأرجنتين من ناحية وأورجواي والبرازيل من ناحية أخرى.
وهنا يجب أن نميز بين الحدود الطبيعية والاستراتيجية، فالنهر - كمسطح مائي - عقبة استراتيجية ومن ثم يصبح حدا عسكريا ملائما، ولكنه ليس حدا طبيعيا في كل الحالات، ويعتمد ذلك على نوع النهر: هل يجري في سهل أو واد واسع أم في منطقة وعرة أو أخدودية؟ هل هو نهر عريض هادئ أم ضيق متدفق التيار؟ هل هو دائم الجريان أم موسمي المياه؟ هل يغير مجراه أم هو ثابت المجرى؟ وعلى ضوء تحديد النهر في أجزائه المختلفة يمكننا أن نقول في النهاية هل هو حدود اتصال أم انفصال.
إن النهر في أجزائه العليا غالبا غير صالح لتحديد خط سياسي طبيعي؛ لأنه يكون مجموعة من الروافد الصغيرة المنحدرة سريعا والمتأثرة كثيرا بالأمطار أو الثلوج أو الينابيع، وفوق هذا فإنه يجري فوق منطقة مرتفعة مضرسة غالبا هي في حد ذاتها منطقة انتقال حدية واسعة، ولهذا فإن الغالب أن مسارات الأنهار في مجاريها الوسطى والدنيا - حيث يتحدد النهر في مجرى واحد - هي الأجزاء التي يمكن أن تتخذ حدودا استراتيجية، وهي بالفعل كذلك تاريخيا، فالراين ليس الحد السياسي بين النمسا وسويسرا في مجراه الأعلى إلا عند قرب دخوله بحيرة بودن - كونستانزة - وبعدما ينتظم جريان مائية النهر منذ خروجه من تلك البحيرة نجده يكون في معظمه الحد التاريخي بين سويسرا وألمانيا، وبين ألمانيا وفرنسا.
والدانوب لا يكون حدا سياسيا في مجراه الأعلى، فهو لم يكن الحد الشمالي لمملكة بافاريا قديما، ويجري عبر المائيات الجنوبية حاليا، وهو يخترق شمال النمسا دون أن يصبح حدا سياسيا خارجيا أو إداريا، ويكون جزءا من حدود المجر وتشيكوسلوفاكيا، وجزءا آخر من حدود رومانيا من جانب ويوجسلافيا وبلغاريا من جانب آخر، وأخيرا يكون في دلتاه جزءا من حدود رومانيا والاتحاد السوفيتي.
وبعض الأنهار تغير مساراتها في أجزاء محددة وأخرى في أجزاء واسعة، ومن الأمثلة على ذلك أن بلدة برايزاخ القديمة - على الراين الأوسط في إقليم بادن الألماني - كانت أصلا على الضفة اليسرى للنهر؛ أي داخل إقليم الألزاس حتى القرن السادس عشر، ثم غير النهر مجراه فأصبحت على الضفة اليمنى فدخلت بذلك في الجانب الألماني، وفيما بين سويسرا والنمسا غير الراين مجراه بعد عام 1892، ولكن الدولتين اتفقتا على إبقاء الحدود بين البلدين على أساس المجرى القديم، وقد اتفق مؤتمر فيينا 1815 - بعد الحروب النابليونية - على اتخاذ مجاري الأنهار حدودا، لكن أحدا في هذا المؤتمر لم ينتبه إلى ظاهرة تغيير مجاري الأنهار. وإذا كانت هذه الحالة المقترنة بالتغيير البسيط في مجاري الأنهار، فماذا تكون الحالة لو كان الأمر يرتبط بتغيرات عديدة واسعة المدى.
كانت الحدود الأمريكية المكسيكية المرتبطة بمسار نهر ريوجراندا مشكلة من مشاكل تغير مجرى النهر، وتوضح الخريطة 12 جزءا من مسار النهر عند مدينة البازو الأمريكية، وكيف تغير المجرى مرات عديدة سنوات 1852، 1889، 1930، وما هذه الخريطة إلا نموذج للتغيير الذي كان يكتنف مسار النهر كله، وبطبيعة الحال كان خط الحدود يتغير مع مسار النهر ويطول أو يقصر مع كثرة الثنيات المستحدثة، ولهذا قررت الحكومة الأمريكية في عام 1933 إنشاء هيئة لضبط فيضان ريوجواندا وتقصير المسار بحفر مجرى مستقيم عند الثنيات، وبذلك تقصر أطوال الحدود التي ثبتت في وسط المجرى العميق، وفي عام 1963 تنازلت الولايات المتحدة عن مساحة قدرها 437 فدانا إلى المكسيك كانت في جنوب النهر حتى عام 1864 ثم أصبحت شماله بعد أن غير النهر مجراه.
وإذا تصورنا أن حدا سياسيا كان يرتبط بمسار هوانجهو في شمال الصين، فإن تغير مسار النهر في مجراه الأدنى كان سيؤدي إلى كارثة سياسية؛ لأنه كان يبتعد عدة مئات من الكيلومترات في بعض السنوات عن مساره الأول (انظر الخريطة 15)، وقد أمكن في الوقت الحاضر ضبط مسار النهر على النحو الظاهر في الخرائط ليس تجنبا للكوارث السياسية، وإنما للكوارث الاقتصادية والسكانية الهائلة التي كانت تحدث بصفة مستمرة.
وإلى جانب التغيرات التي تحدث في مسارات الأنهار، فإن هناك مشكلة أخطر، فالغالب أن أودية الأنهار في مساراتها الوسطى والدنيا هي مناطق عامرة بالسكان على كلا جانبي النهر، وغالبا ما يرتبط العمران بعضه بالبعض الآخر وترتبط المصالح الاقتصادية بين سكان الضفتين، ويصبح النهر وسيلة للربط والاتصال بدلا من الفصل، ويترتب على ذلك في غالبية الأحوال أن تصبح مناطق الأودية النهرية من عوامل تكوين حضاري اقتصادي متشابه، فإذا ما جرى الحد السياسي وسط هذه المنطقة الحضارية الواحدة فإن ذلك لمما يؤسف له.
وبرغم كل هذه العيوب نجد أن الأنهار كثيرا ما تتخذ حدودا سياسية من أجل الراحة والتسهيل السياسي، مثال ذلك أن القوى الاستعمارية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية قد استخدمت الأنهار بكثرة لتحديد مناطق النفوذ؛ لأنها ظاهرات طبيعية موجودة وواضحة، ومن ثم كان يسيرا على هذه القوى أن تتفق فيما بينها على حدود لا تخطئها العين، ولكن مثل هذه الحدود سببت كثيرا من التفرقة بين المجتمعات فقسمتها بين نوعين من الاستعمار، كما هو الحال حينما وجد الباكونجو أنفسهم مقسمين إلى ثلاث تبعيات استعمارية: البرتغال في أنجولا وكانبدا، والبلجيكيون في زائيري الحالية، والفرنسيون في كنغو برازافيل.
ولا شك في أن مسار النهر يصبح حدا سياسيا جيدا إذا ما تصادف أنه حد لغوي أو إتنولوجي، ولكن ذلك قليل مثل حدود البلغار والرومان على جانبي الدانوب، ولهذا تلجأ الدول التي تصل بحدودها إلى نهر ما إلى محاكاة التطور الحضاري البطيء بأسلوب سريع، ذلك هو تهجير السكان الأصليين من مواطنهم وتوطين أبناء الدولة محلهم، وبذلك يصبح مسار النهر مرتبطا بالحد السياسي والقومي، مثال ذلك إعادة توطين الأتراك واليونانيين شرق وغرب نهر مارتيزا بعد أن هزمت تركيا في الحرب العالمية الأولى وقرر الحلفاء مد حدود اليونان في تراقيا إلى ذلك النهر، ومثل ذلك تهجير الألمان من معظم المنطقة التي تقع شرق الأودر ورافده نيسه بعد الحرب العالمية الثانية وتوسيع حدود بولندا غربا إلى مسار هذا النهر.
وفي بعض الأحيان تتخذ البحيرات أجزاء من مسارات الحدود، وتعد سويسرا بين الدول القليلة التي تمتد أطوال كثيرة من حدودها في البحيرات: بحيرة بودن بين النمسا وسويسرا وألمانيا، بحيرة أيان بين فرنسا وسويسرا، وبحيرتا ماجوري ولوجانو بين سويسرا وإيطاليا. وتمتد الحدود الكندية الأمريكية في جزء منها بطول البحيرات العظمى كلها عدا بحيرة مشجان، وفي أفريقيا تماثل أوغندا سويسرا؛ فهناك حدودها الطويلة على بحيرة فكتوريا وبحيرتي إدوارد وألبرت. وتمتد الحدود التانزانية بأطوال كبيرة داخل بحيرات فكتوريا وتنجانيقا ونياسا، والأمثلة كثيرة في أفريقيا (تشاد - نياسا - بنجويلو ... إلخ)، وبرغم أن البحيرات أصلح من الأنهار كحدود سياسية، بحكم اتساع مسطحها كما وأن معظمها يقع في مناطق جبلية وعرة، إلا أن لها مشاكلها الأخرى، فتقسيم البحيرات بين وحدات سياسية غالبا ما يحرم الدول من القيام بأعمال هندسية كبناء السدود ورفع مستوى المياه من أجل توليد الطاقة إلا باتفاقات مسبقة، وكذلك لا يمكن استغلال الثروة السمكية أو المعدنية - إن وجدت - إلا باتفاقات مسبقة أيضا، وفضلا عن ذلك فإن البحيرات تكون مجالا للتهريب - البضائع والأشخاص - لا يسهل التحكم فيه. (ب) سواحل البحار والحدود السياسية
تشكل السواحل البحرية خطوطا طبيعية مناسبة لامتدادات السيادة القومية للدول، ربما هي أكثر وضوحا وتحددا من الجبال والأنهار، فساحل البحر، ولو أنه في حد ذاته منطقة انتقالية طبيعية وليس خطا فاصلا، إلا أنه في الواقع يفصل فصلا واضحا بين نوعين منفصلين من البيئة: اليابس الأرضي والمسطح المائي المالح، أما الجبال فهي ظاهرة تضاريسية انتقالية عريضة داخل اليابس، ولا تختلف عن اليابس في تكوينها، إنما الاختلاف يكمن في ارتفاع مناسيبها عن الأرض المحيطة بصورة تدريجية أو شبه فجائية، والأنهار مجار مائية محدودة العرض تحتل مناطق ذات مناسيب منخفضة نسبيا عن الأرض المحيطة، وغالبا ما يكون الانخفاض تدريجيا بحيث تكون أودية الأنهار نطاقات انتقالية تدريجية في الظاهرات الجغرافية الطبيعية والبشرية، أما البحار فهي تكون فعلا مناطق انقطاع تامة بين إيكولوجيتين مختلفتين تماما: الحياة الأرضية حيث يعيش الإنسان وتتكون الدول والقوميات، والحياة البحرية حيث لا يعيش الإنسان إلا انتقاليا لفترات محدودة جدا من العمر.
خريطة (14): نموذج للتغيرات في مسارات الأنهار. نهر ريوجراندا بين المكسيك والولايات المتحدة عند البازو.
خريطة (15): التغيير القديم للمجرى الأدنى لنهر هوانجهو في شمال الصين . (2-4) مواقع البحار وعلاقتها ببساطة الحدود السياسية البحرية وتعقدها
على هذا النحو فإن سواحل البحار هي عادة حدود طبيعية طيبة، ولكن جودة مثل هذه الحدود تكمن في تناسب علاقة اليابس والبحر ونوعية البحار المطلة عليها أراضي الدول، وبذلك فإن هناك بحار اتصال وبحار انفصال. (أ) بحار الاتصال
في الغالب نجد بحار الاتصال هي تلك البحار الداخلية الهادئة نسبيا، ذات المجموعات الجزرية في أغلب الأحيان، وفي هذا المجال يمكننا أن نميز ثلاثة بحار متوسطة في العالم، كان لها دور الوصل أكثر من الفصل في تاريخ وعلاقات الشعوب والحضارات، ومن ثم كانت أقدارها السياسية متشابكة، وهذه البحار المتوسطة هي (انظر الخريطة رقم 16): (1)
البحر المتوسط الأورو أفريقي الممتد بين القارات الثلاث: أوروبا وأفريقيا وآسيا، والمتمركز في قلب العالم الحضاري القديم والأوسط، والذي يكون حاليا مجالا حيويا للحركة التجارية بين العالم الغربي وعالم الخامات والقوميات الجديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا والمحيط الهندي، ولا نريد أن نعيد إلى الأذهان أن هذا البحر كان الطريق الأكثر أمانا للحركة والتجارة بالقياس إلى اليابس المحيط به منذ أقدم العصور، فعلاقات مصر الفرعونية مع ساحل الليفانت وقبرص وكريت تكرست وازدهرت عبر مياه البحر، وكذلك كان ازدهار المدن الفينيقية والإغريقية مرتبطا ارتباطا عضويا بالبحر المتوسط، وبالمثل كانت علاقات الرومان البحرية والسياسية في البحر المتوسط الركيزة التي مكنتها من امتداد نفوذها إلى أوروبا الغربية، وكذلك كان سعي ممالك العراق القديم والفرس للوصول إلى واجهة البحر المتوسط في فينيقيا والأناضول عبارة عن استكمال للسيطرة على طريق التجارة الرئيسي برا (وسط آسيا وهضابها الغربية) وبحرا (البحر المتوسط)، وبالمثل كانت الدولة الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة قوى مرتبطة بشدة بعالم البحر المتوسط، شريان الاتصال الحضاري والاقتصادي في العالم آنذاك، وقد أعاد نابليون - بأفكاره الجيوبوليتيكية البارعة - الحياة إلى البحر المتوسط بحملته على مصر والشرق، بعد أن طال ركود هذا البحر بانتقال التجارة إلى المحيطات الواسعة، وأخيرا فإن قناة السويس كان لها الفضل في إعادة ما كان لهذا البحر من أهمية سالفة، وتمثل الصراعات السياسية المعاصرة على هذا البحر أهميته كمنطقة أعمال حيوية ذات صلات واسعة مع أمم وبلاد كثيرة في العالم؛ فالصراعات الإنجليزية الفرنسية، ثم الصراعات الإنجليزية والفرنسية من جانب ضد الصراع الإيطالي الألماني من جانب آخر، وأخيرا صراعات الكتلتين الشرقية والغربية والقوى القومية في الشرق الأوسط.
خريطة (16): ثلاثة بحار متوسطة. حدود الانغلاق الأرضي على حوض البحر. رسمت البحار الثلاثة على مقياس رسم موحد، المستطيل المنقوط يمثل المسطح الأساسي لحوض البحر المتوسط القديم بالنسبة لمسطح البحرين الآسيوي والأمريكي. (2)
البحر المتوسط الآسيوي: ويتمثل هذا في مجموعة بحار جنوب شرق آسيا بين الصين الجنوبية والهند الصينية والهند من ناحية واليابس الأسترالي الشمالي من ناحية ثانية، هنا نجد عدة بحار متداخلة فيما بينها: بحر الصين الجنوبي - وخليجا تونكين وسيام - وبحر أندمان بين لسان الملايو في الشرق وجزر أندمان ونيكوبار في الغرب وساحل بورما في الشمال، ولهذا البحر امتداد كبير شديد الحيوية هو مضيق ملقا بين سومطرة والملايو، وفضلا عن هذين البحرين هناك المسطحات البحرية العديدة الفاصلة بين جزر الهند الشرقية والتي تتخذ أسماء بحار عدة مثل بحر جاوة وبحر سلبيس وبحر مولوقا، وأخيرا أرافورا الذي يفصل شمال أستراليا - ارتهام لاند - عن بقية الجزر.
والبحر المتوسط الآسيوي، وإن كان يختلف عن البحر المتوسط القديم في أنه يتكون أولا من مجموعة جزرية هائلة المساحة بالنسبة لجزر البحر المتوسط القديم، وثانيا في أنه ليس بحرا شبه مغلق بكتل اليابس القارية، إلا أنه يشابهه في دوره الحضاري والتجاري، ولقد كان هذا البحر المعبر الذي انتقل عليه الأستراليون الأصليون إلى أستراليا أيضا، وفي جزر هذا البحر اختلطت الحضارات والديانات الهندوكية والبوذية والإسلامية على مسرح الديانات الوثنية، وإليه أيضا امتدت أساطيل التجارة الصينية والعربية والهندية والبرتغالية والإسبانية والهولندية والإنجليزية والفرنسية والأمريكية واليابانية في كافة مراحله التاريخية حتى اليوم (انظر الخريطة 6).
ويختلف البحر المتوسط الآسيوي اختلافا جوهريا عن البحر المتوسط القديم في أنه مصدر هام لعدد من الخامات والمنتجات السلعية الأولية منذ القدم، وبذلك كانت منطقة البحر المتوسط الآسيوي هدفا نهائيا لخطوط الحركة التجارية والسياسية، وليست شريان مواصلات رئيسية كما كان البحر المتوسط الأورو أفريقي، كما يتميز بأن جزره مجال لسكن كثيف، ومحط لهجرات سكانية - الهنود والعرب قديما والصينيون حديثا - ومع التنظيم الاقتصادي يمكن أن يتسع المجال العمراني في داخلية الجزر الكبرى: بورنيو وسومطرة وإيريان، وهذا عكس جزر البحر المتوسط القديم، فجزره في معظمها تكون بيئات طاردة للسكان، بينما التكاثف السكاني يحدث في جيوب صغيرة على شواطئ البحر والأودية الصغيرة المنتهية إليه من محيطه الجبلي (في أوروبا وآسيا) والصحراوي (أفريقيا وآسيا). (3)
البحر المتوسط الأمريكي: هو ذلك البحر الممتد من جنوب الولايات المتحدة إلى سواحل فنزويلا وجمهوريات أمريكا الوسطى، ويشتمل على مسطحين بحريين كبيرين هما خليج المكسيك في الشمال والبحر الكاريبي في الجنوب، وهو يشابه البحر المتوسط الأورو أفريقي في أنه مغلق في الغرب بامتداد اليابس بين الأمريكتين مما دعا إلى فتحه بواسطة قناة بنما - كما حدث بالنسبة لقناة السويس - لكنه يختلف في أنه يتصل بالمحيط الأطلنطي بعشرات الفتحات الواسعة والضيقة بين جزره العديدة، فهو إذن من هذه الناحية يمثل مرحلة وسطى بين البحر المتوسط الأورو أفريقي والآسيوي، وبالمثل فإن مجموعاته الجزرية أقل ضخامة وسكانا من جزر البحر المتوسط الآسيوي، لكنها تشكل ميزان الثقل في الاقتصاديات الأولية في هذا البحر، بالإضافة إلى مصادر البترول في فنزويلا والمكسيك وتكساس.
وفي بداية الكشوف الجغرافية والعقود الكثيرة التي تليها كان هذا البحر بسواحله كلها مسرحا للنفوذ الإسباني، ثم تتابعت القوى الأخرى: فرنسا وهولندا وبريطانيا وأخيرا أمريكا، وباستثناء الوجود الأمريكي الفعال فإن الوجود الإنجليزي والفرنسي والهولندي قد تحول إلى وجود رمزي في جزر صغيرة من مجموعة الأنتيل الصغرى، وإلى جانب القوميات اللاتينية المختلفة، فإن تحول دولة كوبا إلى النظام الاشتراكي قد أدخل عنصرا جديدا من عناصر الصراع السياسي لم يكن له وجود في هذا البحر الأمريكي قلبا وقالبا.
وإلى جانب هذه البحار التي تيسر الاتصال وتكون طرقا لحركة مستمرة، هناك بحار أخرى أصغر حركة في مرحلة من مراحل التاريخ مثل بحر الشمال والبلطيق والبحر الأحمر، وذلك مرتبط بظروف طبيعية مختلفة مثل اضطراب بحر الشمال المستمر ومعاداته للملاحة القديمة في أحيان كثيرة، وتجمد البلطيق في مواسم معينة، ووعورة وجدب شواطئ البحر الأحمر عامة.
أما البحار الفاصلة فهي تلك التي تشكلها المحيطات الواسعة مع استثناء جزء كبير من المحيط الهندي بين مدغشقر وشاطئ أفريقيا الشرقي والبحر العربي وخليج بنجال وجزر الهند الشرقية.
لكن الفصل والاتصال مسألة نسبية تظل مرتبطة بوجود علاقات تجارية وحركة مستمرة، فالأطلنطي الجنوبي بين شواطئ أفريقيا وأمريكا الجنوبية كان مسطحا فاصلا، لكنه تحول إلى مسرح حركة ملاحية كبيرة بعد الكشوف الجغرافية، وأصبحت موانئ خليج غانا وجنوب أفريقيا مزدهرة بالحركة التجارية المارة من الهند إلى أوروبا، وبعد شق قناة السويس قلت الحركة في هذا الجزء من المحيط، ولم تعد تعبره سوى السفن المتجهة إلى أستراليا وأفريقيا الغربية والجنوبية، ومع هذا التغير هبطت الصراعات الدولية - البرتغالية والإنجليزية والفرنسية والألمانية - في هذه البحار الجنوبية، كذلك كان الأطلنطي الشمالي «بحر الظلمات» قبل الكشوف الجغرافية، لكنه يستأثر الآن بأضخم حركة ملاحية في العالم كله وبعلاقات سياسية متشابكة ومعقدة.
وخلاصة القول أن بحار الاتصال تنتابها تيارات سياسية متشابكة: أولا سياسات الدول القومية المطلة على تلك البحار، وثانيا الدور المؤثر لسياسات القوى الكبرى على مصير واستراتيجية القوى في تلك البحار، وتحليل التيارات السياسية في البحار المتوسطة الثلاثة خير دليل على ذلك، فعلى سبيل المثال نجد البحر المتوسط الأورو أفريقي تنتابه التيارات السياسية التالية منذ مطلع القرن العشرين: فرنسا كانت تعتبر الحوض الغربي للبحر المتوسط بحرا فرنسيا تحف به الأراضي الفرنسية من الشمال (فرنسا) والجنوب (فرنسا عبر البحار في شمال أفريقيا)، وإيطاليا تعد الحوض الأوسط كله بما في ذلك الأدرياتيك بحرا إيطاليا، «وفي عهد موسوليني اعتبرت كل البحر بحيرة إيطالية لكن محك التجربة أثبت غير ذلك». وبريطانيا كانت تمارس نفوذها الفعال في شرق البحر المتوسط - مصر وفلسطين وقناة السويس - كما كانت تتحكم مفاتيح البحر الهامة في جبل طارق ومالطة.
ثم جاءت نهاية الحرب العالمية الثانية وتكوين حلف الأطلنطي الذي دخلت فيه فرنسا وإيطاليا واليونان وتركيا، وبذلك أصبح البحر المتوسط بحيرة غربية يسيطر عليها الأسطول الأمريكي السادس بالاشتراك مع الأساطيل القومية الأخرى: إيطاليا واليونان وتركيا، أما فرنسا فقد انسحبت من ذلك الحلف، ثم جاءت انتفاضات الدول العربية وحركات الاستقلال على طول الشواطئ الشرقية والجنوبية من البحر المتوسط، وحرم الغرب من قواعد استراتيجية هامة على طول الجبهة العربية: وهران، بيزرت ، طرابلس، السويس، وذلك في نفس الوقت الذي حلت فيه قوى غربية جديدة في الركن الجنوبي الشرقي: إسرائيل، وتدريجيا تصاعدت حدة التوتر في البحر المتوسط إلى أن أصبحت مياهه ساخنة في مواجهة غربية أمريكية وسوفيتية، وأغلقت قناة السويس، وبذلك ركدت الحركة السياسية ركودا مؤقتا في البحر المتوسط، ولا نعرف ماذا يمكن أن ينتهي الأمر إليه في ظل التيارات السياسية العالمية الراهنة المتجهة إلى «تبريد» المناطق الساخنة في العالم. (ب) تغير أهمية البحار
تتغير أهمية الفصل والاتصال في البحار نتيجة السياسات المختلفة التي يتبعها القادة والزعماء، ونتيجة التغيرات التكنولوجية في أدوات الحرب البحرية، فالمياه لا تزال - وكما كانت - حاجزا قويا من حواجز الحدود، ولكن السفن الحربية المزودة بالوقود الذري والقذائف الصاروخية فوق سطح الماء وتحته قد قللت كثيرا من أهمية البحر كحد دفاعي يمكن الاعتماد عليه بصفة مطلقة، ويمكننا أن نعطي هنا مثالين: بريطانيا وأمريكا.
كثيرا ما قيل إن موقع بريطانيا في جزرها كان عاملا من عوامل استقرارها ونجاحها في الحروب، لكن ذلك يدحضه أن بريطانيا تعرضت مرتين لغزو عسكري وحضاري استقرا في هذه الجزر المنيعة: الغزو الروماني قبل بداية التاريخ المسيحي بقليل، والغزو النورماندي في القرن الحادي عشر الميلادي، وفي مقابل ذلك لم يتمكن كل من نابليون وهتلر من إخضاع بريطانيا، والحقيقة أنه إلى جانب ما يعطيه البحر من قوة دفاعية فإن هذه القوة تصبح قوة مانعة في حالة وجود أسطول إنجليزي قوي قادر على صد الأعداء أو جعل الغزوة أمرا محفوفا بالمخاطرة الجسيمة، وفي حالة فقدان الأسطول الإنجليزي فإنه يصعب لنا أن نتصور كيف تنجح بريطانيا في صد أي هجوم يقع عليها، وإلى جانب هذه الحقيقة فإن هناك عاملا بشريا آخر كان يلعب دوره لحساب بريطانيا، ذلك أن بريطانيا في حربها مع نابليون لم تكن وحيدة إلا لفترة محدودة، وفي معظم العصر النابليوني كان لها حلفاؤها وخاصة إمبراطورية النمسا والمجر، فضلا عن إنهاك موارد فرنسا العسكرية في متاهات السهول الروسية المتجمدة، والحال نفسه كان في العهد الهتلري، صحيح أن حلفاء بريطانيا سقطوا بسرعة إلا أن القوة الأمريكية الاقتصادية والسياسية والعسكرية قد دعمت بريطانيا طوال سني الحرب، فضلا عن سقوط قوات هتلر الفعلية في حملتها الفاشلة في مساحات الاتحاد السوفيتي الشاسعة.
وإذا كانت بريطانيا جزيرة صغيرة لا يفصلها عن مكامن الخطر الأوروبية سوى شقة بحرية ضيقة، فإن الولايات المتحدة تمتلك هذه الميزة البريطانية على صورة أضخم عشرات المرات.
فالولايات المتحدة في حد ذاتها مساحة شاسعة مشحونة بموارد هائلة أولية وصناعية فضلا عن أنها في حقيقة الأمر الآمرة الناهية في معظم أرجاء القارتين الأمريكيتين، والولايات المتحدة كدولة ذات حدود وسيادة محددة، وكقوة رئيسية في الأمريكتين معا تمثل جزيرة ضخمة تفصلها عن أخطار أوروبا وآسيا أكبر مسطحات محيطية في العالم، وقد قبعت الولايات المتحدة في «جزيرتها» الأمريكية ردحا طويلا من الزمن، شاعرة بالأمان الذي توفره لها عزلتها الجزرية.
في تلك الفترة كانت الولايات المتحدة عاكفة على تدعيم نفسها اقتصاديا، وهي نفسها الفترة التي كان السياسيون الأمريكيون ينظرون إلى المحيط على أنه عامل دفاع لا يكاد أن يقهر، ولكن الولايات المتحدة دخلت مرحلة اقتصادية سياسية أخرى قبيل الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة حينما خرجت رءوس الأموال والاستثمارات الأمريكية إلى آسيا الشرقية وأوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، وفي هذه الحالة تكاثفت الحركة التجارية الأمريكية عبر البحار، وخاصة عبر الأطلنطي الشمالي إلى أوروبا والباسيفيك إلى آسيا، وهكذا لم تعد البحار الواسعة عامل فصل ودفاع، بل تحولت إلى طرق حركة للأموال والسلع والمصالح الأمريكية، وهنا فقدت أمريكا عزلتها وفقدت المحيطات التي تلفها منعتها الدفاعية، وأصبحت أمريكا ترى حدودها الآمنة في وسط أوروبا وشواطئ آسيا الشرقية والجنوبية الشرقية.
وبعبارة أخرى نلخص الموقف الخاص بقوة الحدود البحرية على النحو التالي : (1)
المسطحات البحرية في حد ذاتها عائق أمام الغزو، وبذلك تكون حدودا دفاعية طيبة. (2)
تعتمد جودة هذه الحدود البحرية على عدة شروط أهمها وجود قوة بحرية تدعم هذه الإمكانية الدفاعية الطبيعية. (3)
تتغير إمكانات الدفاع البحرية بتغير أساليب الحرب البحرية ومبتكراتها. (4)
تتغير قيمة البحار كحدود مع تغيير السياسات الاقتصادية والعلاقات الدولية التجارية . (5)
الحدود البحرية المطلة على بحار اتصال وحركة أعقد وأكثر من الحدود المطلة على بحار واسعة أقل حركة، وبذلك فإن الحدود المطلة على بحار الاتصال أضعف كحدود دفاعية من النوع الثاني من الحدود. (2-5) مواضع الحدود البحرية وفكرة المياه الإقليمية
رأينا كيف تؤثر مواقع البحار على جودة الحدود السياسية البحرية فتجعلها حدودا ذات مشكلات سياسية متداخلة أو بسيطة، والآن لنبحث في موضع خط الحدود الساحلي لتحديد النفوذ السياسي الذي تمارسه الدولة على سواحلها ومياهها الإقليمية.
برغم وجود الدول القديمة في الماضي إلا أن قلة السكان عامة، وبطء وسائل المواصلات وعدم وجود أجهزة إنذار، وكون الحدود عامة - برية وبحرية - عبارة عن مناطق انتقال وليست خطوطا فاصلة واضحة، فإن الحدود السياسية البحرية القديمة كانت في الغالب حدودا مفتوحة أمام الغزوات البحرية المفاجئة وأمام غزوات القراصنة، ولهذا كانت وسيلة الدفاع الأولى هي ترك «شقة حرام»، بمعنى ترك أراض مقفرة بين خط الساحل والمدن والعمران في الداخل كي تصبح تلك الأراضي عاملا من عوامل إنذار السكان، ولتمكنهم من التجمع للدفاع ضد الغزوة المفاجئة، وهذه هي نفس الخطة التي لجأ إليها الناس في تخطيط حدودهم البرية، ولهذا نجد أن المدن التجارية والبحرية لم تكن تبنى على الشواطئ مباشرة إلا حيث تسمح الظروف الدفاعية، فروما كانت تقع على بعد 20 كم من الساحل، وأثينا على مبعدة ثمانية كيلومترات، وطروادة على بعد خمسة كيلومترات من معبر الدردنيل الهام، وعلى عكس ذلك كانت صور وقرطاجة والإسكندرية وفينسيا التي كانت كل منها تتحصن وراء جزيرة قلعة، أو شبه جزيرة تحميها قلاع من الداخل والخارج، وبذلك كانت على ساحل البحر مباشرة.
ومع نمو الأساطيل البحرية السريعة ووسائل الإنذار والمواصلات الجيدة لم تعد الحاجة قائمة إلى إنشاء شقة حرام، خاصة أن ذلك يعوق التجارة البحرية، وكما تقدمت الحدود البرية عبر النطاقات الحدية الانتقالية إلى تشكيل خط سياسي واضح متفق عليه، تقدمت الحدود السياسية البحرية إلى عبر خط الساحل، وأصبحت هناك حدود سياسية تجري على مسطح الماء، واعتبرت المياه بين الحدود والساحل مياها إقليمية تمارس فيها الدولة سيادتها كما تفعل على اليابس.
وتاريخ المياه الإقليمية وتطورها كفكرة تطبيقية في الحدود السياسية طويل ومعقد وغير متفق عليه من كافة الدول، وتبدأ هذه الأفكار منذ القرن الثالث عشر حينما أصدرت النرويج أمرا بمنع السفن من دخول مياه النرويج شمال ميناء برجن إلا بعد الحصول على تصريح ملكي، وكانت دوقية فينسيا تعتبر الأدرياتيك مياها إقليمية تابعة لها، وفي فترة الكشوف ادعت إسبانيا والبرتغال ملكية مياه المحيطات.
وعلى عكس هذه الادعاءات الواسعة أخذت الدول تنظر إلى المياه التي تحف بسواحلها على أنها مناطق سيادة للدولة، وظهرت آراء في أول عام 17ق.م تقول إنه لا يمكن اعتبار المسطحات البحرية ملكا لأحد إلا في حالات الخلجان والمضايق، وفي القرن الثامن عشر ظهر رأي آخر يقول إن الادعاءات على المياه الساحلية لا يمكن تدعيمها إلا بإنشاء سلسلة من الحصون تحمي سيادة الدولة، وبذلك ظهرت فكرة تخطيط حدود المياه الإقليمية على أساس مدى قذيفة المدفع، وعلى عكس مبدأ قذيفة المدفع ظهرت فكرة أخرى ترى وجوب تحديد نطاق أو منطقة ذات عرض محدد تمارس فيها سيادة الدولة فيما يختص بالسماكة والحياد ... إلخ من وظائف الدولة، وكانت الدانمرك أول من ينفذ هذا المبدأ فأعلنت حول شواطئها منطقة محايدة مساوية لمدى الرؤية بالعين عام 1691، بينما أعلن الإنجليز منطقة عرضها 12 ميلا مياها إقليمية 1736.
وفي 1782 أعلن قانوني إيطالي مبدأ تحديد المياه الإقليمية بعرض ثابت في كل الدول وطالب أن يكون هذا العرض ثلاثة أميال، وقد حدد هذه الأميال الثلاثة باعتبار أنها أبعد مدى ممكن لقذيفة المدفع، كما طالب أن يكون هناك نطاق محايد وراء المياه الإقليمية بعرض مساو لضعف عرض المياه الإقليمية، وفي عام 1793 أعلنت أمريكا مبدأ إنشاء نطاق محايد في المياه بعرض ثلاثة أميال فقط، وبدأت الدول تأخذ بهذا المبدأ فيما بعد، وفي الحقيقة لم يكن هناك ارتباط فعلي بين الأميال الثلاثة وطلقة المدفع؛ لأنه حتى 1814 لم يتجاوز مدى المدفع الميل إلا بقليل.
وقد لاقى التنفيذ الفعلي لمبدأ الأميال الثلاثة صعوبات كثيرة في التنفيذ، فأولا: هل هناك قوة تجبر كل الدول على تنفيذ هذا المدى من المياه الإقليمية، وثانيا: هل يمكن مد سيادة الدولة على مناطق ذات أهمية أبعد من الأميال الثلاثة.
وفي عام 1946 بدأت محكمة العدل الدولية في لاهاي العمل من أجل تشريع دولي باسم «قانون البحار»، وفرغت من عملها عام 1956، وفي مؤتمر جنيف عام 1958 قبلت 86 دولة معظم توصيات القانون الجديد، وتظهر مشكلات المنطقة الشاطئية جلية من خلال تداخل وتعقد الظاهرات الطبيعية (انظر خريطة 17) وتقسم هذه المنطقة إلى: (1) نطاقات المياه الداخلية. (2) المياه الإقليمية. (3) المنطقة الملاصقة. (4) منطقة الانتشار المائي والرصيف القاري.
ولا يوجد أدنى شك في سيادة الدول على مياهها الداخلية - خلجان ومصبات نهرية ومرافئ.
أما المياه الإقليمية فهي تلك التي تمارس فيها الدولة سيادة معينة، ولا يمنع فيها مرور سفن أجنبية لأغراض بريئة «أي مجرد المرور الذي أصبح حقا لكافة السفن في العالم»، أما النطاق الملاصق للمياه الإقليمية فيجوز للدولة أن تمارس فيه أشكال الرقابة التي تراها، لمنع عمليات التهريب الجمركية وتهريب الأشخاص والحماية الصحية. وباستثناء هذه الأغراض فإنه ليس للدولة حقوق أخرى على تلك المياه التي تعتبر جزءا من أعالي البحار، حرة لكل السفن. والحدود الخارجية للمياه الملاصقة عادة «12» ميلا بعيدا عن الشاطئ، فإذا ما ادعت دولة مياها إقليمية بعرض 12 ميلا - كما هو الحال في ادعاءات الاتحاد السوفيتي - فإنه في هذه الحالة لا توجد مياه ملاصقة لتلك المياه الإقليمية.
وفيما بعد النطاق الملاصق توجد منطقة غير محددة بالاتفاق تسمى منطقة الانتشار، لكن بعض الدول ادعت على هذا النطاق حقوقا معينة مثل منع الصيد البحري ومرور السفن الحربية الأجنبية لأغراض دفاعية، ومن الأمثلة على عدم وضوح وتحدد هذا النطاق أن بيرو وشيلي تدعيان نطاقا من هذه المياه عرضه 200 ميل من الشواطئ تمنع فيهما أساطيل الصيد الأجنبية ممارسة السماكة، كما ادعت إكوادور وكوستاريكا نطاقا مماثلا، وادعت كوريا نطاقا عرضه مائة ميل، وفي عام 1946 أعلنت الأرجنتين سيادة الدولة على كل المياه المحددة بالرصيف القاري الممتد على شواطئ الأرجنتين، وبذلك شملت هذه المياه نطاقا بلغ عرضه 280 ميلا في منطقة جزر فالكلاند البريطانية، وفي عام 1936 كانت دول الأمريكتين قد اتفقت على نطاق عرضه الأدنى 300 ميل على شواطئ الأطلنطي باسم نطاق الأمان
Security Zone
تمنع فيه كل السفن الحربية الأجنبية للدول المتحاربة كتأمين لنصف الكرة الغربي.
ولا يوجد نص في الاتفاقات الدولية على ما يسمى بنطاق الانتشار، لكن الدولة تعمل به في حدود قوتها وإمكاناتها، وبذلك فإن لكل دولة - إذا أرادت - منطقة انتشار تحددها وتمارس فيها أعمال سيادتها بحكم الواقع وليس بحكم القانون، وهذا هو الذي يدفع بعض الدول إلى اتخاذ إجراءات القبض على السفن ومصادرتها أو التعويض عنها داخل ما تدعيه من مياه، مثل بيرو وأيسلندا.
وتوضح حالة أيسلندا ادعاءات المياه الإقليمية غير المتفق عليها في أجزاء كثيرة من العالم، ففي عام 1944 - بعد استقلال أيسلندا - حددت الدولة خط قاعدة للساحل خارج الرءوس وأشباه الجزر، ثم مدت مياهها الإقليمية أربعة أميال ابتداء من خط القاعدة هذا، وقد احتجت بريطانيا على ذلك؛ لأنه يحرم السماكين الإنجليز من مساحة كبيرة كانوا يرتادونها باستمرار منذ وقت طويل، إلا أن المحكمة الدولية وافقت على خطوط القاعدة المستقيمة فيما اختص بالنرويج والنزاع الإنجليزي النرويجي السابق (انظر خريطة 18). وفي سنة 1948 مدت أيسلندا حدود مياهها الإقليمية إلى عمق 12 ميلا ورفض الإنجليز الاعتراف بذلك، وأرسلوا سفنا حربية لحماية مراكب الصيد الإنجليزية، وقد استمر النزاع الإنجليزي الأيسلندي لمطالبة أيسلندا بمد نفوذها على مساحات أكبر من ذلك بكثير، أسوة بدول أمريكا اللاتينية، وفي شهر أكتوبر 1973 توصلت الدولتان إلى اتفاق لحل هذا النزاع.
وكانت هناك حالة مماثلة بين أمريكا وكندا، وقد حدث اتفاق على اعتبار ستة أميال من خط القاعدة حقا من حقوق كندا على أن يسمح للسفن الأمريكية بالصيد في هذه المياه لمدة عشر سنوات بعد الاتفاق حتى لا تصاب أساطيل الصيد التي تعودت القيام بنشاطها في منطقة معينة بضربة اقتصادية مفاجئة. وخلاصة القول أن مناطق صيد الأسماك الغنية - الأطلنطي الشمالي بين النرويج وجزر فارو وأيسلندا وجرينلاند ولبرادور ونيوفوندلاند، ومنطقة الأطلنطي المغربية السنغالية، ومنطقة الباسيفيك الممتدة من أمريكا الوسطى إلى شيلي - هي مناطق نزاع دولية، ومن حق بعض الدول التي تعيش في جزء كبير من مواردها على الأسماك أن تطالب بحماية المياه التي يتعيش منها جانب من سكانها كأيسلندا وبيرو، ولكن الادعاءات التاريخية لأساطيل الصيد الأخرى تقف عقبة أمام تنفيذ حقوق الدول، خاصة أنها دول صغيرة تقف أمام مجموعة من الدول الكبرى ذات الأساطيل المجهزة بأحدث وسائل الصيد الحديثة.
خريطة (17): قطاع يوضح مظاهر المنطقة الشاطئية. عن
L. M. Alexander
1963 «أنماط العالم السياسية» ص74.
خريطة (18): المياه الإقليمية في التنفيذ. يلاحظ استخدام خط مستقيم على عكس استخدام الأقواس والخطوط المستقيمة معا.
وفيما يلي بيان بالحدود التي تتبعها الدول لتحديد مياهها الإقليمية ومناطق الصيد القومية:
جدول 8-1: حدود المياه الإقليمية.
بعد الحد عن خط الساحل
أفريقيا
آسيا
أمريكا اللاتينية
أوروبا
أمريكا الشمالية
أوشينيا
200 ميل
إكوادور
الأرجنتين
أورجواي
البرازيل
بنما
سلفادور
130 ميلا
غينيا
25 ميلا
جابون
قبرص
12 ميلا
الجزائر
سوريا
المكسيك
بلغاريا
كندا
ليبيا
الأردن
هندوراس
رومانيا
مصر
السعودية
جواتيمالا
الاتحاد السوفيتي
السودان
الكويت
فنزويلا
إثيوبيا
العراق
ترنيداد
الصومال
إيران
تنزانيا
باكستان
مدغشقر
الهند
موريشس
سريلانكا
الكنغو
برما
نيجيريا
تايلاند
توجو
إندونيسيا
غانا
داهومي
سيراليون
السنغال
موريتانيا
ليبيريا
جمبيا
10 أميال
ألبانيا
يوغوسلافيا
6 أميال
تونس
تركيا
هايتي
اليونان
ساحل العاج
إسرائيل
الدومينكان
إيطاليا
الكاميرون
ملديف
إسبانيا
جنوب أفريقيا
5 أميال
كمبوديا
النرويج
4 أميال
السويد
فنلندا
3 أميال
كينيا
ماليزيا
كوبا
فرنسا
الولايات المتحدة
أستراليا
فيتنام (ج)
جمايكا
بريطانيا
نيوزيلندا
تايوان
جويانا
بلجيكا
اليابان
كولمبيا
هولندا
شيلي
الدانمرك
أيرلندا
بولندا
اتباع أحكام القانون الدولي
كوستاريكا
ألمانيا (غ)
جدول 8-2: الحدود البحرية لمصايد الأسماك.
بعد الحد عن خط الأساس
أفريقيا
آسيا
أمريكا اللاتينية
أوروبا
أمريكا الشمالية
أوشينيا
200 ميل
كوريا (ج)
نيكاراجوا
بيرو
شيلي
18 ميلا
السنغال
12 ميلا
المغرب
تركيا
المكسيك
إيطاليا
الولايات المتحدة
أستراليا
تونس
الدومينكان
إسبانيا
نيوزيلندا
ساحل العاج
كولمبيا
البرتغال
نيجيريا
فرنسا
جنوب أفريقيا
بلجيكا
هولندا
ألمانيا (غ)
الدانمرك
بولندا
السويد
النرويج
بريطانيا
أيرلندا
أيسلندا
6 أميال
لبنان
وإلى جانب مشكلات المياه الإقليمية والنشاطات الاقتصادية المختلفة تظهر مشكلة المياه الإقليمية أيضا بين الحين والحين في حق مرور السفن الحربية ، خاصة خلال فترات الحروب، وتحتدم هذه المشكلة في مناطق المضايق مثل البسفور والدردنيل (تركيا والاتحاد السوفيتي)، ومضايق ثيران (بين الدول العربية وإسرائيل)، والاتفاق العام هو أن من حق الدول في حالة الحرب منع السفن الحربية أو التجارية المعادية من المرور في المضايق التي تدخل ضمن المياه الإقليمية، لكن تنفيذ كافة الحقوق كان دائما مشروطا بالقوة التي تمكن أو تحول دون تنفيذ هذه الحقوق. (2-6) الأهمية بالنسبة للواجهات البحرية للدول
لكل دولة أوضاعها الخاصة الناجمة عن علاقات الموقع والمكان، وعلاقاتها السياسية الدولية؛ مما يؤدي إلى تغاير زمني واضح في القيمة النسبية للواجهات البحرية لكل دولة على حدة، وهذا بطبيعة الحال إلى جانب عوامل أخرى أسلفنا قولها مثل نوع البحار التي تطل عليها الدول، فضلا عن الأهمية المجردة لوجود واجهة بحرية من أي حجم للدول المختلفة، وهذا أمر ليس تحقيقه سهلا على كل دولة.
وفي الحقيقة تنبع الأهمية النسبية للسواحل من علاقات الدولة السياسية، وبما أن هذه العلاقات ليست ثابتة زمنيا، فإن أهمية السواحل تختلف من عصر إلى آخر، وبنفس قوة تأثير العلاقات السياسية نجد الظروف الجغرافية عاملا آخر من عوامل تحديد الأهمية النسبية للواجهات البحرية، ونعني بالظروف الجغرافية هنا تكامل التفاعلات الجغرافية من طبيعة الشاطئ وطبيعة خلفيته بالنسبة للتفاعلات السكانية والاقتصادية والتجارية، وبذلك فإن الأهمية النسبية للواجهات البحرية يمكن أن تصبح ذات قيمة ثابتة غير متغيرة بفعل أشكال الشاطئ الطبيعية وخلفيته التضاريسية والمناخية والإيكولوجية، ولكن تفاعلات المظاهر البشرية الجغرافية - عمران ونشاطات اقتصادية متغيرة وخطوط مواصلات - بحكم تغايرها زمانيا تؤدي بدورها إلى إحداث أنواع من التغيير في بعض الأشكال الثابتة للمظاهر الطبيعية الشاطئية في صورة شتى الأعمال الهندسية التي تقام في مناطق المستنقعات واللاجونات والشطوط الرملية والسواحل المفتوحة أمام تأثيرات البحر المختلفة من أجل بناء الموانئ الصناعية.
إذن إن أهمية الجبهات البحرية للدول أو الدولة الواحدة تتغير حسب ظروف بشرية بحتة: العلاقات السياسية واتجاهات الدولة في سياساتها الخارجية والاقتصادية والتجارية من ناحية، ونتيجة تغير خلفية السواحل عمرانيا واقتصاديا من ناحية ثانية.
وربما كانت فرنسا خير ما نسوقه من أمثلة على قيمة التغيرات السياسية والاقتصادية في تحديد الأهمية النسبية لواجهاتها البحرية الثلاث: الشمالية المطلة على بحر المانش، والغربية المطلة على خليج بسكي والمحيط الأطلنطي، والجنوبية المطلة على البحر المتوسط. وتقدم لنا الدراسات الزمانية تغيرا في مركز الثقل السياسي الاقتصادي الفرنسي، ومن ثم تبعه تغير مماثل في أهمية الجبهات الساحلية على النحو الملخص التالي:
أولا:
برزت الجبهة الجنوبية بروزا واضحا في خلال العصور القديمة حتى انتهاء العصر الروماني بحكم أن العلاقات البحرية والتجارية كانت أكثف ما يكون في البحر المتوسط خلال تلك العصور التاريخية المبكرة، وفي خلال العصر الروماني أيضا برزت أهمية الساحل الشمالي لفترة لا بأس بطولها إبان الحكم الروماني لبريطانيا، بينما كانت الجبهة الغربية غير ذات أهمية واضحة.
ثانيا:
في خلال العصر النورماني كانت الأهمية النسبية للسواحل الشمالية المواجهة لبريطانيا على أكبر جانب من الأهمية بعد أن تقسمت فرنسا إلى دويلات وإمارات صغيرة - القرن الحادي عشر - وكذلك نتيجة لحرب المائة سنة (1338-1453) بين إنجلترا وفرنسا.
ثالثا:
تلا ذلك تدعيم آخر للجبهة الساحلية الشمالية والغربية خلال القرن الثامن عشر بعد إنشاء الإمبراطورية الفرنسية في أمريكا الشمالية: كندا ولويزيانا (فقدت فرنسا كندا لصالح بريطانيا في 1763) وأملاكها في البحر الكاريبي وغيانا (ما زالتا تحت الحكم الفرنسي).
رابعا:
ابتداء من 1830 - احتلال الجزائر - بدأت الجبهة المتوسطية الفرنسية تصبح عاملا فعالا في التعبير عن اهتمامات فرنسا بإمبراطورية جديدة في أفريقيا الشمالية والغربية، وقد زادت أهمية هذه الجبهة بعد فتح قناة السويس؛ إذ أصبح البحر المتوسط معبرا بحريا هاما لتجارات العالم المداري في المحيط الهندي الآسيوي الأفريقي.
وبعد أن تقلصت فرنسا عبر البحار إلى مناطق محدودة جدا - الممتلكات الفرنسية في الكاريبي والصومال الفرنسي وبعض جزائر الباسيفيكي الجنوبي - فإننا نرى كل جبهاتها البحرية الثلاث تعمل فيما يشبه التوازن النسبي، ولم يعد هناك ثقل سياسي معين يدعو إلى زيادة في أهمية جبهة عن أخرى، ولكن برغم ذلك فإن موقع الجبهات الثلاث يعمل دوره في رفع قيمة واحدة عن الأخرى، هذا فضلا عن التأثيرات السياسية النابعة عن تكوين مقدمات الاتحاد الأوروبي وإنشاء السوق الأوروبية.
وعلى هذا فإن الواجهة الشمالية الفرنسية أصبحت تقع على ممر الملاحة الأعظم أهمية بين أوروبا الغربية وأمريكا عبر الأطلنطي الشمالي، وخلفيتها الصناعية ابتداء من السين ونورماندي تجعلها امتدادا لأضخم امتداد صناعي أوروبي غربي - شمال فرنسا وبلجيكا وهولندا وغرب ألمانيا الاتحادية - أما الواجهة المتوسطية فقد أصبحت منفذا بحريا عظيم القيمة، ليس لفرنسا فحسب، وإنما للتكتل الاقتصادي الأوروبي القاري - فيما عدا إيطاليا - وذلك عبر وادي الرون إلى الراين، فمرسيليا بحكم موقعها الجنوبي هي ميناء هام لكثير من المنتجات المدارية الأفريقية التي يعاد تصديرها بحرا إلى أمريكا وبرا إلى بقية أوروبا، وهي في الوقت نفسه الميناء الهام الذي يستقبل بترول شمال أفريقيا والشرق الأوسط، والغاز الأرضي من شمال أفريقيا، أما الواجهة الغربية فإنها أقل أهمية بالقياس إلى سابقتيها، وإن كانت بدورها حيوية لبعض أشكال التجارة، خاصة وأن خلفيتها الزراعية تؤهلها لذلك.
وبالمثل نجد أن الأهمية النسبية لسواحل الولايات المتحدة الثلاثة كانت متغيرة زمانيا، فالساحل الشرقي كان وما زال أكثر هذه السواحل قيمة للدولة الأمريكية بحكم وقوعه على الأطلنطي الشمالي في مواجهة أوروبا، وبحكم خلفيته المتعددة الأنشطة الاقتصادية، وكان الساحل الجنوبي المطل على خليج المكسيك ذا أهمية خاصة بالنسبة لتجارة الأوليات الزراعية، ثم زادت قيمته بما ينتجه من بترول، وبالأهمية السياسية التي تعلقها الولايات المتحدة على علاقاتها السياسية بأمريكا الوسطى وقناة بنما، وكان الساحل الغربي أقل هذه السواحل أهمية إلى أن بدأت الولايات المتحدة عبور الباسيفيك إلى هاواي والفلبين وشرق آسيا، وزادت هذه الأهمية بصورة واضحة نتيجة العلاقات السياسية والجيوبوليتيكية الأمريكية مع اليابان وجنوب شرق آسيا وأستراليا، وكثافة التجارة الأمريكية اليابانية وبالعكس عبر مياه الباسيفيك الشاسعة.
وقد كان لواجهة السويد على البلطيق أهمية خاصة عندما توسعت مملكة السويد عبر البلطيق إلى فنلندا وسواحل البلطيق الشرقية والجنوبية الشرقية حتى القرن السابع عشر، وبعد تلك الفترة بدأ عهد التوجيه الغربي إلى بحر الشمال، وأنشئ ميناء جوتبورج الذي يحتل المكانة الأولى بين موانئ السويد تعبيرا عن أهمية الساحل الغربي بالنسبة لسواحل الدولة، وبالمثل انتقلت أهمية السواحل الألمانية من البلطيق إلى الامتداد الساحلي القصير على ركن بحر الشمال عند مصبات الألب والفيزر تبعا لاتساع رقعة الدولة من مجرد مملكة شرقية (بروسيا) إلى دولة اتحادية (ألمانيا قبل الحربين العالميتين)، والأمثلة بذلك كثيرة على تأثير التوجيه السياسي والتجاري للدول على أقدر جبهاتها الساحلية المختلفة.
وتؤثر الأشكال الطبيعية للشواطئ وخلفيتها بدورها تأثيرا شبه ثابت على الأهمية النسبية للواجهة أو الواجهات البحرية للدولة، وتتعدد هنا العوامل الطبيعية التي تتضافر على تقليل أهمية الواجهة البحرية للدولة، فالتضاريس العنيفة للشواطئ ومناطقها الخلفية وإن كانت حاجزا دفاعيا طيبا، إلا أنها تحدد أشكال النشاط الاقتصادي والعمران بصورة تجعل من المنطقة وإقليمها نطاق عزلة قليل الأهمية باستثناء جيوب صغيرة ينحت فيها الإنسان لنفسه موطئ عمران ونشاط محدود، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك غالبية شواطئ النرويج وأيسلندا وما شابههما من سواحل الفيوردات في ألاسكا وغرب كندا وجرينلاند وتيرا دلفويجو وشيلي الجنوبية (وساحل دلماشيا اليوجسلافي بصورة مخففة).
وحينما تشترك الظروف المناخية المعادية للسكن البشري - البرودة الشديدة وأقاليم الجفاف - مع أشكال التضاريس الوعرة، تصبح قيمة السواحل قليلة جدا، مثال ذلك سواحل خليج العقبة ومعظم سواحل البحر الأحمر، أو سواحل الجزيرة الجنوبية من نيوزيلندا، وعلى نحو آخر تقل أهمية السواحل في مناطق اللاجونات - المستنقعات الساحلية - والسواحل المتميزة بالشطوط الرملية، «السيرف» (الأمواج العالية المتكسرة على الشواطئ أبدا) مثل سواحل غرب أفريقيا.
وبرغم أن هذه الظروف الطبيعية قوية التأثير فإن ظهور الموارد الاقتصادية من أي نوع يؤدي بالإنسان إلى إقامة منشآت مكلفة لتصحيح المعالم الطبيعية موضعيا، وتشهد على ذلك سكة حديد كيرونا-نارفيك لتصدير خام الحديد السويدي عبر جبال وفيوردات النرويج ، وسكة حديد لبرادور (شيفرفيل-ست ايل، جانيون-بوركارتيه) والطرق البرية المصرية على طول ساحل البحر الأحمر وإلى وادي النيل (خامات معدنية وبترول)، والطريق بين إيلات وساحل البحر المتوسط في إسرائيل، ومجموعة الطرق الحديدية في موانئ غرب أفريقيا الصناعية إلى مناطق الإنتاج الأولية الزراعية والتعدينية.
وعلى هذا فإن اشتراك العوامل الطبيعية والبشرية يؤثر بطرق مختلفة على أقدار الشواطئ وقيمتها الفعلية، فالشاطئ الشرقي للولايات المتحدة يمكن أن يقسم إلى قسمين: الشمالي والجنوبي، والقسم الشمالي أصلح طبيعيا لقيام المرافئ وخلفيته واسعة تمتد إلى حوض سنت لورنس الكندي - شتاء - والأمريكي، بما في ذلك منطقة البحيرات العظمى الأمريكية ومنطقة بنسلفانيا الفحمية، وكلها خلفية متنوعة الموارد التعدينية والصناعية، كما أنها أقل صلاحية من الناحية الطبيعية لقيام الموانئ «لكثرة المستنقعات والرءوس الرملية»، وخلفيته - برغم امتدادها السهلي الواسع - أقل تنوعا في المواد الصناعية ومرتبطة بالموارد الأولية والزراعية بصفة عامة، ومن ثم تظهر في القسم الشمالي موانئ عديدة لامعة كثيفة الحركة عالية الأهمية - على رأسها نيويورك وبوسطن ونيوآرك - بينما لا تتردد أسماء الموانئ الجنوبية إلا في حالات خاصة «مثل نورفولك وتشارلزتون وسفانا».
والأهمية النسبية للسواحل المصرية الطويلة محدودة القيمة بسبب الوعورة والجفاف والمستنقعات إلا في مناطق محدودة بأكيومين ضيق - موارد تعدينية وبترولية - وتقتصر المناطق المهمة من السواحل المصرية على منطقتي خليج قناة السويس والإسكندرية اللتين تنفتحان طبيعيا على الأكيومين المصري الرئيسي في الدلتا، وحيث تتنوع الموارد الأولية والصناعية، وبالمثل فإن السواحل الكندية هائلة الطول قليلة الأهمية إلا في منطقتين محدودتين هما مصب سنت لورنس - خلال الصيف فقط - وفيوردات منطقة فانكوفر الغربية، والأمر نفسه ينطبق على السواحل السوفيتية الطويلة، والتي لا تظهر قيمتها إلا في نقاط محدودة بصفة دائمة (مورمانسك والبلطيق والأسود وبحر اليابان)، أو بصفة مؤقتة (شتاء على طول خط الملاحة الشمالي من مورمانسك إلى كمتشكا وفلاديفوستوك).
وسواء كانت السواحل ذات قيمة طبيعيا واقتصاديا، أو ليست بذات قيمة واضحة، فإن الدول تسعى سعيا حثيثا إلى امتلاك واجهات بحرية لما لذلك من أهمية فعلية في النقل البحري، وهو أرخص أنواع النقل وأكبرها حجما حتى الآن، لكن ذلك ليس كل ما في الأمر، فإن الدول تسعى أيضا للحصول على منافذ بحرية بحيث تتوقع أهمية مستقبلية لتلك الشواطئ، مهما كان حجم تلك المنافذ وأيا كانت صورتها الطبيعية، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك حصول إسرائيل على منفذ ضيق صحراوي على رأس خليج العقبة، وقد حققت بذلك ثلاثة مبادئ: (1)
المبدأ السياسي الاستراتيجي: فصل العالم العربي إلى أرضين واتخاذ اللسان البري الفاصل قاعدة انطلاق توسعية، أو على الأقل قاعدة انطلاق مؤثرة بشتى الوسائل على المناطق المحيطة. (2)
مبدأ تعدد الواجهات البحرية الذي هو في حقيقته أمر صحي للدول سياسيا واستراتيجيا. (3)
المبدأ الاقتصادي الذي يجعل من إيلات نهاية جسر لاحتمالات وإمكانات تجارية مستقبلية مع عالم المحيط الهندي الأفرو آسيوي: بترول وماس وخامات أولية وتجارة مصنعات صادرة وواردة.
ولا شك في أن بلغاريا كان يمكن أن تصبح في مركز أقوى فيما لو استبقت لها منفذا على بحر إيجه، وكانت بولندا دائما في موقف ضعيف - فترة ما بين الحربين العالميتين - إلى أن حصلت على واجهة بحرية طويلة نسبيا على البلطيق، وجمهورية زائيري - الكنغو كنشاسا سابقا - في مركز ضعيف اقتصاديا وعسكريا بسبب ضيق جبهتها البحرية ضيقا متناهيا بالقياس إلى مساحتها الضخمة، ويضطرها ذلك إلى الاعتماد على موانئ تسيطر عليها البرتغال في أنجولا بدرجة كبيرة، وميناء دار السلام التنزاني بدرجة أقل.
وبرغم صغر الواجهات البحرية لبعض الدول إلا أنها ما زالت أحسن حالا من الدول الداخلية المحبوسة بجيرانها، خاصة إذا لم تكن علاقات الجيران طيبة أو تسوء في فترة من الفترات، فسويسرا والنمسا وتشيكوسلوفاكيا والمجر أمثلة طيبة من أوروبا على الدول المعتمدة اعتمادا ضروريا على علاقات حسن الجوار، وجمهورية مالي وجدت نفسها في مأزق حينما ساد العداء علاقاتها بالسنغال، واضطرت إلى ترك الطريق الجغرافي المفتوح عبر السنغال والالتجاء إلى طريق مكلف وعر وموسمي إلى منفذ في ميناء كوناكري - جمهورية غينيا. وتواجه زامبيا مأزقا أشد وأنكى، فهناك حكومتان معاديتان تعترضان طريقها الحديدي الحالي إلى البحر: حكومة البيض في روديسيا وحكومة الاستعمار البرتغالي في موزمبيق، وقد اضطرها ذلك إلى اللجوء إلى طريق طويل وشاق وغير طبيعي عبر مساحتها الشمالية الشرقية الخالية من السكان أو تكاد، وعبر تنزانيا كلها حتى تصل إلى ميناء دار السلام، وقد احتاج الأمر إلى إنشاء طريق بري مكلف وخط أنابيب بترولية مكلف أيضا، وهي بسبيل إتمام خط حديدي أشد تكلفة، فما أصعب المواقف التي تتكامل فيها العوائق الطبيعية والحرمان من واجهة بحرية مع العداء السياسي، وما أشد تأثيره على الحياة الطبيعية للدول! (3) الحدود والظاهرات البشرية
اتضح من الدراسة السابقة أن الحدود إنما هي حواجز اصطناعية يقوم الإنسان بتحديدها وزحزحتها حسب الظروف الزمانية وعلاقات القوى القومية والدولية، وكما أنه كانت هناك دعاوى تؤكد ضرورة وصول القوميات والدول إلى حدود طبيعية - وهي التي يقال إن ريشيليو كان مبتدعها - فإن هناك دعاوى أخرى تطالب باتفاق الحدود السياسية بحدود بشرية مختلفة كالسلالة واللغة والحضارة والدين.
وقد تكون هذه الدعاوى أقرب إلى المنطق من دعاوى الحدود المرتبطة بالظاهرات الطبيعية، فحيث إن الحدود السياسية تحدد أراضي وأملاكا قومية معينة فمنطقي أن تضم - أو تسعى لضم - كل أبناء هذه القومية داخل حدود واحدة من أجل إعطاء توازن حقيقي للدولة مبني على تجانس أفراد الرعية «قدر الإمكان».
وسواء كان هذا أمرا منطقيا أو غير ذلك، فإنه برغم فائدة هذا المنطق لحياة الدول إلا أن ذلك لا يمكن تطبيقه (أ) على الدوام في كل الحالات و(ب) إلى الأبد. وهناك مجموعة من الأسباب تفسر لنا استحالة مثل هذا التطبيق في كافة الحالات منها: (1)
أن توحيد أبناء قومية واحدة «متجانسة سلاليا أو لغويا أو حضاريا أو اقتصاديا» لا يتم إلا بواسطة صراع سياسي وعسكري تعكس نتيجته القوة المنتصرة، وفي هذه الحالة لا نجد رادعا حقيقيا أمام أطماع المنتصر، فهو لا يلجأ فقط إلى محاولة ضم أبناء قوميته التي كانت توجد خارج حدوده، بل إن الانتصار يثمله فيلجأ إلى شتى التبريرات للاستحواذ على مزيد من الأرض على حساب غيره، فيلجأ إلى خلفية تاريخية قد ترجع إلى عقود أو قرون أو آلاف مؤلفة من السنين، كما يلجأ إلى مبدأ تأمين حدوده الجديدة بالاستيلاء على أراض خارجة عن ادعائه السابق، وهو في أضعف الحالات يطلب نزع سلاح شقة حرام على طول الجبهة المواجهة لحدود ادعاءاته السياسية الجديدة، وفي حالات أخرى يعطي لنفسه وصاية على الدولة المهزومة، وفي أقصى الحالات يفتت وحدة الدولة المهزومة أو يحتلها كلها إذا أمكنه ذلك.
والشواهد على هذه الاتجاهات عديدة ولا تدع للشك مجالا؛ فألمانيا النازية طالبت بحدود قومية: احتلت النمسا عسكريا فيما أسمته «بتوحيد الأوصال
Anschluss » في عام 1938، وفي السنة ذاتها ضم الألمان إقليم السوديت التشيكوسلوفاكي وتدريجيا سقطت جمهورية تشيكوسلوفاكيا في صورة حكومتين ألمانية في بوهيميا وسلوفاكية موالية لألمانيا في سلوفاكيا، وفي خلال الحكم النازي من بدايته كانت مشكلات الأقليات الألمانية في بولندا وفرنسا والدانمرك وبلجيكا هي مثار الإعداد للحرب وقيامها، هذا طبعا بالإضافة إلى عوامل أخرى كثيرة على رأسها الطبيعة العدوانية للحزب والنظرية النازية، والرغبة في حل مشكلات ألمانيا الاقتصادية على المستوى المحلي والدولي بتنازعها مع كبار محتكري العالم آنذاك: بريطانيا وفرنسا.
وبعد سقوط ألمانيا في الحربين العالميتين قطعت كثيرا من وحدتها الأرضية بواسطة الحلفاء المنتصرين، وخاصة حينما قسمت بقية ألمانيا بعد عام 1945 إلى دولتين أصبحتا بحكم الأمر الواقع - والآن شرعيا - دولتين معترفا بهما من غالبية المجتمع الدولي فضلا عن اعتراف كل من هاتين الدولتين الألمانيتين ببعضهما.
والقضية الفلسطينية شاهد آخر من عالمنا على استحالة تطبيق مبدأ الحدود القومية، فمنذ بداية هذا القرن والحركة الصهيونية تسعى لإيجاد وطن قومي لليهود، وباستدعاء سند تاريخي متناهي القدم حصلت هذه الحركة على ما عرف باسم وعد بلفور عام 1917 - لا نريد أن ندخل في تفصيلات الجهود الصهيونية والخدمات التي قدمتها للحلفاء، ولا الأسباب التي دعت بريطانيا لإصدار مثل هذا التصريح، إنما الهدف هنا وجود تسلسل الأحداث للاستدلال على ضعف الحجج النظرية الداعية إلى كافة أشكال الحدود السياسية البشرية. وحتى عام 1948 أصبح لليهود وجود عددي لا بأس به ووجود سياسي تنظيمي عسكري قوي في فلسطين، وفي تلك السنة اعترف المجتمع الدولي المؤثر بقيام إسرائيل التي تخطت حدودا خطتها لها الأمم المتحدة في اقتسام فلسطين بدعوى الانتصار في حرب ما بين الهدنتين، ووضع اليد على أراض أخرى كان أهمها استراتيجيا النقب، وبذلك تحقق تكامل أرضي لإسرائيل وتمزق أرضي لفلسطين العربية، وفي عام 1956 حققت إسرائيل مكسبا حيويا هو حرية المرور في مضيق تيران، وبذلك بدأ نزاع قانوني على المياه الإقليمية، وفي عام 1967 حققت إسرائيل اتساعا أرضيا شاسعا بالنسبة لها مؤسسا على مبدأ الحدود الآمنة، وبطبيعة الحال فإن الصراع العربي الإسرائيلي قد اتسم منذ البداية بعنصرين متلازمين: أولهما قوة إسرائيل العسكرية المتزايدة وضعف الالتقاءات العربية مما مكن إسرائيل من إيجاد الحجج الواهية التي تصحب عادة القوة العسكرية المنتصرة، وثانيهما أن صراع هذه المنطقة لم يكن صراعا محليا فقط، بل لا يزال صراعا تشارك فيه القوى الدولية المؤثرة مشاركات مختلفة الأحجام ومتغيرة في القدر والنوع برغم قصر فترة النزاع العربي الإسرائيلي، فقد اشترك المعسكران الغربي والشرقي في دعم إسرائيل عند ولادتها، ثم ظهر تأثير القوى الغربية أكثر فعالية ودعما ووصل إلى قمته بالاتفاق الثلاثي الإنجليزي الفرنسي الإسرائيلي في عام 1956، ولا ينفي ذلك استمرار الدعم الأمريكي، لكن الدعم الأوروبي الغربي كان ستارا مريحا لأمريكا «خاصة دور ألمانيا الغربية في فترة ما بعد عام 1956»، وبعد عام 1956 مباشرة ظهرت تفاعلات الكتلتين الغربية والشرقية على مسرح الشرق الأوسط، لكنها لم تطف على السطح إلا بعد عام 1967، حينما توارت أو قلت أهمية الدعم الأوروبي الغربي - خاصة فرنسا - وبدا كما لو أن الصدام هو مباشرة بين أمريكا والسوفيت أو هكذا تصور العالم، وأيا كانت أو تكون حقائق الأمور فإن ما يهمنا هنا تقرير حقيقة القوة - بغض النظر عن مصدرها المحلي والدولي - في ادعاءات الحدود. (2)
وبما أن الظاهرات البشرية متغيرة وليست ثابتة مثل الظاهرات الطبيعية ثباتا نسبيا، فإن الحدود التي تسعى للالتزام بالظاهرات البشرية هي حدود مؤقتة زمانا وتتغير بتغير تلك الظاهرات.
السلالة مفهوم كثير الظهور في العلاقات السياسية، ويعترف العلماء أن السلالة في حدود وقوالب جامدة لا وجود لها، وإنما هي عبارة عن ظاهرة انتقالية بحتة لعدد من الصفات المورفولوجية والوراثية، فالعنصرية الآرية كانت تصف الآري النقي بصفات محددة مثل الشقرة وطول القامة، ولكن أشد دعاة العنصرية في التطبيق - أدولف هتلر - لم يكن آري الصفات، والأفكار العنصرية الخاصة بالنقاء اليهودي يدحضه الاختلاف الشاسع مثلا في مورفولوجية الأنف عند يهود روسيا وألمانيا وفرنسا ويهود المغرب والشرق الأوسط والحبشة واليهود السود في أمريكا، وإذا كان هذا حال الاختلاط السلالي داخل المجموعة القوقازية فإن الحال ليس أيسر في نطاقات الاحتكاك بين السلالات الرئيسية الكبرى، فإذا أخذنا عاملا واحدا للتفريق السلالي - كاللون مثلا - فإنه قد يمكننا أن نميز نطاقا انتقاليا بين الزنوج والقوقازيين في أفريقيا، ومع ذلك نجد مجموعات قوقازية وزنجانية متوغلة جنوب وشمال هذا النطاق الانتقالي، وبما أن السلالة لا تقوم على معامل تفريق واحد فإنه يتضح لنا بجلاء أن السلالة هي عنصر غير علمي، وأنها على أحسن الفروض تجمعات انتقالية لصفات بشرية، في صورة نطاقات مماثلة لنطاقات الجبال وغيرها من المظاهر الطبيعية، وبذلك فإن السلالة لا يمكن أن تعطي خطا محدودا لرسم حد سياسي.
وقد تكون اللغة أحسن حالا من السلالة في التحديد القومي، لكن اللغات في تصنيفها التفصيلي تتكون من لهجات مختلفة، وأن اللهجات اللغوية المتاخمة لحدود لغوية تغزوها بكثرة مفردات واستخدامات لغوية مشتركة من اللغتين، حال ذلك اللهجتان الألزاسية واللوترنجية اللتان تتداخل فيهما الألمانية والفرنسية، وتختلف اللهجة الوالونية عن الفرنسية بتأثير جرماني أيضا، واللهجات الألمانية في مناطق التيرول المنعزلة تتداخل مع الرومانشية واللاتينية العتيقة، وفي شرق العراق تداخل لغوي عربي فارسي تركماني كردي، وقس على هذا كثير في أوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا.
ومثل هذا، بل وعلى نطاق أعقد، نجد تداخل الأديان والطوائف بحيث تصبح مناطق بأكملها نطاقات انتقالية، وتشهد على ذلك منطقة الجبال الالتوائية في شرق البحر المتوسط حيث تتواجد الأديان الثلاثة الكبرى، وتتعقد تداخلاتها وطوائفها تعقدا يهدم من الجذور أفكار الدولة والدين، لدرجة أن إسرائيل - إحدى الدول القليلة التي قامت على فكرة الانتماء الديني - تتداخل فيها الديانات الثلاثة وطوائفها تداخلا كبيرا ، وذلك برغم تهجير وإخلاء مناطق واسعة لأرباب اليهودية فقط.
وخلاصة القول أن الحدود الإتنولوجية - سلالية أو لغوية أو دينية - لا وجود لها في صورة خطوط فاصلة إلا في أضيق الحدود، ولا تظهر إلا بمعاونة عوازل جغرافية مانعة، وإنما تظهر في الغالبية الساحقة من الأحوال في صورة نطاقات انتقالية متراوحة الاتساع والضيق، وأن هذه النطاقات الانتقالية تحدد مساحات أرضية تسود فيها نسبة لا بأس بها من التجانس الديني، ونسبة أعلى من التجانس اللغوي. (3)
هذا التجانس الإتنولوجي النسبي لا يظل ثابت الوجود، بل يتغير تدريجيا وزمانيا نتيجة تفاعلات داخلية وخارجية، مثال ذلك انتشار البروتستانتية بأشكالها المختلفة على مسرح الكاثوليكية في ألمانيا أو بريطانيا، وقد كان هذا الانتشار تلقائيا داخليا أحيانا وبتأييد القوى السياسية في أحيان أخرى، وانتشار اللغة العربية اختلف كثيرا عن انتشار الديانة الإسلامية، وكلاهما حدث متزامن ومصدرهما واحد.
ولا شك في أن اتجاه الظاهرات الإتنولوجية عامة هي إلى الانتشار والتفاعل لأن الإنسان - حامل الصفات الإتنولوجية - عنصر دائم الحركة، ولكن لا شك أيضا في أن الاتجاه إلى تجميد الظاهرات الإتنولوجية في قوالب مكانية في سطح الأرض راجع إلى التعمد الإنساني في صورته كمجتمع سياسي، وقد كان للقومية - وخاصة نموها السريع المتعصب في أوروبا منذ بضعة قرون - فعل واضح الأثر في تجميع الصفة الانتشارية الطبيعية في الظاهرات الإتنولوجية، وقد استخدمت أدوات عديدة لهذا التجميد: تعليم اللغة وانتشار لهجة مركز السيادة فيها على حساب اللهجات الأخرى بواسطة الأدب الرسمي على حساب الأدب الشعبي، نشر المشاعر القومية ووصولها إلى قمة التركيز الرمزي في صورة الأنشودة القومية والراية وإجبار الأقليات على الاندماج حضاريا أو الهجرة السلمية أو التعسفية، وفوق هذا كله رسم حدود سياسية هي خطوط فاصلة بين القوميات عامة، وبين المصالح الاقتصادية خاصة.
وفي الحقيقة فإن هذا التجميد لانسياح الناس وانتشار الظاهرات الحضارية يرجع أحيانا إلى فترات قديمة، وأكبر شواهده إقامة الحوائط والأسوار الضخمة في الصين والدولة الرومانية لوقف الظاهرات البشرية الانتقالية وتجميدها عند حد معين، وسور الصين العظيم هو أطول أسوار الدنيا الصناعية ؛ إذ يزيد طوله عن 2500كم ليحمي سهول الصين من المغول الرحل في صحراء منغوليا، وفي أوروبا بنى الرومان «السور الألماني
Lines germanicus » الذي بني من نويفيد (على الضفة الشرقية لنهر الراين قرب مدينة كوبلنتز) إلى كيلهايم (على الدانوب) وفصل بذلك بافاريا والدولة الرومانية عن القبائل الجرمانية، وكذلك بنى الرومان سور «هادريان» في شمال إنجلترا (بين نيوكاسل وكارليزل) عام 22م، وكان يحتوي على 80 قلعة و320 برجا للحراسة، واستطاع أن يصد غزوات البكتس
ثلاثة قرون، وهناك أيضا الأسوار الدانمركية التي بنيت عام 808م
Danewerk . ولا شك في أن نمط الأسوار تغير في القرن العشرين، فإن خط ماجينو الذي بناه الفرنسيون على الحدود الفرنسية الألمانية، وخط سيجفريد الذي بناه الألمان في مواجهة ماجينو عبر الراين كانا تعبيرين عن تغيير تكنولوجية الحروب الثابتة أرضيا، مع استمرار فكرة السور والحائط العازل.
خريطة (19): تغيرات الحدود السياسية في البلقان 1938-1948. (1) إقليم بسارابيا (جمهورية مولدافيا السوفيتية حاليا). (2) إقليم شمال بوكوفينا، وقد ضم الاتحاد السوفيتي المنطقتين عام 1940 بعد أن كانتا ملكا لرومانيا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. (3) إقليم روتينيا: ضمته المجر إليها عام 1939 ثم ضم للاتحاد السوفيتي عام 1945. (4) نطاق ألمان السوديت: سلخته ألمانيا من تشيكوسلوفاكيا 1938، وأعيد لها بعد 1945. (5) ترانسلفانيا الشمالية: اقتطعت من رومانيا وضمت للمجر 1940 بموافقة ألمانيا، أعيدت لرومانيا 1945. (6) سلوفاكيا الجنوبية: احتلته المجر 1938 ثم أعيد إلى تشيكوسلوفاكيا عام 1945. (7) شمال يوغوسلافيا: احتلته المجر 1940 وأعيد إلى يوغوسلافيا عام 1945. (8) دبروجيا الجنوبية: ضمت إلى بلغاريا عام 1940 وإلى الآن ضمن حدود بلغاريا. (9) ترافيا الغربية: ضمتها بلغاريا 1940 ثم أعيدت إلى اليونان 1945. (10) إلى (15) تقطيع أوصال يوغوسلافيا خلال الاحتلال النازي، الإقليم الجنوبي قسم بين بلغاريا (10) وألبانيا (11) وإيطاليا (15)، وأنشئت ثلاث دول اسمية خاضعة للحكم الألماني هي: (13) دولة الجبل الأسود، (14) دولة كرواتيا، (12) دولة الصرب. (16) إقليم جوليان: ضم إلى يوغوسلافيا بعد اقتطاعه من إيطاليا عام 1947. الحدود السياسية الحالية نقلا عن
L. M. Alexander
1963 ص89.
وبرغم ضخامة هذه الأسوار ومتانة قلاعها، أو الخطوط العسكرية الحديثة وما تقتضيه من شتى أشكال الأبنية والدشم والتحصينات والخنادق المتوغلة في عمق الأرض، برغم كل ذلك فإن مهمة أسوار التجميد هذه لا تخدم إلا فترة زمنية محدودة، وسرعان ما تنهار أمام الحركة البشرية التي تصر دائما على اقتحام العقبات التي تقف أمام خطوط الحركة الحرة بالمعنى المادي (غزو أو هجرة أو ارتباط اقتصادي اجتماعي)، وبالمعنى المعنوي (أيديولوجيات وأفكار وأنظمة حكم وغير ذلك) فقد غزا المغول الصين وحكموها برغم السور العظيم، واجتاحت القبائل الجرمانية أسوار الرومان والعوائق الطبيعية (الألب ونهر الراين )، وأنهوا حكم أكبر إمبراطورية قديمة من إمبراطوريات البحر المتوسط، وهزم الألمان فرنسا برغم خط ماجينو، وهزم الحلفاء ألمانيا برغم تحصينات سيجفريد، وفي كل مرة تنتهي موجة الغزو بإحداث تغييرات عميقة في الدولة المغلوبة على أمرها، وأحدث أشكال التغيرات العميقة هو ظهور توحد أفكار أوروبا الغربية في شتى المجالات بعد أن مزقتها الحروب المدمرة وفرقتها حدود سياسية قومية جامدة (1870، 1914، 1939). (4) الحدود السياسية في التطبيق
مهما كانت الأدلة التي تستند إليها الأفكار المحبذة للحدود في أن تخطط بالارتباط بالظاهرات الطبيعية أو البشرية، وأيا كان منطقها النابع من شواهد وأمثلة، إلا أن كل حد سياسي هو حد جيد أو فاشل بالنظر إلى الظروف والأوضاع الجغرافية والسياسية القائمة، وبهذا يمكن أن يتحول الحد المعين من الجودة والهدوء إلى الفشل نتيجة الضغوط البشرية المختلفة، ويؤدي ذلك بنا إلى الاعتراف بأنه لا توجد قاعدة واحدة سليمة يمكن تطبيقها في حالتين مختلفتين مكانا أو زمانا، ناهيك بانطباق قاعدة أو عدة قواعد على كافة الحدود السياسية، وإذن التعميم أمر خاطئ يتولد عنه الكثير من الأخطاء في علاقات الدول والجيران، ولكن مع ذلك يمكننا أن نرى - حتى الآن - عاملا واحدا يمكن تعميمه على تخطيط الحدود، ذلك العامل العام هو فرض الحد السياسي بالقوة المباشرة أو تحت ضغط القوة في غالبية الأحوال، ويمكن أن نضيف إلى ذلك عنصر التحكيم الدولي في أحيان أخرى، فقد اتسعت حدود الولايات المتحدة على حساب المكسيك بحكم القوة، وانكمشت حدود الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الأولى بتأثير القوة، واتسعت هذه الحدود مرة أخرى بعد الحرب العالمية الثانية وفوز الحلفاء والسوفيت، وانكمشت حدود ألمانيا مرتين بعد الحربين العالميتين أيضا بحكم القوة وفرض الأمر الواقع.
ويستوي الأمر في اتخاذ حدود تسير مع الظاهرات الطبيعية أو البشرية مع وجود عامل القوة والأمر الواقع كعنصر مؤثر في المواقف السياسية، وبعبارة أخرى فإن الحدود المسماة طبيعية أو إتنولوجية قد أثبتت المرة تلو الأخرى أنها حدود فاشلة طالما أن هناك عوامل أخرى - استراتيجية أو اقتصادية أو توسعية - تلعب دورا ظاهرا، أو يظل دورها كامنا إلى أن تأتيه الفرصة ليتحرك على سطح الأحداث لتتغير الحدود.
وهناك أمثلة عديدة نذكر منها حالة رومانيا، فبعد نهاية الحرب العالمية الأولى رأت لجان تخطيط الحدود في البلقان، والمعاهدات الدولية التي أقرت دول البلقان الجديدة، أن تتبع الظاهرات الطبيعية لتخطيط حدود رومانيا الجديدة، في الجانب البلغاري واليوجسلافي، اتخذ مسار الدانوب حدودا لرومانيا مع مد خط الحدود إلى البحر الأسود في اتجاه مشابه لمسار الدانوب، وبذلك اقتطع الحد السياسي الجديد البلغار في إقليم دبروجا وأدخلهم الأراضي الرومانية، وامتدت الحدود الرومانية عبر القسم الشرقي من سهل المجر فضمت بذلك إقليما كبيرا يسكنه المجريون في ترانسلفانيا وعبرت الحدود جبال الكربات لتمتد بموازاة نهر الدينستر وتقتطع بذلك إقليم بسارابيا من الاتحاد السوفيتي، وفي عام 1940 أحدث الألمان تغيرات جوهرية في حدود رومانيا، فضموا دبروجا الجنوبية لبلغاريا، وجزءا كبيرا من ترانسلفانيا للمجر، وكان هذا التعديل قائما على محاولة تخطيط حدود إتنولوجية، وفيما بعد الحرب الثانية ظلت دبروجا ملكا لبلغاريا وأعيدت ترانسلفانيا إلى رومانيا واقتطع منها إقليم بسارابيا الذي أعيد إلى الاتحاد السوفيتي (يكون الآن جمهورية مولدافيا السوفيتية)، وكذلك ضم شمال إقليم بوكوفينا إلى الاتحاد السوفيتي، ومعنى ذلك أن أسسا طبيعية (الأنهار) وإتنولوجية (حدود لغوية وحضارية بين السلاف والرومان) قد اتخذت في إعادة تخطيط رومانيا، ومع ذلك ظلت مشكلة المجريين الموجودين في ترانسلفانيا دون حل، بحيث يكونون الآن أقلية داخل رومانيا، وعلى هذا النسق نجد كافة التغيرات التي انتابت البلقان مرتبطة بالقوى السياسية التي تلتزم أحيانا بمظاهر طبيعية وأحيانا أخرى بمظاهر بشرية حسبما يتفق ذلك مع المصالح التي تلعب دورها وقت تخطيط الحدود، وتوضح الخريطة 19 هذه الحقائق بما لا يدع مجالا للشك.
وتوضح الخريطة 20 تقسيم إمبراطورية النمسا والمجر بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وتكوين دول جديدة كبولندا وتشيكوسلوفاكيا وإضافات إقليمية واسعة إلى دول صغيرة كرومانيا والصرب (يوغوسلافيا).
خريطة (20): نموذج لتقسيم دولة منهزمة. تقسم إمبراطورية النمسا والمجر بعد الحرب العالمية الأولى. (1) ما أعطي لتكوين جزء من دولة بولندا: إقليم جاليسيا. (2) ما أعطي من الإمبراطورية لتكوين كل دولة تشيكوسلوفاكيا: (أ) إقليم بوهيميا. (ب) إقليم مورافيا. (ج) إقليم سلوفاكيا. (د) روتينيا. (3) ما أعطي من الإمبراطورية وأضيف إلى دولة إيطاليا: (أ) التيرول الجنوبي. (ب) إقليم جورتيزيا. (ج) إقليم إيستريا. (4) ما أعطي من الإمبراطورية وأضيف إلى دولة رومانيا: (أ) إقليم بوكوفينا. (ب) إقليم ترانسلفانيا. (5) ما أعطي من الإمبراطورية وأضيف إلى دولة الصرب لتكوين دولة يوغوسلافيا: (أ) إقليم كارنيولا (حاليا يعرف باسم سلوفينيا). (ب) إقليم كرواتيا. (ج) إقليم سلافونيا (حاليا جزء من شمال الصرب). (د) إقليم البوسنة والهرسك.
وقد كانت حدود الإمبراطورية النمساوية والمجرية في مجموعها حدودا تسير مع كثير من الظاهرات الطبيعية، وتفصيلها كالآتي: (1)
حدود النمسا وألمانيا تسير بمحاذاة السفوح الشمالية لجبال الألب. (2)
حدود النمسا وإيطاليا تسير بمحاذاة السفوح الجنوبية لجبال الألب الدينارية الشمالية في إقليم جورتزيا، وبذلك فإن القسم الغربي من النمسا كان عبارة عن إقليم الألب الجبلي الأوسط والشرقي في صورة إقليم انتقالي فاصل بين سهول لمبارديا الإيطالية في الجنوب ومقدمات الألب الشمالية في بافاريا الألمانية، وبعبارة أخرى كانت النمسا تكون التخوم الفاصلة بين المجموعة الحضارية اللغوية اللاتينية (إيطاليا) والمجموعة الجرمانية (ألمانيا والنمسا). (3)
حدود الإمبراطورية الفاصلة بين ألمانيا وإقليم بوهيميا (تشيكوسلوفاكيا الغربية حاليا) كانت تسير مع خطوط مرتفعات واضحة: جبال غابة بوهيميا وغابة بافاريا شمالي مسار الدانوب، وجبال فيختل والأرتز بين بوهيميا الغربية والشمالية وإقليم سكسونيا الألماني، وجبال إقليم السوديت الشرقي الفاصلة بين بوهيميا ومورافيا وبين إقليم سيليزيا الألماني. (4)
امتدت حدود الإمبراطورية عبر جبال الكربات إلى سهول بولندا الجنوبية وهضابها القليلة الارتفاع، بعد تقسيم بولندا بين النمسا وألمانيا وروسيا. (5)
التزمت الحدود النمساوية الروسية بجبال الكربات كحاجز بين إقليم روتينيا وسهول أوكرانيا . (6)
التزمت الحدود النمساوية بامتداد الكربات وجبال ترانسلفانيا كفاصل بينهما وبين دولة رومانيا التي كانت تحتل سهول والاشيا المنحصرة بين الدانوب وجبال ترانسلفانيا. (7)
ابتداء من البوابة الحديدية على الدانوب - الخانق الذي يعبره الدانوب بين جبال ترانسلفانيا وجبال البلقان - اتبعت الحدود النمساوية مسار الدانوب حتى قرب التقائه بإقليم البوسنة الجبلي، وبذلك كانت الحدود فاصلا بين سهول المجر العظمى وبين هضاب الصرب الوسطى والجنوبية. (8)
امتدت الحدود الإمبراطورية فوق إقليم البوسنة والهرسك الذي كان تابعا من قبل للدولة العثمانية، وانتهت الحدود على ساحل دلماشيا عند حدود إمارة الجبل الأسود، وبذلك كانت الإمبراطورية دولة من دول البحر المتوسط بحكم جبهتها البحرية على الأدرياتيك، لكن أهمية هذا الساحل كانت تكمن في المنطقة الشمالية منه حيث ميناءا تريستا وفيومي.
هذه المجموعة من خطوط الحدود الطويلة الملتزمة في معظمها بالظاهرات الطبيعية، فشلت في حماية الإمبراطورية ليس من الخارج فحسب، وإنما من الداخل أيضا، ففي داخل المساحة الكبيرة التي شغلتها الإمبراطورية كانت هناك عدة مجموعات حضارية رئيسية: (1)
الجرمان الذين يكونون شعب النمسا، وكانوا السادة والحكام. (2)
المجريون الذين يسكنون سهول المجر الكبرى ويكونون مجموعة حضارية متماسكة وصلبة، وقد أدت ثوراتهم المتكررة في النهاية إلى إشراكهم في حكم الإمبراطورية التي أعطيت اسما مزدوجا تعبيرا عن المشاركة، وكان ذلك عام 1867، لكن في الحقيقة ظل النمساويون الحكام الفعليين لكافة أرجاء الدولة، بينما كان المجريون حكاما محليين لجزء من الدولة، تماما كما نقول بريطانيا العظمى واسكتلندا، وعلى هذا النحو يفسر القانونيون الوضع الدستوري بأن الإمبراطورية لم تكن تتكون من النمسا والمجر، وإنما كانت تتشكل من المجر وأراض أخرى، بعبارة أخرى ظلت الأوضاع غير متكافئة بين أكبر مجموعتين حضاريتين داخل الإمبراطورية مما كان يدعو الكثيرين إلى إعطائها أسماء مختلفة تجنبا للوقوع في المشكلات القانونية، وكان من بين هذه الأسماء «مملكة الهابسبورج» (البيت المالك النمساوي)، أو «مملكة الدوناو» (الطونة أو الدانوب)، أو «المملكة المزدوجة» (بعد 1867). (3)
المجموعات السلافية الحضارية كانت كثيرة لكنها متفرقة: السلاف الغربيون (يتشكلون من مجموعة البولونيين والسلوفاكيين والتشك)، السلاف الجنوبيون (يتألفون من السلوفينيين والكرواتيين والصرب) بالإضافة إلى مجموعات حضارية أخرى تحتل مناطق العزلة الجبلية في البوسنة والهرسك وساحل دلماشيا.
وحينما بدأ الحلفاء في تقسيم هذه الإمبراطورية الضخمة في وسط وشرق أوروبا اتخذ المقياس الإتنولوجي الحضاري بصورة أساسية في إقامة الدول الجديدة على النحو التالي: (1)
أعطيت المجموعة الجرمانية حدودها في النمسا الحالية. (2)
أعطيت معظم المجموعة المجرية حدودها الحالية. (3)
ضم البولونيون في جاليسيا إلى بقية البولونيين لتكوين دولة بولندا الجديدة. (4)
ضم التشك والسلوفاك لتكوين تشيكوسلوفاكيا التي ظهرت لأول مرة على مسرح التاريخ كدولة. (5)
ضم كل السلاف الجنوبيين إلى الصرب لتكوين دولة يوغوسلافيا. (6)
ضمت ترانسلفانيا وبوكوفينا بمن فيها من مجر وألمان إلى رومانيا.
لكن هذه الحدود الإتنولوجية لم تلتزم بالمقياس الإتنولوجي في كافة الحالات، بل اقتطعت عن عمد مجموعات إتنولوجية داخل حدود الدول الجديدة على النحو التالي: (1)
اقتطع الجرمان النمساويون في التيرول الجنوبي وضموا إلى إيطاليا مما أثار مشكلات طويلة بين النمسا وإيطاليا ما زالت آثارها قائمة حتى الآن برغم التسوية التي صنعها هتلر وموسوليني. (2)
ضم كل جرمان السوديت في جبال السوديت والأرتز وغابة بوهيميا داخل تشيكوسلوفاكيا مما أثار المشكلات مع ألمانيا النازية، وكان من مسببات تصفية دولة تشيكوسلوفاكيا بين 1938-1944 (احتلال السوديت وبوهيميا، وإقامة حكومة موالية للألمان في سلوفاكيا، وضم جنوب سلوفاكيا وروتينيا للمجر). (3)
ضم ترانسلفانيا كلها لرومانيا أثار مشكلة الأقلية المجرية الكبيرة من قسمها الشمالي والغربي، مما أدى إلى اقتطاعها وإعطائها للمجر خلال الحكم النازي. (4)
ضم بعض المجريين في شمال يوغوسلافيا أدى إلى اقتطاع هذا الجزء خلال الحكم النازي أيضا، هذا التعمد في مد حدود القوميات الجديدة على حساب أقليات غير متجانسة كان سببه الأساسي هو علاقات الدول خلال الحرب العالمية الأولى، فإمبراطورية النمسا والمجر كانت ضالعة مع ألمانيا في الحرب ضد الحلفاء؛ ولهذا نالها هذا التجزيء الكبير، كذلك وقع على المجريين غرم كبير بتقطيع أجزاء من حدودهم الإثنية وإعطائها للدول المجاورة - تشيكوسلوفاكيا ورومانيا ويوغوسلافيا - باعتبار أن المجر شريكة في الحرب ضد الحلفاء، وقد كان الجرمان السوديت جزءا من إمبراطورية جرمانية، وحينما أنشئت تشيكوسلوفاكيا كان من الصعب على الحلفاء إعطاء السوديت إلى ألمانيا بحكم أنها دولة منهزمة، وكان من الصعب إعطاء هذا الإقليم للنمسا بحكم أنها منهزمة أيضا، وبحكم الشكل الهلالي الذي يشكل إقليم السوديت حول حوض بوهيميا، وفي الوقت ذاته فإن إبقاء السوديت داخل تشيكوسلوفاكيا يعطي هذه الدولة حدودا طبيعية جبلية في مواجهة ألمانيا.
وهكذا فإن الحدود الإتنولوجية لم تؤد وظيفتها مثلما فشلت الحدود الطبيعية؛ وذلك لأن هذا النوع أو ذلك من الحدود قد فرض عمدا لأسباب أخرى تتعلق بالمواقف الدولية.
وللتدليل على أن الحدود التي توضع عقب كل حرب يظهر فيها ثقل عناصر القوة والعلاقات الدولية أكثر من قوة الحدود الإتنولوجية أو الطبيعية، يكفي أن نشير إلى أن الدول كثيرا ما تلجأ إلى عمليات تهجير أو مبادلات سكانية كوسيلة لحل جرثومة الخلاف الناشئة عن تغير خط الحدود بوجود أقليات غير متجانسة داخل الحدود الجديدة، وفيما يلي - كمثال - بيان بعمليات تهجير السكان في بعض مناطق أوروبا في الفترة بين 1912 إلى 1951:
11
أولا:
الفترة بين 1912 و1939 (شملت حوالي عشرة ملايين شخص). (1)
حرب البلقان 1912-1913 (بين تركيا واليونان حول مقدونيا وتراقيا).
عدد الأشخاص الذين هاجروا (بالآلاف)
يونانيون
425
أتراك
400
بلغار
65
المجموع
890 (2)
الحرب اليونانية التركية بعد الحرب العالمية الأولى وطرد اليونان من منطقة أزمير التركية، توقيع اتفاقية 1923 لتبادل السكان وتهجيرهم، استيلاء اليونان على تراقيا الشرقية البلغارية بعد الحرب الأولى مباشرة:
عدد الأشخاص (بالآلاف)
يونانيون
1450
أتراك
480
بلغار
250
المجموع
2180 (3)
سقوط الدول الوسطى - ألمانيا وحليفاتها - في الحرب العالمية الأولى ترتب عليه: (أ) تهجير الألمان من مناطق خرجت عن حدود ألمانيا:
من المنطقة الشرقية
800
1230
من سلزفيج الشمالية
300
من الألزاس واللورين
130 (ب) بولنديون عائدون إلى بولندا
900
1600 (ج) فرنسيون عائدون إلى فرنسا
50 (د) مجريون عائدون إلى المجر
400 (ه) رومانيون عائدون إلى رومانيا
250 (و) إعادة توطين بولنديين وسكان الدول البلطية الجديدة من الاتحاد السوفيتي
1000
2000 (ز) إعادة توطين روس داخل الاتحاد السوفيتي أو خارجه
1000 (ح) هاربون من الدول الفاشية من ألمانيا
400
780
من إسبانيا
200
من إيطاليا
180
مجموع الأشخاص الذين شردوا وهجروا وتبودلوا في تلك الفترة:
9150
ثانيا:
فترة الحرب العالمية الثانية 1939-1945 (شملت حوالي 27 مليون شخص). (1) الألمان الذين أخلوا مساكنهم نتيجة الحرب الجوية
1970
2370
ألمان الفولجا الذين هجرهم السوفيت إلى سيبيريا
400 (2) تبادل السكان بين فنلندا والاتحاد السوفيتي بعد تعديل الحدود:
روس
400
880
فنلنديون
480 (3) تقسيم بولندا في 1939 بين ألمانيا والاتحاد السوفيتي أدى إلى تهجير:
بولنديون
3500
3700
ومن سكان البلطيق
200 (4) التغيرات السياسية التي أحدثها النازي في أوروبا الشرقية أعادت توطين:
رومانيون
325
1200
صرب
300
مجيار
225
بلغار
185
يونان
90
كروات
75 (5) عمال أجانب وهاربون إلى ألمانيا من دول أوروبا الغربية:
3000
8000
من روسيا وأوكرانيا
2500
من بولندا
2000
من بلقان وشرق أوروبا
500 (6) تقدير عدد اليهود الذين أجبرهم النازي على الهجرة من ألمانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا والمجر وبولندا ... إلخ.
1500
1500
مجموع الأشخاص الذين أعيد توطينهم وتهجيرهم في تلك الفترة
26650
ثالثا:
فترة ما بعد الحرب 1945-1951 (شملت حوالي 26 مليون شخص). (1) الألمان المطرودون من مناطق الاحتلال بعد الحرب
12500
14075
الألمان الذين فروا من ألمانيا الشرقية إلى الغربية
1500
ترحيل ألمان من رومانيا إلى الاتحاد السوفيتي 1945 / 1946
75 (2) لاجئون من دول البلطيق إلى أوروبا الغربية
300
600
إعادة توطين في منطقة البلطيق السوفيتية
300 (3) توطين السوفيت في جمهوريات البلطيق وبروسيا الشرقية وبولندا الشرقية
2300
3575
إعادة توطين أوكرانيين
1275 (4) توطين بولنديين في المنطقة الألمانية سابقا (شرقي الأودر)
4700
4700 (5) توطين التشيكيين في منطقة السوديت
1920
2120
تبادل المجريين والسلوفاك بين الدولتين (مائة ألف لكل منهما)
200 (6) تبادل المجريين والصرب (40 ألفا لكل منهما)
80
80 (7) توطين رومانيين محل ألمان زيبنبورج في ترانسلفانيا
200
200 (8) طرد الإيطاليين من منطقة إيستريا بعد ضمها ليوغوسلافيا
140
140 (9) تبادل الأتراك والبلغار
250
250
مجموع الأشخاص الذين أعيد توطينهم وتهجيرهم في تلك الفترة:
26450
وتوضح هذه الأرقام أنه في خلال 40 سنة من تغيرات الحدود في أوروبا الشرقية والوسطى حدث تبادل للسكان وطرد وتهجير 63 مليونا من البشر، كما تعطينا (خريطة 21) صورة فعلية لتغيرات الحدود المتكررة في أوروبا الوسطى والشرقية والشمالية خلال أقل من نصف قرن، وهي صورة تعبر عن فداحة الخسائر التي تحدث لمجرد نقل الحدود والناس من ديار اعتادوها فترة من الزمن، فضلا عن فداحة الخسائر التي يمنى بها البشر من تخريب ودمار وقتل لخيرة الناس خلال الحروب، هذه الحقائق كلها - بغض النظر عن التغيرات الاقتصادية الناجمة عن تغير الحدود وتهيئة الدول لاتجاهات جديدة في مواقعها الجديدة - تعبر كلها عن عدم ثبات الدولة القومية، وأن الضغوط السياسية الاقتصادية الداخلية والخارجية تفرض بالقوة حدودا تعتبرها مناسبة لمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية بغض النظر عن التزام الحدود بظاهرات طبيعية أو إتنولوجية.
خريطة (21): ... حدود ما قبل 1914 ... حدود ما بين 1918-1938 ... تعديلات الحدود خلال الحكم النازي في البلقان، الحدود الحالية بعد 1945. التواريخ المذكورة في دول البلقان توضح تاريخ استقلالها عن الدولة العثمانية. ؟ − 18 = حدود قديمة إلى سنة 1918. 18 − 39 = تاريخ ومدة خط الحدود وفترة نهايته. 18 − 45 = حدود مستمرة ولم تتغير. 45 − 0 = الحدود القائمة حاليا والمعترف بها. (5) الحدود الهندسية ومشكلات الدول الجديدة
ومن المشكلات التي تثيرها عمليات تخطيط الحدود تلك الخطوط الهندسية التعسفية - سواء كانت فلكية أو غير فلكية - التي اتبعت في تعيين مناطق النفوذ الاستعمارية في فترة تبرعم الاستعمار أو نمو دول جديدة داخل مناطق المستعمرات السابقة، والأمثلة على الحدود الهندسية كثيرة، والولايات المتحدة على رأس قائمة دول تشتد فيها هذه الظاهرة التعسفية، فالجانب الغربي من حدود أمريكا وكندا - خط عرض 49 شمالا - وحدود أمريكا والمكسيك حدود فلكية وهندسية على التوالي، وحدود الولايات في داخل أمريكا غالبيتها الساحقة خطوط فلكية وهندسية معا، ولو تصورنا أن هذه الولايات كانت دولا مستقلة فإن ذلك كان يعطينا على الفور عظم الخسائر الناجمة عن مثل هذا التقسيم المفتعل، والحال نفسه ينطبق على حدود ألاسكا وكندا - خط طول 151 غربا - وحدود الولايات والأقاليم الكندية باستثناء خط تقسيم المياه في حدود يوكن وكولمبيا، ونهر أوتاوا بين أونتاريو وكويبك.
والعالم العربي مليء بالحدود الهندسية: فهناك خط 22 شمالا بين مصر والسودان وخط 25 شرقا بين مصر وليبيا، وأطوال من الخطوط الهندسية تحد سوريا والعراق والأردن والسعودية وليبيا والسودان والصحراء الجزائرية وموريتانيا والصحراء الإسبانية، ولا تخرج هذه الحدود عن أشكالها الهندسية إلا في مناطق العمران والنطاقات الاستراتيجية مثل حدود الجزائر مع تونس، أو حدود اليمن مع عسير السعودية، بينما تختفي خطوط الحدود تماما في مناطق اللامعمور مثل الحدود اليمنية السعودية وغيرها كثير.
وفي أفريقيا مجموعة من الخطوط الهندسية تتكامل مع مجموعة من خط الحدود الملتزمة بالأنهار أو بعض خطوط تقسيم المياه، وهذه أو تلك قطعت الاتصال بين أبناء مجموعة حضارية واحدة مثل الزاندي بين السودان وزائيري، والبقارة بين السودان وتشاد، والباكونجو بين زائيري والكنغو - برازافيل - وأنجولا وكابندا - البرتغاليتين - وقبائل الأيوي بين غانا وتوجو، وعشرات الأمثلة الأخرى في غالبية الدول الأفريقية.
لم تكن خطورة هذه الحدود التعسفية كامنة وقت تخطيطها بالدرجة التي نراها اليوم متضخمة ومتأزمة في عهد الاستقلال، ويعود ذلك إلى عدة أسباب منها: (1)
في إبان الحكم الاستعماري تتضافر حكومات الاستعمار على سياسة إقرار الأمن، وقمع كل المشاعر القبلية التي تظهر بين الحين والآخر، وتركز على تأمين مناطق الحدود حيث تتصل القبائل ببعضها أو حيث تظهر عشائر متقاربة لغويا وأسطوريا، وهكذا تقوم حكومات الاستعمار في المستعمرات المتجاورة بتأمين الحدود المشتركة من الجانبين للمحافظة على «السلام الاستعماري». (2)
في خلال الحكم الاستعماري تربط المستعمرة داخل حدودها التعسفية بعجلة الاقتصاد الرئيسية للدولة صاحبة المستعمرة، ويصبح هناك حد أدنى من النمو الاقتصادي خارج الحدود المرسومة بواسطة قوى الاستعمار، ومن ثم لا توجد مشكلات اقتصادية تضغط على المستعمرة في اتجاه التكامل الأرضي صوب المستعمرات المجاورة، ويؤمن هذا التوازن الاقتصادي مع احتياجات القوى الاستعمارية أن وسائل الحركة والاتصال الحديدية والبرية والنهرية توجه كلها من داخلية المستعمرة إلى موانئها، وتبتعد عن الارتباط بشبكة الحركة في الدولة أو المستعمرة المجاورة. (3)
حينما تحصل المستعمرات على استقلالها فإنها تصبح دولة داخل الحدود التعسفية التي رسمت إبان العهد الاستعماري، وبخروج القوى الاستعمارية المتضافرة في حماية الأمن وقمع مشاكل الأقليات على الحدود، فإن أوضاع الأقليات والقبائل المقتسمة بواسطة الحدود القومية الجديدة تصبح متفجرة وفي حاجة إلى ممارسات دبلوماسية كثيرة ودقيقة لمعالجة مثل هذه المواقف، لكن لم تحل الدبلوماسية الهادئة غالبية هذه المشاكل: ففي الصومال استعرت الحرب والاشتباكات الدموية مع إثيوبيا من أجل تعديل خط الحدود الذي يفصل قسما من الصوماليين داخل حدود إثيوبيا، ومشكلة الأيوي - سكان توجو - ما زالت مكمن خطر ونزاع مستقبلي بين توجو وغانا، وذلك برغم ضم الأيوي نهائيا إلى دولة غانا، وقد حل الاستفتاء مشكلة تقسيم الكاميرون الإنجليزية بين طرفي النزاع: نيجيريا (حصلت على القسم الشمالي) والكاميرون (حصلت على القسم الجنوبي)، وفي أفريقيا مشكلات أخرى كامنة ويمكن أن تتفجر إذا تأزم الموقف لأية أسباب. (4)
الأشكال الاقتصادية للدول الجديدة في المستعمرات السابقة أصبحت تقسم - على الأقل نظريا - برغبة ملحة وأكيدة في التقدم والتنمية القومية، لكن يعوق هذه التنمية التوجيه السابق لخطوط الحركة في اتجاه الموانئ الاستعمارية الرئيسية من ناحية، وارتباطها بعجلة الاقتصاد الاستعماري السابق من ناحية ثانية، وقد أدى هذا إلى تنافس شديد بين الدول المستقلة الجديدة التي تنتج محاصيل أو خامات أولية متشابهة مما يضعف طاقة هذه الدول في رفع أسعار صادراتها، وفي الوقت نفسه نجد أن اقتطاع الحدود التعسفية للأقاليم التي يمكن أن تتكامل اقتصاديا يؤدي إلى مزيد من الضعف ومزيد من التنافس بدل التكامل. (5)
ومما يزيد من حدة التناقض الاقتصادي أن الدول الجديدة - بدلا من التكامل الإقليمي - وقعت في مزيد من التنافس بارتباطاتها مع التكتلات الاقتصادية التي نشأت مؤخرا في دول أوروبا الاستعمارية السابقة، فمجموعة الدول التي كانت فيما سبق مستعمرات فرنسية وقعت في حوزة الاقتصاد الفرنسي وتكتل السوق الأوروبية، ومجموعة المستعمرات الإنجليزية السابقة وقعت ضمن اتفاقات الكومنولث البريطاني اقتصاديا وسياسيا، ولسنا نعرف ما سيؤدي إليه دخول بريطانيا كتلة السوق الأوروبية إلى مزيد من الضعف في موقف الدول الأفريقية عامة - سواء منها تلك التي كانت مستعمرات فرنسية أو إنجليزية - بحكم وقوعها كلها ضمن دائرة نفوذ اقتصادية واحدة تشمل كل أوروبا الغربية، ومما يشهد على ضراوة الروابط الاقتصادية بين القوى الأوروبية والدول الأفريقية الجديدة أن دولة غينيا التي اختارت الخروج من المجموعة الفرنسية عقب حصولها على الاستقلال مباشرة تعاني موقفا متجمدا في صورة حرب اقتصادية باردة ومتعمدة شنتها عليها فرنسا.
وخلاصة القول أن الحدود التعسفية في مناطق المستعمرات السابقة الذكر قد أدت إلى مشكلات عديدة: مشكلات حدود وأقليات، ومشكلة تنمية اقتصادية عاجزة عن التقدم دون موافقة رءوس الأموال الغربية (مثل مشكلة تمويل سد الفولتا في غانا التي تحولت إلى قضية سياسية اقتصادية أودت بحكومة نكروما)، وبالتالي فإن الدول الجديدة وجدت نفسها في مأزق حرج: حدودها غير منطقية وتحمل في طياتها مشكلات كامنة أو متفجرة، ومصالحها القومية الاقتصادية مفروض عليها وصايات مختلفة خارجية، والمفروض أن تعمل هذه الدول في إطار قومي متعارض تماما مع ما هو كائن من تناقضات ضد تكامل هذا الإطار القومي.
وقد اقترح بعض الزعماء الأفريقيين للخروج من هذا التناقض بين كيان الدولة كما يجب أن تكون، وبين إطاراتها الحدية المفتعلة والمشحونة بالمشكلات، وجذورها الاقتصادية المتنافسة والمناهضة لجوهر التنمية القومية الاقتصادية الاجتماعية؛ اقترحوا صيغا مختلفة للتكاملات الإقليمية في صورة وحدات سياسية كبرى أو ائتلافات إقليمية في صور سياسية أو إدارية أو تجمعات اقتصادية، لكن مثل هذه الآراء كانت سابقة لأوانها تاريخيا؛ لأن (1) الكثير من القادة الجدد كانت تربطهم بالقوى الاستعمارية مصالح مشتركة، أو (2) أن القادة الجدد غير المرتبطين أحكم رباطهم فيما بعد أو أزيلوا من الوجود عندما كانوا يتخذون مواقف متصلبة وحل محلهم قادة مرنين. وتشهد على الحالة الأولى حكومة نيجيريا التي أعقبت الاستقلال وقبل أن تطيح بها ثورة الأيبو والثورة المضادة لها، فقد كانت الحكومة الاتحادية النيجيرية، وحكومات الأقاليم الثلاثة تتكون من كبار الملاك والمساهمين في النشاطات الاقتصادية، فضلا عن كونهم أعضاء مجتمعات وعشائر الرئاسات التقليدية، ويشهد على الحالة الثانية إزاحة لومومبا من الحكم عقب استقلال زائيري - كنغو كنشاسا سابقا - وتولي حكومات مرنة القيادة مثل حكومة سيريل أدولا، أو حكومات منحازة للقوى الاستعمارية مثل حكومة مويس تشومبي.
وفي الحالات التي تم فيها ائتلاف إقليمي مثل اتحاد مالي - مالي والسنغال - فإن القوى الاستعمارية قد ساعدت على تفكيكه فيما بعد مستغلة عدم وجود قومية ناضجة، بل على العكس تفرق في الولاء بين القبيلة والتجمع الحضاري واللغوي والولاء غير المفهوم لنظام الدولة الحديثة، ومشكلة تعدد الولاء بين المجتمع المحلي والدولة الجديدة من المشكلات الكبيرة التي تواجه الدول الأفريقية وتزيد من ضعف وجودها، فالدولة في غالبية أفريقيا المدارية ليست متجانسة قوميا، وهي تكاد أن تكون إطارا سياسيا خارجيا يحدد مساحة من الأرض تسكنها مجموعة من الأقليات (التجمعات القبلية واللغوية)، ولا يوجد فيها - إلا في أحوال قليلة - مجموعة حضارية سائدة عدديا ومنتشرة مكانيا، وهناك حالات متعارضة كثيرة نذكر منها حالة السودان وزائيري، ففي السودان توجد عدة مجموعات حضارية، لكن تسودها المجموعة الشمالية والوسطى المتكونة من العرب المسلمين، بينما في الجنوب هناك عدة مجتمعات حضارية مختلفة لغة ونظاما سياسيا سلفيا ودينا - اختلاط إسلامي وكاثوليكي وبروتستانتي على خلفية وثنية قوية وسائدة - ومن ثم فإن السودان قد تلون بلون المجموعة الحضارية الكبيرة، وينعكس ذلك في تمركز الحكم في الخرطوم العربية، وارتباط السودان بجامعة الدول العربية، ويؤيد ذلك كله خلفية تاريخية من الحكم العربي ابتداء من عام 1504، وتركز النشاط الاقتصادي الحديث والمكون لعصب الدولة السودانية في داخل النطاق العربي الأوسط، وقد شعر الجنوبيون - من تلقائهم ونتيجة إيعازات خارجية وأخطاء داخلية - بدور صغير في حياة السودان القومية؛ ومن ثم جاءت ثورتهم الطويلة «بمساعدات خارجية»، والتي وجدت لها مؤخرا حلا مقبولا في صورة شكل من الحكم الذاتي أنهى هذا الموقف المتأزم.
أما في زائيري فإنه توجد عشرات من المجتمعات الحضارية المتكافئة قوة وانتشارا، وإن كان يبرز من بينها الباكونجو في الغرب والبانجالا في الشرق والبالوبا واللوندا في كاتنجا والجنوب الشرقي واللنجالا في الشمال، ومن ثم فإن الحكم المركزي - ما لم يكن قويا - سوف يواجه ظهور النزاعات الاستقلالية على السطح في مكان أو آخر من هذه المساحة الشاسعة، ويجب أن نضيف إلى ذلك أن القوى الأجنبية لها دورها الفعال في الإبقاء على تكامل زائيري الإقليمي أو إثارة الحركات الثورية الانفصالية متى كان هذا أو ذاك مناسبا لمصالحها.
وبالمثل كان موقف باكستان الشرقية - بنجلاديش - والغربية متأزما برغم رابطة الدين، فقد كان كل شيء يعاكس الوحدة: عدم تكامل أرضي ولغات مختلفة واتجاهات اقتصادية مختلفة وسيطرة الغربيين على الحكم واستئثارهم به في كل باكستان، وإلى جانب هذه الدوافع للانفصال جاء دور الهند التي لا تريد أن تكون جارتها وشريكتها في شبه القارة الهندية دولة كبيرة قوية، مما كان له أكبر الأثر في الإسراع بتفكيك دولة باكستان إلى دولتين. (6) الحدود السياسية والقوى القومية والتكتلات الإقليمية
إذا عدنا إلى ما سبق أن ذكرناه من أن التصنيف النوعي يقسم الحدود إلى حدود الاتصال وحدود الانفصال، فإننا نرى أن هذا التقسيم ينطبق على كافة أشكال الحدود في أزمنة مختلفة، ففي عهود السلام يمكن أن تصبح أشد أنواع الحدود وعورة وتباعدا حدود اتصال، وتنقلب الآية فتصبح أكثر الحدود وصلا وتقريبا حدود انفصال مانعة خلال فترات العداء والحروب، فالفصل أو الوصل إذن عمل إرادي متعلق بإرادة الدول، ولكن علينا ألا نتناسى أن هناك فعلا مناطق وتخوما تساعد بطبيعتها على الفصل، وهي إذا تركت على حالها دون إنشاء الطرق التي تسير عليها الحركة فإنها تصبح طبيعيا وبشريا نطاقات فاصلة، وهذه مرحلة من مراحل وظائف الحدود، وترتبط بتوجيه الدولة، ويتضح هذا جليا في حدود الانفصال القائمة بين البرازيل وجيرانها مثل كولمبيا وبيرو حيث تعمل الغابات الشاسعة في أمازونيا على إقامة تخوم عازلة، ويساعدها في ذلك سلاسل الأند الوعرة المرتفعة التي تقيم نطاقا آخر من العزلة بين الجيران، ومن ثم فإن البرازيل تتجه صوب مناطق الحركة والموارد السهلة على الشاطئ الشرقي، بينما تدير بيرو وكولمبيا ظهرها للبرازيل متجهة بثقلها إلى سواحلها على المحيط الهادئ ووديانها العليا المنتجة لموارد صادراتها الأولية النباتية والمعدنية، لكن التنمية الاقتصادية والضغط السكاني يؤديان ببطء إلى اتجاه مركز ثقل الدولة إلى نطاقات العزلة الداخلية، ولعل نقل عاصمة البرازيل من الساحل إلى الداخل تعبير عن هذا التحول في توجيه الدولة، وفي المستقبل تتوقع أن تتحول سهول أمازونيا البرازيلية وامتداداتها في بيرو وكولمبيا إلى مناطق اتصال وحركة بدلا من وظيفتها الحاجزة الآن، وإذا كانت هناك الآن بعض مشكلات على الحدود في أمريكا الجنوبية عامة، فإن المستقبل سوف يشهد مشكلات أكبر حينما يصبح الاحتكاك أكثر على مناطق غنية بمواردها غير المعروفة الآن.
وهذا المثال هو الذي تكرر المرات تلو المرات في تاريخ العالم منذ العصور الحجرية وتصارع المجتمعات على مناطق الصيد الوفير أو تصارع القبائل على المراعي الغنية، أو تصارع الدول المبكرة على موارد الخامات اللازمة لاقتصاديات الزراعة واحتياجات حياة المدينة، والسيطرة على طرق التجارة الرئيسية، أو صراع القوميات الحديثة على السيادة الإقليمية والمجالات الحيوية ومصادر الخامات وأسواق الاستهلاك وطرق التجارة، وفي كل هذه الحالات - قديمة ومعاصرة - تتحرك الصراعات نتيجة النمو والضغط السكاني، والنمو والضغط الاقتصادي، وكلاهما يؤدي إلى تحريك الحدود عبر نطاقات الحجز والتخوم الفاصلة نتيجة لظروفها الطبيعية أو لأن الناس هجروها لأسباب مختلفة سياسية أو اقتصادية أو استراتيجية.
وبما أن نطاقات الفصل والعزل محدودة المساحة، فإن الوقت الذي تقف فيه القوى المتوسطة وجها لوجه عبر خط حاد يفصلها عن بعضها سيأتي دون شك، صحيح أن القوى المتوسعة من مركزين أو أكثر ليس محتوما أن تلتقي لتتصارع في كل نقاط التماس، لكن أكثر نقط التماس حساسية - لأسباب استراتيجية أو اقتصادية - هي مثار المشكلات الرئيسية بين الدول، ومن الأمثلة على ذلك وادي الراين الأوسط كمنطقة تماس بين القوى الجرمانية المتوسعة غربا والقوى الفرنسية المتوسعة شرقا؛ إذ سببت حروبا طويلة بين الدولتين، بينما استقرت منطقة التماس الجرمانية الفرنسية في النطاق الجبلي في سويسرا دون أن تسبب أزمات خطيرة.
في الماضي البعيد كان هناك متسع من الأرض تنتقل فيه الجماعات من مكان لآخر في صورة هجرات واسعة حينما كان التماس بين مجتمعين يهدد بمواجهات مميتة، وفي الماضي غير البعيد كان الصراع بين دولتين أو أكثر يؤدي إلى تسلط الغالب على المغلوب باحتلال عسكري - أو حضاري - وسلب للحريات.
وفي الوقت الحاضر لم يعد في الإمكان الالتجاء إلى ممارسات الماضي البعيد والقريب، فلم تعد هناك أراض تتحرك فيها الجماعات بعيدا عن مكامن الحظر، ولم تعد حدود الدول مفتوحة لحرية الحركة القديمة، فقد تم اقتسام أراضي اليابس إلى آخر شبر، وتم تحديد الحدود وأحكم إغلاقها إلا لمن تسمح له القوانين الدولية بالدخول والخروج، فقد نضجت المشاعر القومية خلال القرن الماضي والحالي نضوجا لا مزيد عليه، فكل حفنة من التراب القومي استحالت إلى كم معنوي مشحون بعواطف وطنية متأججة ملتهبة، حتى لو كانت هذه المعاني خالية من المحتوى النفعي ، وبذلك استحالت في عالمنا الدولي المعاصر فكرة الاحتلال بالقوة، برغم استخدام القوة الغاشمة من جانب القوى المتوسعة، وبرغم هزيمة مادية ملموسة حاقت بشعب ما، ولهذا لا يكتسب الاحتلال أية صبغة شرعية طالما قاوم المهزوم مشيئة الغالب بكل أشكال المقاومة.
ويبدو أن القومية بمعناها الراهن قد نشأت في أوروبا خلال تبلور العصر الصناعي ومقدماته، وارتبطت ارتباطا وثيقا بالنمو الاستعماري وظهور أفكار وكتابات عن «المجد» القومي، والتوسع والسيادة لتحقيق «مهمة حضارية» في العالم، وقد أدى التطور الصناعي والقومي بأوروبا إلى اشتباكات دامية، ويكاد تاريخ أحداث أوروبا الحديثة أن يكون سلسلة من الحروب والدمار والتوسع وتعديلات الحدود، بحيث إن كل دولة تحاربت في وقت ما مع كل دولة أخرى، وتحالفت في وقت آخر مع كل دولة أخرى، تحاربت النمسا وبروسيا، وتحاربت فرنسا وإنجلترا أكثر من مرة، وتحاربت النمسا وبروسيا وروسيا على بولندا، وتحاربت الدانمرك والسويد، وتحارب السويسريون مع النمساويين، وحارب نابوليون كل أوروبا، وحاربت ألمانيا كل أوروبا مرتين، وفي المرتين يكاد أن يكون كل العالم قد جر إلى الحرب، وفي كل مرة تنتهي الحرب بغالب ومغلوب ومعاهدات واتفاقيات وحدود جديدة أو عود إلى حدود قديمة وتغير جذري لحياة السكان في مناطق الحدود، وتغيير للأوطان والجنسيات والتوجيه الاقتصادي والثقافي واللغوي والحضاري، ويكفي التدليل على ذلك ببعض التواريخ المهمة منذ منتصف القرن السابع عشر:
الحروب الأوروبية الرئيسية منذ ظهور القوميات.
1643-1715
حكم لويس 14 وحروبه لضم برجانديا والألزاس لفرنسا وحروبه ضد النمسا (1667) لضم الفلاندرز الفرنسية - كانت بلجيكا تابعة لأملاك أسرة هابسبورج النمساوية - وحروبه ضد إسبانيا (1659)، معاهدة وستفاليا (1648) والبرانس (1659) وإكس لاشابل (1668)
1682-1725
حكم بطرس الأكبر في روسيا والتوسع الروسي إلى البلطيق
1672-1678
حرب الأراضي المنخفضة - هولندا - ومعاهدة نيميج
1688-1697
حرب اتحاد أوجسبورج - جنوب ألمانيا - ومعاهدة ريزفيك
1700-1713
حرب الوراثة الإسبانية ومعاهد أوترخت
1733-1738
حرب الوراثة البولندية ومعاهدة إكس لاشابل
1756-1763
حرب السنوات السبع ومعاهدة باريس
1792-1795
حروب الثورة الفرنسية في بلجيكا والراين
1795-1798
حروب نابليون في إيطاليا ومصر
1804-1815
حروب الإمبراطور نابليون ضد النمسا (أوسترليتز 1805) ومعاهدة بورسبورج، وضد بروسيا (1806-1807 ومعاهدة تلزيت) وضد النمسا (معركة فاجرام 1809، ومعاهدة فيينا )، وفي إسبانيا ضد الإنجليز (1808-1814)، وضد روسيا (1812) وضد ألمانيا (1813) وأخيرا واترلو (1815)
1821-1830
حرب المورة وتكون دولة اليونان (ائتلاف دول أوروبا ضد الدولة العثمانية)
1848-1859
حروب الوحدة الإيطالية
1854-1856
حرب القرم بين تركيا وروسيا وائتلاف دول أوروبا، ومن نتائجها أول ظهور لتقسيم البلقان، أصبحت مولدافيا - شمال رومانيا - والصرب والجبل الأسود إمارات ذات حكم ذاتي ضمن الأملاك العثمانية
1864
الحرب الألمانية الدانمركية، و1866 الحرب البروسية النمساوية
1870-1871
الحروب الألمانية الفرنسية: حرب السبعين
1877-1878
الحرب الروسية التركية: استولت روسيا على أرمينيا، وأصبحت هناك مملكة مستقلة باسم رومانيا (ائتلاف إمارتي مولدافيا وفالاشيا في 1881) ومملكة الصرب (1882)، واستقلال إمارة الجبل الأسود عن تركيا، واستيلاء النمسا على البوسنة والهرسك (1878) فيما يشبه الاتفاق، واستيلاء مملكة اليونان على إقليم تساليا (1878)، وكذلك أصبحت بلغاريا ذات حكم ذاتي (1878) وفي 1886 استولت بلغاريا على إقليم الروميلي الشرقي، وباختصار كانت هذه الحرب بداية النهاية للدولة العثمانية
1914-1918
الحرب العالمية الأولى (ألمانيا - النمسا - تركيا ضد فرنسا وبريطانيا وأمريكا) ومعاهدة فرساي
1939-1944
الحرب العالمية الثانية (ألمانيا وإيطاليا ضد أوروبا والاتحاد السوفيتي وأمريكا)
هذه الحروب التي شنتها القومية الأوروبية في أوروبا يبدو أنها كانت تمثل مرحلة من مراحل تكوين الدولة التي وصلت إلى طريق مسدود نتيجة تكرار النزاع والصراع، وعلى مسرح القومية الضيقة بدأت تظهر أفكار أخرى تنادي بالتكوينات الإقليمية الكبرى، كطريق للخروج من مأزق القومية الأوروبية.
وأفكار الأقاليم الكبرى قديمة، طبقها الإسكندر الأكبر والدولة الفارسية والرومانية وكان أوسع تطبيق لها الدولة الإسلامية، ومن بين التراكيب السياسية التي قامت على مبدأ الأقاليم الكبرى الدولة العثمانية وإمبراطورية الصين والإمبراطورية النمساوية والإمبراطوريات الاستعمارية الاستيطانية الإسبانية والبرتغالية، أما الإمبراطوريتان الاستعماريتان الفرنسية والإنجليزية فكانتا تركيبات أخرى غير الفكرة الإقليمية، وبصورة من الصور كانت الإمبراطورية الروسية شكلا من أشكال الأقاليم السياسية الكبرى، ويعيب هذه الأفكار الإقليمية الكبرى أن التوازن السياسي لم يكن موجودا بين الحكام الذين يستندون إلى شعب واحد - الرومانيين والإغريق والأتراك العثمانيين والنمساويين الألمان والإسبان والبرتغاليين والروس - وبين بقية شعوب الإمبراطورية، وهذا الذي نعده اليوم عيبا ونقيصة لم يكن إلا جزءا من طبيعة الأمور في الماضي.
أما الأفكار الإقليمية في البناء السياسي الحديث فإنها - نظريا - تقوم على مشاركة متساوية للقوى السياسية داخل التكتل السياسي، ولكن مثل هذا التطبيق المثالي لم يحدث بعد، فلا تزال هناك فروق بين القوميات والشعوب التي يمكن أن تشكل بناء سياسيا إقليميا؛ إذ إنه في الغالب يحدث تميز لقومية لسبب أو لمجموعة من الأسباب: القوة العددية، درجة التعليم، الانتماء إلى المجموعة المحركة للبناء السياسي الإقليمي، من بين أسباب أخرى عديدة، ولا شك أنه لا تزال هناك بعض الفوارق بين قوميات الاتحاد السوفيتي الحالية، وإذا كان ذلك في بناء سياسي متعدد القوميات، فإن الموقف يصبح أكثر دعوة إلى اليأس حينما نرى قومية واحدة أنجلو أمريكية في الولايات المتحدة، ومع ذلك فإن المشاركة السياسية المتكافئة غير متوافرة لأقلية من الرعية الأمريكية بسبب لون البشرة، فالزنوج الأمريكيون ليسوا قومية مثل القوميات التي نجدها في الاتحاد السوفيتي، ليست لهم أرض خاصة، ولم يكن لهم وطن محدد داخل أمريكا أدمج فيما بعد داخل الدولة الأمريكية، وليست لهم لغة خاصة بهم، ولا تقليد حضاري يحتفظون به منذ تواجدهم في الأرض الأمريكية، وليست لهم ديانة خاصة يلتفون حولها، وباختصار فإن الزنوج الأمريكيين ليسوا كالأوزبك أو القرجيز أو الياكوت من قوميات الاتحاد السوفيتي، بل هم جزء لا يتجزأ من التجمع الحضاري الأنجلو أمريكي.
قد يبدو إذن أن التفريق والتمييز من طبائع البشر، أو من طبيعة الحياة، ولكن كثيرا ما تغيرت بعض الطبائع الفردية تحت ضغوط الحياة الجمعية التشاركية الإنسانية، وبذلك أصبح لكل مجتمع قوالب وأنماط سلوكية تحدد - بصورة عامة - طريقته في الحياة، فإذا اعتبرنا الدول والقوميات أفرادا في تجمع عالمي فالأرجح أن عددا من القوالب والأنماط سوف تتبلور لتحدد السلوك العام لهذه القوميات الأفراد في داخل المجتمع العالمي، وكما أن الأفراد لا يفقدون شخصياتهم وتفردهم في المجتمع البشري فإننا نتوقع ألا تفقد القوميات شخصياتها داخل المجتمع العالمي، وإذا كان المجتمع العالمي مطلبا بعيد المنال فإن المجتمع الإقليمي أقرب إلى التحقيق، وأكثر تمشيا مع ظروف الجغرافيا الطبيعية والبشرية عامة.
ليست الدعوة إلى تراكيب سياسية إقليمية نابعة من مجرد الخروج من مأزق القومية الضيقة الأفق، بل إن مثل هذه الدعوة ما هي إلا انعكاس للدافع الاقتصادي المعاصر، وقد ذكرنا أن ظهور القومية ارتبط بنشأة ونمو الاقتصاد الصناعي في القرن الماضي، وفي خلال القرن الحالي تغير الاقتصاد الصناعي تغيرا كميا بتغير التكنولوجيا في مجالات الإنتاج الزراعي والصناعي ونمو قطاع الخدمات بصورة مذهلة، وقد ترتب على ذلك تغير جوهري في تركيب وتوظيف القوى العاملة في الدول المتقدمة، قلت العمالة الزراعية بصورة مذهلة مع تزايد القدرة الإنتاجية نتيجة الآلية والأتوماتيكية في العمل الزراعي، وفي ذات الوقت نجد اتجاها مستمرا في زيادة حجم الحيازات الزراعية - سواء كانت ملكيات فردية أو شركات زراعية أو مشروعات تجميع زراعي أو مزارع تعاونية أو تابعة للقطاع الحكومي - وانكماشا مقابلا في عدد الحيازات الزراعية الصغيرة وعدد المزارعين ملاكا وأجراء، ومن الأمثلة الدالة على ذلك أن الريف الأمريكي يفقد سكانه باستمرار وتتضاءل أشكال السكن القروي، ويتجه الناس إلى السكن المدني والعمالة المدنية متعددة الأنواع.
هذا جانب واحد من جوانب التغير في المجال الاقتصادي، وقس على ذلك ما يحدث في مجالات النشاط الاقتصادي الأخرى، وكلها قد تضافرت على إحداث التغيرات الجذرية العديدة من البناء الاجتماعي، ومن ثم السياسي، داخل الدولة.
وخلاصة التغيرات الاقتصادية المعاصرة هو اتجاه إلى معامل ارتباط كبير ومتزايد بين إطارات مكانية أرضية واسعة وبين تكثيف الإنتاج وتنوعه وثقل متزايد على خطوط الحركة في شتى أشكالها واعتماد متضاعف على التبادل التجاري واتساع هائل في سوق الاستهلاك، وأخيرا ارتباطات وثيقة بين أسواق المال والاستثمار.
هذا الترابط بين الاقتصاد الحديث والمكان الجغرافي الواسع يتعدى بطبيعة الحال الحدود السياسية الراهنة للدول، ويسعى إلى تفكيك هذه الحدود والقوالب للوحدات الدولية لتسهل حركته وتشتد مرونته، وهو في هذا المنحى يشابه سعي الصناعيين الأول لتغير قوالب الاقتصاد والمجتمع الإقطاعي الزراعي الحرفي الذي كانت ترتكز عليه الدولة قبل الثورة الصناعية، فالثورة الصناعية الأولى قد نمت، أو نمت مع الدولة القومية كبناء اجتماعي سياسي يحمي الصناعة، والثورة الأوتوماتية التي نعيش مقدماتها تجد في الدولة القومية المعاصرة ما يقيد حرياتها وانطلاقها، ومن ثم فإن التكتل الاقتصادي في أوروبا الغربية أو أوروبا الشرقية ما هو إلا تعبير من نوع ما عن الرغبة في إيجاد صيغة جديدة لتعايش البناءين الاقتصادي والسياسي معا.
ومما يعجل بالسعي إلى إيجاد أشكال متناسقة بين الأوضاع السياسية والاقتصادية أن التيارات الثقافية والفكرية وانتشار نمط التعليم الحديث من بين عدد آخر من العوامل الحضارية قد أخذت تغزو أجزاء العالم، مما يزيد من التقارب بين الشعوب والقوميات، ويعطي العوامل الاقتصادية دوافع أخرى ترتكز عليها وتدعمها في سبيل التراكيب السياسية الإقليمية.
وأخيرا لا ينبغي أن نغفل مؤشرا من مؤشرات التقارب الدولي في صورة كتل، ذلك هو أن الحدود السياسية للدول المندمجة في تنظيمات دفاعية قلت أهميتها كثيرا؛ لأن استراتيجية مثل هذه التنظيمات والدول المتحالفة تأخذ حدود التحالف الأرضي والجوي والبحري في إطار متكامل بغض النظر عن الحدود الفردية، فحدود ألمانيا الغربية والشرقية المشتركة أكثر أهمية وحساسية لدول حلف الأطلنطي أو حلف وارسو من حدود فرنسا أو حدود بولندا، وإلى جانب ذلك فإن تكنيك الحرب الحديثة قد جعل من المستحيل - أو يكاد - على دولة واحدة أن تحمي نفسها بنفسها دون أن يكون هناك اتفاق عالمي على حيادها وعدم المساس بها، وفي الحقيقة أصبح من الواجب إعادة النظر في قيمة الحدود الدفاعية على ضوء متغيرات عدة على رأسها تكنولوجية الحرب والائتلافات والتكتلات الدولية التي توجد الآن على مستوى أعلى من مستوى الدولة القومية التقليدية.
هوامش
القسم الثاني
الشرق الأوسط
دراسة في التطبيق الجيوبوليتيكي والسياسي
الفصل الأول
الشرق الأوسط عالم المعابر
غموض حول مفهوم الشرق الأوسط
الشرق الأوسط مصطلح جغرافي وسياسي شاع استخدامه على كل الألسنة في أجزاء العالم المختلفة، حتى نحن - سكان المنطقة - اعتدنا في الوقت الحاضر أن نطلق على إقليمنا التسمية ذاتها التي يطلقها عليه الآخرون، وليس في هذا عيب؛ إذ إن التسمية، ولو أنها قصد بها وبغيرها تقسيم الشرق إلى أقسام حسب البعد والقرب من أوروبا، إلا أن الإقليم في الواقع هو إقليم أوسط بالنسبة لخريطة العالم بصفة عامة، والعالم القديم بصفة خاصة.
وبرغم ذيوع هذا المصطلح إلا أن الشرق الأوسط إقليم صعب التحديد بصورة واضحة أو قاطعة، كما هو الحال في بعض أقاليم جغرافية أخرى، ولا يرجع السبب في ذلك إلى أن الإقليم مجرد ابتكار لفظي في قاموس السياسة العالمية منذ أواخر القرن الماضي، فالإقليم له كيان جغرافي حقيقي، بكل ما تعنيه الجغرافيا من صفات وتفاعلات طبيعية وبشرية وتاريخية وسياسية، ولكن السبب في صعوبة تحديد الشرق الأوسط راجع إلى أنه إقليم هلامي القوام، بمعنى أنه يمكن أن يتسع أو يضيق على خريطة العالم حسب التصنيف أو الهدف الذي يسعى إليه باحث في مجال من مجالات العلوم الطبيعية أو الإنسانية، أو التصنيف الذي تتخذه هيئة خاصة أو دولية، أو وزارة من وزارات الخارجية في العالم.
وهذه الصعوبة - أو إن شئنا المرونة - في تحديد الشرق الأوسط نابعة عن أن هذا الإقليم يتكون من عدة متداخلات طبيعية وبشرية، ذات طبيعة انسياحية، شأنها في ذلك شأن معظم الأقاليم، وأنه على هذه المتداخلات يمتد بعد زمني هو أطول بعد تاريخي نعرفه عن أي إقليم آخر في العالم، وبالإضافة إلى ذلك يرتبط الإقليم بعامل جغرافي واضح الأثر في كل أرجائه: ذلك هو عامل المكان والعلاقات المكانية التي ميزت، وتميز، الشرق الأوسط كمنطقة مركزية منذ القدم في علاقات الشرق والغرب القديم، وحديثا الشرق بمضمونه الحضاري الاقتصادي عامة في آسيا وأفريقيا الشمالية والشرقية، والغرب بالمضمون الحضاري الصناعي العام في أوروبا وأمريكا والاتحاد السوفيتي.
وعلى الرغم مما تتعرض له العلاقات المكانية من تغيرات، قد تكون جذرية، نتيجة متغيرات التكنولوجيا في مجالات النقل والمواصلات والنشاط الاقتصادي، فإن غالبية هذه التغيرات قد دعمت أهمية المكان الجغرافي للشرق الأوسط وأعادت تأكيد هذه الأهمية مجددا، لكن هذه الأهمية المكانية جعلت الشرق الأوسط قبلة أنظار المتوسعين الأوروبيين في العصر الاستعماري ومحط منافسة حادة بين القوى الإمبريالية، وصراع بين الشرق والغرب ككتل سياسية معاصرة، فوق صراع قومي لشعوب المنطقة، فمنذ بداية القرن 19 ظهرت المشكلة الشرقية في قاموس السياسة الأوروبية، وتأكدت المنافسة الأوروبية بعد شق قناة السويس، وظهرت في بريطانيا فكرة «تأمين» طريق الهند، وهي الفكرة التي انتهت باستراتيجية «الأمان» الإمبريالي التي تنادي بها إسرائيل كآخر رأس جسر غربي في المنطقة، والآن تشترك فكرة «الأمان» الغربية مع مشكلة الطاقة العالمية في تفاعلات دولية تجابه دول الشرق الأوسط، وذلك منذ أن أصبح الإقليم أكبر مصدر للبترول وأكبر مخزن احتياطي له في العالم.
ولعل الغموض الذي يكتنف تحديد إقليم الشرق الأوسط راجع إلى أن هناك نوعا من المفهوم المسبق عند كثير من الناس يؤدي إلى التباس بين ثلاثة مصطلحات: الشرق الأوسط، العالم العربي، العالم الإسلامي. ومعروف أن العالم العربي يشتمل على الجزء الغربي من الشرق الأوسط، ويمتد خارجه إلى شمال أفريقيا ونطاق السفانا من السنغال إلى السودان، أما العالم الإسلامي فيشمل كل الشرق الأوسط ويمتد فيما وراءه في شتى الاتجاهات الجغرافية، وأكثر الغموض الذي يجعل تحديد الشرق الأوسط أمرا غير سهل المنال، راجع إلى كثرة الأسماء والمصطلحات التي استخدمت في الماضي، وتستخدم في الحاضر، للإشارة إلى كل الإقليم أو إلى جزء منه، وفيما يلي تناول موجز لبعض تلك المصطلحات والتسميات الشائعة.
الشرق الأوسط بين المصطلحات المختلفة
ربما كان الشرق الأوسط من المصطلحات الإقليمية الغامضة بالمقارنة بكثير من الأقاليم الرئيسية في العالم، فقد استخدم كتاب وباحثون وهيئات حكومية ودولية عدة مصطلحات للإشارة إلى كل الإقليم أو جزء منه، ومن المصطلحات التي تتداولها الكتابات المختلفة، أو التي كانت متداولة في وقت ما، أو يتداولها الكتاب بمفهوم معين، ما يلي:
الليفانت
Levant .
الشرق القديم أو الأقدم
Ancient East, Most Ancient East .
الصحارى الكلاسيكية
Classical Deserts .
جنوب غرب آسيا
South-West Asia .
الشرق القريب
Hither East .
الشرق الأدنى
Near East, Naher Osten, Nahost .
الشرق الأوسط
Middle East, Moyen Orient .
واصطلاح الليفانت (= الشرق، المكان الذي تشرق منه الشمس) اصطلاح قديم لعله يعود إلى العصر الإغريقي الروماني، وكان يشير إلى سكان البحر المتوسط الشرقي - سوريا ولبنان وفلسطين - وبذلك فهو لا يعبر عن المنطقة كلها، ولا يزال هذا المصطلح مستخدما بمعناه القديم، وقد يستخدم في العربية كمصطلح مختصر بديلا لمصطلح شرق البحر المتوسط، ويستخدم علماء الآثار والحضارة مصطلح الشرق القديم أو الأقدم بصورة عامة للدلالة على المنطقة الممتدة من مصر إلى الأناضول وغرب إيران، بحيث تشمل المناطق التي نشأت فيها حضارة العصر النيوليتي - العصر الحجري الحديث - الذي اكتشف فيه الإنسان الزراعة واستئناس الحيوان، وهي أيضا المنطقة التي نشأت فيها الحضارات العليا القديمة في مصر والعراق وفينيقيا ووسط الأناضول وغربي إيران، وعلى هذا فإن المصطلح حضاري بحت، ومثله في ذلك مصطلح الصحارى الكلاسيكية، الذي يعني منطقة الصحراء العربية وهوامش الأراضي الزراعية فيما بين النيل والفرات. أما مصطلح جنوب غربي آسيا فهو مصطلح جغرافي بحت يشمل المثلث الأرضي الممتد من أفغانستان في الشرق إلى الأناضول في الغرب واليمن في الجنوب، وأخيرا فإن مصطلح الشرق القريب قد شاع فترة زمنية بديلا للشرق الأوسط أو الأدنى، ولم يعد مستخدما الآن.
يتبقى لدينا من هذه المصطلحات الشرق الأدنى والشرق الأوسط، ومصطلح الشرق الأدنى كان يستخدم في الإنجليزية في أواخر القرن الماضي للدلالة على الإمبراطورية العثمانية، بامتدادها في البلقان من ألبانيا وشمال اليونان إلى الجزيرة العربية ومصر والسودان وولاية طرابلس (الغرب).
وفي الوقت نفسه كان الإنجليز يطلقون مصطلح الشرق الأوسط على إيران وأفغانستان ومنطقة السند - باكستان حاليا - وتستخدم وزارة الخارجية الأمريكية مصطلح الشرق الأدنى للدلالة على المنطقة التي تشمل مصر والسودان ودول شبه الجزيرة العربية والمشرق العربي، وإيران وتركيا وقبرص واليونان، وتقسم الخارجية الأمريكية شئون الشرق الأدنى على مكتبين: الأول خاص بتركيا واليونان وإيران، والثاني خاص بالدول العربية في المنطقة حسب التحديد السابق، ومعنى ذلك أن أساس التقسيم قائم على التفريق اللغوي والخلفية الحضارية التي تضم المجموعة العربية كلها في مقابل الانتماءات السياسية التي تربط أمريكا بإيران وتركيا (الحلف المركزي)، وتركيا واليونان (حلف الأطلنطي).
وتستخدم الهيئات الرسمية وغير الرسمية في ألمانيا مصطلح الشرق الأدنى أيضا، للدلالة على الإقليم الممتد من بحر قزوين والقوقاز والبحر الأسود في الشمال إلى البحر العربي في الجنوب، بحيث يشمل كافة الدول الممتدة من إيران وتركيا في الشمال إلى دول جنوب الجزيرة العربية والسودان في الجنوب، والمنطقة الممتدة من إيران في الشرق إلى ليبيا في الغرب، ويطلق الألمان مصطلح الشرق الأوسط على إقليم مختلف تماما: المنطقة التي تشمل أفغانستان وباكستان والهند وبنجلاديش وبرما ونبال وسريلانكا - سيلان - وبذلك فإن الألمان أكثر توفيقا في استخدامهم للمصطلحات للدلالة على القرب أو البعد المكاني من أوروبا: الشرق الأدنى، الشرق الأوسط (جنوب آسيا)، الشرق الأقصى (شرق آسيا).
وبرغم ذلك فإن الكتابات المختلفة تكاد تجمع في الوقت الراهن على استخدام مصطلح الشرق الأوسط كبديل للمصطلحات السابقة، ففي الإنجليزية والفرنسية والعربية، وفي تصنيفات الأمم المتحدة، وفي كثير من الكتب السنوية التي تعالج أقاليم معينة، يتردد اسم الشرق الأوسط على أنه الإقليم الذي يشتمل على الدول الممتدة من إيران إلى مصر ومن تركيا إلى اليمن، وقد يضيف كاتب أو هيئة ليبيا والسودان أو إحداهما، أو برقة وشمال السودان فقط،
1
وبذلك يقتصر الشرق الأوسط على مجموعة دول غرب آسيا بإضافة مصر - والسودان وليبيا في بعض الأحيان - وتخرج اليونان، برغم أنها حضاريا (= طرق المعيشة وكثير من العادات والنشاط الاقتصادي) تشبه إقليم الشرق الأوسط.
المقومات الرئيسية في بناء الشرق الأوسط
سواء كان هذا التصنيف أو ذاك، فإن هناك سمات وصفات طبيعية وبشرية معينة تشترك فيها معظم المنطقة المعينة، وعلى رأس هذه الصفات الرئيسية ما يلي: (1)
المناخ الجاف وشبه الجاف الذي يسيطر على الإقليم، وله آثار واضحة في نمط الزراعة ومحاصيلها ووسائلها، وتكنيك تطويرها وتحسينها، وهذا النوع من المناخ قد ساهم بصورة رئيسية - إلى جانب الأنهار دائمة الجريان، ومعظمها قادم من خارج المنطقة - في تحديد مناطق العمران والمساحات الزراعية أو القابلة للزراعة والاستخدام السكني، وهو بذلك يشكل نقط القوة أو الضعف في التركيب الاستراتيجي لدول الشرق الأوسط. (2)
عمران كثيف ومستقر في (أ) الواحات ومناطق ينابيع المياه الباطنية. (ب) على طول الوديان النهرية الطويلة والقصيرة، الدائمة الجريان أو غير المنتظمة في جريان مياهها. (ج) في السهول الساحلية الضيقة الممطرة.
2 (د) في المرتفعات والهضاب التي تستقبل كميات لا بأس بها من الأمطار.
3
وفي مقابل ذلك نجد نمط السكن المتخلخل المتنقل في البوادي والجبال التي تحتل مساحات شاسعة داخل الشرق الأوسط، ويجب أن نلاحظ أن مقومات السكن الكثيف المستقر - الواحات، الأنهار، السواحل والهضاب المطيرة - غير منتظمة التوزيع جغرافيا في داخل الشرق الأوسط ككل، وكذلك غير منتظمة التوزيع داخل كل دولة من دول المنطقة، وقد ترتب على ذلك توزيع سكاني وعمراني غير متعادل بالمرة، ويبرز دول الشرق الأوسط، من بين غالبية دول العالم، بنمط فريد لا نظير له في كافة مجالات العمران والنشاط الاقتصادي، وفي تكوين مراكز الثقل والاستقطاب في تركيب دول المنطقة. (3)
انتشار الحضارة الإسلامية بصفة عامة في كل أرجاء الإقليم، وتختلف أقدار كل دولة في مدى نصيبها من مجموعة مكونات الحضارة الإسلامية: الدين واللغة والبناء الاجتماعي، وفي العالم العربي في الشرق الأوسط نجد أكبر تركيز لمكونات الحضارة الإسلامية - مع هامش مسيحي في بعض مناطق الليفانت ومصر - بينما تنقص اللغة من بين مكونات الحضارة الإسلامية فقط في الهضاب الإيرانية الأفغانية والتركية. (4)
تتفق هذه المجموعة الرئيسية من الصفات والسمات الطبيعية في «علاقات مكان» جغرافية تجعل الإقليم منطقة «وسط» بين عدة عوالم مختلفة اختلافا بينا في تركيباتها الجغرافية والحضارية والاقتصادية: العالم الهندي التركماني في جنوب ووسط آسيا، والعالم الأوروبي فيما وراء البحر الأسود والمتوسط، والعالم الأفريقي في معظم أفريقيا.
الشرق الأوسط الكبير
وعلى هذا النحو من التحديد تشترك مجموعة كبيرة من الدول في الشرق الأوسط على عكس ما هو متصور دائما، ويتداخل الشرق الأوسط في قارات العالم القديم الثلاث، ففي أوروبا تدخل اليونان وتركيا الأوروبية، وفي آسيا تركيا وإيران وأفغانستان والجزء الغربي من باكستان وكشمير، بالإضافة إلى كل الدول العربية في الجزيرة العربية والهلال الخصيب، وفي أفريقيا مصر وشرق ليبيا ومعظم السودان ومعظم إثيوبيا والصومال والصومال الفرنسي (إقليم العيسى والأفار) (انظر الخريطة رقم 22).
وقد يبدو هذا التعريف للشرق الأوسط واسعا وفيه كثير من المغالاة، ولكن علينا أن نعرف أن الأقاليم لا تتحدد بحدود قاطعة مثل الحدود السياسية، فالإقليم تركيب شاركت في بنائه الظروف الطبيعية والمكانية والحضارية على مر فترة زمنية طويلة، بينما تتحدد الوحدات السياسية بخطوط يصطنعها الإنسان في وقت محدد، ولهذا فإن حدود الأقاليم أكثر انسياحا وتداخلا، وتشتمل على كثير من المناطق الانتقالية، وفي حالة إقليم الشرق الأوسط الكبير نجد مؤثرات طبيعية وبشرية متداخلة، وخاصة في أطرافه، ففي آسيا توجد مؤثرات شبه القارة الهندية - مناخ موسمي وبقايا حضارات هندوكية - في باكستان وكشمير، وتوجد مؤثرات تركمانية حضارية في شمال أفغانستان وشمال إيران.
خريطة (22).
وفي المنطقة الممتدة بين بحر قزوين والبحر الأسود نجد «موزاييك» حضاري ولغوي نظيره قليل في العالم: تركماني وأرميني وجورجاني وشركسي وعشرات من المجموعات الحضارية اللغوية الصغيرة، كلها تدور وتتداخل في خلفية تستقطبها المجموعات الحضارية الرئيسية في المنطقة: إيراني وكردي، وتركي، وروسي.
وفي المنطقة التركية اليونانية من الشرق الأوسط في جنوب أوروبا الشرقي، نجد تداخلا واضحا بين مجموعة المؤثرات الحضارية اللغوية التركية والألبانية الإسلامية مع الحضارة اليونانية والمجموعات اللغوية المقدونية والبلغارية والصربية على خلفية المسيحية الأرثوذكسية، وفي الشرق الأوسط الأفريقي يوجد التداخل الحضاري العربي مع مؤثرات بربر شمال أفريقيا في مناطق متفرقة من ليبيا حتى واحة سيوة المصرية، والتداخل الزنجاني اللغوي في جنوب السودان والتداخل الحامي - الكوشي - اللغوي في الصومال وإثيوبيا وأجزاء من شرق السودان وجنوب شرق مصر، ولكن كل هذه التداخلات الحضارية في الشرق الأوسط الأفريقي تدور على خلفية قوية ومؤثرة ترتبط بالإسلام واللغة العربية كلغة تخاطب رئيسية (انظر الخريطتين 23، 24).
وقد يقال إن هذا التوصيف للشرق الأوسط يدخل كثيرا من اللغات غير العربية في المنطقة، وصحيح أن هناك التباسا عاما عند غالبية الناس في ربط الشرق الأوسط باللغة العربية؛ نظرا لأهمية المنطقة العربية وثقلها السياسي في منطقة العبور العالمي - شرق المتوسط وقناة السويس والبحر الأحمر وخليج عدن - وثقلها البترولي - دول الخليج العربي المنتجة للنفط - لكن الحقيقة أن المتكلمين بالعربية لا يحتلون وحدهم منطقة الشرق الأوسط، فحسب المصطلحات الشائعة وتحديدات الإقليم التي سبق أن أوردناها، فإن التركية والفارسية تدخلان، على الأقل، جنبا إلى جنب من العربية لتكون اللغات الرئيسية في الشرق الأوسط، فماذا يضير لو دخلت لغات أخرى في التصنيف الإقليمي للمنطقة ما دامت الشروط العامة للمقومات الطبيعية والمكانية والحضارية منطبقة على مناطق يتكلم أهلها لغات أخرى غير العربية؟
خريطة (23).
فإذا عدنا إلى تلك الشروط والسمات العامة لنحللها ونرى مدى انطباقها على منطقة الشرق الأوسط الكبير، فإننا سوف نجد ما يلي:
أولا:
الجفاف والظروف المناخية شبه الجافة مسيطرة بدون نزاع على القدر الأكبر من مساحة كل دولة من الدول الداخلة في المنطقة، من الأناضول إلى الصومال ومن ليبيا إلى أفغانستان وغرب باكستان.
ثانيا:
شكل الاستقرار إما واحي كما هو الحال في أفغانستان وإيران والجزيرة العربية وليبيا، وإما مرتكز على ضفاف الأنهار كما هو الحال في الأناضول والعراق وسوريا ومصر والسودان وباكستان، وإما مرتبط بالسهول الساحلية الضيقة الممطرة أو التي تنتهي إليها المياه الباطنية من المناطق الجبلية المتاخمة، كما هو الحال في سواحل تركيا واليونان وشرق البحر المتوسط وقبرص وسواحل جنوب وجنوب شرق الجزيرة العربية والصومال، وإما بالجبال والهضاب الممطرة كما هو الحال في تركيا وإيران وشمال العراق، وفي سوريا ولبنان وفلسطين الوسطى والشمالية، وبرقة وعمان واليمن.
ثالثا:
يسيطر نظام البداوة ورعي الحيوان بأنواعه المختلفة على النشاط الاقتصادي للسكان غير الزراعيين، ويؤدي إلى بنية اجتماعية متشابهة، والحيوان الرئيسي في الشرق الأوسط الكبير هو الجمل بنوعيه: العربي في كل القسم الغربي من الشرق الأوسط ابتداء من سهول العراق إلى سهول الصومال والصحراء الليبية، والبكتيري ذو السنامين الذي يسود في منطقة الهضاب الإيرانية الأفغانية، ويمتد إلى ما وراء الشرق الأوسط إلى منغوليا وتركستان الصينية (سنكيانج).
خريطة (24).
وإلى جانب الإبل تظهر حيوانات الرعي الصغيرة داخل كل الأقاليم، وفي مناطق معينة يظهر رعي الأبقار كنوع من التأقلم على البيئة، كما هو الحال في السودان وإثيوبيا وجنوب الصومال، وهذه هي مناطق التداخل والانسياح داخل أفريقيا الزنجانية طبيعيا وحضاريا، وفي باكستان تظهر تربية الأبقار والجاموس أيضا في منطقة الانتقال الهندية، وقد سبق أن ذكرنا أن الديانة والحضارة الإسلامية تشكل الغالبية الساحقة بين سكان الشرق الأوسط، مع استثناءات قليلة في مناطق العزلة الجبلية في الليفانت وجبال الحبشة، وحتى في هذه الحالات القليلة فإن النمط الحضاري العام للسكان غير المسلمين متفق مع النمط العام الحضاري الذي يمكن أن نسميه «شرقي» أو «عربي» أو «إسلامي».
رابعا:
يحكم الرباط «المكاني» أقدار مجموعة الدول المتشابهة في الصفات الطبيعية والحضارية سالفة الذكر، في صورة مثلث كبير تمتد قاعدته بحذاء الحدود الشمالية لليونان وتركيا وإيران وأفغانستان، ويمتد ضلعه الأيمن من كشمير إلى الصومال عبر باكستان والبحر العربي، بينما يمتد ضلعه الأيسر من الصومال شمالا في قوس خفيف الانحناء عبر السودان وليبيا في اتجاه وسط البحر المتوسط، وهذا التكتل المساحي الكبير لا يتكون من مساحات أرضية متصلة، بل تتخلله البحار والخلجان في أشكال واتجاهات مختلفة، كما لو كانت تريد أن تلتقي، وقد ساعدها الإنسان على الالتقاء في أضيق نقاطها، فشق قناة السويس مكونا بذلك أكبر طريق مائي عالمي عبر الشرق الأوسط، وعلى وجه العموم فإن دول الشرق الأوسط الكبير في معظمها تشارك بصورة أو أخرى في الإشراف على ممرات العبور الدولية سواء الجبلية منها أو البحرية أو الجوية، مما يدعونا إلى أن نطلق عليه «عالم العبور» (انظر الخريطة 25).
خريطة (25).
الشرق الأوسط «القلب»
في داخل الشرق الأوسط «الكبير» مثلث آخر صغير، لكنه يحتل قلب الشرق الأوسط بصفاته المكانية، وسماته الطبيعية والحضارية التي سبق ذكرها، وقاعدة المثلث القلب هذا تمتد في شمال البحر العربي إلى جزيرة سقطرة، بحذاء الساحل الجنوبي للجزيرة العربية، مشتملا على خليجي عمان وعدن، والخليج العربي والبحر الأحمر، ويمتد ضلعه الأيمن مع جبال زاجروس موازيا للساحل الإيراني على خليجي عمان والعربي، ومكملا سيره مع جبال كردستان وبموازاة الحدود العراقية الإيرانية، ثم يخترق هضبة الأناضول في اتجاه الشمال الغربي إلى أن نجد رأس المثلث في منطقة المضايق التركية - البسفور والدردنيل - أما الضلع الأيسر للمثلث فيمتد من خليج عدن مشتملا على شمال الصومال وكل البحر الأحمر ووادي النيل ودلتاه في مصر، ويعبر البحر المتوسط وبحر إيجه ليلتقي برأس المثلث في تركيا الأوروبية، وبذلك فإن الشرق الأوسط القلب يضم كل دول الجزيرة العربية والعالم العربي الآسيوي وقبرص، وأجزاء من إيران في الشرق، ومعظم تركيا في الشمال، ومعظم المعمور من مصر في الغرب وأجزاء السودان وإثيوبيا والصومال المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن.
ومن الطبيعي أن تكون أطراف الشرق الأوسط الكبير أقل أهمية كعالم عبور دولي من قلب الشرق الأوسط، وأقل تمثيلا للصفات المشتركة في بناء سمات الشرق الأوسط القلب، وذلك بحكم أن هذه الأطراف تتاخم أقاليم أخرى وتتأثر بها كما سبق القول ، وفي الحقيقة فإن المثلث القلب، وإن لم يفضل بقية الشرق الأوسط في جفافه، إلا أنه يفضله في عدد من الاعتبارات نذكر من أهمها: (1)
سيادة اللغة العربية على غالبية سكان قلب الشرق الأوسط، وذلك باستثناء طرفه الشمالي حيث تسود التركية، أما أطراف إيران الغربية الداخلة في قلب الشرق الأوسط فتسود فيها رسميا اللغة الإيرانية، لكنها منطقة تداخل كبير بين (أ) العربية (إقليم خوزستان أو عربستان أو حوزستان أو الأهواز حسب التسميات الإيرانية والعربية المختلفة، بالإضافة إلى تداخل عربي على طول سواحل إيران على الخليج العربي حتى هرمز). (ب) الكردية أو اللار في جبال زاجروس وكردستان. (ج) الفارسية في المدن الساحلية والواحات الداخلية مثل كزرون ومسجد سليمان وشيراز وبندر عباس. (2)
يسيطر قلب الشرق الأوسط على أهم الممرات البحرية العالمية في الشرق الأوسط (انظر خريطة 25): (أ)
المضايق التركية بين البحر الأسود والمتوسط، وتشترك اليونان وتركيا في الإشراف على بحر إيجه الذي يكمل مسارات الملاحة السوفيتية والكتلة الشرقية من البحر الأسود إلى عالم البحر المتوسط، ومن ثم إلى المحيط الهندي عبر السويس. (ب)
قناة السويس وباب المندب اللذان يتحكمان في طريق الملاحة الدولي من أوروبا والاتحاد السوفيتي وأمريكا الشمالية إلى المحيط الهندي وخليج البترول والشرق الأقصى، وتشارك في الإشراف على هذا الطريق كافة دول البحر الأحمر والصومال واليمن الجنوبية بما في ذلك جزيرة سقطرة التابعة لليمن الجنوبية. (ج)
مضيق هرمز الذي يتحكم في الملاحة بين أغنى منطقة إنتاج بترولي في العالم وبين أسواقه عبر البحار إلى شتى قارات العالم، والمفروض أن تتحكم كل من إيران ودولة الإمارات العربية المتحدة في هذا المضيق، لكن إيران - باحتلالها لجزر الطنب، وبقوتها العسكرية المدعمة بواسطة الأحلاف الأمريكية المتعددة - تسعى لكي تصبح الحاكم الفعلي لهذا الممر الحيوي بالنسبة لتجارة البترول العالمية. (3)
في الشرق الأوسط القلب يتركز حوالي 35٪ من إنتاج البترول الخام العالمي، وحوالي 60٪ من احتياطي البترول العالمي المؤكد أيضا، وبذلك يضيف هذا الإقليم إلى أهميته التقليدية أهمية جديدة، خاصة وأن الشرق الأوسط هو أكبر إقليم تصدير بترولي للعالم، ولا شك في أن زيادة استهلاك الشرق الأوسط من البترول في المستقبل، لكافة أغراض التنمية والطاقة، ستقلل كمية صادرات الإقليم إلى المناطق الجائعة للبترول، ولكن إنتاج الشرق الأوسط من البترول كبير للدرجة التي سيظل معها متصدرا أقاليم التصدير البترولية العالمية لفترة طويلة خلال عصر البترول.
وفي الواقع فإن البترول في الشرق الأوسط قد أضاف إلى المنطقة أشكالا جديدة من الاستراتيجيات الجيوبوليتيكية العالمية، متمثلة في الصراع الدولي حول المنطقة، وقد اتخذت جيوبوليتيكية البترول في تأثيرها السياسي على دول المنطقة عدة مراحل، وكانت المرحلة الأولى صراعا واضحا بين الرغبات القومية وبين مصالح الشركات الأجنبية المنتجة للبترول، وقد بدأت حركة تأميم البترول الإيراني في ظل حكومة مصدق في عام 1951 المرحلة الثانية من جيوبوليتيكية البترول، فقد تحول الصراع حول البترول إلى صراع قوميات المنطقة والمصالح القومية للعالم الغربي بأسره، وفي هذه المرحلة ألقت أمريكا بكل ثقلها السياسي والاستراتيجي كحليفة للقوى الإمبريالية الأوروبية القديمة، ولا شك أنه كان من آثار الصراع الذي ظهر على السطح فترة زمنية محدودة في إيران، وانتهى بفوز مصالح الشركات والدول الغربية معا، اتجاه محسوس إلى زيادة عوائد البترول للدول المنتجة في الشرق الأوسط، وظهر مبدأ ال 50٪ في المشاركة بين الشركات والدول، وظهرت في تلك الفترة (1960) منظمة الدولة المصدرة للبترول «أوبك
OPEC »، وكان من نتائجها زيادة أسعار البترول تدريجيا وتغير نظام ال 50٪ في حالات كثيرة إلى ميزان أكثر ميلا لصالح الدول المنتجة - في أغلب الحالات أصبحت النسب 55-75٪ للدولة المنتجة و45-25٪ للشركات القائمة بأعمال الإنتاج، ولكن في مقابل ذلك تلكأت الشركات في تشييد معامل تكرير البترول في الشرق الأوسط، وبدلا من ذلك تضاعفت الطاقة التكريرية للبترول في أوروبا الغربية على وجه الخصوص.
ولقد بدأت المرحلة الثالثة في جيواستراتيجية البترول بالتلويح باستخدام البترول في الشرق الأوسط عامة، وفي العالم العربي بوجه خاص - بما في ذلك ليبيا والجزائر - كجزء من أسلحة الصراع العربي الإسرائيلي، وكان ذلك في النصف الثاني من الستينيات، ولكن استخدامه الفعلي لم يحدث إلا بعد نحو سبع سنوات من التلويح به، وكان ذلك في حرب أكتوبر 1973، ولأول مرة يصبح البترول سلاحا سياسيا ذا فعالية خطيرة، على مستوى ذي أبعاد دولية شاسعة، بعد أن كان مجرد سلاح تتدرع به القوميات النامية، كفنزويلا والمكسيك وإيران، لحماية مصالحها القومية فقط.
وإلى جانب آثار الحرب الساخنة في أكتوبر 1973 بين العرب وإسرائيل، فإن سلاح البترول العربي قد اشترك بإيجابية كبيرة في رفع مشكلة الشرق الأوسط القومية والسياسية (العرب والإمبريالية الصهيونية) والاستراتيجية (الصراع الشرقي والغربي) والاقتصادية (مشكلة الطاقة في العالم الصناعي الأوروبي والأمريكي معا، بالإضافة إلى اليابان) إلى أعلى مستوى من الفكر والمناقشة والتفاوض الجماعي وغير الجماعي بين دول السوق الأوروبية، والمعسكرين الشرقي والغربي، ودول العالم العربي، والعالم الأفريقي والآسيوي، والأمم المتحدة.
هوامش
الفصل الثاني
جيوبوليتيكية المكان
(1) ثلاث مراحل زمنية في الشرق الأوسط
قلنا إن الشرق الأوسط، بامتداده من اليونان إلى أفغانستان في الشمال، ومن الصومال إلى السند في الجنوب، يحتل المنطقة المركزية في علاقات الشرق والغرب منذ القدم، ولكن طبيعة ووظيفة الشرق الأوسط كمنطقة مركزية قد اختلفت في العصور المختلفة، ويمكن، إجمالا، أن نجد ثلاث مراحل في تاريخ الشرق الأوسط الطويل، انعكست عليها صفات مختلفة من مركزية المكان الجغرافي للإقليم، وتبدأ المرحلة الأولى منذ نشأة الحضارات العليا القديمة بين النيل والفرات، وتمتد إلى بداية المرحلة الثانية التي تميزت بالركود خلال القرون 16 و17 و18، وأخيرا تظهر المرحلة المعاصرة ابتداء من القرن التاسع عشر وإلى اليوم. (1-1) المرحلة الأولى
منذ أوائل التاريخ القديم كان الشرق الأوسط مكانا لنشأة سلطة أو عدة سلطات سياسية مركزية قومية، تحتكر وتستقطب الطرق البرية والبحرية التجارية التي تنصب إليها من أجزاء العالم المعروف في آسيا وأفريقيا وأوروبا ، وبذلك كان الشرق الأوسط البؤرة التي تجتذب التجارة العالمية بمواصفاتها في تلك الفترة المتقدمة، وكانت السلطات القومية تقوم بتوسيع سلطانها في اتجاه طرق التجارة هذه، فكانت مصر الفرعونية تستأثر باحتكار الطرق البرية في داخلية أفريقيا، والطريق الملاحي في البحر الأحمر وجزء من المحيط الهندي، وفي الوقت نفسه كانت أساطيل التجارة المصرية والكريتية والفينيقية والإغريقية تتشارك - متزامنة وغير متزامنة - في تجارات البحر المتوسط بين أعمدة هرقل - جبل طارق - وبحر آزوف والبحر الأسود، وكان هدف التجارة وسوقها الأكبر مصر ودول المدينة المختلفة النشأة والتاريخ على طول ساحل فينيقيا وبحر إيجه والأناضول.
وكانت بابل وآشور من أوائل الإمبراطوريات التي احتكرت التجارة البرية الآسيوية، من الخليج حتى ساحل البحر المتوسط الشرقي، ومن ثم كان استيلاؤهما في فترات زمنية مختلفة، على مدن فينيقيا التجارية، وتدمير احتكار هذه المدن للتجارة البحرية والبرية في ساحل الليفانت. وجاءت بعدهما الإمبراطورية الفارسية لتمتد على سطح أرضي واسع، كاد أن يحتل كل منطقة الشرق الأوسط، وكانت هذه هي الإمبراطورية الأولى التي سعت للسيطرة على كل عالم العبور من اليونان إلى أفغانستان، ومن مصر إلى اليمن، ولكن نمو العالم عمرانيا وحضاريا أدى إلى نشأة نواة سياسية أخرى في قلب عالم البحر المتوسط: روما، وسرعان ما تقاسم النفوذان الفارسي والروماني عالم الشرق الأوسط، فسيطرت فارس على الجانب الآسيوي وطرق التجارة البرية، بينما سيطرت روما على التجارة البحرية من مصر وساحل شرق البحر المتوسط إلى شمال أفريقيا وغرب أوروبا.
ومنذ نشأة روما وامتدادها في غرب العالم المعروف، زادت العلاقات التجارية عبر اليابس الأورو آسيوي: من الصين برا إلى الشرق الأوسط وأوروبا من المحيط الهندي بحرا إلى مصر والبحر المتوسط، وبذلك لم تعد التجارة العالمية منصبة على المراكز الحضارية والسياسية في الشرق الأوسط فقط، بل أخذت اتجاهات عالمية إلى أوروبا الغربية، وربما كان هذا نوعا من التحول الكيفي في الشرق الأوسط، فلم يعد وحده مركز العالم، إليه تنصب الطرق العالمية المعروفة، بل بدأت أوروبا تشاركه في ذلك، ومصداقا لذلك ظهر القول المأثور: كل الطرق تؤدي إلى روما، وبذلك بدأت صفة عالم العبور تسيطر على وظيفة الشرق الأوسط بوضوح لفترة امتدت عدة قرون.
وحينما أصبحت الإمبراطورية الإسلامية أكبر إمبراطوريات العالم في العصور الوسطى والقديمة، عاد الشرق الأوسط يستقطب طرق العالم القديم وتجارته، وكان ذلك على نطاق غير معروف من قبل، وقامت بغداد، ثم القاهرة، بالدور الذي قامت به - بعد بضعة قرون - إسبانيا والبرتغال وإنجلترا وهولندا، ففي بغداد والقاهرة كانت تنصب تجارة العالم من الصين وإندونيسيا والهند وشرق أفريقيا بواسطة البحر، وإليهما كانت تأتي التجارة برا من الصين الشمالية ووسط آسيا وسهوب روسيا، وتجارة أفريقيا الداخلية، وبالبحر كانت تتم مبادلات تجارية بين إمارات أوروبا وممالكها وبين العالم الإسلامي، وللتدليل على قيمة التجارة العالمية التي كانت تتجه وتسوق في العالم الإسلامي في الشرق الأوسط، يكفي أن نعرف أن أمجاد وحضارة البندقية وجنوا قامت على جزء يسير من تجارة الدولة الإسلامية، هو ذلك الذي يعبر الشرق الأوسط، أو ينبع منه، ويتجه إلى الأسواق الأوروبية بواسطة أساطيل البندقية وجنوا. (1-2) المرحلة الثانية
تبدأ هذه المرحلة من الركود في أواخر القرن الخامس عشر، وقد تحالفت عدة أحداث متقاربة الوقوع على تدهور أوضاع الشرق الأوسط كان أهمها - في إيجاز - ما يلي:
أولا:
اكتشاف الطريق البحري حول أفريقيا من أوروبا إلى الهند، وتساقط القلاع العربية على طول شواطئ أفريقيا الشرقية وخليج عمان ومضيق هرمز في أيدي البرتغاليين دون رادع جدي من جانب الدولتين العثمانية والصفوية في إيران.
1
ثانيا:
بعد أن وطد العثمانيون سلطانهم في معظم الشرق الأوسط من مصر واليمن إلى العراق والخليج العربي - سقوط دولة المماليك في مصر والشام والحجاز 1517 - لم يول العثمانيون موضوع تجارة المحيط الهندي أهمية تذكر، وكان ذلك لعدة أسباب، منها: (1)
استحكام النزاع العثماني مع الصفويين في إيران، والحروب المستمرة بينهما
2
حول العراق الشمالي وأذربيجان، ويعيد هذا النزاع إلى الأذهان صورة النزاع الفارسي الروماني، والنزاع الإسلامي البيزنطي في المنطقة. (2)
اهتمام العثمانيين بفتوحاتهم في البلقان والبحر الأسود وشمال أفريقيا، وعلى هذا استنزفت حروب الأتراك في روسيا والمجر والصرب والنمسا جهود الدولة بحيث ركدت منطقة الشرق الأوسط تماما بعد انقطاع التجارة البحرية من الهند إلى أوروبا عبر مصر والخليج العربي.
ثالثا:
بدأ الروس في التوغل إلى شرق آسيا عبر نطاق الغابات المخروطية من 1580 إلى 1650، وبدءوا يزحفون في جبهة عريضة صوب القوقاز ووسط آسيا
3
قاطعين بذلك الطريق أمام التجارة البرية من الصين عبر الشرق الأوسط إلى أوروبا.
وعلى هذا سقط الشرق الأوسط في ركود طويل نتيجة لفقدان أهميته المركزية في طرق التجارة العالمية، فالطرق البرية قطعت بواسطة القوى الروسية والصينية، والطرق البحرية احتكرها الأوروبيون الذين أخذوا يجنون ثمارها في صورة أرباح خيالية، بالإضافة إلى انشغالهم باقتسام واستثمار موارد العالم الجديد، ومما يؤكد ذلك أن نعطي بعض التقديرات عن دخل بعض الدول في فترات مختلفة قبل الكشوف الجغرافية وبعدها، لنرى كيف هبطت ميزانية الدخل في دول الشرق الأوسط بعد نمو تجارة أوروبا البحرية، وبرغم أن الأرقام التالية مجرد اجتهاد، وخاصة أرقام القرنين الخامس عشر والسادس عشر، إلا أنها اجتهاد لا بأس، ومؤشر مقبول متمش مع منطق الأمور.
جدول 2-1: تقديرات الدخل الإجمالي لبعض الدول: سنوات مختلفة بملايين الجنيهات الإسترلينية. *
الدولة
1483
1600
1715
1815
الدولة المملوكية
8,5
الدولة العثمانية
8,5
8,5
1,3
1-2
البندقية
1,9
4,2
1,3
نابولي
0,6
6,2
3,5
ميلانو
0,6
3,1
البرتغال
0,6
4,2
1,3
1-3
فرنسا
5,6
11,5
7,0
32,0
قشتالة (كاستيل)
إسبانيا
2,7
9,8
32,5
1,6
3,5
أرجون
1,0
1,2
هولندا
2,3
2,5
6,0
بريطانيا
0,6
1,9
5,5
70,0
روسيا
1,6
10,0
بروسيا
1,2
7,0
الولايات المتحدة
4,0 *
المصدر:
McEvedy, C. “The Penguin Atlas of Modern History” ، الأرقام مجمعة عن الصفحات:
pp. 24, 38, 58, 90 .
يلاحظ أن أرقام 1483 و1600 كانت في المصدر بملايين الدوكات الذهبية - عملة البندقية - وأن قيمة التحويل - حسب المصدر نفسه - هي 2,1 جنيه إسترليني لكل دوكات بندقي، ويلاحظ المصدر نفسه أن قيمة السلع لم تتغير كثيرا في أوروبا في الفترة بين 1600 و1710، ومن ثم فإن ارتفاع أو انخفاض الدخل في هاتين السنتين يوضح فعلا نمو أو تدهور مجمل الأوضاع الاقتصادية في الدولة. (1-3) المرحلة الثالثة
ظل الركود مسيطرا على الشرق الأوسط حتى دقت أبوابه فرنسا الجديدة بعد ثورتها في أواخر القرن الثامن عشر، وسواء كانت الحملة الفرنسية على مصر (1798) مجرد تكتيك عسكري صرف، أو أنه كانت هناك استراتيجية معينة في ذهن نابليون بونابرت، كامتداد لنجاحه العسكري في البحر المتوسط - الحملة الإيطالية - يهدف من ورائها إلى منافسة بريطانيا باحتلال أقرب طريق بري يمكن أن يؤدي إلى الهند، «ومن ثم يمكن تفسير وجود البعثة العلمية الضخمة التي صاحبت الحملة ودراساتها حول إمكانية شق قناة تصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر»، سواء كان هذا الأمر أو ذاك، فإن هذه الحملة يمكن أن تؤرخ لبداية ظهور الأهمية الجيوبوليتيكية لعلاقات المكان الجغرافية في الشرق الأوسط على مسرح الصراع الدولي المعاصر.
ومنذ ذلك التاريخ تفاعلت وتنافست وتصادمت عدة قوى ذاتية في الشرق الأوسط، وعدة قوى أوروبية على الشرق الأوسط للحصول على مكان يمكن التحكم منه في الإقليم بوصفه الحلقة الرئيسية في تأمين أو تهديد الأملاك الأوروبية في المحيط الهندي عامة، وقد بلغت هذه التفاعلات والمنافسات درجة شديدة من التعقد والتشابك قل مثيلها بالنسبة لأقاليم جيوبوليتيكية أخرى في العالم، فقد انطوت على تكوين تحالفات متكررة من جانب القوى الأجنبية مختلفة تماما في عضويتها في كل مرحلة زمنية بحيث يمكن أن يكون حلفاء فترة أعداء في فترة أخرى، وهذه الاختلافات تعكس طبيعة المنافسة الحادة بين كل دولة أوروبية من أجل السيطرة على الشرق الأوسط، ومن ثم يكثر رفقاء جزء من الطريق، وهذه التركيبات المتحالفة المتكررة، قصيرة العمر، كانت تلعب على خلفية ما يدور من أحداث سياسية ذاتية داخل الشرق الأوسط فتتأثر بها في أحيان، وتؤثر عليها في غالبية الأحيان بحيث توجهها وجهة مقصودة تخدم استراتيجية واحدة من القوى المتصارعة الرئيسية: بريطانيا وفرنسا وروسيا وألمانيا.
هذا التشابك والتعقد يكاد يجعل دراسة الأوضاع السياسية والتيارات المتصارعة على الشرق الأوسط وفي داخله، دراسة تشوبها الصعوبة الجمة، خاصة وأن هناك مئات المصادر التي كتبت عن التاريخ السياسي للإقليم، وغالبيتها الساحقة كتابات لا تتسم بالموضوعية في التفسير والتحليل والنتائج التي تصل إليها، برغم اعتمادها على وثائق موحدة وأحداث مسجلة، وبالرغم من أن الخطوط العامة واضحة ومعروفة، فإننا سنحاول إعادة إبرازها في الصورة الموجزة التالية (انظر الخرائط 26، 27، 28، 29):
أولا:
القوى والأوضاع الذاتية في الشرق الأوسط منذ القرن التاسع عشر، مكونات هذه القوى هي: الدولة العثمانية ومصر، وإيران وأفغانستان وصراع كل منهما مع الآخر.
ثانيا:
القوى الأوروبية المتصارعة على الشرق الأوسط، ومكونات هذه القوى وخطوط ضغوطها على المنطقة، وقواعد انطلاقها، هي: بريطانيا كقوة بحرية ذات مرونة تكتيكية واستراتيجية واضحة لوجود قواعد إنجليزية متعددة تحيط بالشرق الأوسط من البحر المتوسط إلى الهند، روسيا، على عكس بريطانيا تماما، قوة برية عملاقة ذات جبهة أرضية عريضة متداخلة تداخلا مباشرا في الشرق الأوسط من البلقان إلى أفغانستان، فرنسا كقوة بحرية أقل مرونة من بريطانيا برغم وقوعها على شواطئ البحر المتوسط؛ وذلك لأنها لم تكن متفرغة تماما لبناء إمبراطورية في الشرق الأوسط نتيجة مشكلاتها الأرضية مع الدول الأوروبية المجاورة، وأخيرا ألمانيا كقوة برية كانت أقل تأهيلا من روسيا للدخول في صراعات الشرق الأوسط للبعد المكاني، ولدخولها متأخرة حلبة السباق حول الإقليم، بالإضافة إلى أنها كانت تعاني من مشكلات حدودها القومية، مثلها في ذلك مثل فرنسا. (2) جيوبوليتيكية المكان في القرنين 19 و20 (2-1) أوضاع دول الشرق الأوسط
الدولة العثمانية
كان وهن الدولة العثمانية قد بلغ أشده، شأنها في ذلك شأن الدول العظمى التي تدخل مرحلة التدهور والأفول، وقد انعكس ذلك في صورة تكالب الدول الأوروبية على اقتسام الدولة التي سميت خلال القرن التاسع عشر باسم رجل أوروبا المريض،
4
وفي سبيل ذلك دخلت الدول الأوروبية الرئيسية - بريطانيا وفرنسا وروسيا - صراعات مباشرة في جبهة متحالفة ضد الدولة العثمانية في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى كانت إحدى هذه الدول تنفرد بعمل ما ضد تركيا، فيهب الآخرون لمساعدة تركيا، ولكن هذه المواقف المتعددة كانت دائما وأبدا تنتهي إلى مزيد من تقسيم الدولة العثمانية.
خريطة (26).
خريطة (27).
خريطة (28).
خريطة (29): الشرق الأوسط في أوائل النصف الثاني من القرن 19. بدايات التمزيق وخطوط القوى الإمبريالية. (1) الدولة العثمانية وخديوية مصر وولاية طرابلس. (2) القوى الإمبريالية البريطانية ومستعمراتها في الهند ومحمياتها في الخليج العربي وعدن، خطوط التحرك البحري صوب مصر وقناة السويس وحوض النيل والبحر الأحمر وفلسطين، ومن الهند إلى الخليج وإيران. (3) فرنسا ومستعمرتها في الجزائر، وخط تحركها صوب شرقي البحر المتوسط. (4) ألمانيا وتحركها البري إلى الشرق الأوسط عبر سكة حديد برلين بغداد. (5) روسيا وتحركاتها البرية إلى القوقاز والمضايق التركية والبلقان ووسط آسيا في اتجاه إيران وأفغانستان. (6) خط التحرك الإيطالي صوب الشرق الأوسط (أواخر القرن 19 صوب إريتريا في جنوب البحر الأحمر، وأوائل القرن 20 صوب ليبيا).
وقد انفردت روسيا القيصرية بكثير من الأعمال العسكرية الموجهة ضد تركيا، وذلك بحكم علاقات المواقع المتجاورة في البلقان والقوقاز، كما أن مشكلة المضايق التركية قد ظهرت إلى الوجود بعد أن طردت تركيا من القرم وأوكرانيا في أواخر القرن الثامن عشر وأصبحت روسيا دولة من دول البحر الأسود، أما بريطانيا وفرنسا فكانتا تتحالفان وتتنافسان معا ضد تركيا وضد بعضهما، وكانتا تضمان إلى حلفهما بعض الدول الأخرى في أوقات معينة، مثلا تحالفت الدولتان مع روسيا وبروسيا ضد تركيا خلال الحرب الاستقلالية في اليونان، وتحالفتا مع تركيا والنمسا ضد روسيا خلال حرب القرم، وتحالفتا مع روسيا وبروسيا مع تركيا ضد مصر في 1840، وتخاصمتا وتنازعتا خلال أزمة الدروز والمسيحيين في لبنان، فدخلت فرنسا مؤيدة للمسيحيين، وبريطانيا مؤيدة للدروز.
وحينما ظهرت ألمانيا كقوة عسكرية في أوروبا بعد 1870 تحالفت فرنسا وبريطانيا وروسيا، وظل هذا الحلف يقوى بتأثير ارتباط الدولة العثمانية بألمانيا والنمسا، وقد أرادت ألمانيا أن تبني جسرا عبر تركيا إلى الشرق الأوسط والمحيط الهندي وتدق إسفينا بين روسيا من ناحية وفرنسا وبريطانيا من ناحية أخرى، وقد انعكست هذه الاستراتيجية الألمانية في بناء خط حديدي يربط ألمانيا والدولة العثمانية، عرف باسم خط برلين بغداد «وصل إلى بلجراد 1888، وأنقرة 1892، والبصرة 1902»، وقد تدعم حلف روسيا وبريطانيا وفرنسا عام 1907، وكانت له آثار واضحة في اقتسام إيران بين بريطانيا وروسيا في صورة مناطق للنفوذ وليس في صورة احتلال، لمواجهة القوة الألمانية التركية، وتوقف العداء الروسي الإنجليزي في أفغانستان.
مصر
وخلال فترة ظهور مصر كقوة جديدة في الشرق الأوسط (1805-1840) في عصر حكم محمد علي، كانت المنافسة الفرنسية الإنجليزية على أشدها، ليس فقط بشأن مصر، بل فيما يخص كل شئون الشرق الأوسط، ففرنسا سعت أن يكون لها مكانة مرموقة في مصر، وقد نجحت في ذلك نجاحا لا بأس به، ولكن نمو القوة المصرية إلى الحد الذي هدد كيان الدولة العثمانية - حينما اقتربت الجيوش المصرية من إسطنبول - كان كفيلا بوقوف بريطانيا وروسيا والنمسا موقفا صلبا لمساعدة الدولة العثمانية، فهذه الدول كانت تفضل التعامل مع الدولة العثمانية الضعيفة لتحقيق أهدافها المختلفة، فبريطانيا لا ترضى بوجود قوة تهدد طريق الهند، وكان لروسيا والنمسا - بحكم جيرتهما لتركيا - أطماعهما في البلقان، وذلك بالإضافة إلى رغبة روسيا في الحصول على موقف قوي في المضايق التركية - معاهدة هنكار اسكليسي 1833، بين تركيا وروسيا، التي نصت على أن يصبح إغلاق المضايق رهنا بموافقة روسيا - وقد اشتركت فرنسا مع هذه الدول الثلاث لحماية الدولة العثمانية بالإضافة إلى بروسيا وذلك كي لا تصبح وحدها مؤيدة لمصر، وتفقد بذلك أية مزية يمكن أن تحصل عليها في الشرق الأوسط بعد تحطيم القوة المصرية.
وفي عهد ولاية عباس الأول كسبت بريطانيا موقفا قويا في مصر ضد فرنسا، وذلك بالموافقة على إنشاء خط حديدي بين السويس والإسكندرية
5
وهو عكس الاستراتيجية الفرنسية الرامية إلى إنشاء قناة بحرية في برزخ السويس، ثم كسب الفرنسيون جولة ضد إنجلترا بموافقة مصر على شق قناة السويس (1858-1869)، وفي 1875 اشترى الإنجليز أسهم مصر في القناة (= 44٪ من أسهم الشركة)، وفي 1882 تذرعوا بحماية أرواح الأجانب واحتلوا مصر، وكان سهلا عليهم بعد ذلك أن يدخلوا السودان، وتمت لهم السيطرة الفعلية على الطريق الملاحي الجديد الذي يهدد احتكارهم التقليدي لتجارة عالم المحيط الهندي، وبذلك نجحت الاستراتيجية الإنجليزية في الشرق الأوسط، في مقابل إطلاق يد فرنسا في شمال أفريقيا.
إيران
نشأت الدولة الصفوية في إيران خلال القرن السادس عشر، وقد صادفت منذ نشأتها نزاعا مستمرا مع الدولة العثمانية، وفي القرن الثامن عشر تعرضت إيران للمنافسات المختلفة من جيرانها، ففي الفترة بين 1722 و1730 كانت هناك حروب مستمرة بين إيران والأفغان والأتراك والروس والبريطانيين، وفي القرن التاسع عشر اشتدت المنافسة على إيران؛ فبريطانيا كانت تعتبر إيران والخليج قلعة أمامية بالنسبة للهند، ولذلك أبدت قلقا شديدا من تزايد نشاط المبعوثين الفرنسيين إلى البلاط الإيراني خلال الفترة 1796-1809، ومن ثم عقدت اتفاقا مع إيران في 1800 لمنع هذا النشاط الفرنسي، وقد توقف الفرنسيون عن نشاطهم بعد هزيمتهم في مصر، ولكنهم أرسلوا بعثة إلى إيران عام 1807 لعقد معاهدة وحلف ضد الروس، وقد فشلت البعثة أيضا نتيجة لجهود بريطانيا.
ونظرا للتجاور المكاني بين روسيا القيصرية وإيران، فإن دور روسيا هنا كان مشابها ومكملا لدورها بالنسبة للدولة العثمانية، ففي 1801 احتل الروس جورجيا و1813 تقدموا في أذربيجان، 1828 احتلوا ما هو معروف الآن بجمهورية أرمينيا السوفيتية، ولم تستطع المعاهدة الإنجليزية الإيرانية أن تساعد إيران ضد هذا التوغل الروسي، وفي الفترة 1821-1823 خاضت إيران حربا ضد الدولة العثمانية، وحربا أخرى بينها وبين أفغانستان (1834-1837) بتحريض روسيا التي كانت تساند إيران، بينما كانت بريطانيا تساند أفغانستان، وفي 1856 حاربت بريطانيا إيران في الخليج واحتلت جزيرة الخرج، وأصبحت إيران تحت النفوذ البريطاني في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وفي 1889 مارست بريطانيا نفوذا اقتصاديا كبيرا بإنشائها البنك الإمبراطوري الفارسي الذي كان من حقه إصدار العملات، وفي السنة ذاتها عقدت إيران مع روسيا امتيازا بمقتضاه أصبح للروس الحق في مد الخطوط الحديدية في إيران، وفي 1907 كفت بريطانيا وروسيا عن النزاع على إيران، بعد أن ثبتت كل منهما نفوذا معينا، وذلك كجزء من التحالف ضد ألمانيا.
أفغانستان
في أفغانستان وباكستان الحالية بما في ذلك معظم كشمير، مجموعة من الممرات الجبلية التي كونت طرقا رئيسية عبرتها عشرات المرات هجرات الشعوب وجيوش الفاتحين والغزاة، تربط بين السهول الغنية في الهند وبين وديان وواحات وسط آسيا، وتؤدي في النهاية إلى نطاق الشعوب المتحركة أبدا من التركمان والمغول، ومن ثم فإن المؤثرات التركمانية والمغولية والهندية قد تبادلت التأثير على المنطقة كلها من الهند إلى وسط آسيا بما في ذلك مناطق العبور في جبال أفغانستان وكشمير وشمال باكستان، وذلك منذ أقدم العصور، ويبدأ تاريخ أفغانستان الحديث بأحمد شاه الذي أسس عام 1747 إمبراطورية الدوراني، التي شملت أفغانستان الحالية وكشمير والبنجاب وامتدت إلى بلوتشستان على ساحل البحر.
وفي القرن 19 تنازع النفوذ الإنجليزي، الذي اتخذ قاعدته في الهند، مع النفوذ الروسي الذي استقر في وسط آسيا، على أفغانستان، بوصفها منطقة الصدام الأساسية بين النفوذين الروسي والإنجليزي حول الهند والمياه الدافئة، وفي الواقع فإن أفغانستان، بحدودها السياسية الراهنة، لم تكن وحدها مسرح المعارك بين نفوذ بريطانيا وروسيا، بل شمل الصراع كل المنطقة الممتدة من أفغانستان إلى شمال باكستان - الحالية - وجنوبها، وجنوب إيران وشرقها، فهذه كلها منطقة طبيعية واحدة يتداخل فيها الأفغان والتركمان والبالوتش من وسط آسيا السوفيتية إلى سواحل مكران وبالوتشيستان على البحر العربي. ويبدأ تاريخ المنطقة الحديث من القرن الثامن عشر باستقلال أفغانستان وطرد الفرس، لكن الحرب ظلت بينهما سجالا حتى نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كانت بعض الحروب الأفغانية الإيرانية بتحريض روسيا وبريطانيا - كما مر بنا - كحلقة من الصراع الأوروبي حول المنطقة كلها، وقد نجحت بريطانيا بعد حربين (1839-1842، 1879-1881) في فرض حمايتها على أفغانستان، وفي 1907 خرج النفوذ البريطاني بعد الاتفاق مع الروس حول مناطق النفوذ الروسية البريطانية في أفغانستان وإيران - وهو ما يؤكد أن المنطقة ككل كانت مثار الصراع بينهما - وبذلك أصبحت أفغانستان دولة حاجزة بين الهند البريطانية وتركستان الروسية، وزيادة في الفصل بين المنطقتين، أضيف إلى أفغانستان لسان أرضي طويل يعرف باسم إقليم «واخان»، يفصل بين كشمير البريطانية وتاجيكستان الروسية، ويمتد شرقا حتى يتلاحم مع حدود الصين في التبت وتركستان، (ثبتت هذه الحدود مع السوفيت عام 1948، ومع الصين في عام 1964). (2-2) القوى الأوروبية المؤثرة على الشرق الأوسط
أشرنا من قبل إلى أن القوى الأوروبية التي لعبت أدوارا محددة وواضحة على مسرح الشرق الأوسط كمنطقة مركزية في علاقات الشرق والغرب، كانت تنطلق من مواقع وأماكن مختلفة، مما أدى بها إلى اتخاذ استراتيجيات وخطوط ضغط وتحرك متباينة، وفيما يلي سنحاول - في إيجاز - أن نلقي ضوءا على مصير هذه الاستراتيجيات المختلفة خلال القرن الحالي.
ألمانيا
تمثل ألمانيا قوة أوروبية برية ذات بعد مكاني واضح عن الشرق الأوسط وقد كانت هي آخر القوى الأوروبية التي دخلت ميدان الصراع على المكان الجغرافي المميز للشرق الأوسط، ولا شك في أن تأخرها الزمني في الدخول إلى المنطقة كان - جنبا إلى جنب مع بعدها المكاني - السبب الرئيسي في فشل استراتيجياتها طوال النصف الأول من هذا القرن، كما أن دخولها صراع الشرق الأوسط القومي بعد 1950 مؤيدة لليهود، كان بدوره خطأ آخر فادحا في استراتيجياتها وتكنيكاتها السياسية في المنطقة، وتسعى الآن (1974) لتعديل موقفها المتحيز السابق في العالم العربي.
حاولت ألمانيا تعويض بعدها المكاني عن الشرق الأوسط ثلاث مرات منذ التسعينيات من القرن الماضي، وذلك بإنشاء معبر أرضي إلى الشرقي الأوسط، فهي بتزعمها حلف القوى المركزية (ألمانيا - إمبراطورية النمسا والمجر - الدولة العثمانية)، وبوصفها الحليف الأقوى عسكريا وتنظيميا بالقياس إلى ضعف وتدهور النمسا وتركيا، كانت تريد أن تمد قوتها في صورة إسفين أرضي قوي من وسط أوروبا إلى الخليج العربي والمحيط الهندي والبحر الأحمر، ووظيفة هذا الإسفين عزل روسيا عن حليفتيها بريطانيا وفرنسا، وتهديد الوجود البريطاني في أعماقه الإمبراطوري في الهند بالاستيلاء على ممرات العبور الرئيسية: قناة السويس والخليج العربي، لكن هذا الجسر البري الذي أقامته ألمانيا تعرض للتفكك والانهيار في منطقة البلقان المعادية للنمسا وتركيا معا نتيجة لنمو الروح القومية خلال القرن التاسع عشر، وتحالف اليونان مع بريطانيا وفرنسا، ومشاعر التحالف بين سلاف الصرب - يوجسلافيا - والروس، وقد كانت هزيمة الأتراك شرقي قناة السويس واحتلال الإنجليز للبصرة، والثورة العربية الشاملة ضد الحكم العثماني، والنفوذ الإنجليزي في جنوب إيران، عوامل متعددة لفشل المحاولة الألمانية الأولى في صراعها مع القوى العالمية لاحتلال الشرق الأوسط أو اتخاذه قاعدة للتأثير على مجرى صراعها من أجل السيادة العالمية ضد بريطانيا وفرنسا.
وقبيل الحرب العالمة الثانية اتبعت ألمانيا استراتيجية الحرب الأولى نفسها، ولكن بصورة موسعة، فقد بنت جسرين إلى الشرق الأوسط كان أولهما تحالفها مع إيطاليا ومن ثم ليبيا في اتجاه ضغوط برية قوية عبر البحر المتوسط إلى مصر وقناة السويس، والثاني كان عبارة عن سلسلة من الارتباطات الاقتصادية والتحالف مع المجر وبلغاريا ونوع من التحالف مع الجمهورية التركية، ثم زيادة واضحة في النفوذ الاقتصادي - ومن ثم السياسي - في كل من إيران وأفغانستان، وعلى هذا فإن التهديد الألماني في جولته الثانية من الصراع على السيادة العالمية قد تناول الشرق الأوسط مرة أخرى، كقاعدة ضد بريطانيا في المحيط الهندي (قناة السويس، وميول بعض الساسة العراقيين لألمانيا)، وضد الهند البريطانية (إيران وأفغانستان)، وتطويق الاتحاد السوفيتي من الجنوب، وفي خلال الحرب بدا كأن الصراع يميل إلى الكفة الألمانية: سوريا تحت حكومة فيشي الفرنسية الخاضعة للألمان، انقلاب رشيد الكيلاني في العراق لصالح ألمانيا، بوادر مماثلة لذلك في مصر ، القوات الألمانية الإيطالية في العلمين وعلى مشارف الدلتا، القوات الألمانية في شمال القوقاز باتجاه الشرق الأوسط في أطرافه الشمالية، ولكن ذلك الرجحان لكفة ألمانيا سرعان ما تبخر؛ لأنه قائم على مجرد الآلة الحربية الألمانية، وبعض المشاعر الودية التي يكنها سكان الشرق الأوسط تجاه ألمانيا تطبيقا للمثل الشائع «عدو عدوك صديقك»، فلم تكن هناك في الواقع أرض صلبة يقف عليها الألمان في الشرق الأوسط، وبسقوط انقلاب الكيلاني سريعا، وإنهاء حكم فيشي في سوريا ولبنان، وتنحية شاه إيران وتقسيم الدولة إلى منطقتي نفوذ عسكري بريطاني وسوفيتي، وهزيمة الجيوش الألمانية في العلمين وستالينجراد؛ تحول المد الألماني إلى جزر سريع، وتلاشى دون أن يترك أثرا في الشرق الأوسط، حتى في تركيا التي التزمت الحياد بعد أن كانت ميالة لألمانيا في مراحل الحرب الأولى للدرجة التي أقفلت معها المضايق في وجه الأسطول السوفيتي.
وأخيرا فقد ابتعد الدور الأخير الذي لعبته ألمانيا في الشرق الأوسط كثيرا عن الاستراتيجية السابقة، وأخذ صورة المساعدات الاقتصادية في بعض دول الشرق الأوسط، وخاصة في إيران، لكن أخطر أشكال الدور الألماني المعاصر هو الدور المؤيد لإسرائيل، وبافتراض أن ألمانيا - بعد نكبتها - أجبرت على دفع تعويضات خرافية لليهود، وأجبرت على أن تصبح واجهة التمويل المادي والعسكري لإسرائيل، فإن ذلك لم يكن يستدعي استمرارها - عن اقتناع - في تأييد إسرائيل ضد المصالح القومية للمجموعة الكبرى من دول الشرق الأوسط، ولسنا بصدد تفسير هذا الاقتناع الألماني وتحليل مسبباته وضغوطه الخارجية - من جانب أمريكا وبريطانيا وفرنسا - ولكن خلاصة القول أن ألمانيا الغربية قد فشلت مرة أخرى في أن تلعب دورا هاما كقوة ثالثة بين القوى الإمبريالية والاشتراكية على مسرح الشرق الأوسط، ولعل مسعاها الأخير نحو موقف موضوعي في الصراع العربي الإسرائيلي يبدأ مرحلة ألمانية جديدة في المنطقة.
فرنسا
بالرغم من أن فرنسا هي التي فتحت آفاق الشرق الأوسط كمنطقة صراع دولية منذ آخر القرن الثامن عشر، وبالرغم من جهودها النشطة في علاقات وصراعات دول الشرق الأوسط بين روسيا القيصرية وبريطانيا - سواء كان ذلك بتأييدها مصر في عهد محمد علي وإسماعيل، أو تأييدها مسيحيي الدولة العثمانية، أو محاولتها التسلل إلى إيران في أوائل القرن 18 - فإن نتائج هذه السياسة لم تجلب لها سوى القليل من المكاسب في الشرق الأوسط، تمثل في حصولها على جيب صغير - سوريا ولبنان - لفترة قصيرة - فترة ما بين الحربين العالميتين.
وقد تضافرت مجموعة من الأسباب على فشل السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط خلال النصف الأول من هذا القرن. ومن بين أهم هذه الأسباب ما يلى: (1)
فرنسا في مجموعها قوة برية منذ أن أمنت إمبراطوريتها في أفريقيا الشمالية والغربية وجنوب شرق آسيا، ومنذ أن واجهت المشكلة الألمانية ابتداء من عام 1870، وهي المشكلة التي استنفدت جهودها العسكرية ثلاث مرات في حوالي نصف قرن. (2)
بالرغم من القوة البحرية الفرنسية في البحر المتوسط، إلا أن تغير سياستها من حين إلى آخر نتيجة صراعات الحكم الداخلية لم يكفل لاستراتيجيتها أي نوع من الثبات والاستمرارية في الشرق الأوسط، مما جعلها حليفا غير مأمون، ينتقل من التأييد إلى التردد، ويضيع الوقت بذلك بين الثقة واستعادة الثقة، وفي مواجهة ذلك كان هناك خط ثابت للاستراتيجية البريطانية التي ظلت المنافس الأول لفرنسا طوال القرن التاسع عشر. (3)
نتيجة لنمو التهديد الألماني لفرنسا - بحكم علاقات الجوار المكاني - تحالفت فرنسا مع بريطانيا منذ أواخر القرن الماضي وطوال النصف الأول من القرن الحالي، وقد دخلت فرنسا بذلك تحت مظلة الاستراتيجية البريطانية بالنسبة لكثير من المشكلات الدولية، وظهر ذلك جليا في الاتفاق 1904، وبمقتضاه تركت مصر والسودان لبريطانيا،
6
وبقية شمال أفريقيا لفرنسا - المغرب على وجه الخصوص - وبرغم المنافسة الخفية الإنجليزية الفرنسية، إلا أنه لم يكن في وسع فرنسا - بعد نهاية الحرب العالمية الأولى - أن تحصل على أكثر من سوريا ولبنان كجزء من أسلاب الإمبراطورية العثمانية، مقابل حصول بريطانيا على المراكز الحساسة من قناة السويس إلى الخليج العربي مرورا بفلسطين والأردن والعراق، محاصرة بذلك مكان فرنسا الجديد في الشرق الأوسط.
وفي خلال الخمسينيات ألقت فرنسا بثقلها تأييدا لإسرائيل، شأنها في ذلك شأن الدولة الغربية عامة، وكان لهذا الموقف أسباب خاصة وأخرى عامة، أما الأسباب الخاصة فتنبع من مركز فرنسا المزعزع في دول شمال أفريقيا التي أخذت حركاتها القومية الرامية إلى الاستقلال عن فرنسا أشكالا مختلفة من العنف بلغت أقصى حد لها في ثورة الجزائر الطويلة، وبذلك كان تأييد فرنسا لإسرائيل نوعا من التكتيك والتعويض لضرب القومية العربية النامية في العالم العربي، سواء منه ما هو موجود في الشرق الأوسط، أو امتداده في أفريقيا الشمالية.
وأما الأسباب العامة التي اعتنقتها دول العالم الغربي فقد نبعت عن عدد من المفهومات والمسلمات الاستراتيجية بالنسبة لأمن ذلك العالم في ذلك الوقت، فقد ساد الاعتقاد، فجأة، بأن إسرائيل هي ممثلة الغرب في الشرق الأوسط، وأنها بذلك ستصبح أول دولة غربية تحتل أرضا خالصة لها داخل الشرق الأوسط، فهي إذن البديل الحقيقي للاستعمار والإمبريالية معا، وهي جسر قوي يمكن أن يساعد العالم الغربي على مقاومة وتفتيت الجهود التي كانت تبذلها القوى الوطنية والقومية العربية للتخلص من الاستعمار (مصر - العراق) والتبعية الاقتصادية السياسية للغرب (كل دول الشرق الأوسط بما فيها إيران)، وبذلك تقوم إسرائيل بتحقيق مهمتين: أولاهما الإشراف عن قرب على حرية الملاحة الغربية في قناة السويس (كانت فرنسا لا تزال محتفظة بمستعمراتها في جنوب شرق آسيا ومدغشقر)، وثانيتهما دعم الوضع العام في الشرق الأوسط ضد التيار الاشتراكي أو أفكار تأميم المصالح الغربية (البترول الإيراني وقناة السويس)، وقد كان رد الفعل الفرنسي والبريطاني (والعالم الغربي عامة) عنيفا على الحركة القومية المصرية بعد تأميم قناة السويس، فاشتركت في حرب سافرة مع بريطانيا وإسرائيل ضد مصر عام 1956.
وبالرغم من أن تيار مساندة إسرائيل ما زال قويا على المستوى العام في فرنسا إلا أن تغير الجمهورية الفرنسية وتولي الديجوليين الحكم، وتصفية الوجود الفرنسي في الجزائر، قد أدى بفرنسا الرسمية إلى تبني سياسة أخرى أقرب إلى الحياد في مسألة الصراع العربي الإسرائيلي، ولا شك في أن المصالح القومية الفرنسية وصراع القوى بين أمريكا وفرنسا في أوروبا والشرق الأوسط كانا وراء هذا التغير في الاستراتيجية الفرنسية بالنسبة للشرق الأوسط، وبذلك نعود إلى ما سبق أن ذكرناه من قبل، وهو أن الاستراتيجية الفرنسية في الشرق الأوسط متغيرة اعتمادا على ما يطرأ داخل فرنسا من تغيرات في الحكم ومشكلات الاقتصاد، وارتباطا بالمنافسة الخفية أو العلنية مع القوى الغربية الأخرى على الشرق الأوسط، ففرنسا ابتداء من أواسط الستينيات تبحث عن صيغة فرنسية في الشرق الأوسط، ولعلها توفق في تقاربها الاقتصادي من العالم الغربي، لكن إمكاناتها الاقتصادية أقل قدرة على مواجهة منافسة دول أقوى، وعلى الأخص الولايات المتحدة، ولهذا حاولت فرنسا أن تدخل الشرق الأوسط بعد حرب أكتوبر 1973 بصيغة أوروبية موحدة، وليست فرنسية فقط، لكن تعدد المصالح الأوروبية وتنافسها، وخاصة الإنجليزية والألمانية بالإضافة إلى النفوذ الأمريكي، قد تسببا في فشل الجهود الفرنسية في توحيد أوروبا بالنسبة للشرق الأوسط.
روسيا والاتحاد السوفيتي
حتى 1917، حينما تحولت روسيا من العهد القيصري إلى النظام الاشتراكي السوفيتي، كان لروسيا القيصرية دور إيجابي بالنسبة للأحداث الجيوبوليتيكية والبوليتيكية في الشرق الأوسط، وينبع هذا الدور من عدة منطلقات، أهمها أن روسيا، التي ظلت تنمو في كل الاتجاهات من إمارة موسكو في القرن الرابع عشر والخامس عشر، كان مجال توسعها الرئيسي - جغرافيا واقتصاديا - المساحات الشاسعة قليلة السكان في سيبيريا، والنطاق الغني الذي يحد سيبيريا جنوبا؛ أي الأراضي الدافئة في وسط آسيا والقوقاز، وجنبا إلى جنب مع ذلك كان هناك دافع جوهري يمثل خطا متصلا في جيوبوليتيكية روسيا: ذلك هو السعي دائما إلى الحصول على جبهات بحرية مفتوحة تضمن لها حرية الحركة والتجارة، في البداية لم يكن أمام إمارة موسكو سوى التقدم شمالا إلى مياه البحر الأبيض الشمالي، وكان ميناؤها الرئيسي هو أركانجلسك، ولكنها سرعان ما ضغطت غربا على أملاك السويد في بحر البلطيق إلى أن حصلت على واجهة بحرية قصيرة أقامت فيها عاصمتها بطرسبرج - ليننجراد حاليا - تأكيدا منها لجيوبوليتيكيتها البلطية الأوروبية، وتوسعت شرقا إلى أن وصلت إلى المحيط الباسيفيكي في أقصى شرق آسيا، وعبرت مضيق بيرنج وامتدت أملاكها لتشمل ألاسكا خلال القرن الثامن عشر.
وعلى هذا النحو فإن روسيا ظلت تنمو في الأصقاع الشمالية، وكانت بذلك فعلا دولة الشمال الكبرى، لكن كل ما حصلت عليه من واجهات بحرية، برغم طولها، كانت حبيسة التجمد الشتوي الطويل - عشرة أشهر شواطئ وبحار متجمدة على طول ساحل المحيط الشمالي، وعدة أشهر بحار متجمدة في بحري البلطيق وأوختسك - وكانت الموانئ الوحيدة التي لا تتجمد مياهها هي مورمانسك في أقصى الشمال الغربي قرب حدود النرويج، وفلاديفوستك والميناء المتقدم ناخودكا على بحر اليابان.
وكان من الطبيعي أن تتجه روسيا إلى المياه الدافئة القريبة في البحر الأسود، خاصة وأنها أيضا قريبة مكانيا من قلب الإمبراطورية الروسية، ولهذا بدأت روسيا سلسلة من الحروب مع الدولة العثمانية التي كانت تمتلك كل سواحل البحر الأسود، ومع إمارات التتار والبشكير والشركس وغيرهم من الجماعات التي تحتل منطقة الفولجا وشمال القوقاز والقرم، وكانت تعرف آنذاك باسم «خانات قازان» في شمال الفولجا، و«خانات استراخان» في الفولجا الأوسط والجنوبي، وقد أدمجتا في روسيا منذ منتصف القرن 16، ثم «خانات القرم» (تابعة للدولة العثمانية) وتمتد في القرم وجنوب أوكرانيا وحوض نهر الدون الأوسط والأدنى، وقد ظلت خانات القرم تحت الحكم العثماني حتى معارك 1774-1783 التي انتهت بسقوط كل ساحل البحر الأسود الشمالي من الدون إلى الدنيستر في أيدي الروس.
وقد سبق أن أوردنا عددا من الأحداث الهامة التي أدت إلى توسع نفوذ روسيا في البلقان وتضاؤل نفوذ الدولة العثمانية، لكن كل هذا لم يشمل جوهر المشكلة الروسية: فهي برغم امتلاكها جبهة بحرية طويلة دافئة لا تتجمد على البحر الأسود، إلا أن البحر الأسود بحر حبيس المضايق التركية، ومن ثم كانت مشكلة المضايق التركية هي الشغل الشاغل لجيوبوليتيكية الروس خلال كل أحداث القرن التاسع عشر، ومحركة أشكال مختلفة من النزاع السافر وغير السافر بين روسيا والدولة العثمانية.
وخلال القرن التاسع عشر أيضا كانت مساعي روسيا لحل مشكلة المضايق التركية لا تمثل مشكلة روسية عثمانية، فالمضايق تمثل المدخل البحري الشمالي لأخطر جوانب الشرق الأوسط كعالم عبور بين الشرق والغرب، فإذا أفلحت روسيا في أخذ المبادأة في هذه المضايق - سواء باحتلالها أو تحييدها لصالح روسيا - فإن شيئا لا يقف أمام القوة الروسية، وذلك بحكم جبهة التماس والجوار الأرضي والبحري الشاسعة لروسيا بالنسبة لكافة مناطق الشرق الأوسط الشمالية، لهذا فإن النزاع حول المضايق التركية كان خلال القرن التاسع عشر كله نزاعا بين روسيا كقوة قارية نامية وضاغطة، وبين بريطانيا كقوة بحرية مرنة الحركة ذات أملاك شاسعة في آسيا، يتهددها التقدم الروسي إلى عالم المعابر في الشرق الأوسط.
والملاحظ أن الصراعات الروسية الإنجليزية في الشرق الأوسط لم تقتصر عليهما وحدهما في ميدان معركة سافرة إلا في أضيق الحدود والمناسبات، فقد استطاعت بريطانيا دائما أن تشرك خلفاء لها في مواقفها ضد روسيا، ومن الطبيعي أن تكون الدولة العثمانية هي الحليف الأرضي القابع في المنطقة، الذي تستخدمه بريطانيا وتحركه أو تدعمه ضد الروس، ولم تكن بريطانيا تكتفي بذلك، بل كانت دائما تجد حليفا أو حلفاء آخرين من القوى الأوروبية، فأحيانا كانت فرنسا الحليف الرئيسي، وذلك كرفيقين في طريق واحد هو أطماعهما النهائية في الشرق الأوسط، وفي أحيان أخرى كانت تحرك إمبراطورية النمسا والمجر لتهدد روسيا في أوروبا، وفي أحيان أخرى كانت مملكة بروسيا - ألمانيا - تحالف بريطانيا ضد روسيا، وفي بعض الأحيان كانت بريطانيا تنجح - في توافق ممتاز - في تأليف كل هذه القوى ضد روسيا، وكانت قمة نجاحها في ذلك المسعى حرب القرم (1854-1856) التي اشتركت فيها تركيا وبريطانيا وفرنسا، وضغطت بروسيا والنمسا ملوحتين بتهديد روسيا، وقد كان في الإمكان أن تتطور حرب القرم إلى حرب عالمية لولا موقف بروسيا والنمسا شبه السلبي.
ومنذ التحالف الروسي البريطاني الفرنسي ضد قوة ألمانيا المتنامية في عام 1907، هدأت مشكلات المضايق التركية، فلم تعد مثيرة للقلق بين بريطانيا وروسيا نتيجة انصراف كل منهما إلى مواقف أكثر خطورة في أوروبا إزاء القوة العسكرية الألمانية، هذا بالإضافة إلى أن بريطانيا كانت قد حلت جزءا كبيرا من النزاع على الشرق الأوسط، باستيلائها على مصر 1882 وتأمين مرورها في قناة السويس، وخلال الحربين العالميتين وقفت المضايق التركية عائقا أمام الأساطيل المتحالفة الروسية والبريطانية، وبرغم هزيمة بريطانيا في معركة غاليبولي أمام تركيا خلال الحرب العالمية الأولى، وفشلها بذلك في فتح المضايق، إلا أنها قد دعمت موقف الجمهورية التركية ضد مطالب الروس في المضايق بعد نهاية الحرب العالمة الأولى، عودة منها بذلك إلى استراتيجيتها الأساسية التي امتدت خلال القرن 19: منع روسيا من دخول البحر المتوسط.
ولم تكن حروب روسيا والدولة العثمانية هي الحروب الوحيدة التي تدخلت فيها روسيا في الشرق الأوسط، فالجبهة الروسية البرية تتاخم إيران وأفغانستان، وكان التوسع الروسي فيهما يستمر في أحيان على حساب إيراني - احتلال الروس جورجيا وأذربيجان وأرمينيا في أوائل القرن 19 - ولكن الدور الإنجليزي في إيران وأفغانستان ضد التوسع الروسي كان واضحا ومباشرا، وعلى عكس الأحلاف الأوروبية التي كانت بريطانيا تجمعها ضد روسيا في صراعهما حول الدولة العثمانية، فإن بريطانيا كانت تعمل وحيدة أمام روسيا في إيران وأفغانستان، ولهذا كانت بعض المجابهات تنتهي باتفاقات روسية بريطانية على تحديد نفوذ كل منهما في إيران وأفغانستان.
وبعد ثورة 1917 وتحول روسيا إلى النظام الاشتراكي، لم يعد الحلف الروسي مع الدول الغربية قائما، وانطلاقا من المبادئ اللينينية الأساسية أعلن الاتحاد السوفيتي تأييده لاستقلال الشعوب في مواجهة القوى الاستعمارية، وكانت شعوب دول الشرق الأوسط كلها قد سقطت فريسة التقسيم الاستعماري بين المنتصرين الغربيين، وقد ارتبطت السياسة السوفيتية الجديدة بمحاولة تحييد دول الشرق الأوسط تجاهها، خاصة وأنها كانت تخوض في أوائل العشرينيات حربا أهلية تدعمها القوى الغربية عامة ضد النظام الجديد، وكانت أهم مجالات الحرب الأهلية هي التي تدور في جنوب الاتحاد السوفيتي ملاصقة لمنطقة الشرق الأوسط، وبعد انتهاء حرب التدخل ضد الاتحاد السوفيتي، اتجه الأخير إلى تدعيم جبهته الداخلية واقتصادياته على الأسس الجديدة، مما دعاه إلى توقف كامل عن متابعة الجيوبوليتيكية القيصرية بالنسبة للشرق الأوسط، ثم جاء التحالف السوفيتي الغربي مرة أخرى خلال الحرب العالمية الثانية لمواجهة القوة العسكرية الألمانية، وكانت أهم مظاهر هذا التحالف بالنسبة للشرق الأوسط تأمين طريق الاتصال الغربي السوفيتي عبر إيران، وذلك بتقسيمها منطقتي احتلال سوفيتية وبريطانية وتنحية الشاه.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية واشتداد الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والكتلة الغربية، ظهرت منطقة الشرق الأوسط مرة أخرى على مسرح النزاع الشرقي والغربي، وكان ذلك أمرا طبيعيا ونتيجة منطقية لعلاقات المكان التي تربط الاتحاد السوفيتي والشرق الأوسط على طول جبهة عريضة من اليونان إلى أفغانستان، ولا شك في أن تطويق الاتحاد السوفيتي بسلسلة من الأحلاف تزعمتها أمريكا كان مؤديا بالسوفيت إلى محاولة اختراق الطوق في أضعف نقاطه - وهو الشرق الأوسط.
فعلى عكس حلف شمال الأطلنطي القوي بارتكازه على القوى الأوروبية الغربية والوجود العسكري الأمريكي في ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، وعلى عكس حلف جنوب شرق آسيا الذي يميزه الوجود العسكري الأمريكي من اليابان إلى الفلبين وتايوان - الصين الوطنية - فإن منطقة الشرق الأوسط لم يكن فيها وجود أمريكي عسكري واضح، كما أن دول الشرق الأوسط صغيرة منقسمة على بعضها، وذات مشكلات قومية ضد بعضها (تركيا وسوريا - إيران والعراق - أفغانستان وباكستان من بين عدد آخر من المشكلات)، وفي داخل بعض دول الشرق الأوسط أيضا مشكلات عويصة الحل، وعلى رأسها مشكلة الباتان والبالوتشي في باكستان ومشكلة الأكراد في إيران والعراق، ومشكلة الصوماليين في جنوب إثيوبيا، ومشكلة إريتريا بلغاتها المتعددة في شمال إثيوبيا، ومشكلة جنوب السودان (آنذاك). وإلى جانب ذلك كله فقد كان يسود المنطقة كلها مد ثوري بأشكال مختلفة ضد أشكال الاستعمار البريطانية الباقية - في مصر والخليج وجنوب اليمن - وضد بقايا الروابط الاستعمارية البريطانية والفرنسية في المنطقة، ويرتبط بهذه الأشكال المختلفة من الاستعمار القديم مشكلات التغير العام في البناء الاقتصادي التقليدي الداخلي في الشرق الأوسط، وهي التي أخذت أشكالا واتجاهات مختلفة: تأميم البترول الإيراني وقناة السويس، الإصلاح الزراعي وإلغاء الملكيات الزراعية الإقطاعية السمة، مشكلات التنمية الاقتصادية والاتجاه نحو التصنيع في تركيا ومصر وإيران وغيرها من الدول، اتجاهات إلى تغيير نظم واتفاقيات المشاركة في أرباح البترول بين الدول المنتجة والشركات المستغلة لذلك البترول.
وفوق هذا فإن المنطقة ككل شاركت في أشكال مختلفة من مناهضة الإمبريالية الصهيونية الجديدة التي نمت في ظل الاستعمار وتدعمت ماليا ومعنويا بواسطة المعسكر الغربي كله. وقد اتخذت مناهضة الصهيونية أشكالا وأبعادا مختلفة في دول الشرق الأوسط، فالعالم العربي في الشرق الأوسط وخارجه كان المتضرر الأول من قيام إسرائيل واحتلال فلسطين وأجزاء أخرى من الدول العربية فيما بعد، والعالم الإسلامي في الشرق الأوسط وخارجه ساهم بأشكال مختلفة من التأييد للعالم العربي، وخاصة قضية القدس، وعلى هذا كان هناك نوعان من المواجهة ضد الإمبريالية الغربية الصهيونية في الشرق الأوسط: مواجهة على كافة المستويات الرسمية والشعبية في دول العالم العربي من المغرب إلى دول الخليج، ومواجهة شعبية غير رسمية في غالبية الأحوال في العالم الإسلامي عامة من تركيا إلى أفغانستان وباكستان.
على هذه الأرضية القلقة في الشرق الأوسط كانت أضعف نقاط الأحلاف الغربية ضد الكتلة الشرقية، لهذا سقط حلف بغداد، وما زال الحلف المركزي - تركيا وإيران وباكستان - قائما، لكنه يواجه مقاومة من جانب بعض القوى السياسية في كل من إيران وتركيا، كما أن مركز باكستان فيه قد تضعضع نتيجة فشل أمريكا في دعم وحدة باكستان الغربية والشرقية، ولهذا فقد كان منطقيا أن يصبح للاتحاد السوفيتي استراتيجية جديدة في دول الشرق الأوسط، تستفيد من التناقضات التي يعج بها هذا الإقليم المتاخم لها، لتفكيك الروابط الغربية، ودعم مركزها بتقليل أخطار الطوق الأمريكي الغربي الممتد جنوبيها، ولا شك في أن دعم الكتلة الشرقية عامة للقضية العربية يرتبط بعدد كبير من القضايا المتشابكة والمنطلقات الأيديولوجية والاستراتيجية، فتحرير الشعوب من أشكال الاستعمار إحدى هذه القضايا، ودعم الحركات الوطنية ينطوي على إضعاف المواقع الاستراتيجية الغربية، وهو في حد ذاته كسب لأمن الكتلة الشرقية وتدعيم لموقفها في الميزان الدولي للقوى.
وقد أتاحت استراتيجية الغرب التي دعمت إسرائيل حتى الآن، وأنقذتها من كثير من المآزق المالية والعسكرية، الفرصة أمام إيجاد أشكال من التعاون العربي السوفيتي، والتعاون العربي مع العالم الاشتراكي، والعالم الثالث، فلم يكن هناك في مجال الصراع الدولي سوى هذا الاختيار.
والخلاصة أن الاتحاد السوفيتي يلعب دورا نشطا في الشرق الأوسط، وهو وإن شابه دور الاستراتيجية القيصرية في الشكل، إلا أنه يختلف في المضمون والهدف، فعهد الاستعمار ولى، وأهمية المكان الجغرافي للشرق الأوسط قد زادت أضعافا مضاعفة عما كانت عليه في القرن التاسع عشر وأوائل القرن الحالي، ذلك أن الاتحاد السوفيتي هو أحد القطبين الرئيسيين في العالم، وأن صراع هذين القطبين يشمل العالم كله، وخاصة منطقة الضعف والقلقلة في الشرق الأوسط؛ وهو الإقليم الذي يقع على منتصف حدود القوى العسكرية السوفيتية والأمريكية، ويهدد أمن كل منهما في تمام منتصف أنظمتهما الدفاعية والاقتصادية معا، فالشرق الأوسط مجاور مكانيا للمراكز الاقتصادية السوفيتية في القوقاز والفولجا والأورال وشمال وسط آسيا، وفي الوقت نفسه فإن الشرق الأوسط هو قلب الفائض البترولي العالمي، والمحرك الأول للآلة الاقتصادية الغربية بصفة عامة، وليس علينا إلا أن ننتظر ظهور النتائج الفعلية لعملية خفض صادرات البترول العربي، لمدة محدودة وبقدر محدود، على التنظيم الإنتاجي في أوروبا واليابان والولايات المتحدة، لكي ندرك القيمة الفعلية للشرق الأوسط بالنسبة للاقتصاد الغربي.
بريطانيا
نبع اهتمام بريطانيا في الماضي والحاضر بالشرق الأوسط من مجرد علاقاته المكانية، تماما مثل روسيا أو الاتحاد السوفيتي، ولكن في الوقت الذي كانت فيه علاقات روسيا مرتبطة بتكاملها الأرضي، كانت علاقات بريطانيا بالشرق الأوسط مرتبطة بتأمين طريقها الإمبراطوري إلى الهند وعالم المحيط الهندي عامة، ولهذا فإن علاقات روسيا وبريطانيا بالشرق الأوسط علاقات ذات استمرارية واضحة، على عكس علاقات ألمانيا وفرنسا اللتين انتابت تدخلاتهما المتكررة في الشرق الأوسط أوقات من النشاط المكثف وأوقات أخرى من الجمود.
وفيما سبق ذكرنا أشكالا متعددة من التدخل البريطاني في الشرق الأوسط، وخلاصته أن الجيوبوليتيكا الإنجليزية ظلت تتجنب مواجهة مباشرة مع روسيا في الشرق الأوسط، إلا في ظروف محدودة، وبتجنيد حلفاء لها، وأن السمة الأساسية للاستراتيجية الإنجليزية كانت تهدف باستمرار إلى إقامة، أو دعم، دول حاجزة في الشرق الأوسط تفصل بين أملاكها ومصالحها وطريقها الإمبراطوري، وبين التوسع الروسي، وإن ذلك كان يعطي نتائج باهرة، فهو يؤدي إلى استنزاف القوة الروسية المتوسعة، وتحميل الدول الحاجزة الصدمات الرئيسية، مما يجعلها معتمدة على تدعيم بريطانيا لها، وقد حدث ذلك مرارا في العلاقات العثمانية القيصرية، ومثلها في علاقات إيران وروسيا، وقد كان الأسطول البريطاني هو الأداة المرنة لتنفيذ هذه الاستراتيجية الإنجليزية، ولما كان مثل هذا الأسطول في حاجة مستمرة إلى قواعد متقدمة تكفل وجوده ماديا، فقد كان على بريطانيا أن تثبت نفوذها باحتلال مثل هذه القواعد، مثل ذلك أن قبرص أصبحت منذ 1878 قاعدة حربية بريطانية، برغم الاعتراف الاسمي بتبعيتها للدولة العثمانية، وقد كان ذلك بحجة مساعدة الدولة العثمانية ضد التهديد الروسي، وكانت بريطانيا قد أمنت قواعد كثيرة لها في الخليج العربي ومسقط وعدن منذ أوائل القرن التاسع عشر حتى نحو منتصفه،
7
ولكن أكبر تدخل بريطاني في قلب الشرق الأوسط كان احتلال مصر 1882، ثم السودان 1899، وكان ذلك نهاية للمنافسة الإنجليزية الفرنسية على الشرق الأوسط، ورجحانا شاملا لكفة بريطانيا في هذه المنطقة الحساسة.
وقد استمر مركز بريطانيا راجحا في الشرق الأوسط بقية القرن التاسع عشر، وتأكد بصورة لا تقبل الجدل حينما تم توزيع أسلاب الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، حيث نالت فرنسا نصيبا غير متكافئ مع النصيب الذي أحرزته بريطانيا، ففضلا عن مصر والسودان، احتلت بريطانيا فلسطين وشقة عريضة من بادية الشام في شرقي نهر الأردن، تحجب بذلك أية أطماع فرنسية تجاه الجنوب، واحتلت بريطانيا العراق وألحقت بالدولة الجديدة مساحة كبيرة من بادية الشام تربطها بشرقي الأردن، لكي يتم تطويق فرنسا بالنسبة إلى أية ضغوط في اتجاه رأس الخليج العربي، وفي عام 1925 تم ضم ولاية الموصل إلى العراق، وكانت تركيا تطالب بها، وبذلك أيضا لم يعد هناك إمكان تقارب فرنسي مع إيران، وعلى هذا النحو أصبحت بريطانيا تسيطر على المحاور الرئيسية للطرق في الشرق الأوسط : طريق السويس والبحر الأحمر، وطريق الخليج وسهول العراق كلها، وطريق البر السهلي من شرق البحر المتوسط إلى رأس الخليج عبر فلسطين والأردن والعراق (انظر الخريطة 30).
وقد سقطت إمبراطورية بريطانيا في الشرق الأوسط بعد استقلال الهند وباكستان والحركات القومية العربية، لكن المصالح البريطانية الاقتصادية والتجارية ظلت قائمة داخل الشرق الأوسط (متمثلة في بترول الخليج العربي) وخارجه (متمثلة في تأمين طريق التجارة عبر قناة السويس)، وفي كلتا الحالتين لم تعد هذه مصالح بريطانية خالصة، بل شاركت فيها الدول الأوروبية الغربية، وعلى رأسها فرنسا وهولندا وإيطاليا وألمانيا الغربية، بالإضافة إلى المصالح الأمريكية الاقتصادية والاستراتيجية، ولم تعد لبريطانيا قواعدها العسكرية باستثناء قبرص، وبعض معاهدات في دول الخليج، ويعني هذا أن بريطانيا لم تعد تتصرف وحدها في منطقة الشرق الأوسط، بل من خلال التحالف الغربي العام، سواء كان ذلك حلف الأطلنطي أو الحلف المركزي أو السوق الأوروبية المشتركة، ولا شك في أن ذلك راجع إلى ما سبق أن ذكرناه من انقسام العالم جيوبوليتيكيا إلى معسكرين يعمل أحدهما تحت المظلة السوفيتية، والآخر تحت المظلة الأمريكية.
خريطة (30): تقسم الشرق الأوسط 1920. (1) الدولة العثمانية تنكمش إلى جمهورية تركيا. (2) مناطق الاحتلال البريطانية. (3) مناطق الاحتلال الفرنسية. (4) مناطق الاحتلال الإيطالية. (5) دول مستقلة (غالبا تحت نوع من أنواع النفوذ البريطاني).
وأخطر الأدوار التي لعبتها بريطانيا في الشرق الأوسط لم يكن فقط تقسيم العالم العربي إلى دول ذات حدود مستحدثة لم يكن لها وجود من قبل، وبالتالي تفتيت جهوده في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل كانت هناك عملية «زرع» جسم غريب داخل الشرق الأوسط، يعمل بدوره على تبديد جهود العالم العربي في مجالاته السياسية والاقتصادية، ذلك أن السماح بإنشاء وطن يهودي في فلسطين، بتشجيع الهجرة أو التغاضي عنها خلال فترة الانتداب البريطانية، قد أدى إلى الموقف السياسي العام المثير للقلق والحروب في كافة أنحاء الشرق الأوسط، ولا شك في أن عدة متداخلات قد شاركت في دفع الموقف في فلسطين إلى هذا الاتجاه، كان على رأسها الموقف الإيجابي البريطاني من القضية اليهودية عامة منذ ما قبل 1914 وحتى نهاية الانتداب البريطاني عام 1948، وهي النهاية التي شاب إعلانها «دراماتيكية» سياسية غير معلنة الأسباب حتى الآن، لكن لا نشك في أن الضغوط الأمريكية والصهيونية والغربية عامة، قد ساعدت على إنهاء الانتداب بهذه الصورة، وفي الوقت نفسه كان النشاط الصهيوني المكثف الدائم الحركة منذ عام 1916 في فلسطين وأوروبا ثم الولايات المتحدة، عاملا آخر حاسما من بين المتداخلات التي خلقت أوضاع فلسطين بعد 1948، فهذا النشاط الكثيف من جانب الحركة الصهيونية العالمية قد خلق كل الظروف المواتية لوجود يهودي قوي عدديا وماديا ومدعما بتأييد خارجي، فالنشاط الصهيوني كان يعمل على مستويين بنفس القوة وفي ذات الوقت، المستوى الأول إنشاء نواة الوجود اليهودي في فلسطين لكي تصبح واقعا يستقطب العمل حوله ويزيد من تكثيفه، وقد تم ذلك بالهجرة المستمرة الشرعية وغير الشرعية - كما حددتها سلطات الانتداب الإنجليزي - وبالدعم المستمر للمهاجرين وتنظيمهم تنظيما عسكريا في صورة مستعمرات ذات خطة بناء تصلح للحرب، وبالدعم المادي لشراء الأراضي وإقامة ما يشبه واقعا اقتصاديا في صورة ناس يعيشون على منتجات الأرض التي يحوزونها، أما المستوى الثاني الذي عمل عليه النشاط الصهيوني فكان إيجاد الروابط وإنشاء الجسور بين الحركة الصهيونية - ممثلة اليهود في فلسطين - وبين المؤسسات الاقتصادية والسياسية في العالم الغربي كله، وهذه الجسور هي التي حملت، وتظل تحمل، إلى إسرائيل معينا لا ينضب من التأييد والدعم بكافة أشكاله: المالي والحربي والمعنوي، وقد استخدمت الحركة الصهيونية في إنشاء هذه الجسور عدة وسائل وأسلحة مادية وفكرية وأيديولوجية وعاطفية وأسطورية، وذلك حسب نوع المؤسسة التي تبني معها خط الاتصال، وكان على رأس هذه الوسائل استغلال الاضطهاد النازي لليهود (علما بأن اليهود لم يكونوا وحدهم ضحايا النازية، بل سقط من الألمان ضحية النازية أعداد أكبر من ضحايا اليهود)، وقد ضخمت الدعاية الصهيونية هذا الجانب في أذهان سكان أوروبا وأمريكا، ونجحت في تمهيد الطريق أمام الضغط على الحكومات في اتجاه تأييدها، وكان اليهود الذين يحملون جنسيات أوروبية وأمريكية مختلفة، الركيزة الأساسية في شتى أنواع المساعدة للحركة الصهيونية، وكثير من هؤلاء مسيطرون بصورة أو أخرى على نواح مختلفة من المراكز الحساسة في أوروبا وأمريكا: الحياة المالية والشركات والصحافة وأشكال الإعلام الأخرى.
ومما لا جدال فيه أن مسئولية بريطانيا التاريخية في القضية الفلسطينية مسئولية جسيمة، وأنه برغم الضغوط الصهيونية وغيرها كانت هي واضعة استراتيجية المنطقة كلها، مستندة إلى أساس محوري في تلك الاستراتيجية هو مزيد من التفرقة لمزيد من الضعف، أو هو ما يعبر عنه دائما بالشعار المعروف «فرق تسد»، ففي الهند خلفت دولتين متحاربتين، ومشكلة صعبة الحل هي كشمير، وفي العالم العربي في الشرق الأوسط خلفت دولا عديدة صغيرة، وزادت على ذلك بإقحام مشكلة عويصة متعددة الجوانب: عنصرية دينية عسكرية في فلسطين، ولا شك في أن قيام المشكلة الفلسطينية - بالشكل الذي اتخذته خلال ربع القرن الماضي، أو بشكل آخر تصورته بريطانيا - يخلق جوا من التوتر يستدعي بقاء بريطانيا قرب منطقة قناة السويس أو عندها، لكن نتائج الحرب العالمية الثانية قلبت موازين بريطانيا واتخذت اتجاهات أخرى بتغير الزمن ومراكز القوى العالمية.
الولايات المتحدة والشرق الأوسط
تمثل الولايات المتحدة آخر الدول التي دخلت ميدان الصراع حول الشرق الأوسط وقد كان ذلك نتيجة للبعد المكاني من ناحية، وسيطرة القوى الأوروبية الغربية على الشرق الأوسط حتى نحو منتصف هذا القرن، وقد ترتب على نتائج الحرب العالمية الثانية وظهور زعامة أمريكا للعالم الغربي، مع نمو المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط المرتكزة أساسا في صورة شركات البترول، أن الولايات المتحدة قد دخلت بصور مختلفة في كل مناطق الضعف في مستعمرات أوروبا السابقة في العالم الأفرو آسيوي، بما في ذلك إقليم الشرق الأوسط، وقد كان هذا الإقليم بأهميته المكانية المعروفة أحد المناطق الرئيسية التي ركزت فيها الولايات المتحدة جهودها من أجل استكمال حلقة الأحلاف في مواجهة الاتحاد السوفيتي، وقد زاد اهتمام أمريكا بالشرق الأوسط بعد تصفية مركز بريطانيا تدريجيا نتيجة لاشتراكها المباشر في حرب السويس 1956، وظهر على الأثر ما أسمته أمريكا «فراغا» في الشرق الأوسط حاولت ملئه بتحالفات لإحلال سلام أمريكي
pax americana (مبدأ أيزنهاور 1956)، لكن التأييد الغربي عامة والأمريكي خاصة لإسرائيل كان بمثابة سد يقف أمام هذه السياسة الأمريكية، وهو ما زال واحدا من أهم العوائق أمام التقارب الأمريكي في الشرق الأوسط عامة.
8
على وجه العموم قامت جيوبوليتيكية أمريكا في الشرق الأوسط على مبادئ مشابهة تماما للمبادئ الإنجليزية في المنطقة ذاتها خلال القرن التاسع عشر والقرن الحالي، فالحلف المركزي - وسابقه حلف بغداد - هو وريث فكرة الدولة الحاجزة التي اتبعتها السياسة الإنجليزية بينها وبين روسيا، وقد حل الأسطول الأمريكي في البحر المتوسط محل الأسطول الإنجليزي، وأخذ يظهر في مياه الشرق الأوسط كلما دعت الحاجة إلى إبراز قوة الوجود الأمريكي في المنطقة، وكان أكثر أشكال تدخل الأسطول الأمريكي مباشرة في عام 1958 حينما نزل مشاة الأسطول الأمريكي إلى لبنان خلال الأحداث اللبنانية الداخلية وردة فعله على سقوط حلف بغداد، ويعتمد الأسطول على قواعد حلف الأطلنطي في البحر المتوسط، وخاصة في إيطاليا واليونان، كما كان يعتمد على قواعد أمريكية أخرى داخل الشرق الأوسط وعلى هوامشه، خاصة قاعدة هويلس - عقبة بن نافع بعد تصفيتها في ليبيا - ولا تزال قاعدة الأسطول والطيران الأمريكي في جنوب البحر الأحمر - مصوع وأسمره في إثيوبيا - وفي مناطق مختلفة من تركيا وإيران تمثل ركائز أمريكية عسكرية قوية تحيط بالشرق الأوسط العربي.
ولا شك في أن اعتماد أمريكا على إسرائيل من ناحية، وإيران من ناحية أخرى، يثير أكبر العقبات أمام تحسين العلاقات الأمريكية العربية، فلكل من الدولتين نوايا توسعية على حساب الدول العربية، والتوسع الإسرائيلي سافر وعدواني الطابع ولا يحتاج لمزيد من الشرح، أما النوايا التوسعية الإيرانية فهي وإن كانت صغيرة الحجم مساحيا، وتتخذ طابع التهديد في معظم الحالات - النزاع الإيراني السعودي حول دولة البحرين قبل استقلالها، مشكلات الحدود الإيرانية العراقية - فإنها قد اتخذت الطابع العدواني في حالة واحدة حتى الآن: احتلال جزر الطنب وأبو موسى، وهذه جزر عربية صغيرة لكن احتلال إيران لها يكمل لها السيطرة على مدخل الخليج العربي عند مضيق هرمز، بالإضافة إلى احتمالات قوية لوجود البترول في مياه هذه الجزر، وبالرغم من أن حجم الادعاءات الإيرانية صغير ، إلا أنه يتضمن مغزى أعمق وأشمل، فإيران، بتسليحها الثقيل الحديث، مؤهلة للقيام بدور خاص يهدف إلى تحييد أية اتجاهات عربية إزاء موارد البترول في دول الخليج والعراق، وهذا دور يماثل من ناحية النوع، وليس الكم، دور إسرائيل في منطقة شرق المتوسط وقناة السويس، فكلاهما إذن يقوم بدور ضار وبغيض، ومن ثم يجعل الارتباط الأمريكي به - حلقة مفرغة من السبب والمسبب في علاقات أمريكا بإيران وإسرائيل - سببا في قلة النجاح الذي تصادفه السياسة الأمريكية في اجتذاب الدول العربية في الشرق الأوسط، ويساهم هذا في زيادة فعالية الوجود السوفيتي في المنطقة في وقت الأزمات، وذلك بالرغم من أن الدول العربية في الشرق الأوسط تمثل فعلا العمق الاستراتيجي للحلف المركزي في مواجهة الاتحاد السوفيتي، فإيران وتركيا، بدون العالم العربي، يمثلان معا أضعف نقاط التحالفات الغربية؛ لأنهما يشبهان خط دفاع أول بدون خطوط دفاع احتياطية ثانية وثالثة.
ولا يزال الوقت مبكرا جدا قبل أن تتضح صورة الجيوبوليتيكا الأمريكية بعد الحرب الرابعة العربية الإسرائيلية في أكتوبر 1973، وظهور البترول العربي كعنصر عضوي شديد الفعالية في النزاع العربي الإسرائيلي، جنبا إلى جنب مع جميع عناصر المعركة، هناك احتمالات تغير، لكنها ستظل دائما داخل إطار المنافسة العالمية على الشرق الأوسط كعالم المعابر الحيوية وكمنطقة احتياطي البترول الكبيرة فيما تبقى من القرن العشرين. (2-3) دول الشرق الأوسط بعد الحربين العالميتين
ترتب على هزيمة القوى المركزية في الحرب العالمية الأولى تغيرات جوهرية في موازين القوى العالمية، وقد كان أكثر التغيرات الجوهرية في العالم هو ذلك الذي لحق بالشرق الأوسط من تقسيمات، تحققت معه السيطرة الغربية بلا منازع، فتركيا التي كادت أن تنتهي إلى تصفية مماثلة لما حدث في الماضي لبولندا - أي تصبح شعبا بلا أرض
9 - استعادت حدودا قومية متفقة، إلى حد بعيد، مع الحدود اللغوية التركية في أوروبا والأناضول،
10
ودعمت بريطانيا والاتحاد السوفيتي حدود إيران وأفغانستان، كل بطريقته الخاصة (اتفاقات ومعاهدات).
أما عرب الشرق الأوسط فقد نالهم من التمزيق ما لم تنله منطقة أخرى، وفي الحقيقة فإن ما حدث في هذه المنطقة هو إعادة لسياسة «البلقنة» - أي التقسيم إلى دول صغيرة ضعيفة على نحو دول البلقان - وقد كانت مقومات البلقنة في البلقان تعتمد على اختلافات لغوية وقومية وطائفية وتاريخية متعددة، بينما لم تكن في المنطقة العربية واحدة من هذه المقومات التي يمكن أن تتخذ ذريعة لتمزيق ائتلاف عرب الشرق الأوسط: لا لغات ولا طوائف أو أديان تحتل أرضا خاصة، بل فرشة أساسية شاملة عربية إسلامية مع تداخل هامشي لبعض الطوائف، كما أن هذا التداخل، الذي أدى إلى تعايش صحي وسليم، قد تم تدريجيا لمدة تزيد عن ألف سنة، بحيث أصبحت كل هذه الطوائف جزءا لا يتجزأ من الفكر والحضارة والقومية العربية، وقد شارك كل العرب - وخاصة المثقفين - في مساعي العروبة منذ مطلع القرن الحالي، وبغض النظر عن خفايا الدبلوماسية البريطانية في الشرق الأوسط في تلك الفترة، فإن الثورة العربية الكبرى حققت - لفترة قصيرة - اتحادا عربيا قويا ضد العثمانيين، وساعد بطريقة إيجابية في إنجاح الإنجليز عسكريا وسياسيا ضد القوات والدولة العثمانية.
ولا شك في أن بذور القومية العربية - التي حصدتها مبكرا عملية الاحتلال والانتداب الإنجليزي والفرنسي في العالم العربي - لم تقتلع نهائيا، بل زادت قوة ونموا بفعل خيبة الأمل والشعور بخيانة الدول الغربية لهم، وقد ظل السخط، والمقاومة السافرة في أحيان (ثورة 1919 في مصر، والثورات المتكررة في سوريا ضد فرنسا)، يتفاعل مع عديد من العوامل ضد الدول الغربية خلال فترة ما بين الحربين، ونتيجة لانشغال الحركة القومية بمصير بلادها - كل على حدة - فإن الهجرة اليهودية لفلسطين لم تظهر كقضية عربية موحدة إلا متأخرا جدا، وبذلك انحصرت مقاومة التسلل اليهودي بالقوى العربية المحلية في فلسطين،
11
ولا شك في أن مقدرات العرب في فلسطين وغيرها من الدول العربية كانت - بحكم سيطرة إنجلترا وفرنسا - غير قادرة، أو لم تؤهل عمدا، لتقدير فداحة ما يحدث في فلسطين.
وقد كانت أهم نتائج الحربين العالميتين أن الشرق الأوسط لم يعد جيوبوليتيكيا مجرد منطقة تتنافس عليها القوى الأوروبية، بل إنه منذ الخمسينات أصبح إقليما حساسا في جيوبوليتيكية القوى العالمية بدخول الولايات المتحدة دخولا مباشرا في مشكلات الشرق الأوسط الداخلية، والمشكلات الخاصة بأنظمة الدفاع الغربي في هذا الإقليم الحساس، وكان البترول في إيران والدول العربية مصدرا آخر من أسباب ظهور الشرق الأوسط على مسرح السياسة العالمية خلال ربع القرن الأخير.
وقد ترتب على هذه الأوضاع أن برزت عدة مشكلات ذات طابع استراتيجي في عدد من مناطق الشرق الأوسط تركزت في الدول التي تسيطر على المعابر المائية والجبلية أو بالقرب منها: تركيا وأفغانستان ومصر وفلسطين.
في تركيا دارت المشكلات الاستراتيجية حول منطقتين هما إقليم قرص-أردهان وإقليم المضايق، ويقع إقليم القرص وأردهان على الحدود التركية السوفيتية بين البحر الأسود وأرمينيا، وقد طالب الاتحاد السوفيتي بإعادة ضم الإقليم مرارا بعد أن استولت عليه تركيا عام 1917، وقد كان في الأصل جزءا من أملاك الدولة العثمانية وظل النزاع قائما عليه منذ 1878، وقد أنهت روسيا النزاع عام 1953 بتنازلها عن الإقليم، أما المضايق التركية فهي لا تزال محكومة باتفاقية مونترو 1936 التي تنص على السماح بمرور السفن الحربية خلال السلام من البحر الأسود وإليه، وذلك بالنسبة لدول البحر الأسود فقط، كما يسمح لسفن حربية تابعة لدول أخرى بالمرور خلال أوقات السلام ولكن بعدد وحمولة محدودتين، وبناء على ذلك رفضت تركيا مرور أساطيل الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، مما أثار الاتحاد السوفيتي وطالب عام 1945 بإدارة مشتركة للمضايق تمارسها كل دول البحر الأسود، كما طالب باشتراكه مع تركيا في نظام الدفاع عن المضايق، لكن دخول تركيا الأحلاف الأوروبية ابتداء من 1954 والمعاهدات التركية الروسية، قد جمد المطالب السوفيتية، وفي مقابل ذلك تلتزم تركيا بتنفيذ بنود مونترو، ومن ثم تسمح لعدد محدود من سفن الأسطول الأمريكي بدخول البحر الأسود في بعض المناسبات، كما تسمح لسفن الأسطول السوفيتي بالعبور والتواجد في البحر المتوسط مرات متعددة خلال أزمات الشرق الأوسط والحروب العربية الإسرائيلية، وبرغم ذلك فمما لا شك فيه أن المضايق التركية تمثل منطقة نزاع كامنة، لكنها لا تدخل نطاق النزاع الثنائي بين تركيا والاتحاد السوفيتي، وإنما هي جزء من المشكلات الاستراتيجية في أنظمة الدفاع السوفيتية والغربية معا، وببقاء تركيا ضمن الأحلاف الغربية، فإن المضايق التركية تمثل إلى الآن نقطة ضعف في جيواستراتيجية السوفيت، كما كان ذلك شأنها خلال القرنين 18، 19، وهي بذلك تمثل استمرارية للنزاع الجيوبوليتيكي بين القوى البحرية (دعم بريطانيا وأمريكا لتركيا) والقوى البرية (الاتحاد السوفيتي)، وذلك برغم تطور تكنولوجية الحرب تطورا جذريا منذ القرن الثامن عشر، وتثبت بذلك أهمية علاقات وجيوبوليتيكية المكان الجغرافي واستمرار تأثيرها لفترات طويلة.
وفي الطرف الشمالي الشرقي من الشرق الأوسط، وأيضا في مواجهة الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي - بضم الصين - تقع أفغانستان على الممرات الجبلية الحيوية المؤدية إلى جنوب آسيا والمحيط الهندي، وقد سبق أن ذكرنا أن أفغانستان ظلت تستخدم في وظيفة الدولة الحاجزة بين النفوذين البريطاني والروسي، وقد سقطت هذه الوظيفة بعد استقلال الهند وباكستان، وحلت محلها مباشرة مشكلات كامنة كانت قد ترتبت على الحدود التي اصطنعتها بريطانيا لحماية الهند في منطقة عرفت باسم «منطقة الحدود الشمالية الغربية» التي تسيطر على ممر خيبر، وكانت هذه الحدود الدفاعية البريطانية قد اقتطعت جزءا من أراضي قبائل الباتان، الذين يكونون الجزء الأكبر من سكان أفغانستان.
ولم تكن مطالب أفغانستان الإقليمية في باكستان - ضم إقليم الباتان، أو إنشاء دولة بوشتوستان - هي وحدها السبب في سقوط وظيفة أفغانستان كدولة حاجزة، فقد كان هناك سببان آخران، أولهما تمثله مشكلة بالوتشستان، التي تسكنها مجموعة لغوية تمتد أوطانها داخل حدود أفغانستان وباكستان معا، وتسعى أفغانستان إلى الحصول على بالوتشستان، مؤيدة مساعيها بأسانيد تاريخية، من أجل الحصول على واجهة بحرية على المحيط الهندي، وتقلل بذلك من عزلتها الداخلية واعتمادها على ميناء كراتشي في تجارتها.
ومما لا شك فيه أن باكستان قد احتلت، منذ نشأتها، مكانا جغرافيا كثير المشكلات، فعلى عكس الهند التي تمثل كتلة أرضية موحدة، تكونت باكستان من مساحتين أرضيتين منفصلتين «ولغتين وحضارتين مختلفتين - باستثناء الدين الذي يجمع بينهما - وتوجيهين جغرافيين شديدي الاختلاف»، وقد انتهى الأمر بانفصالهما كوحدتين سياسيتين مستقلتين، وفضلا عن ذلك فإن باكستان الحالية - الغربية - تحتل مكانا جغرافيا قلقا بوصفه منطقة التقاء السهول الغنية - البنجاب وحوض السند - بالهضاب والجبال الفقيرة التي تخترقها الممرات الجبلية ذات الشهرة التاريخية منذ القدم، وبذلك فإن باكستان - كوريثة للنطاق الحدي الدفاعي الذي اصطنعته بريطانيا - دولة محملة بأعباء ومشكلات سياسية ناجمة عن أوضاعها الجغرافية السيئة، وهذه الأعباء قد أضيف إليها من جديد عبء الدفاع ضد الاتحاد السوفيتي في منطقة آسيا الجنوبية، وذلك بإشراكها في سلسلة من الأحلاف الغربية.
وهذا هو السبب الثاني الذي أدى إلى سقوط وظيفة أفغانستان كدولة حاجزة، فإن انضمام باكستان إلى حلف أمريكي قد أدى إلى موقف مناقض في أفغانستان، فاتجهت - كرد فعل - إلى الاتحاد السوفيتي، دعما لموقفها من مطالبها الإقليمية في باكستان، وحماية لنفسها من قوة الحلف الغربي الباكستاني الإيراني، كنوع من التوازن الدولي، وقد أدى استحكام النزاع بين أفغانستان وباكستان إلى توقف اعتماد الأفغان على ميناء كراتشي الباكستاني، وتحولت غالبية التجارة الأفغانية إلى المرور عبر الأراضي السوفيتية؛ مما أعطى التقارب السوفيتي الأفغاني جسما ماديا تدور حوله الاستراتيجيات المختلفة، بما فيها اتفاقيات المعونة الاقتصادية السوفيتية الكبيرة - أكثر من ضعف حجم المعونة الأمريكية - لأفغانستان، وهكذا فإن الموقف السوفيتي عبر أفغانستان والهند قد كسب مكانة متميزة في جنوب آسيا باختراقه الحصار الأمريكي، على عكس موقفه في غرب آسيا الذي تقف أمامه تركيا وإيران والحلف الغربي.
أما فيما يختص بالممر المائي في قناة السويس فإنه كان، وسيظل، يمثل منطلق مشكلة بالنسبة لمصر ومنطقة فلسطين (بالشكل الذي تمثله الآن في صورة وجود غربي إسرائيلي عدواني) في إطار جيوبوليتيكي واحد، وبالرغم من أن قناة السويس مشكلة مصرية صميمة، مثلها في ذلك مثل المضايق التركية، إلا أن الأهمية الحيوية لكل من هذين المعبرين المائيين تجعلهما بالضرورة جزءا من المخططات السياسية العالمية.
ونظرا لأن تركيا قد أصبحت طرفا في معسكر الأحلاف الغربية، فإن قضية المضايق التركية قد استقرت استقرارا نسبيا منذ نحو ربع قرن، ولأن مصر تتتبع سياسة قومية في علاقتها العربية والدولية دون أن يستقطبها أحد المعسكرين، فإن قضية قناة السويس ظلت غير مستقرة بالدرجة التي تحققت في مضايق البحر الأسود ، وتشكل القضية الفلسطينية، في أحد جوانبها الهامة، طرفا من أطراف الصراع الإمبريالي مع الحركة القومية في مصر حول قناة السويس (خلال ربع القرن الأخير)، فقد أصبح الوجود الإسرائيلي في فلسطين سببا في إغلاق القناة مرتين منذ تأميمها، وذلك بالاتفاق الكامل مع القوى الغربية الأوروبية في عام 1956، ومع الإمبريالية العالمية عامة والقوى الأمريكية خاصة في عام 1967 وما بعدها، ولعل ذلك هو الموقف الذي تصورته الاستراتيجية البريطانية منذ وعد بلفور وتقسيم الدول العربية: أن تضمن وجودا غربيا قريبا من القناة لحماية مصالحها، وقد حاولت بريطانيا أن تعيد سيطرتها المفقودة على الشرق الأوسط بتدخلها المباشر عام 1956 مع فرنسا وإسرائيل، على نحو ما كانت تفعل في القرن 19 ضد الدولة العثمانية، لكن هذا الدور قد أنهى المركز الممتاز الذي كان لها في الشرق الأوسط إلى الأبد، وكذلك فإن مشاكلها الاقتصادية ومكانتها السياسية العالمية جعلتها تقنع بالعمل غير المباشر مع أمريكا وإسرائيل.
ولسنا بحاجة إلى شرح مشكلة السويس من الناحية المصرية، فقد كان الكفاح القومي في مصر منذ أواخر الأربعينيات يهدف إلى إزالة الوجود البريطاني من مصر عامة، بما فيها القناة، وبتأثير تفاعلات ذاتية في الحركة القومية المصرية نتيجة صراع مع عناصر مختلفة من مجموع السياسية الغربية، وعلى خلفية تصارع التيارات الغربية والقومية في معظم دول الشرق الأوسط العربية، تم تأميم قناة السويس،
12
وفي النهاية فإن قناة السويس - كرمز للصراع القومي - قد أدت إلى محاولة الغرب الحصول على مركز القوة في المعبر المائي بالقوة، ومن ثم تفجر الصراع الدولي بين المعسكرين الشرقي والغربي، ودخل الشرق الأوسط العربي مجموعة من الخطوط السياسية المتعارضة في أحيان، والمتوافقة في أحيان أخرى، وبرغم الأحداث الكثيرة التداخل أو التعارض أو التوافق في بلاد الشرق الأوسط العربية، فإن هذه الأحداث يجب أن نفهمها على أنها مؤشر لمحاولة الدول العربية البحث عن الذات من خلال صيغة صحية للتآلف القوي في عالم الغد.
هوامش
الفصل الثالث
بعض مقومات دول الشرق الأوسط
(1) وحدة وتفرق
هل يكون الشرق الأوسط إقليما جغرافيا متكاملا؟ إن الإقليم الجغرافي هو عبارة عن ترابط عضوي بين مجموعتين من المكونات هما: (1) الإقليم الطبيعي كمسرح له سلبياته وإيجابياته. (2) الاستيطان البشري كعنصر إيجابي في غالبية الأحوال، وناتج هذا الترابط بناء له مورفولوجية مميزة في ظواهره الحيوية والاجتماعية وأنشطته الاقتصادية وتركيباته السياسية، وينطبق هذا الكلام على الشرق الأوسط انطباقه على الإقليم الهندي أو الصيني أو الأوروبي الشرقي أو الأوروبي الغربي.
لكن الوحدة الجغرافية للشرق الأوسط لا تظهر لأول وهلة، بل هي تظل ظاهرة كامنة في ظل عدد من العوامل التي تطمس معالم الوحدة، وعلى رأس هذه العوامل: (1) قوة الأقاليم الجغرافية الفرعية داخل الإقليم العام، وتستمد هذه الأقاليم الفرعية قوتها من مجموعة من العناصر الطبيعية - المناخ الجاف والظاهرات التضاريسية المعقدة - ترتب عليها وعورة وصعوبة طرق الحركة والاتصال باستثناء طرق محدودة، وقد أدى ذلك إلى انطوائية تميز حياة النمط الواحي الواسع الانتشار - من أفغانستان إلى ليبيا - وإلى نمو الذاتية المحلية في مناطق الاستقرار على السند والدجلة والنيل، وهكذا تشترك هذه العوامل في بناء تكامل محلي فوق الترابط الإقليمي. (2) التمزيق السياسي الذي أصاب الشرق الأوسط بعد الحربين العالميتين، واستقلال دول جديدة داخل إطارات هي الحدود التي رسمتها المصالح الغربية، أضاف عنصرا جديدا يساعد على طمس معالم الوحدة الإقليمية للشرق الأوسط، وذلك بخلق مزيد من الذاتية المتقوقعة على قومية مستحدثة فتتت وحدة الأقاليم الفرعية إلى مناطق أصغر حجما في المساحة والسكان والموارد. (1-1) القوى الطبيعية والبشرية في إقامة الوحدات السياسية
وفي الشرق الأوسط قدر كبير من الشبه الشكلي مع كثير من الأقاليم المقسمة إلى وحدات سياسية كثيرة، وخاصة أوروبا الشرقية والغربية، لكن التشابه مع أوروبا الغربية - على سبيل المثال - يقف عند هذا الحد، ذلك أن مسببات التفتت والتقسم السياسي في الشرق الأوسط وأوروبا الغربية مختلفة تماما، ففي أوروبا الغربية كانت الحركات القومية المزمنة، المستمدة من الاختلاف اللغوي والتوجيه المكاني والأبعاد التاريخية، هي الأسباب الرئيسية وراء انقسام أوروبا إلى عدد كبير من الوحدات السياسية الصغيرة والمتوسطة، أما في الشرق الأوسط فإن التفتت إلى هذا العدد الكبير من الوحدات السياسية يرجع إلى أسباب عارضة معاصرة بفعل القوى الأوروبية الاستعمارية، وفي الوقت نفسه يمكن أن نلاحظ أن تقسيم أوروبا سياسيا عملية معارضة للظروف والمقومات الطبيعية التي تشكل وحدات طبيعية كبيرة، فالسهل الأوروبي المتصل العمران تتفتت وحدته بعشرات الحدود السياسية والقومية، ومجموعة الأنهار التي تكون طرقا طبيعية ممتازة للنقل والاتصال مقطعة الأوصال بالحدود السياسية التي تمتد متعامدة عليها أو موازية لها، أما في الشرق الأوسط فإن نمط السكن والعمران متقطع منفصل نتيجة الجفاف والجبال والعوائق الطبيعية التي كونت سهولا ووديانا صغيرة ضعيفة الاتصال، والأنهار في الشرق الأوسط، صغيرة أو كبيرة، تجري داخل أقاليم محدودة، فلا تربط إقليما بآخر، ومع ذلك التناقض في المقومات الطبيعية فإن المؤثرات البشرية والحضارية تربط هذه الأقاليم المتميزة برباط قومي ذي عمق تاريخي كبير، فالعربية - حضارة وتاريخا وقومية - تربط كل إقليم الصحارى من الخليج العربي حتى الصومال وليبيا، وتمتد فيما وراءها إلى موريتانيا على الأطلنطي. والعربية بالمواصفات السابقة تربط أقاليم السكن المستقر من سهول دجلة والفرات إلى وادي النيل في مصر والسودان، مرورا بساحل شرقي المتوسط وأوديته النهرية الصغيرة، وتسيطر الفارسية، كلغة ذات لهجات مختلفة، على كل الإقليم الهضبي والجبلي في القسم الشرقي من الشرق الأوسط، ويدعم الإسلام، كحضارة ودين، هذا الرباط في إيران وأفغانستان وغربي باكستان، أما القومية التركية في هضاب الأناضول فتمثل هجرة حديثة نسبيا بالقياس إلى العرب والفرس، وترتبط معهما برباط الدين والتاريخ والمكان.
والخلاصة أن الإنسان - بمجموعة قيمه وتراثه وأيديولوجيته - يقسم وحدات طبيعية متكاملة إلى أقسام سياسية متعارضة - أوروبا الغربية - ويوحد أقاليم طبيعية مختلفة في وحدات سياسية كبيرة - الشرق الأوسط خلال العصور الإسلامية والعثمانية - وبما أن الإنسان يتغير بسرعة أكبر من التغير الطبيعي، فإننا نجد تغيرات سياسية عديدة على مسرح طبيعي واحد خلال فترات زمنية مختلفة، فأوروبا الغربية كانت دولة واحدة في العهد الكاروليني - أشهر ملوكه شارلمان أو كارلمان - ثم تقسمت (888م) إلى ثلاث وحدات سياسية رئيسية: فرانكيا، وكانت نواة نشأة فرنسا، وجرمانيا، وكانت نواة نشأة الإمبراطورية الألمانية، ثم نشأت عنها النمسا والإمارات الألمانية، وأخيرا لوترينجيا التي اشتملت على حوض الراين كله، وفيها نشأت فيما بعد هولندا في الحوض الأدنى، والجزء الباقي كان إمارات ألمانية مختلفة اندمجت في القرن 19 مع ألمانيا، وقد احتدم النزاع بين دول أوروبا الغربية مع نمو القوميات الضيقة، واليوم نرى مسعى لتوحيد أوروبا مرة أخرى، ولكن الوقت لم يحن بعد لتكوين دولة أوروبية موحدة، فمراكز الثقل السياسي ما زالت قوية في ثلاث دول أوروبية رئيسية: ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ولكل منها مصالح وميول وارتباطات معاصرة مختلفة، فضلا عن تاريخ حديث غير مشترك، ولا توجد بادرة لوجود قلب سياسي ذي ثقل واضح يمكن أن يضم ويربط أوروبا الغربية معا، صحيح أن منطقة الراين المشتركة بين ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا هي الآن مركز الثقل الأساسي في اقتصاديات أوروبا الغربية، لكن هذا القلب الاقتصادي أميل إلى الجانب الألماني منه إلى الجانب الفرنسي، وهو بعيد مكانيا عن القلب الاقتصادي البريطاني، ومن ثم فهو غير مؤهل لأن يتبوأ مركز الصدارة في العلاقات السياسية بين دول أوروبا الغربية، هذا إلا إذا اتخذت منطقة محايدة كلكسمبورج عاصمة مركزية.
أما في الشرق الأوسط فقد كان هناك عدد محدود من الوحدات السياسية خلال التاريخ الحديث: الدولة العثمانية وفارس، مع نوبات حكم ذاتي قوي في أقاليم فرعية: مصر وأفغانستان، وبتأثير التحلل في الدولة العثمانية وفارس كان يمكن أن تقوم قوى جديدة نشطة - مثل الصحوة العربية وتركيا الفتاة - تدفع الحياة من جديد في هذه المساحات السياسية الكبيرة، ولكن تحلل الدولتين الكبيرتين صادف نمو المصالح الإمبراطورية الفرنسية والإنجليزية والروسية في المنطقة مما أدى إلى تفتيت الدولتين إلى وحدات كثيرة ضعيفة، وقد كانت الحركات المختلفة التي سيطرت على أحداث الشرق الأوسط العربي في ربع القرن الأخير، مجرد إرهاصات سعي لنوع من التآلف العربي، ويجب أن تترك فسحة من الوقت لنمو شكل من هذا التآلف يغطي الضعف الناجم عن تعدد الدول العربية، ويعطي العرب مكانة لائقة في ميزان القوى العالمية، وهذا هو الاتجاه العام في أقاليم العالم: أشكال مختلفة من الاتحاد أو التآلف أو التحالف الاقتصادي أو السياسي، وقد كان لدمشق وبغداد والقاهرة - حسب الترتيب التاريخي - دور مركزي في الشرق الأوسط. ومشكلة إيجاد قلب للعالم العربي تماثل في الشكل، وليس المحتوى، مشكلة إيجاد قلب لأوروبا الغربية، ولعل مصر بمركزيتها المكانية وكتلتها السكانية كما وكيفا - في المجالات الاقتصادية والتكنيكية - مؤهلة لأن تكون قلبا عربيا ذا ثقل، جنبا إلى جنب مع قلوب أخرى مرتبطة بأقاليم طبيعية اقتصادية ناجمة عن الاتساع المكاني الشاسع للعالم العربي (أبعاد العالم العربي ، أرقام تقريبية في خطوط مستقيمة: نواكشوط (موريتانيا) - مسقط (عمان) = 8000 كيلومتر، طنجة (المغرب) - مقديشو (الصومال) = 6500 كيلومتر، حلب (سوريا) - جوبا (السودان) = 3600 كيلومتر). (2) مقومات طبيعية في جيوبوليتيكية الشرق الأوسط (2-1) مقومات رئيسية متفاعلة
من بين المقومات التي تسيطر على الشرق الأوسط مجموعة من العناصر الطبيعية التي أعطت الإقليم صفاته الرئيسية، وعلى رأس هذه العناصر التركيب الجيولوجي وبنيته، وأشكال المناخ، وتكوين التربة الصالحة للزراعة، هذه العناصر غير منفصلة، بل متفاعلة تفاعلا ديناميا استمر عشرات الملايين من السنين، ويقطف الإنسان ثمار هذا التفاعل بطرق مختلفة حسب خلفيته التكنولوجية في العصور المختلفة، كما أنه يكون أساس توزيع الناس بأعدادهم ونظمهم الاقتصادية والاجتماعية في الشرق الأوسط، مثله في ذلك مثل بقية أجزاء العالم الأخرى.
ولكن الدراسة التفصيلية لكل من هذه العناصر الطبيعية على حدة، ضرورة لا بد منها قبل حصولنا على النظرة التجميعية لمشتمل ومضمون القوى الطبيعية في تكوين الوحدات السياسية في الشرق الأوسط، وذلك بوصف أن التركيبات الجيولوجية وبنيتها مسئولة بصورة قاطعة ومحددة عن وجود أو نقص موارد الثروة التعدينية - معادن وطاقة - وموارد المياه اللازمة لكل شيء حي من ينابيع أو مسيلات جارية دائمة أو عرضية، ومياه جوفية يمكن أو لا يمكن سحبها إلى أعلى، وكل ذلك مرتبط بالتشكيل العام لمظاهر السطح في صورة أحواض ومنخفضات وتراكيب صخرية مسامية وقليلة المسامية، وكذلك بوصف أن التربة الصالحة للزراعة هي تركيب ساهم في وجوده عوامل التركيب الصخري والتحلل والتفتت الكيميائي والميكانيكي بفعل عناصر المناخ، ونقل التربات بواسطة عوامل التعرية المختلفة، وعلى رأسها الإرسابات الفيضية النهرية والإرسابات الهوائية، وإن وصول التربة إلى درجة كافية من النضج عملية مرتبطة بالظروف المناخية السائدة وأشكال الحياة البيولوجية (نبات وحيوان وإنسان).
وفيما يلي سوف نتناول هذه العناصر الطبيعية، ليس من زاوية دراستها الطبيعية، ولكن باعتبار ما وصل إليه علم المتخصصين من نتائج على أنها حقائق ثابتة، ومن ثم فإننا سنعالج هذه الحقائق من زاوية تأثيرها على أقدار منطقة الشرق الأوسط كعوامل قوة أو ضعف في البناء العمراني والاقتصادي والسياسي داخل الوحدات السياسية التي ينقسم إليها الشرق الأوسط في الوقت الحاضر. (3) ميزان المياه في جيوبوليتيكية الشرق الأوسط (3-1) المطر والجفاف في الشرق الأوسط
الصفة المميزة للشرق الأوسط هي أنه يحتل جزءا كبيرا من النطاق العالمي الجاف، ولهذا فضلنا أن نبدأ بدراسة المناخ عامة، والمياه على وجه خاص؛ لأنها تكون العامل الرئيسي المحدد للعمران والسكن، والمميز لكثير من التفاعلات التي تنبني عليها السياسات الأرضية في دول الشرق الأوسط.
تسيطر على الإقليم أشكال مختلفة من المناخ الجاف الحار، لكن امتداد الشرق الأوسط في درجات عرض كثيرة (من درجة العرض 42 شمالا في تركيا إلى درجات العرض الاستوائية في الصومال)، فإن هناك تغايرات ملحوظة في متوسطات الحرارة، ويزيد على ذلك انخفاض واضح في درجات حرارة الشتاء في المناطق الجبلية، تصل إلى حد تكوين غطاءات ثلجية شتوية (جبال هندكوش والبرز وبنطس وطورس وأجزاء من جبال لبنان وزاجروس)، ويؤدي ذلك إلى تقسيم الشرق الأوسط حراريا إلى إقليمين: (1) إقليم الجبال والهضاب الشمالية والشرقية (اليونان، تركيا، إيران، أفغانستان)، ويتميز بشتاء بارد وعواصف ثلجية وصيف حار. (2) إقليم الهضاب المنخفضة والسهول الذي يحتل غالبية المنطقة العربية، ويتميز بصيف حار وشتاء معتدل الحرارة، وترتفع درجة الحرارة كلما اتجهنا جنوبا صوب جنوب الجزيرة العربية والصومال والسودان وإثيوبيا.
وفي مقابل هذا التشابه الحراري العام خلال الصيف الطويل، فإن العامل المناخي ذا التأثير الواضح هو كمية الأمطار الساقطة، ويحدد هذه الكمية الشروط التالية: (1) علاقة المكان بالنسبة لمسار أعاصير العروض الوسطى الشتوية التي تسير بانتظام كبير عبر البحر المتوسط من الغرب إلى الشرق، وفوق لبنان وسوريا والعراق وإيران في اتجاه السند. (2) علاقة هذه الأعاصير بألسنة الضغط الجوي المرتفع خلال الشتاء، وهي الألسنة التي تمتد من فوق الاتحاد السوفيتي وتتسع لتشمل الأناضول والبلقان. ومحصلة علاقة هذين العنصرين تؤدي إلى اتساع نطاق المطر وكميته فوق الأناضول والليفانت والعراق وإيران في حالة انكماش مناطق الضغط المرتفع، بينما تتزحزح مسارات بعض هذه الأعاصير جنوبا إلى شمال مصر والخليج في حالة امتداد ألسنة الضغط المرتفع إلى القوقاز والأناضول.
وبغض النظر عن التغيرات السنوية في كمية المطر الساقط ومدى انكماشه أو شموله، فإن نظام المطر هذا - من ناحيته النوعية - أدى إلى تقسيم الشرق الأوسط إلى نطاقين مختلفين: النطاق المطير والنطاق الجاف، ويحتل نطاق المطر إقليمين أحدهما في شمال الشرق الأوسط (مطر شتوي) والثاني في جنوبه (مطر صيفي في السودان وإثيوبيا واليمن)، أما النطاق الجاف فيحتل القسم الأوسط من الشرق الأوسط من ليبيا إلى جنوب ووسط إيران وجنوب باكستان، وبالرغم من أن النطاق الجاف محروم من الأمطار المنتظمة، إلا أنه يتعرض للسيول المفاجئة الناجمة عن أعاصير أو فلول أعاصير ضالة، وتؤدي التضاريس العالية إلى أمطار متوسطة إلى قليلة في داخل النطاق الجاف، مثل جبال اليمن والجبل الأخضر في ليبيا وفي عمان وجبال زاجروس الجنوبية (انظر خريطة 31). (3-2) صفات الإقليم الانتقالي
ومن الصعب تحديد خط مطر يفصل بين النطاقين المطيرين والنطاق الجاف، ويعمد بعض الكتاب إلى اتخاذ خط المطر المتساوي 500 مليمتر على أنه حد فاصل حرج بين الزراعة القائمة على المطر، وتلك التي تقوم على أشكال مختلفة من الري، باستخدام مصادر المياه الدائمة أو الفصلية (أنهار وعيون وآبار)، لكن ذبذبة الأمطار الساقطة في الشرق الأوسط، كما ومكانا، ومدى فعالية الكمية الساقطة بالنسبة للنمو النباتي في منطقة المطر الشتوي (موسم الحرارة الدنيا وقلة التبخر) وتلك التي تسقط في الصيف (موسم الحرارة العليا وكثرة التبخر)، كلها أسباب تجعلنا نميل إلى اتخاذ نطاق لتحديد الإقليم الذي يتمتع بفعالية وفوائد المطر الساقط، بدلا من اتخاذ خط محدد، ويمكننا أن نحدد هذا النطاق الانتقالي بالأراضي التي تتلقى كمية من الأمطار حدها الأدنى مائة مليمتر وحدها الأعلى 500 مليمتر .
وهذا الإقليم الانتقالي الواسع ينقسم في الحقيقة إلى نطاقين: الأول إقليم الزراعة الانتقالي بين خطي مطر 250 و500 مليمتر، والثاني إقليم الرعي التقليدي بين خطي مطر 100 و250 مليمتر (راجع الخريطة 31)، والإقليم الأول هو في أساسه إقليم انتقالي من زراعة المطر إلى الزراعة البعلية والزراعة القائمة على الري، وفي داخل هذه المنطقة تغيرات كبيرة في كمية المطر الساقط، راجعة إلى علاقات الموقع واتجاه الأعاصير الممطرة ومواجهة المسطحات البحرية والعوائق الجبلية، وأيا كانت الظروف وكمية الأمطار فإن نجاح الزراعة في هذا الإقليم عامة يعتمد على تدابير الري المختلفة، سواء كانت على مستوى تقليدي أو علمي، وسواء كانت على مستوى فردي أو محلي أو على مستوى الدولة.
خريطة (31): المطر وأشكال الحياة. (1) أكثر من 500 مليمتر مطر سنوي: غابات البحر المتوسط وأحراش الجبال العالية، زراعة مطرية لمحاصيل وفواكه البحر المتوسط في الوديان وإقليم شرق المتوسط في لبنان وسوريا والأناضول، رعي تقليدي انتقالي في الهضاب العالية الداخلية في أرمينيا وكردستان وزاجروس. (2) 250-500 مليمتر مطر سنوي: إقليم الزراعة المطرية الانتقالي، محاصيل وفواكه البحر المتوسط، الانتقال إلى النمط الواحي في السكن والزراعة، تدابير ري مختلفة الأحجام لمساندة فعالية المطر في الزراعة. (3) 100-250 مليمترا مطر سنوي: إقليم الرعي والبداوة، حشائش تنمو سنويا مع المطر، زراعة محدودة على الري من العيون والآبار، مشاريع هندسية على بعض الأنهار. (4) 20-100 مليمتر. (5) أقل من 20 مليمترا مطر سنوي: نطاق الصحارى الجافة، بداوة محدودة قريبة من خط مطر 100 مليمتر، وحول الواحات وفي مسارات السيول، زراعة مستقرة في النمط الواحي الأصيل، مشاريع ري كبرى في وادي النيل، في جمهوريتي مصر والسودان.
أما النطاق الثاني (100-250 مليمترا) فهو نطاق الرعي التقليدي الذي تمارسه القبائل البادية كبيرة العدد، ويمتد هذا النطاق الرعوي، متداخلا مع نطاق الأمطار الأكثر، فيما بين الجزيرة - شمال العراق - وبادية الشام في سوريا والأردن والعراق، إلى شمال المملكة السعودية، هنا نجد التنظيمات العشائرية أوضح وأقوى ما تكون في العالم العربي، متمثلة بقبائل شمر والرولة وعنزة، وفي منطقة الساحل المصري بين سيناء شرقا والجبل الأخضر في ليبيا غربا تظهر التنظيمات العشائرية الرعوية لعدد من القبائل أهمها أولاد علي فيما بين برقة والإسكندرية، وفي جنوب الجزيرة في كل من اليمن وعمان نجد نظام العشائر الرعوية سائدا في المناطق التي لا تستغل في الزراعة، وكذلك الحال في وسط وجنوب إيران وأفغانستان وجنوب باكستان، وفي الصومال وفي شمال شرق السودان ومعظم إريتريا. (3-3) صفات الإقليم الجاف
وخارج هذا الإقليم الانتقالي بنطاقيه نجد (1) الإقليم الجاف. (2) الإقليم المطير. ويحتل الإقليم الجاف كل المناطق التي تقل أمطارها عن مائة مليمتر، ويشتمل على وسط إيران وغالبية شبه الجزيرة العربية وشمال السودان ومصر، وتعتمد الحياة في هذا الإقليم على المخزون من المياه الجوفية، سواء كانت حفرية (ترجع إلى العصور المطيرة) أو كانت مياه متجددة (بالتسرب الجوفي لمياه أمطار منطقة قريبة)، ومن ثم فإن الحياة تظهر منعزلة ومبعثرة في الواحات التي تظهر فيها هذه المياه الجوفية، وفي داخل هذا النطاق الجاف تظهر بعض الأنهار القصيرة، كما هو الحال في الهضبة الإيرانية الأفغانية، كما أن أجزاء من مسارات بعض الأنهار الكبرى تخترق الإقليم في صورة أحداث إيكولوجية عارضة: الدجلة والفرات والنيل. وقد قامت على مياه الأنهار - القصيرة والطويلة - حياة مستقرة في امتدادات أرضية طويلة، شكلت نقيضا عمرانيا للتجمع الواحي الصغير المبعثر، وكانت مهادا للحضارات القديمة العليا في مصر والعراق وفارس. (3-4) صفات الإقليم المطير
أما الإقليم المطير فهو ذلك الذي تزيد فيه الأمطار عن 500 مليمتر، ويشتمل على معظم شمال الشرق الأوسط: غالبية تركيا - باستثناء الهضبة الوسطى قليلة الأمطار - وعلى جبار البرز في شمال إيران، وعلى هضاب أرمينيا وكردستان فيما بين تركيا وإيران وشمال العراق، وعلى جبال زاجروس وكل ساحل سوريا ولبنان وشمال فلسطين، كما يشتمل على إقليم المطر الصيفي في أجزاء من السودان وإثيوبيا واليمن وعمان، وبرغم الزراعة المطرية في كل تلك المناطق، إلا أن الزراعة كحرفة أساسية اقتصرت على سكان السهول الساحلية في شرق المتوسط وسواحل الأناضول وسواحل بحر قزوين، مع تداخل في صورة جيوب صغيرة تلتزم بالوديان النهرية التي تنبع من الجبال، كوادي العاصي ووادي الأردن وأودية سيحان ومندريس وسقاريا وأعالي الفرات في الأناضول وبعض مناطق السودان وإثيوبيا واليمن وعمان، وفي مقابل ذلك فإن بقية الإقليم المطير تحتله مجتمعات رعوية متعددة أكبرها الأكراد واللور والباتان في الجانب الآسيوي، والبقارة والجالا والصومالي في القسم الأفريقي. (3-5) مسعى دائم في الشرق الأوسط لتعديل ميزان الماء
يتضح من هذا العرض السريع كيف أن الظروف المناخية في الشرق الأوسط كانت من العوامل، بل من العناصر الجغرافية ذات الفعالية الشديدة في تشكيل قدر كبير من البناء الأساسي لدول الشرق الأوسط، فظروف الحرارة والجفاف العامة جعلت للموارد المائية أهمية حيوية تعادل أهمية المكان والموقع الجغرافي أو التركيب الجيولوجي والثروة المعدنية، وتزيد عليهم، فمن البديهيات أن حجم الموارد المائية تشكل الإطار الذي يتقرر من خلاله حجم الموارد البشرية الأخرى، ونخص بالذكر حجم السكان وحجم ونوع الموارد الاقتصادية الموجهة للغذاء، سواء كان ذلك موارد زراعية أو حيوانية أو كلتيهما.
ويكفي بصورة عامة أن نقارن بين الحجم السكاني في مصر وتركيا، حيث تتوفر الموارد المائية الدائمة على نطاق واسع - النيل وأمطار وأنهار تركيا - وبين مثيله في إيران والسعودية حيث تقتصر الموارد المائية على مساحات محدودة في الوحدات، باستثناء شمال وغرب إيران (انظر خريطة 32).
وكذلك يكفي أن نعرف أن دول الشرق الأوسط في مجموعها من أكثر دول العالم انشغالا بمحاولات تعديل الميزان الطبيعي في مصادرها المائية بشتى الوسائل، ومنذ القدم ابتكر سكان الشرق الأوسط وسائل مختلفة لتخزين المياه في خزانات كبيرة - خزان بحيرة موريس في الفيوم منذ عهد الدولة الوسطى في مصر الفرعونية في حوالي 2000ق.م - أو نظام ري الحياض الفرعوني لاستخدام مياه النيل الاستخدام الأمثل مع زيادة خصب التربة، أو نظام القنوات التي كان يحفرها الفرس تحت الأرض لمسافات طويلة وذلك لجلب المياه من أماكن بعيدة نسبيا، ووسائل وأدوات رفع المياه (الساقية والشادوف). وفي الوقت الحاضر هناك إنشاءات هندسية عديدة على أنهار المنطقة، وربما كانت مجموعة الإنشاءات الهندسية على النيل (ابتداء من القناطر الخيرية 1840 حتى السد العالي) من أكمل المجهودات البشرية لضبط الأنهار في العالم.
خريطة (32): توزيع الكثافة السكانية في الشرق الأوسط. (1) أكثر من 100 شخص للكيلومتر المربع. (2) 50-100 شخص/كلم2. (3) 10-50 شخصا/كلم2 (4) 1-10 أشخاص/كلم2 (5) أقل من شخص/كلم2 (6) غير مأهولة بالسكان.
ملاحظة: قارن مع خريطة (31) التزام السكن والكثافات العالية بمصادر المياه (أمطار في الشمال، ينابيع وآبار في الواحات ووديان نهرية في الإقليم الصحراوي).
وهناك إنشاءات هندسية متعددة على العاصي والفرات وغيرهما من أنهار المنطقة، وسيأتي وقت تصبح فيه كافة أنهار الشرق الأوسط مضبوطة بدرجات مختلفة من أجل توفير مياه الري ومياه الشرب لإطعام وسقاية ملايين الناس في المستقبل، وتتعدى الأعمال الهندسية أنهار الشرق الأوسط الرئيسية إلى المجاري النهرية الصغيرة التي تصب في المنخفضات الطبيعية، كما هو حادث في إيران، ومشروعات أخرى على الأودية ذات التصريف المائي الموسمي مثل أودية اليمن وعسير أو وادي حنيفة عند الرياض.
ولا يقتصر الأمر على محاولة ضبط الأنهار الدائمة أو المسايل والأودية ذات الجريان الموسمي، بل يتعداه إلى تحويل جزء من مياه بعض الأنهار مسافات بعيدة في مجار صناعية، وهذه عملية مكلفة، ولكنها تشكل ضرورة لا بد منها، ومن الأمثلة على ذلك جر مياه النيل إلى غرب محافظة البحيرة - مديرية التحرير ومنطقة مشروع ري مريوط الكنتوري - وتحويل مساحات ذات قدر من الصحارى إلى أراض زراعية جيدة، ومن الأمثلة أيضا سحب مياه الأردن لري أجزاء من سهل فلسطين وشمال النقب، ومشروعات عربية أخرى على نهر الأردن لري مساحات كبيرة من أراضي الغور.
ولمزيد من تحسين أرصدة المياه في دول الشرق الأوسط الجافة نجد مساعي عديدة تستخدم الأساليب العلمية للحصول على المياه الجوفية، وقد كانت الدفعة الأولى في هذا الاتجاه ناجمة عن أعمال شركات التنقيب عن البترول في جوف الصحراء، فقد كان لزاما عليها أن تحاول اكتشاف مصادر مياه باطنية محلية تحتاجها في عمليات الضخ البترولي، ولأغراض المستعمرة البشرية التي تقوم جوار الحقل البترولي، وتنتشر عملية دق الآبار الحديثة في أجزاء مختلفة من السعودية ضمن خطة شاملة للدولة من أجل تدعيم اقتصادها الزراعي والتوسع الأفقي في مساحات الأرض الزراعية، ومما يؤخذ مؤشرا على ذلك أن الميزانية السعودية عام 1970 قد خصصت نحو مائة مليون دولار في صورة استثمارات حكومية لتعميق الآبار الموجودة، وإقامة مشروعات ري حديثة، ومشروعات لضبط الرمال المتحركة - الكثبان - حتى لا تزحف على الأراضي الزراعية، وتعد الحكومة السعودية دراسة شاملة لمصادر مياهها الجوفية، كما أقامت ثلاث منشآت لتحلية مياه البحر، وهناك أربع أخرى بسبيل التنفيذ.
ومثل ذلك تفعله إيران في سبيل تحسين الاستفادة من مواردها المائية وزيادة الأرض المزروعة، وذلك برصد استثمارات كبيرة في إطار خطة التنمية، وكان مشروع «الوادي الجديد» في الواحات الخارجة المصرية من بين مساعي دول الشرق الأوسط للحصول على مصادر مياه جديدة بضخ المياه الباطنية. وأيا كانت نتائج مشروع الوادي الجديد، فإن الخبرة والمهارة التي اكتسبها عدد من الباحثين المختصين بشئون المياه الباطنية هي في حد ذاتها مكسب كبير.
والمشكلة الأساسية التي تواجه التوسع في استخدام المياه الباطنية هي الحصول على إجابة صحيحة للسؤال الصعب: هل المياه الجوفية في أي من الجيوب الباطنية التي تختزن فيها المياه مياه متجددة أم حفرية (مياه قديمة وقعت في مصيدة جيولوجية مثل حقول البترول، وبالتالي فهي غير متجددة)؟ فإذا كانت المياه متجددة، فإن السؤال الثاني هو ماهية مصدر هذه المياه، وأين يقع، وسرعة جريان المياه الباطنية من المصدر إلى البئر؟ وبناء على ذلك كله فإن أي مشروع زراعي على أساس ضخ مياه باطنية يجب أن يبنى على أساس حسابات دقيقة تحدد كمية المياه التي يمكن أن تضخ سنويا، بحيث لا تؤثر على مستوى الماء الباطني بصورة يتوقف معها المشروع بعد عدة سنوات، وإذا كانت المياه التي عثر عليها حفرية - أو أن تجددها شديد البطء - فإن ذلك يعني إقامة مشروع محدود زمنيا، ينتهي بنضوب المياه، ولكن هذه الصورة المثالية من البحث والدراسة لا تتم على هذا النحو، ففي غالبية الحالات تدق الآبار عند العثور على الماء، وليكن عمر المخزون المائي ما يكون، وهذه وجهة نظر متبعة في أحيان كثيرة بالنسبة لتعدين المعادن، وفي كليهما استفادة بمصادر الثروة غير المتجددة.
في معظم بلاد الشرق الأوسط نجد أن الحجم السكاني متواز بصورة من الصور مع موارد المياه، وقد نجد دولا يقل فيها عدد السكان عن حجم الموارد المائية الموجودة، والمثال الرئيسي على ذلك هو السودان والعراق، ونجد دولا أخرى يزيد فيها ضغط السكان على الموارد المائية المتاحة، كما هو الحال في مصر ولبنان وفلسطين، وهذا النقص أو الزيادة في تناسب السكان والمياه يجيء نتيجة تفاعلات حضارية واقتصادية وصحية تعمل من داخل الدولة بالطرق الطبيعية التدريجية، ويمكن زيادة فاعلية العوامل المختلفة بوضع خطط ومشروعات للتنمية وتحسين الأحوال الصحية من أجل زيادة السكان في الدول قليلة السكان، أو من أجل مواجهة الضغط السكاني، وبعبارة أخرى يمكن علميا المحافظة على توازن القوى الداخلية بالحد من مسببات الضعف التركيبي للدولة سياسيا، سواء كانت دولة مفتقرة إلى الطاقة البشرية أو أخرى تعكس فيها القوى البشرية الضاغطة ميزان التوازن مع الموارد المتاحة.
وحيث إن مشكلات زيادة السكان في مصر، أو قلتهم في السودان أو العراق من المشكلات المعروفة، وإن لهذه أو تلك حلولا واضحة - تكثيف الإنتاج الزراعي والصناعي واستخدام أحسن لموارد النيل والدجلة والفرات - فإننا سنتناول بالدراسة موضوع التناسب بين السكان والمياه في لبنان وفلسطين، اللتين تؤدي فيهما عدة عوامل اقتصادية وخارجية إلى زيادة الضغط السكاني على الموارد المائية المحدودة، وهذا الدفع السكاني يقود إلى ما يشبه الطريق المسدود ويضخم مشكلة فقدان التوازن، وبالتالي يشكل نقاط ضعف من نوع خاص في كل من المنطقتين. (3-6) لبنان والمياه
في خلال النصف الأول من هذا القرن كان التوازن شبه متوافق بين السكان وموارد المياه والتربة الصالحة للزراعة وتكنولوجية الزراعة في لبنان، بل كان يميل قليلا نحو زيادة سكانية تجد لها مخرجا في هجرة دائمة أو شبه دائمة إلى مناطق الثروة والعمل في مصر وأفريقيا الغربية الفرنسية والأمريكتين، وبعد ظهور المشكلة الفلسطينية وتكوين إسرائيل والمقاطعة العربية السياسية والاقتصادية أصبح لبنان الوريث الوحيد لعلاقات الموقع وتجارة الترانزيت التي كانت تميز فلسطين منذ فترة طويلة.
وقد كانت خلفية موانئ فلسطين - عكا وحيفا ويافا - تمتد في سهولة ويسر عبر السهل الفلسطيني الواسع وعبر سهل مرج بن عامر العريض إلى الأردن، ومن ثم إلى سوريا والعراق، وبواسطة الخط الحديدي من مصر وقناة السويس ومن الموانئ الفلسطينية، كانت التجارة تنتقل بسهولة عبر السهل الفلسطيني إلى الأردن وسوريا ولبنان، وفي مقابل السهول التي تربط موانئ فلسطين بخلفياتها الداخلية في الشرق الأوسط نجد الجبل اللبناني يقف عائقا طبيعيا أمام خطوط الاتصال والحركة بين بيروت وخلفيتها الطبيعية في الشرق الأوسط، وقد حاول الفرنسيون خلال فترة الانتداب ربط بيروت ودمشق ومنافسة الروابط السهلة الأخرى بين دمشق والواجهة البحرية في شمال فلسطين، ومن ثم أنشئ الخط الحديدي بين بيروت ودمشق، ولكنه خط طويل يتعرج كثيرا من الانحدارات الجبلية، ويدور في البقاع حتى يستطيع أن يجد مخرجا سهلا فيما بين الرياق وسرغايا عبر سلسلة الجبال الشرقية، وأكبر دليل على ضعف هذا الخط أن الطريق البري بين بيروت ودمشق يستأثر بحمولة أعظم مرات ومرات من هذا الخط الحديدي.
وبرغم هذه العوائق فإن الأحداث السياسية في فلسطين (وهي عنصر بشري حاسم) دفعت تجارة الترانزيت إلى لبنان عامة (بما في ذلك نهايات خطوط أنابيب البترول العراقية التي توقفت في فلسطين المحتلة تماما، وخط التابلاين السعودي الذي ينتهي في الزهراني)، وترتب على ذلك ازدهار واضح في الحياة الاقتصادية اللبنانية، وقد تضاعف هذا الازدهار بعد 1956 و1959 و1963 و1967 مرات كثيرة بفعل عوامل بشرية أخرى نوجزها فيما يلي: (1)
إغلاق قناة السويس مرتين وتحول جزء من تجارة دول شبه الجزيرة العربية إلى الواجهة البحرية اللبنانية. (2)
تدفق رأسمال من دول البترول على المصارف والاستثمارات العقارية في لبنان، وذلك نتيجة الموقف السياسي الليبرالي المحايد الذي تتبعه لبنان، ويضاف إلى ذلك تكثيف صناعة السياحة وكثير من الخدمات لمنطقة الشرق الأوسط العربي بصورة عامة. (3)
ساهم رأس المال القادم من سوريا والعراق، نتيجة عدم الاستقرار، مع رجال الخبرة من بعض الدول العربية ولبنان في زيادة الاستثمارات والعمالة والازدهار. (4)
في مجال العمالة البشرية أصبحت لبنان سوقا تجتذب فيها صناعة العمران والطرق وزراعة الموالح أيديا عاملة مقيمة ومهاجرة، وخاصة من الفلسطينيين المقيمين في لبنان، ومن السوريين الذين يأتون في عمالة موسمية. (5)
تمشيا مع الازدهار تحولت مساحات كبيرة إلى زراعة حديثة، وخاصة في البقاع والجنوب. (6)
وعكس ذلك أدت فرص العمالة في المدن اللبنانية القائمة على الخدمات، إلى هجرة من الريف والجبل وبدأ الإهمال يتطرق إلى كثير من الحقول الزراعية، وخاصة في الجبل؛ لأن عائد العمالة في المدن أكبر من عائد زراعة الفواكه (وهذه حالة ملحوظة في المناطق الجبلية مثلما حدث في جبال الألب، وخاصة في سويسرا، حيث هجر الكثيرون الرعي والزراعة إلى عمالة المدن الصناعية وعمالة الخدمات). (7)
وأولئك الذين مكثوا في الجبال يتجهون إما إلى تحويل جزء من نشاطهم من الزراعة إلى السياحة والاصطياف بتعمير سياحي الطابع، وإما إلى التكثيف الجديد للنشاط الزراعي في الجبل والسهل بواسطة استثمارات رأسمالية كبيرة، أو فردية، في مزارع الدواجن، وهو اتجاه إنتاجي محمود بالنسبة لتثبيت العمالة في الأرض الزراعية.
والخلاصة أنه نتيجة لهذه العوامل تضاعف عدد السكان في لبنان، وهي علامة صحية مرتبطة بالازدهار الاقتصادي، ولكن هذه الزيادة السكانية قد أصبحت مشكلة ذات شقين: أولهما التركيز الشديد للسكان في المدن، وبشكل خاص في بيروت، والثاني الزيادة التي تفوق بكثير التوازن الطبيعي بين المياه وأعداد السكان. ومن ثم تظهر المياه كمشكلة حساسة في البناء التحتي اللبناني المعاصر، وخاصة في السنوات التي تقل فيها الأمطار التي تغذي الأنهار والينابيع سنويا.
وبالرغم من صغر مساحة لبنان فإن التوزيع السكاني غير متعادل بطريقة تثير مشكلات قد تعصي على الحل، فهناك محوران يمتد حولهما تكاثف سكاني شديد هما: السهل الساحلي، وخاصة فيما بين طرابلس وصيدا، ومحور طريق الشام، وخاصة بين بيروت وشتورا، ونقطة التقاء هذين المحورين هي بيروت، وليس في هذا غرابة؛ إذ إن السكان يتكاثفون في السهل ومصبات الوديان الخصبة على طول الساحل، ويتكاثفون على طول الطريق الرئيسي الذي يحمل تجارة الترانزيت عبر لبنان، ولكن الغريب أن النمو غير المضبوط لبيروت نتيجة استئثارها بالقدر الأكبر من مقدرات الحياة الاقتصادية اللبنانية (تجارة الترانزيت البحرية والجوية، والأعمال البنكية وبعض الصناعات التحويلية) قد أدى إلى استقطاب نشاط السكان في جزء كبير من السهل الساحلي (بين جبيل وصيدا على وجه التقريب)، وقد أدى ذلك إلى تفريغ سكاني تدريجي من منطقة كانت ذات كثافة عالية ونشاطات اقتصادية محلية، والظاهرة الغريبة الثانية تتمثل في التكالب على الأراضي حول طريق الشام من أجل استثمارها استثمارا موسميا في النشاطات السياحية، وبالرغم من أن هذا شكل من الاستثمار الرابح، إلا أنه يعيبه أنه موسمي وليس دائما، وهو فضلا عن ذلك معرض لذبذبات سنوية عديدة نتيجة أية أحداث سياسية أو أي صورة من صور عدم الاستقرار في لبنان أو في الدول المجاورة، والسياحة والاصطياف - كما نعلم - من الصناعات التي تسمى «صناعة بدون قدم
footless »، وما أسهل تغير اتجاهات السياح لأسباب مختلفة منها مجرد الإشاعة بارتفاع الأسعار.
على العموم فإن الضغط السكاني في بيروت طول السنة، وفيما بين بيروت وبحمدون خلال نصف السنة الصيفي، قد أدى - فيما أدى إليه - إلى سحب المياه من مناطق عديدة لإشباع احتياجات هذه الكتلة السكنية الدائمة والموسمية، مما تسبب عنه أضرار بمناطق أخرى، وسوء توزيع مكاني لمياه محدودة، وسوء توزيع نوعي (بين احتياجات الزراعة واحتياجات الشرب) أيضا لهذه المياه المحدودة.
وقد نجم عن هذا أن بنية لبنان الجيوبوليتيكية أصبحت غير متوازنة بوجود تركيز هائل للناس والأعمال والمياه في منطقة بيروت وعلى طول محور طريق الشام، ومؤدية إلى تفريغ أجزاء من الدولة من الناس والأعمال والمياه، ومن الطبيعي أن تتزايد قوة التفريغ في أطراف الجبل اللبناني الجنوبية والشمالية في اتجاه جذب المنطقة الوسطى من هذا الجبل قريبا من طريق الشام، وهذا هو الحال أيضا في البقاع وبصورة معدلة في الإقليم الساحلي: اتجاه مستمر نحو بيروت وطريق الشام.
وفي الوقت الذي يواجه فيه المختصون مشاكل نمو بيروت، ما بين راغب في التخفيف من هذا النمو، وبين مستسلم للأمر الواقع ويرتب خطة لبيروت أكبر من الكبيرة، يفكر بعض ذوي الخبرة والمفكرين اللبنانيين في عدد من المشروعات من أجل إيجاد صيغة لإقامة التوازن الجيوبوليتيكي الذي اختل على النحو السابق شرحه، ومن بين الأفكار التي قدمت : نقل المطار الدولي إلى وسط البقاع، أو تحسين النقل الحديدي من مرفأ بيروت إلى البقاع وجعله منطقة التجمع لحركة تجارة الترانزيت بدلا من بيروت، والغرض من هذا تخفيف أعباء بيروت التجارية وأعباء مرور الشاحنات، وإنشاء منطقة جذب سكني واقتصادي في سهل البقاع الرحيب بالقياس إلى سهل بيروت المحدود.
وفي مقابل هذه المقترحات التي تستند إلى أفضلية المكان الجغرافي المتوسط للبقاع، فإن هناك مقترحات ودراسات ومخططات أخرى، منطلقها التخفيف عن بيروت بتوسيع الحركة والعمالة والتجارة في طرابلس خاصة وأن طرابلس ترتبط بحمص بطريق عبور سهل من الناحية الطبوجرافية (بالمقارنة بمشقة عبور ممر ضهر البيدر الجبلي في طريق بيروت دمشق)، ذلك لأن طريق طرابلس-حمص يسير في الممر الطبيعي الواسع بين كتلة جبل لبنان وكتلة جبال العلويين في سوريا، وتشتمل خلفية ميناء طرابلس على وسط المعمور السوري (محور نهر العاصي)، وتشترك مع بيروت في خلفية واسعة تمتد إلى العراق ومن ثم إلى دول الخليج،
1
وليس من شك في أن ذلك سوف يخفف من أعباء بيروت ويكون حلا جزئيا للضغط على المياه من ناحية، ومن الناحية الأخرى يؤدي إلى نوع من إعادة التوازن في ثقل أقاليم لبنان بتنمية وتنشيط طرابلس، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تنمية خلفية طرابلس كسوق عمل جديد ومتسع، فطريق طرابلس-حمص سوف يؤدي إلى نشاط اقتصادي وكثافة عمرانية لسهل عكار الذي يخترقه مسار هذا الطريق، وحوض الكورة الخصب سوف ينمو وتتطور فيه أشكال الإنتاج الزراعية وغيرها، جنبا إلى جنب مع تكثيف وتحسين مصايف كتلة الأرز الضخمة الجميلة، وزراعات مدرجاته ووديانه.
وليس هذا هو الحل كله لأزمة الضغط السكاني على موارد لبنان المائية، فبرغم صغر مساحة الدولة إلا أنها في موقع ملائم بالنسبة لإقليم المطر على ساحل المتوسط الشرقي، ويساعد التركيب الجيولوجي على تسرب مياه الأمطار خلال الصخور الجيرية الكريتاسية - التي تكون معظم سطح لبنان - إلى مخازن جوفية للمياه تظهر طبيعيا في صورة عيون وينابيع ذات تصريف طبيعي عال عند وجود حواجز باطنية من الصخور غير المسامية، وعلى مياه مثل هذه الينابيع تتغذى كثير من الأنهار اللبنانية المتجهة إلى البحر أو البقاع، وبرغم الإنشاءات الهندسية المختلفة، التي يمثل سد القرعون على نهر الليطاني أكبرها، فإن لبنان بحاجة إلى مزيد من الدراسة والتخطيط والاستثمار من أجل رفع فعالية المياه اللبنانية بدرجة أكفأ، سواء بتنظيم وتكثيف الحصول على الماء الباطني أو الأنهار، ومما لا شك فيه أن غالبية الأنهار اللبنانية المنحدرة إلى البحر مباشرة، صغيرة الأحواض ومن ثم ذات تصريف سريع خلال موسم المطر وتصريف قليل إلى نادر خلال الصيف ، وهي - فضلا عن ذلك - تجري في أودية عميقة مما يجعل رفع مناسيبها أمرا صعب المنال، ويمثل الليطاني أكبر الأنهار اللبنانية طولا وأضخمها حوضا وأكثرها ملاءمة للحجز واستثمارا في التنمية الزراعية في جنوب البقاع وجنوب لبنان عامة، وبالرغم من كونه نهرا لبنانيا صرفا، وليس نهرا واقعا على الحدود في أي جزء من مساره، إلا أن تنفيذ مشروعاته مقترن بمشكلات سياسية، مصدرها أنه في وقت من الأوقات كانت عين إسرائيل على جزء من مياهه، ومن ثم فهي تهدد تنفيذ مشروعات تستنفد مياهه داخل الأراضي اللبنانية، لكن تغير ميزان القوى يجعل هذا التهديد خاليا من المحتوى.
وعلى وجه عام في لبنان إمكانات جيدة لإيجاد توازن في أقاليمها بتنفيذ مشروعات للري والتعمير في أجزاء مختلفة من البقاع الشمالي الذي يمكن أن يتحول إلى شبيه بالبقاع الأوسط - مثلث الرياق، شتورا، المصنع - الخصب والمتنوع والإنتاج، وكذلك الحال بالنسبة لجنوب لبنان وسهل عكار، وكلها أرصدة جيدة يمكن بتنميتها وتدبير وتنظيم مياهها أن تكون ركائز قوية في قوة الدولة. (3-7) المياه أزمة خانقة في تركيب إسرائيل الجيوبوليتيكي
تميزت فلسطين منذ فترة طويلة بنوع من التوازن بين مصادر الماء ووساطة النقل التجاري وأعداد السكان، ومنذ الاحتلال الإسرائيلي أصبحت المنطقة تشابه لبنان في بعض أوضاعها من حيث الضغط السكاني على موارد المياه، لكنها تختلف تماما عن مسببات هذا الوضع، وتختلف جذريا في الحلول التي تقدمها إسرائيل للحصول على المياه.
وفي الحقيقة قد لا نجد أحسن من إسرائيل مثالا على أهمية الموارد المائية في جيوبوليتيكية الشرق الأوسط وجغرافيته السياسية المعاصرة، فالمتتبع لتاريخ إقامة الدولة الصهيونية في فلسطين يجد ارتباطا وثيقا بين التوسع العسكري واستراتيجية العدوان واتجاهاته وبين مصادر المياه.
إن موقع فلسطين في أقصى جنوب شرق البحر المتوسط جعلها تقع على هامش مسارات الأعاصير الممطرة الشتوية، ومن ثم فإن معظم فلسطين تقع في الإقليم الانتقالي بين الصحارى والبحر المتوسط، وقد اشتركت أشكال التضاريس مع الموقع في جعل التغيرات المناخية، وخاصة كمية الأمطار الساقطة، تغيرات سريعة وشبه مفاجئة، برغم صغر مساحة فلسطين، فهضبة الجليل وشمال السهل الساحلي يتمتع بمطر موفور نسبيا (أكثر من 500 مليمتر سنويا)، والقسم الأوسط - سهلا وهضبة - يحوز كمية متذبذبة من المطر (متوسط 250-500 مليمتر)، بينما تكاد تنعدم الأمطار في منطقة البحر الميت وصحراء النقب، وباستثناء أنهار قصيرة صغيرة الأحواض موسمية التصريف، لا نجد نهرا واحدا يمكن استثماره في إيجاد نظام للري الدائم داخل فلسطين، أما نهر الأردن، فرغم قصر طوله، إلا أنه يمثل النهر ذا الجريان المنتظم في منطقة حدود مشتركة: فمنابعه التي تغذيه بالمياه الدائمة تقع في سفوح جبل الشيخ الشرقية (في سوريا) والغربية (في لبنان)، ويجري النهر كخط حدود بين سوريا والأردن من ناحية وفلسطين (إسرائيل والضفة الغربية) من ناحية أخرى.
خريطة (33): تقسيم فلسطين وجيوبوليتيكية المياه.
خريطة (أ) تقسيم الأمم المتحدة عام 1948: (1) المنطقة العربية. (2) المناطق اليهودية. لاحظ أن الحدود غير صالحة للدفاع أو الهجوم لكل من الطرفين.
خريطة (ب) تقسيم فلسطين 1949: (1) المناطق العربية. (2) المناطق اليهودية. (3) المناطق التي احتلتها إسرائيل من العرب وعدلت بها الحدود لصالح إنشاء دولة موحدة الأراضي مع خنق المناطق العربية في صورة جيوب صغيرة.
خريطة (ج) صفت إسرائيل الشكل الغريب للحدود كما رسمتها الأمم المتحدة 1948 وذلك لكي تنفذ مشروعات حيوية هي: (1) سحب مياه الأردن في خط أنابيب ضخم لري المناطق الداخلية من السهل الساحلي الجنوبي، وجزء يسير من شمال النقب. (2) إنشاء خط أنابيب لنقل البترول من خليج العقبة إلى ساحل البحر المتوسط، وذلك لتحقيق هدفين: أولهما إمداد إسرائيل بالبترول دون اللجوء إلى الملاحة في قناة السويس، والثاني كمقدمة لأن تصبح إسرائيل من دول ترانزيت البترول مثلها مثل سوريا ولبنان ومصر.
والمتتبع لحركة الاستيطان الصهيوني الأولى يجد أنها كانت تتركز في القطاع الممطر من فلسطين، سواء على السهل الساحلي أو سفوح هضبة الجليل أو سهل مرج بن عامر، وفي القسم الأول لفلسطين عام 1948 اختص اليهود بالقسم الممطر كله (باستثناء هضبة الجليل) بالإضافة على النقب في معظمه، وفي عام 1949 أكملوا احتلال الجليل والنقب ومنطقة شمال غزة وأجزاء كثيرة متاخمة للضفة الغربية ولسان امتد حتى القدس (انظر الخريطة 33).
وقد كان التوسع الإسرائيلي في شمال ووسط فلسطين له مبررات مختلفة عن إحكام قبضتهم على كل النقب، فقد كان المبرر الاستراتيجي من احتلال كل النقب يهدف إلى تدعيم إضعاف العالم العربي بشطره قسمين، تمهيدا لمزيد من التوسع، وبالإضافة إلى ذلك فإن النقب وخليج العقبة يحقق أغراضا اقتصادية: التجارة مع منطقة المحيط الهندي في آسيا وأفريقيا الشرقية، وتموين إسرائيل بالبترول دون اللجوء إلى المرور عبر قناة السويس، ولذلك أنشأت إسرائيل خط أنابيب من إيلات إلى عسقلان (قطره 42 بوصة، وبدء العمل فيه عام 1969، طاقته 13 مليون طن)، ولا شك في أنها قد تهدف في النهاية أن تكون إحدى دول عبور البترول، مثل مصر وسوريا ولبنان والأردن (انظر خريطة 34)، ويبرر هذا الاحتمال ما تقوله المصادر إن بالإمكان زيادة طاقة خط أنابيب إيلات-عسقلان إلى 60 مليون طن في السنة!
أما التوسع الإسرائيلي في وسط وشمال فلسطين فهو نابع عن استراتيجية المياه في الخطط الإسرائيلية التي هدفت إلى إنشاء خط أنبوبي كبير يسحب المياه من بحيرة طبرية عبر منخفض البطوف، ويمتد في السهل الساحلي لري أراضي الكنتورات العليا وراء هذا السهل، وخاصة المنطقة الممتدة من تل أبيب إلى ما وراء قطاع غزة،
2
ويسمى هذا الخط «ناقل المياه الوطني
National water Carrier » ويعد عصب الزراعة في القسم الجنوبي من السهل، ومثارا لفخر اليهود أنهم حولوا أراضي صحراوية إلى أراض زراعية، وهذا في مجمله من قبيل الدعاية، فما زالت الأراضي الصحراوية صحراء جرداء باستثناء مشروعات محدودة المساحة ذات تكلفة عالية.
وفي فترة أواسط الخمسينيات إلى أواسط الستينيات كاد الصراع العربي اليهودي أن يتركز فقط حول مياه نهر الأردن، في صورة حرب مشروعات هندسية عربية للإفادة من مياه هذا النهر في إرواء مساحات كبيرة من الغور الأردني الشرقي، ومشروعات إسرائيلية مضادة، مع الكثير من الاستخدام العسكري، لتدعيم وزيادة حصيلتها من مائية الأردن، ومنع العرب من إقامة مشروعاتهم الاقتصادية، سواء في الأردن أو سوريا، وبعد 1967 تركزت تهديدات إسرائيل على لبنان من أجل مزيد من التحكم في مياه نهر الحاصباني، وهو واحد من المنابع لنهر الأردن، بل تعداه إلى التلويح بالحصول على جزء من مياه نهر الليطاني الصرف، والغرض تحويل مياه الليطاني إلى الحاصباني ومن ثم إلى الأردن، لإعطاء جرعة حياة كبيرة لمشروعات إسرائيل ومخططاتها الزراعية وأحلامها التي لا يمكن أن تنفذ حتى ولو استولت على كل تصريف الأردن.
3
إن مجموع كمية المياه المتاحة في إسرائيل هو على النحو التالي:
4
مليون متر مكعب
مياه دائمة
995 (500 من الأردن، 215 من الياركون، 280 ينابيع)
مياه الفيضان
85
مياه المجاري
125 (بعد تنقيتها)
مياه جوفية
635
المجموع
1840
وبما أن الدونم (1000 متر مربع) يحتاج إلى 800 متر مكعب مياه للري، وبما أن 80٪ من مجموع المياه تستخدم في الزراعة = 1,2 مليار متر مكعب فإن مساحة الأرض المروية = 1,2 مليار متر مكعب ÷ 800 متر مكعب = 1,5 مليون دونم (حوالي ثلث مليون فدان).
وهذه المساحة تساوي 36٪ من الأراضي المزروعة (4,2 مليون دونم).
ولا شك في أن إسرائيل قد نجحت في استخدام الماء المتاح لتوسيع رقعة الأرض المزروعة أفقيا في منطقة الساحل الجنوبي، لكن هذا النجاح استند إلى الأسباب التالية: (1)
استخدام السلاح للحصول على مياه الكثير من منابع الأردن، وخاصة بعد 1967. (2)
استخدام تكنولوجية عالية في سحب وضغط المياه من الشمال إلى الجنوب. (3)
استخدم طريقة «الرش» في الري للوصول إلى أقصى اقتصاد ممكن في المياه، والشائع أن هذه الوسيلة تقتصد أكثر من نصف المياه في الري بالراحة. (4)
إعادة استخدام مياه الصرف والمجاري للري واستخدامات الشرب بعد تنقيتها. (5)
اتجاه إلى تحلية مياه البحر أو تقليل الملوحة: تكنولوجيا ورأسمال استثماري.
لكن هذه الأساليب لم تعد قادرة على الوفاء بحاجة السكان للشرب والزراعة، ويرجع ذلك إلى أسباب عدة على رأسها ما يلي:
أولا:
أن منطقة فلسطين - كما سبق أن ذكرنا - منطقة انتقالية متذبذبة المطر، ومعنى ذلك أن تعاقب عدة سنوات قليلة المطر يؤثر بوضوح على مصادر المياه الدائمة المتمثلة في نهري الأردن والياركون، وعلى مياه الينابيع، ويتعداها إلى التأثير على إعادة ملء الخزانات الجوفية، وهذه كلها تكون أرصدة المياه الرئيسية المتاحة في فلسطين، وإلى جانب ذلك فإن بحيرة طبرية، وهي الخزان الطبيعي الذي يعد دعامة «الناقل المائي الوطني »، تتأثر كثيرا بانخفاض كمية الأمطار الساقطة كما حدث عامي 1972 و1973، وقد انخفض منسوب الماء في طبرية عام 1973 إلى أدنى حد معروف نتيجة استمرار ضخ المياه وقلة عائدها من المياه، وقد أدى ذلك إلى وقف الضخ بعض الوقت حتى لا تزداد نسبة الملوحة في البحيرة، وانتظارا لأمطار الشتاء، وبعبارة موجزة فإن أقدار الزراعة الحديثة تتوقف على عنصر المناخ، وهو بعد بعيد عن إمكانية تطويعه حسب رغبات الإنسان.
ثانيا:
تمكنت إسرائيل بفضل المعونات المالية والفنية الخارجية (وهي في حد ذاتها تمثل عائدا بدون منتج وطني مما يهدد النمو الذاتي تهديدا جذريا) من استغلال كل الكفاءة التكنولوجية مع استخدام باهظ التكاليف للوصول إلى الحد الأعلى من استخدام المياه المتاحة «وغير المتاحة»، وحققت بواسطة الري بالرش أقصى توسع ممكن في مساحة الأرض المروية، وعلى هذا فإن أي نقص في مقننات المياه المخصصة للزراعة - وهي كما قلنا 80٪ من مجموع المياه المتاحة - ينعكس على الفور في صورة نقص واضح في المساحة المروية أو المحاصيل المنتجة.
ثالثا:
أن الالتجاء إلى تحلية مياه البحر أو تقليل ملوحة المياه الجوفية أمر ممكن علميا، لكنه عالي التكاليف، ومن الناحية الاقتصادية البحتة - حساب الربح والخسارة - فإن عائد الزراعة القائمة على مياه مكلفة من هذا النوع، هو دائما عائد حدي؛ لأن نجاح المحصول أو فشله لا يعتمد فقط على المياه، بل إنه رهن عوامل طبيعية عدة بعيدة عن الضبط البشري: فأي ارتفاع أو انخفاض في درجة الحرارة أو الرطوبة أو أية عواصف أو موجات برد وصقيع أو آفات زراعية في غير أوانها كفيلة بفشل المحصول، وعلى هذا فإن الذبذبة الدائمة الحدوث في الإنتاج الزراعي - حتى في الأرض الخصبة والمياه الطبيعية المتوفرة والزراعة العلمية الأساليب - تثبت أن الاستثمارات العالية في تحلية مياه البحر أو تقليل ملوحة المياه الجوفية من أجل الزراعة ما هي إلا أمر محفوف بالأخطار بصورة أكثر مما يحتملها رأس المال العادي، الذي يمكن أن يستثمر في مشروعات أكثر أمانا وربحا.
رابعا:
مجموعة أخرى من العوامل الذاتية في إسرائيل، فكفاءة خط الأنابيب الذي ينقل المياه إلى سهول الساحل الجنوبي قد قلت مما يؤدي إلى زيادة تسرب المياه، وهذا أمر يدعو إلى تخصيص جانب من رأسمال الزراعة في الصيانة، وفضلا عن ذلك فقد كان هناك تعارض جذري بين استراتيجية إسرائيل في بناء المستعمرات الزراعية وبين سهولة حصول الحقول على مياه الري، فقد كانت الخطة الأساسية المتبعة في بناء المستعمرات - كيبوتز وموشيف - أن تكون وحدة دفاعية أو هجومية، ومن ثم اختيرت لإقامتها أماكن ومواقع عسكرية، لهذا ظهر نوع من التعارض بين «أمن» هذه المستعمرات وبين وظيفتها الاقتصادية كمستعمرة استيطان زراعية.
وبناء على ما سبق يمكننا أن نلخص الموقف على النحو التالي: نجحت إسرائيل، بتكاليف وتكنولوجيا عالية، في الوصول إلى سقف إمكاناتها - داخل حدودها - من التوسع الزراعي، وأصبحت مهددة بالتراجع الإنتاجي في سني الجفاف المتعاقبة؛ لأن مخزونها من المياه السطحية والجوفية محدود، ومن ثم شددت إسرائيل مساعيها للحصول على منابع الأردن في كل من سوريا ولبنان، باستمرار احتلالها للجولان والإشراف الفعلي على تصريف المنابع اللبنانية للأردن، مع احتلال ضفتي اليرموك الأدنى في كل من سوريا والأردن لمنع العرب من إقامة مشاريعهم الخاصة بالري في غور الأردن، وباختصار فإن اتجاه إسرائيل شمالا يهدف - على الأقل في المرحلة الحالية - إلى جعل حوض الأردن في معظمه ملكا إسرائيليا، أو على الأقل تحت إشرافها الفعلي، والسبب راجع إلى طبيعة مقومات فلسطين؛ فالشمال غني نسبيا بالمياه، لكنه فقير نسبيا في مساحة الأرض المطلوبة للتوسع الزراعي، وعكس ذلك تماما في الجنوب، فالسهل الساحلي الجنوبي وأطراف النقب الشمالية فقيرة في مواردها المائية في الوقت الذي تحتوي فيه على مساحات كبيرة من الأرض القابلة للزراعة.
وعلى هذا النحو يتضح لنا كيف يتدخل الماء كعامل - من بين عوامل أخرى بدون شك - له قوته ووزنه في ضعف التركيب الجيوبوليتيكي الداخلي والخارجي لإسرائيل، وتسعى إسرائيل لتعديل ميزان الماء بالقوة أو التهديد باستخدام القوة، وذلك لتأمين ثبات أو زيادة مرجوة في اقتصاديات الإنتاج الزراعي لكي تتمكن من استيعاب عدد أكبر من المهاجرين يتم بهم دعم البناء الإسرائيلي الجيوبوليتيكي. وهكذا دخلت إسرائيل الحلقة المفرغة؛ فهي بحاجة إلى مهاجرين جدد لتقويتها = احتياج إلى أرض زراعية = احتياج إلى موارد مائية في أرض قليلة الأمطار والأنهار = توسع عسكري للحصول على الماء من الدول المجاورة، والقوة العسكرية مهما تعاظمت لا يمكن أن تكون الحل الوحيد أو الأمثل أو الصحيح، خاصة في وجه المقاومة العربية حتى في أضعف أوقاتها = استعداء إسرائيل واحدة من القوتين العالميتين إلى حد صدام عالمي. فهل يمكن أن تستمر الأوضاع على هذا النحو إلى ما لا نهاية؟
الرد على الحلقة المفرغة الإسرائيلية جيوبوليتيكيا هو حلف مشترك بين الزمن والمقاومة العربية بكافة الأسلحة - حرب شاملة أو حرب اقتصادية أو هما معا - وموارد المياه، فلو افترضنا - مستحيلا - أن إسرائيل استطاعت أن تستولي على كل تصرف نهر الأردن بروافده اللبنانية والسورية والأردنية، فإن المساحة الإجمالية للزراعة المروية ستصل إلى الرقم المتواضع 0,8 مليون فدان (قارن هذا بنحو ستة ملايين من الأفدنة في مصر تزرع في المتوسط مرتين في السنة)، أما لماذا الاهتمام بالماء، فهذا راجع إلى عنصرين: العنصر الأول أنه من الطبيعي أن تنبني أسس الحياة الاقتصادية في فلسطين على الزراعة بوصفها إقليما فقيرا في الثروة المعدنية وموارد الطاقة، كما أنها لا يمكن أن توظف علاقاتها المكانية في استيعاب قدر من تجارة الترانزيت العربية، كما كان الحال في فلسطين العربية في الماضي، أو هو كما عليه الوضع حاليا في لبنان، وذلك بسبب العداء الذي دفعه اليهود دفعا في نفسية العرب قادة وشعوبا، باعتدائهم على جزء من الوطن العربي وتحويل أصحابه إلى لاجئين، وبرغم المستوى التكنولوجي العالي لليهود المهاجرين من العالم الأوروبي، فإنه لا يمكن تحويل قدر كبير من النشاط الاقتصادي في إسرائيل إلى الصناعة؛ لأن السوق الطبيعي المجاور مغلق دون منتجاتها، وأخيرا فإن الزراعة تكون المجال الذي وظفت فيه إسرائيل المهاجرين اليهود من البلاد الشرقية والعربية، وهم على مستوى تعليمي متخلف ويكونون في مجموعهم عمالة غير ماهرة.
والعنصر الثاني الذي يكون أهمية الماء والزراعة في جيوبوليتيكية إسرائيل عنصر نفساني ودعائي، فمنذ تفرق اليهود ، وخاصة في أوروبا، حرموا من ملكية الأراضي الزراعية وعاش معظمهم حبيس «الجتو» (= حارة اليهود)، وقد استغلت الدعوة الصهيونية هذه المشاعر النفسية - جنبا إلى جنب مع الحنين إلى الوطن الأسطوري - باعتبار أن الزراعة تعطي للناس جذورا ثابتة في الأرض، وقد تكلفت إسرائيل غاليا في سبيل تحقيق هذه الدعوة التي قامت تحت شعار تحويل فلسطين إلى الأرض التي يسيل فيها اللبن والعسل، وقد نجح التوسع الزراعي الإسرائيلي على النحو الشديد التكلفة كما سبق أن رأينا، ولو افترضنا التسليم بالأرقام التي تنشرها إسرائيل عن زيادة المساحة المزروعة مرتين ونصف عما كانت عليه قبل 1948 (من 400 ألف فدان إلى مليون فدان أراض زراعية مطرية وزراعة جافة وزراعة قائمة على الري) فإنه يجب أن نحسب أيضا زيادة عدد السكان في الفترة نفسها إلى أكثر من ضعفين ونصف، فمجرد زيادة الطاقة البشرية كفيل بزيادة الرقعة الزراعية، ضاربين صفحا عن نوعية هذه الطاقة البشرية ومستوى أدائها التكنولوجي ورءوس الأموال الاستثمارية التي توجد تحت تصرفها.
ومن المعروف أن إنتاج وصادرات الموالح هي فخر الإنتاج الزراعي في إسرائيل، فقد بلغ الإنتاج 1,5 مليون طن عام 1971، وكانت قيمة صادراتها 124 مليون دولار، ومساحة الأرض المزروعة موالح 425 ألف دونم، وهذه المساحة تساوي زيادة قدرها 141٪ بالنسبة لمساحة الموالح العربية في فلسطين عام 1939، وتمثل أرقام 1939 آخر الأرقام العادية قبل أن تندلع الحرب العالمية الثانية وتنكمش أسواق الصادرات، ودلالة هذه الأرقام أنه برغم الدعاية الصهيونية فإن مساحة هذا المحصول الرئيسي لم تزد إلا بمقدار 40٪ عما كانت عليه الأمور من قبل! وهذا يشهد بأن الظروف الطبيعية لا زالت قوة أكبر من التكنولوجيا والمال في مجالات الإنتاج الأولي عامة والزراعي خاصة، وأن المياه في الشرق الأوسط قاطبة عنصر حيوي في بناء الدول. (4) التركيب الجيولوجي مصدر قوة وضعف في البناء السياسي لدول الشرق الأوسط
تشكل البنية الجيولوجية والتركيب الصخري عنصرا له فعاليته في قوة أو ضعف التركيب السياسي في الشرق الأوسط، وعلى وجه التعميم هناك ثلاثة نطاقات بنيوية في الشرق الأوسط متتابعة من الشمال إلى الجنوب على النحو التالي: (1)
نطاق الجبال الالتوائية في الشمال، ويشتمل على معظم تركيا وإيران وأفغانستان، وله امتدادات محدودة في العالم العربي (سلسلة الجبال الموازية لساحل البحر المتوسط الشرقي والجبل الأخضر في عمان)، ويتميز هذا النطاق باحتمالات وجود المعادن. (2)
نطاق الصخور الإرسابية الرملية والجيرية، ويشتمل على معظم أجزء العالم العربي في الشرق الأوسط، ويتميز هذا النطاق بأنه يحتوي - نتيجة تركيبات بنيوية خاصة - على أكبر مخزن للبترول معروف في العالم، كما توجد فيه بعض التكوينات الجيولوجية ذات القيمة الاقتصادية، وخاصة الفوسفات والبوتاس. (3)
نطاق الصخور البلورية القديمة الذي يمتد في الجنوب من السودان إلى إثيوبيا والصومال وجنوب الجزيرة العربية، ويمتد في ألسنة متداخلة مع التكوين الصخري الإرسابي الأحدث في نجد والحجاز والبحر الأحمر، وفي أجزاء من هذا التركيب البلوري حدثت انكسارات وتكوينات بركانية غطت التركيب الصخري القديم، ويظهر هذا النوع من التركيب في إثيوبيا واليمن والحجاز، وفي مناطق أخرى غطت الإرسابات الفيضية التكوين البلوري، كما هو الحال في حوض النيل في السودان، والتكوين البلوري عامة فقير في الثروة المعدنية، إلا في جيوب صغيرة حيث تظهر خامات معدنية نتيجة للانكسارات والفوارق، كبترول خليج السويس، أو الحديد والنحاس في جبال البحر الأحمر.
وتتركز أهم نتائج التركيب الجيولوجي على جيوبوليتيكية الشرق الأوسط في موضوعين: (1)
نمط التصريف المائي السطحي والجوفي، وبناء السهول الفيضية، وهما ركائز الحياة المستقرة. (2)
الثروة التعدينية، وهي واحدة من أهم أسس الصناعة والنشاط الاقتصادي الحديث. (4-1) تكوين المياه السطحية والجوفية والسهول الفيضية
في النطاق الالتوائي الشمالي يتصادف وجود السلاسل الجبلية العالية ، التي تحصر فيما بينها هضاب واسعة كالأناضول وكردستان وإيران، مع كمية كبيرة نسبيا من الأمطار الساقطة، ويترتب على ذلك أن الزراعة والرعي، في الأساس، يعتمدان على المطر مع بعض المشروعات الهندسية التي تقام على الأنهار من أجل تخزين المياه وتوليد الطاقة، وتكون الأنهار في هذه المناطق الجبلية سريعة التيار في موسم فيضانها وتحفر لنفسها أودية عميقة وضيقة، وكلها عوامل تصعب استغلالها إلا بقدر محدود، والأماكن الوحيدة التي يمكن الإفادة فيها من هذه الأنهار هي عند خروجها من الجبال في اتجاه السهول الساحلية أو المنخفضات المقفلة في الهضاب، وفي هذه المناطق تصنع الأنهار، بإرساباتها، أودية فيضية مؤهلة للزراعة الجيدة، ولكن السهول الساحلية في تركيا وسوريا ولبنان وساحل بحر قزوين الإيراني كلها سهول ضيقة باستثناء سهول تركيا الغربية المطلة على بحر إيجه وبحر مرمرة، وفي إيران وأفغانستان تنحدر مياه الأنهار إلى منخفضات داخلية صغيرة أو كبيرة، وحيث إن هذه الأنهار عادة قصيرة وسريعة الانحدار، فإنها سرعان ما تفقد قوتها وتلقي بإرساباتها، مكونة دلتاوات داخلية وأحواضا إرسابية غنية، وفي مثل هذه الأحواض قامت حياة الواحات الكبيرة، مثل قم ومشهد وأصفهان وشيراز في إيران، وهرات ومزار شريف وقندهار في أفغانستان، وقد كانت هذه الواحات الكبيرة قواعد لإمارات وسلطات سياسية محلية أو ذات امتداد إقليمي كبير، وتمثل حلب ودمشق وبعلبك هذه الظاهرة في الشرق الأوسط العربي، فهي واحات تتلقى تصريف أنهار صغيرة سريعة من جبال طوروس - حلب - والسلسلة الشرقية - دمشق وبعلبك - ولا يحتاج دور دمشق وحلب السياسي في خلال فترة زمنية طويلة إلى شرح أو تنويه.
وبالإضافة إلى ذلك فإن مسامية الصخور في هذا النطاق الجبلي الالتوائي تؤدي إلى تسرب مياه الأمطار داخل التركيبات الصخرية، ويظهر بعضها إذا ما صادف تركيبا بنيويا معينا، في صورة عيون وينابيع تكون بدورها مصدر الحياة المستقرة في مناطق ظهورها.
خريطة (34): الثروة المعدنية في الشرق الأوسط (بدون البترول).
أما نطاق التركيب الصخري البلوري القديم في جنوب العالم العربي فإنه يتسم بصخور قليلة المسامية صلبة التركيب، ولهذا فالأنهار تجري سريعا على سطوحها، ولا تستطيع أن تعمق مجاريها وأوديتها بالدرجة التي تحدث في النطاق الالتوائي الشمالي، وبما أن غالبية التركيب القديم في الشرق الأوسط يقع في داخل المنطقة الجافة، فإنه يفتقر إلى أي جريان سطحي دائم، سواء في نجد أو الحجاز أو جبال البحر الأحمر، وفي المناطق الحوضية الإرسابية داخل النطاق البلوري يمكن أن تتجمع المياه التي تسقط على هيئة سيول غير منتظمة، وتكون بذلك مصادر الحياة في الواحات، كما هو الحال في واحات الحجاز أو نجد، والملاحظ أنه يكثر ظهور الواحات في مناطق التقاء التكوينات البلورية بالإرسابية، وتسمح السيول بنمو نباتي خشن وقليل في مسارات تلك السيول، مما يساعد على ظهور نمط الرعي المتنقل على طول هذه الأودية، وهذا النمط يرتكز عادة على سكن دائم في الواحات القريبة، بحيث تصبح هذه الأودية المجال الحيوي الذي يتنقل فيه الراعي.
أما في النطاق الإرسابي الحديث الأوسط فإن الجفاف هو السمة الأساسية، ويكاد السكن أن ينعدم إلا في المناطق التي تمر بها الأنهار الكبيرة أو الصغيرة مكونة وديانا وتربة خصبة، وهذه الأنهار عادة تأتي بمياه مناطق خارجة عن النطاق الصحراوي، فالدجلة والفرات وروافدهما يأتيان بتصريف الجبال الالتوائية في كردستان وزاجروس، ويكونان معا سهلا فيضيا فسيحا، وربما كان أوسع السهول الفيضية في الشرق الأوسط، باستثناء سهل السودان الجنوبي وسهل البنجاب، ويأتي النيل بمياه المنطقتين الاستوائية والموسمية الحبشية ويكون واديا فيضيا ربما كان أخصب أمثاله في العالم، «وذلك بفضل نقل تربة بركانية غنية من الهضبة الحبشية». وهناك مناطق فيضية صغيرة تتمثل في الدلتاوات الداخلية لأنهار قصيرة مثل دلتا طوكر والجاش في شرق السودان وهلمند في أفغانستان، ورغم الجفاف العام في المنطقة، فإن غالبية هذه السهول تمثل أكثف مناطق العمران في الشرق الأوسط بفضل المياه الدائمة والتربة الخصبة، وقد كانت هذه السهول مهدا للحضارات العليا القديمة، وتتمتع الدول التي توجد فيها هذه السهول بحرية واستقلال كبيرين بالنظر إلى إنتاجها المحلي من الغذاء، وعدم اعتمادها على واردات غذائية من الخارج، وهو أمر يدعم القوى الذاتية للدول. (4-2) التعدين والتوازن الإنتاجي الحديث
فيما يختص بالثروة المعدنية، وهي الشق الشائع في الربط بين التركيب الجيولوجي ومصادر الثروة الطبيعية، فإننا نجد معظم بلاد الشرق الأوسط فقيرة في المعادن بالقياس إلى الأقاليم التعدينية الرئيسية في العالم، لكن البترول، الذي يكثر وجوده في الشرق الأوسط، يعدل هذا الميزان غير المتعادل، وعلى العموم فإن ما هو موجود في الشرق الأوسط من معادن يظهر أساسا في النطاق الجبلي الالتوائي في تركيا وإيران، وفي مناطق الانكسارات أو مناطق التداخل التركيبي في النطاق البلوري القديم، وخاصة في مصر والسعودية (انظر الخريطة 34).
وتعد تركيا أكثر دول الشرق الأوسط غنى، وأكثرها استغلالا لثروتها التعدينية المتعددة، ففيها أكبر إنتاج للفحم (8 مليون طن) وفحم اللجنايت (نوع من الفحم الرديء، نحو مليوني طن سنويا)، والحديد (2,5 مليون طن مقابل نحو نصف مليون طن في مصر)، وتعد تركيا إحدى أكبر دول العالم في إنتاج معدن الكروم (916 ألف طن)، وتنتج من النحاس عشرين ألف طن ينتظر أن ترتفع إلى خمسين ألفا في أواخر السبعينيات، وفي إنتاج معدن المنجنيز تتصدر مصر دول الشرق الأوسط (683 ألف طن مقابل 13 ألف طن لتركيا)، وتتنافس مصر والأردن على إنتاج الفوسفات، ففي 1968 كان الإنتاج المصري 1,4 مليون طن ثم انخفض بتأثير الحرب، وفي الأردن بلغ الإنتاج 1,1 مليون طن عام 1968، ثم انخفض إلى نحو 0,6 من المليون عام 1971 وما تلاها نتيجة إغلاق الحدود السورية الأردنية، وفي المملكة السعودية ثروة معدنية جيدة غير مستغلة، وخاصة مناجم الحديد الجيد في الحجاز بالقرب من ساحل البحر الأحمر، وبالرغم من أن دول الشرق الأوسط لا تدخل مناطق التعدين الرئيسية بالمقياس العالمي، فإن ما هو موجود من معادن يكون ركيزة لا بأس بها لتنويع النشاطات الاقتصادية في الدولة، ويقيم بعض صناعات تمتص السكان المتزايدين، ويؤدي إلى بعض الاكتفاء الذاتي، مثال ذلك صناعة الحديد والصلب الثقيلة التي توجد في تركيا ومصر وإيران.
ولعل صناعة الحديد والصلب التركية هي الصناعة المتكاملة محليا في الشرق الأوسط، فإنتاج الحديد والفحم المحلي يقلل نفقات هذه الصناعة، أما في مصر وإيران فإن هذه الصناعة - التي أنشئت في حلوان وأصفهان بالمعونة السوفيتية - تحتاج إلى الفحم المستورد من الخارج، وبرغم ذلك فإن مثل هذه الصناعات الثقيلة تعطي الدول بداية توازن جيوبوليتيكي في مصادر قوتها الأرضية، وتؤكد النسب المئوية التقريبية التالية هذه الحقيقة:
جدول 3-1: مساهمة قطاعات الاقتصاد الرئيسية في الإنتاج المحلي العام
GDP (نسب مئوية).
قطاع الاقتصاد
تركيا 1970
إيران 1972
مصر 1969
الزراعة
33
15
30
التعدين والصناعة
20
14
21
البترول
29
وفي هذه الدول وغيرها اتجاه متزايد لتنشيط الصناعات التحويلية المختلفة، ففي مصر اتجاه إلى مضاعفة أرقام الإنتاج الصناعي عدة مرات، مثال ذلك أن الخطة العشرية تهدف إلى زيادة إنتاج الصلب من نصف مليون طن إلى مليوني طن، والأسمنت من 3,6 ملايين طن إلى ستة ملايين، والمخصبات الزراعية من 1,6 مليون طن إلى4,5 ملايين، والمنتجات البترولية من 2,5 مليون طن إلى 16 مليونا، والطاقة الكهربائية من سبعة آلاف مليون ك و س إلى 19 ألفا، هذا فضلا عن مجمع الفسفور والألمونيوم من بين صناعات أخرى جديدة، وفي إيران خطة طموحة بدئ بتنفيذها 1969، وترمي إلى مضاعفة إنتاج الصلب إلى أربعة ملايين من الأطنان، وإنشاء مصنع للرصاص وآخر للنحاس، وثالث للألمونيوم، ومصنع للآلات الزراعية والجرارات وغيرها من الآلات، وتشمل الخطة توزيع الصناعة على مناطق مختلفة «حول طهران وأصفهان وتبريز والأهواز وشيراز» وذلك لإيجاد توازن في أقاليم الدولة. (4-3) جيوبوليتيكية البترول
يتوزع الإنتاج الرئيسي للبترول في الشرق الأوسط في الدول التي تفتقر إلى موارد تعدينية أخرى، وذلك باستثناء إيران، ومع ذلك فإن البترول معروف في مصر واحتمالات زيادته الإنتاجية كبيرة في منطقتي خليج السويس والساحل الغربي، وكذلك ظهر البترول في الستينيات في أعالي دجلة في تركيا، لكنه لا يزال محدود الكمية، ويتركز بترول الشرق الأوسط في نطاق يمتد من خليج عمان والخليج العربي والسهول الفيضية العراقية إلى أعالي دجلة في سوريا وتركيا، وإلى جانب ذلك يظهر بكمية كبيرة في برقة، واحتمالات وجوده بكميات كبيرة في شمال مصر يمكن أن تؤدي إلى ظهور نطاق آخر من خليج السويس حتى خليج سرت في ليبيا (انظر الخريطتين 35 و36).
خريطة (35): جيوبوليتيكية البترول في الشرق الأوسط. دول العبور بين أماكن الإنتاج وسوق الاستهلاك.
وقد حظي بترول الشرق الأوسط بكتابات ومقالات وبحوث لا حصر لها، تناولت كل مظاهر البترول: الإنتاج - النقل - التسويق - الاحتياطي - مدخرات عوائد البترول - آثاره الاجتماعية والاقتصادية على العالم في تجارة الطاقة وعلى تطوير الشرق الأوسط - العلاقة الحيوية التي تربط الشرق الأوسط بكافة الدول المتقدمة (بدون الكتلة الاشتراكية) وتأثيراتها المتبادلة، وليس في النية إعادة ما كتب، أو ما هو معروف وأصبح حقائق شائعة، لكننا سنركز قدر الاستطاعة على ما يمكن أن نستخلصه من مجموعة حقائق البترول المعروفة على أقدار الشرق الأوسط .
إن البترول موضوع شائك معقد متعدد الأطراف، فهو «مصلحة» ضرورية أو إلزامية، لأن فائض إنتاجه يقع في أراضي دول غير الدول الصناعية التي تحتاج إليه، ومن ثم يمكن أن نلخص الموقف في القضايا المبسطة التالية: (أ)
الدول المنتجة (باستثناء الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، كلها دول نامية). (1)
ملكية موارد الثروة التي توجد في أراض أو مياه تحت سيادتها الوطنية. (2)
ملكية حقوق عقد اتفاقات مع الشركات المنتجة، وحقوق إلغاء الاتفاق. (3)
ملكية حقوق زيادة ضخ البترول من حقولها أو تخفيض الضخ حسب مصالحها. (4)
حقوق رفع أو تثبيت أسعار البترول الخام. (5)
حقوق رفع عوائدها من الشركات القائمة بالإنتاج في أراضيها بالتفاوض. (6)
حقوق رفع الأسعار العالمية من خلال منظمة الأوبك. (7)
حقوق تأميم الامتيازات البترولية الممنوحة. (ب)
الدول المستهلكة (غالبيتها دول متقدمة). (1)
تمتلك الشركات القائمة بالإنتاج في الدول النامية ذات الفائض. (2)
تمتلك رأس المال الاستثماري، والخبرة التكنولوجية في التنقيب وضخ البترول. (3)
تمتلك الغالبية الساحقة من وسائل نقل البترول بحريا وأنبوبيا. (4)
تمتلك الغالبية الساحقة من الطاقة التكريرية البترولية في العالم. (5)
تمتلك السوق الرئيسي الذي يستوعب كل إنتاج الخام من الدول النامية.
وتوضح مجموعة الأرقام التالية حقائق العلاقة بين الدول المنتجة والدول المستهلكة:
5 (أ) شركات الإنتاج الأجنبية في الشرق الأوسط ونصيبها من إنتاج البترول الخام (نسب مئوية) 1971.
الدولة
الشركات الأمريكية (1)
الشركات الإنجليزية (2)
فرنسا (3)
غيرها (4)
مجموع إنتاج الدولة (مليون طن)
إيران
32,0
49,9
5,5
11,7
227
السعودية
100,0
222
ليبيا (5)
30,6
15,8
53,5
159
الكويت
50,0
50,0
145
العراق (5)
23,7
47,5
23,7
5,1
83
أبو ظبي
14,6
54,6
27,4
3,2
44
المنطقة المحايدة
100,00
26
قطر
11,0
74,5
12,0
2,5
20
كمية البترول (مليون طن)
444,2
289,2
46,8
144,00
924,2 ٪ من البترول المنتج
48٪
31,3٪
5,2٪
15,5٪
ملاحظات : (1)
تشمل الشركات التالية حسب ترتيب مساهمتها: أسو (ستاندرد نيوجرسي)، سوكال (ستاندرد كاليفورنيا)، تكساكو، جلف، موبل. وتتقاسم الشركات الثلاث الأولى بترول السعودية (30٪ لكل) + موبل (10٪)، وتدخل شركة جلف بنسبة 50٪ في الكويت، وفي ليبيا تتصدر أسو المجموعة (16٪) والشركات الأخرى حوالي (5٪)، وتدخل كل الشركات الأربعة في كونسورتيوم البترول الإيراني بنسب متساوية حوالي (6,5٪). (2)
تشمل شركتي ب ب (البريطانية للبترول) ورويال داتش شل (إنجليزية وهولندية) وتنتج ب ب نحو 22٪ من بترول الشرق الأوسط وشل نحو 9٪، وتحتكر ب ب 37٪ من إنتاج بترول إيران، وشل نحو 13٪، وتنتج الشركتان نصيبا متساويا في العراق (23,75٪) وتتصدر ب ب الإنتاج في أبو ظبي (40٪)، وشل الإنتاج في قطر (62,5٪).
خريطة (36): صناعة البترول في الشرق الأوسط. إنتاج كبير وطاقة تكرير ضعيفة. (3)
تتمثل فرنسا بالشركة الفرنسية للبترول
C F P ، وأكبر مجال لإنتاجها هو في العراق وأبو ظبي. (4)
تشتمل على مجموعة شركات يابانية و5٪ نصيب جولبنكيان كشريك تاريخي في الشركات الإنجليزية الهولندية في العراق وأبو ظبي وقطر، وهي في الحقيقة يجب أن تدخل إنتاج الشركات السابقة الذكر، وفي ليبيا توجد شركات أمريكية غير المذكورة (أوكسدنتال وهنت وأمكو وفليبس وغيرها، إلى جانب شركة «إيني» الإيطالية و«إيراب» الفرنسية). (5)
أممت ليبيا الشركات الإنجليزية، وأممت العراق شركة بترول العراق الإنجليزية. (ب) ملكية الناقلات البحرية (1970).
مليون طن ٪ من حمولة ناقلات العالم
الولايات المتحدة وأسطول ليبيريا وبنما *
27,3
31,7
أوروبا الغربية †
39,5
46,0
اليابان
9,3
10,7
مجموع الدول المستهلكة للبترول
76,0
88,5
حمولة أسطول الناقلات العالمية
86,1 *
نصيب هذه الدول الثلاث (٪ من الحمولة العالمية للناقلات): ليبيريا 22,5، الولايات المتحدة 5,4، بنما 3,8. †
نصيب دول أوروبا الغربية (٪ من الحمولة العالمية للناقلات): بريطانيا 14,0، النرويج 10,3، اليونان 4,5، فرنسا 4,0، إيطاليا 3,1، هولندا 2,3، السويد 1,9، ألمانيا 1,9، إسبانيا 1,6، الدانمرك 1,5، بلجيكا 0,3، البرتغال 0,3. (ج) ملكية طاقة التكرير (1972). (1)
الدول المستهلكة لبترول الشرق الأوسط 73٪ من طاقة التكرير العالمية (الولايات المتحدة وكندا 30٪، أوروبا الغربية 35٪، اليابان 8٪). (2)
دول الشرق الأوسط 5,5٪ من طاقة التكرير العالمية. (3)
82٪ من طاقة التكرير في الشرق الأوسط ملك لشركات أجنبية. (4)
18٪ من طاقة التكرير في الشرق الأوسط حكومية (أساسا في مصر والعراق وسوريا). (د) حركة بترول الشرق الأوسط (1970).
المصدر/الاتجاه
أوروبا الغربية
اليابان
الولايات المتحدة
مجموع الصادر
مليون طن ٪
مليون طن ٪
مليون طن ٪
مليون طن
الشرق الأوسط القلب (دول الخليج كلها)
309
50
173
28,0
9
1,5
631
شمال أفريقيا
220
95
2
0,8
4
1,8
232
ويمكن أن نلخص نتائج هذه الجداول في أنه يبدو واضحا قبضة الدول المستهلكة على الدول المنتجة في الشرق الأوسط، من الإنتاج إلى التسويق، ولكن مقابل هذه القبضة الاحتكارية فإن الدول المنتجة تمتلك وحدها «حق الأساس» الذي يعلو على كل هذه العلاقات المتشابكة غير المتعادلة بين الدول المستهلكة المتقدمة والدول المنتجة النامية، وحق الأساس هذا مبني على: (1) المكان الجغرافي لحقول النفط. (2) سيادة هذه الدول النامية. وبرغم تنازع الدول قانونيا وبطرق أخرى غير قانونية، إلا أن حق الأساس يضمن للدول المنتجة ممارسة التصرف في حقولها البترولية بكافة الصور من امتيازات وعقود مشاركة إلى تأميم جزئي أو شامل، ومن ضخ بترولي متزايد إلى وقف أو تقليل الضخ حسبما تراه مناسبا لمصالحها الاقتصادية - المحافظة على الموارد حق لكل الدول في مواردها الطبيعية - أو مصالحها السياسية.
وبالرغم من كون البترول يخضع - في صورة مجردة - لكل هذه الحقوق، مثله في ذلك مثل استخدام هبات الموقع المكاني أو الموارد الطبيعية، إلا أن البترول، اقتصاديا وجيوبوليتيكيا، يشكل مسألة متعددة الجوانب؛ إذ إنه: (1)
منذ الخمسينيات، ونتيجة لمرونة نقله ونظافة استخدامه بالقياس إلى الفحم، قد تفوق على مصادر الطاقة المتاحة في العالم، وهو لا يزال يسلك هذا السبيل مع الغاز الطبيعي،
6
وبذلك تكيفت الصناعة الحديثة في جانب كبير منها على البترول. (2)
طرد البترول بمشتقاته (بنزين وكيروسين وديزل وسولار) الفحم والخشب كطاقة محركة في وسائل النقل البخارية (القطار والسفن)، وزاد عليها أن وسائل النقل الحديثة هي وليدة عصر البترول، وخاصة السيارة والطائرة. (3)
بناء على هذا فإن البترول قد أصبح مصدرا للطاقة، وخامة لبعض الصناعات الهامة،
7
يصعب إيجاد بديل له في فترة قصيرة، وفي خلال أزمة الطاقة (أواخر 1973، أوائل 1974) حينما خفضت الدول العربية المنتجة ضخ البترول كسلاح في المعركة العربية ضد الصهيونية العالمية ومسانديها من الدول الغربية، تساءل أرباب الصناعة الغربية كثيرا: هل يعود الفحم ملكا؟ وكان أبلغ الرد على هذا التساؤل «كاريكاتير» ظهر في مجلة «درشبيجل» الألمانية (3 ديسمبر 1973) عبارة عن سيارة ذات مدخنة تجر وراءها مقطورة محملة بالفحم وشخص واقف فيها (عطشجي) ينقل الفحم إلى غلاية في مؤخرة السيارة!
إزاء هذه المواصفات لعصرنا الحالي، الذي يمكن أن يسمى «عصر البترول» فإن مشكلة البترول لا تصبح مشكلة متعلقة بالدول المنتجة وحدها أو بالدول المستهلكة وحدها.
ولا شك في أن الدول الصناعية المستهلكة قد اهتزت من جذورها نتيجة الخفض «المحدود» للبترول العربي «فقط»، وقد استخدم العرب البترول استراتيجيا، ليس فقط كجزء من المعركة ضد التوسع الإمبريالي الإسرائيلي الغربي، ولكن لفتح باب هو جوهر مشكلات العالم الصناعي وعلاقاته غير المتعادلة مع العالم النامي، فمشكلة الطاقة فتحت للدرس والمناقشة على شتى المستويات العالمية: أوروبا الغربية، السوق المشتركة، الولايات المتحدة وأوروبا، وأخيرا نوقشت على منبر الأمم المتحدة، واشتركت الدول العربية والدول النامية في المناقشة والحوار، ولكن هذه المناقشات كانت تنبع من زاويتين مختلفتين: الدول الصناعية تتكلم عن تأمين موارد الطاقة (ومن خلالها ظهرت آراء غير مقبولة تريد فصل الطاقة عن سيادة الدول المنتجة للفائض منها، وأكثر الآراء تطرفا نادت باحتلال مصادر الطاقة، وهو - بلا شك - تعبير إمبريالي عتيق)، والدول النامية تتكلم عن مناقشة كافة أشكال الموارد، وعن الهوة التكنولوجية بين العالمين المتقدم والنامي.
وفي معركة البترول الجيوبوليتيكية كان الطلب الأساسي للدول العربية هو الحصول على المقومات والخبرات التكنولوجية من أجل التنمية - كمقابل للبترول. وهكذا ظهر لأول مرة - ومن خلال ممارسة «حق الأساس» في الدول المنتجة للبترول - مواجهة صريحة لتعديل القوة الضاغطة للدول المستهلكة التي تمتلك الخبرة والنقل والتكرير والسوق وصادرات السلع الصناعية المرتفعة الأسعار.
وعلى هذا النحو فإن الاستخدام الجيوبوليتيكي للبترول في الشرق الأوسط ربما يؤدي إلى تغيير كبير في التركيب الاقتصادي لدول المنطقة، خاصة وأن عوائد البترول المتراكمة، والتي تستثمر في مشروعات الغرب الصناعية لمزيد من البحث والازدهار العلمي والحضاري، يمكن أن تلعب الدور نفسه في بلادها الأصلية، وفي الحقيقة قد لا نجد إقليما مشابها للشرق الأوسط من أقاليم العالم النامي، ففي الوقت الذي تعاني فيه أفريقيا المدارية أو جنوب شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية من قلة الموارد المالية التي يمكن أن تخصص للاستثمار، نجد الشرق الأوسط - في مجموعه - يمكن أن يكون متخما برءوس أموال دون استثمار بالمعنى الحقيقي للاستثمار، وفي الوقت نفسه فإن في الشرق الأوسط - رغم الجفاف العام - مناطق واسعة للإصلاح الزراعي والإنتاج التعديني والصناعي، ومشروعات لا بد منها لربط دول الشرق الأوسط بشبكة جيدة من الاتصالات الأرضية والبحرية بدلا من تفرقها في صورة نظم مواصلات ونقل منفصلة عن بعضها، وهو أمر كثيرا ما يؤدي إلى تباعد غير مطلوب بين دول المنطقة في عالم الائتلافات الدولية.
ولا تقتصر جيوبوليتيكية البترول على هذا المستوى العالمي، بل إن لها تأثيراتها المحلية في داخل الشرق الأوسط، فالبترول، بكميته الرئيسية - وباستثناء بترول ليبيا - ينتج في منطقة الخليج، سواء كان في إيران أو الدول العربية المطلة على هذا الخليج، وصحيح أن جزءا من بترول الخليج يجد طريقه بحرا إلى اليابان وحول أفريقيا، إلا أن الجزء الأكبر منه يجب أن يذهب إلى أوروبا وأمريكا عبر الشرق الأوسط إلى دول الواجهة البحرية على البحر المتوسط، وهذه هي دول «ترانزيت» البترول، وتتقاضى دول الترانزيت رسوم عبور لا بأس بها تعد مصدرا جيدا للدخل، وينحصر العبور في قناة السويس (نحو 70٪ من البترول العابر) والواجهة البحرية للبنان وسوريا (30٪) بواسطة خطوط أنابيب طويلة،
8
ويلخص الجدول التالي حركة عبور البترول في الشرق الأوسط.
جدول 3-2: كمية وعوائد مرور البترول في دول الترانزيت.
الدولة
وسيلة العبور
كمية البترول (مليون طن)
العائد (مليون دولار) بالتقريب
مصر
قناة السويس (أرقام 1966)
154 خام
200
12 منتجات
لبنان
التابلاين (إلى الزهراني)
23,5 خام
25 (1972)
العراقي (إلى طرابلس)
20,3 خام
سوريا
التابلاين (عبور إلى لبنان)
23,5 خام
77 (1972)
العراقي (عبور إلى لبنان)
20,3 خام
العراقي (إلى بانياس)
29,5 خام
الأردن
التابلاين (عبور إلى لبنان)
23,5 خام
7 (1972)
وتشكل هذه الكميات العابرة نسبة لا بأس بها من المنتج في دول الخليج، بالنسبة لقناة السويس كانت عوائد المرور تشكل في 1966 نحو 9٪ من العوائد التي حصلت عليها الدول المنتجة (السعودية وإيران والكويت وأبو ظبي وقطر)، أما عوائد المرور في خطوط الأنابيب العابرة للأردن وسوريا ولبنان (نحو 110 ملايين دولار) فتساوي 10٪ من عوائد العراق على سبيل المثال،
9
ونظرا لضخامة حركة العبور في قناة السويس، فإننا نورد آخر إحصائية لتوضيح اتجاه حركة البترول ومصادره.
جدول 3-3: حركة البترول في قناة السويس 1966 (مليون طن).
المصدر - الوجهة
أوروبا
أمريكا
آخرون
المجموع ٪ من الكمية العابرة
الكويت
56,6
1,8
0,2
58,6
38,1
السعودية
33,0
1,8
0,4
35,3
23,0
إيران
28,5
5,2
0,6
34,3
22,2
أبو ظبي
9,2
0,2
9,4
6,1
العراق
6,8
0,8
7,6
5,0
قطر
5,7
5,7
3,7
مصر
1,2
0,2
0,06
1,4
0,9
البحرين
0,2
0,2
0,1
غيرهم
1,4
0,04
1,4
0,9
المجموع
142,7
10,1
1,0
154,0
100,0
كمية البترول المتجهة شمالا في قناة السويس 154 مليون طن خام + 12 مليونا منتجات بترولية.
كمية البترول المتجهة جنوبا في قناة السويس 3 ملايين طن خام + 6 ملايين منتجات بترولية.
مجموع حمولة البترول المتجهة شمالا في القناة = 86٪ من مجموع حمولة التجارة المارة بالقناة.
مجموع حمولة البترول المتجهة جنوبا في القناة = 20٪ من مجموع حمولة التجارة المارة بالقناة.
مجموع الحمولة الصافية لناقلات البترول 2,6 مليون طن = 75٪ من حمولة كل السفن العابرة للقناة. (5) الحدود كإطار للتفاعلات السياسية لدول الشرق الأوسط (5-1) ماهية الحدود
الحدود هي القالب الذي يصوغ شكل الدولة، وقد تناولت نظريات كثيرة موضوع الحدود بالبحث والدراسة، وخلاصتها أن الحدود واحدة من ثلاث: (1)
حدود متتبعة لظاهرة من الظواهر الطبيعية أو البشرية. (2)
حدود هندسية أو فلكية. (3)
حدود اتفاقية أو تاريخية.
وأن وظائف الحدود واحدة من اثنين: (1) حدود الاتصال. (2) حدود الانفصال.
وأيا كان شكل الحدود ووظيفتها فهي في الواقع عبارة عن ارتباط وثيق بالضغوط التي تمارسها دولة من الدول في مقابل المقاومة التي تبديها دولة أخرى، وسواء وصلت الحدود إلى ظاهرة طبيعية، أو حد بشري لغوي أو حضاري، أو مجرد خط اتفاقي، فإن الحدود السياسية - لكونها تعبيرا عن جهود الإنسان العسكرية والسياسية - ليست خطوطا أبدية إنما هي دائمة التغيير على مر الزمن، ولهذا فإن خريطة العالم السياسية دائمة التغير، ولا يمكن القول إن هناك حدودا طبيعية تصل إليها الدولة ثم تستريح إلى الأبد، ففرنسا كانت تريد الوصول إلى نهر الراين كحد طبيعي بينها وبين ألمانيا، لكن ذلك الحد تغير مرتين خلال الفترة 1870-1945. ولا شك في أن أكثر الحدود استقرارا هي تلك الحدود الاتفاقية - كالحدود السويسرية - لكن الشرط الأساسي لاستقرار الحدود هو أن تكون في منطقة قليلة الاتصالات، ذلك أن أكثر الحدود قلقا هي تلك التي تخترق أماكن اتصال، فالحد السياسي في تلك الأماكن يقوم بمناهضة الاتصالات الطبيعية، ويحاول أن يجعل الناس يديرون ظهورهم لبعض، مثال ذلك حدود بولندا أو بلجيكا أو حدود فرنسا وألمانيا على الراين، وأكثر الحدود ثباتا هي تلك المرتبطة بسواحل البحار؛ لأن البحار تفصل بين إيكولوجيتين مختلفتين: اليابس الذي يستوطنه الإنسان والبحر الذي لا يعيش فيه الإنسان إلا في فترات محدود وفي بيئة اصطناعية «يابسة»: السفن. وبرغم ثبات الحد السياسي المرتبط بساحل البحر، إلا أنه قد بدأ يتغير في الآونة الأخيرة، وربما يجري عليه في المستقبل ما يجري على الحدود البرية، وقد كان هذا التغير في الحدود البحرية نابعا عن: (1) بحار الاتصال تؤدي إلى الحركة وإلى أطماع سياسية عبر البحر. (2) التقدم التكنولوجي الذي مكن الإنسان من استغلال قاع البحار (والأرصفة القارية) للحصول على المعادن، وخاصة البترول والغاز الطبيعي، ولهذا بدأت الدول تخط حدودا تمتد في البحار وتتعمق من سطح البحر إلى قاعه، على نحو ما نراه الآن في بحر الشمال الذي اقتسمته سياسيا كل الدول المطلة عليه، والخليج العربي الذي تظهر على خريطته امتدادات جديدة لإيران والدول العربية.
خريطة (37): توزيع المجموعات اللغوية في الشرق الأوسط. (أ) اللغات الرئيسية: (1) العربية. (2) التركية. (3) الفارسية. (ب) الأقليات اللغوية في القسم الآسيوي: (4) الكردية. (5) الأذربيجانية (تركية). (6) العبرية واليديش. (ج) الأقليات اللغوية في القسم الأفريقي: (7) البرية. (8) الطورق. (9) التبو. (10) البجة. (11) النوبية. (12) لغات سودانية أفريقية (نيلية ونوبا وفور وغيرهم). (13) المناطق غير المأهولة بالسكان في الشرق الأوسط.
والحدود - حسب النظرية العضوية التي نادى بها الجغرافي الألماني فريدريك راتزل في أواخر القرن الماضي - تشابه الجلد بالنسبة لجسم الإنسان، فالجلد هو عضو كبير في تركيب الجسم، وهو أكثر الأعضاء حساسية وتعرضا للحوادث، والحدود هي أكثر المناطق حساسية في الدولة، وبتمددها وانكماشها تتغير أقدار الدولة، وتعطي الحدود للدولة شكلها الحقيقي، وتتجدد بذلك إمكاناتها الاقتصادية وتركيبها الاستراتيجي، ويجعلها عرضة للغزو أو قوية وراسخة، فالدولة الشريطية - المفرطة الطول مع عرض ضيق، كالنرويج وشيلي وإسرائيل ونبال - دول ليس لديها عمق استراتيجي، ولا عمق اقتصادي، ويؤدي طولها إلى تباعد أطرافها عن مركزها بحكم طول المسافات، وعكس ذلك تماما الدولة المتناسبة الأبعاد كالولايات المتحدة أو فرنسا أو مصر أو السعودية.
وبما أن الحدود هي العضو الخارجي للدولة، فإن أقصر الحدود هي أكثرها منعة؛ لأنها تعطي إمكانات دفاع متوازن، أما الحدود الطويلة فهي أسوأها؛ لأنها تلقي بأعباء دفاعية على مسطحات كبيرة، ولهذا فإن الحدود المتعرجة حدود طويلة، بينما الخط المستقيم بين نقطتين هو أقصرها وأقواها، وليس الطول هو كل عيب الحدود المتعرجة، بل إن التعرج في حد ذاته يؤدي إلى تداخل أقاليم الدولتين المتجاورتين في صورة ألسنة وأقواس يصعب الدفاع عنها.
ولقد نجم عن الأحداث السياسية الذاتية والخارجية خلال القرن 19 وأوائل القرن الحالي تقسيم سياسي للشرق الأوسط تمثله دول المنطقة على النحو الراهن، وفي تقسيم الشرق الأوسط اتخذت مسارات مختلفة للحدود، بعضها يلتزم بظاهرات طبيعية ولغوية وبشرية، والكثير منها اصطناعي وتمثله خطوط هندسية وفلكية تقطع اتصال المجتمعات القومية في أحيان كثيرة، وأكبر مثال على ذلك تقسيم منطقة الأكراد بين خمس دول: تركيا وإيران والعراق وتستأثران بأكبر عدد من الأكراد، ثم أعداد قليلة في هوامش سوريا الشمالية وهوامش الاتحاد السوفيتي الجنوبية (انظر الخريطة 37). (5-2) وظائف الحدود في الشرق الأوسط
وتلخيصا لكثير من التفصيلات من مشكلات التقسيم السياسي الحديث في الشرق الأوسط، يمكن أن ندرس وظائف الحدود السياسية الحالية لنبين كيف أن الحدود يمكن أن تقف مانعا ضد اتصال أقاليم طبيعية موحدة النشاط والاتجاه الاقتصادي، وربما موحدة اللغة والانتماءات.
حدود الانفصال
تشكل حدود الانفصال في الشرق الأوسط حدودا ذات استقرار نسبي، وهي غالبا حدود سياسية تسير موازية لظاهرات طبيعية يضاف إليها في أحيان ظاهرات بشرية، ومعظم هذه الحدود توجد على الحافة الشمالية للشرق الأوسط، بين اليونان وتركيا وإيران من جانب، وبين ألبانيا ويوجسلافيا وبلغاريا والاتحاد السوفيتي من جانب آخر، فهنا مناطق جبلية أو مسارات أنهار جبلية تفصل بين حدود القوميات السياسية، ولا شك في أن هذه الحدود الشمالية قد استقرت في الفترة الأخيرة - منذ نحو ربع قرن - بعد أن وضح موقف الدول التي توجد على جانبي الحدود، فاليونان وتركيا وإيران أعضاء في أحلاف غربية، بينما يجمع ألبانيا ويوجسلافيا وبلغاريا والاتحاد السوفيتي أيديولوجية عامة مشتركة، وهكذا تفاعلت الظروف الطبيعية مع الاتجاهات السياسية لتثبيت خطوط الحدود بعد أن كانت هذه الحدود بعينها مثارا للحروب والقلقلة والتغير في أوائل هذا القرن وأواخر القرن الماضي (حروب البلقان واليونان مع الدولة العثمانية، وضغوط روسيا تجاه إيران وتركيا والقوقاز).
وتشابه حدود إثيوبيا والسودان في القسم الممتد بين نهري العطبرة والسوباط هذا النوع من حدود الفصل بين الهضبة الحبشية وسهول السودان، وكذلك الحال في حدود اليمن الشمالية مع إقليم عسير السعودي، والحد السياسي الجنوبي لتركيا، وخاصة في المنطقة بين مسار الفرات ورأس خليج الإسكندرونة.
والنوع الثالث من حدود الانفصال هو ذلك الذي أطلقنا عليه الحدود العدائية ويتركز أساسا في فلسطين بين إسرائيل والدول العربية، وهذا الحد خلق بشري محض مرتبط بالمشكلة الصهيونية العالمية والقوة العسكرية الإسرائيلية خلال ربع القرن الماضي، وهو حد لا يلتزم بأي من الظواهر الطبيعية سوى في قسمه الشمالي الشرقي حيث يقع منخفض الحولة-طبرية تحت أقدام المرتفعات السورية اللبنانية في الجولان وجبل الشيخ وجبل عامل، ومن ثم كان اتجاه إسرائيل للسيطرة على هذه المواقع لأغراض استراتيجية، بالإضافة إلى التحكم في منابع نهر الأردن على نحو ما أوردنا، والكلام نفسه ينطبق بصورة أقل قوة على الحد العسكري الذي اصطنع بعد 1948 بين الضفة الغربية وبقية فلسطين، فهو حد الهضبة الفلسطينية الوسطى (التي يتكون منها معظم أراضي الضفة الغربية) التي تشرف على السهل الساحلي في الغرب وسهل مرج بن عامر في الشمال وصحراء النقب في الجنوب، أما حدود قطاع غزة فليست سوى خطوط هدنة تقطع اتصالا طبيعيا في سهل فلسطين.
خريطة (38): وظائف الحدود في الشرق الأوسط. [يقرأ تفسير الأرقام والحروف في النص القسم الثاني الفصل الثالث: بعض مقومات دول الشرق الأوسط.]
ونظرا لأن هذه الحدود العدائية مرتبطة بالقوة العسكرية وأطماع توسعية وطرد للسكان العرب وإحلال مهاجرين يهود محلهم، فإن هذا الحد قابل للتغير حسب الضغوط اليهودية والمقاومة العربية في مجالي الحرب والسياسة، وكما أنه ظهر من لا شيء، فإنه يمكن أن ينتهي إلى لا شيء أيضا؛ بمعنى أن وحدة فلسطين يمكن أن تعود، ويرتبط ذلك بكثير من المقومات التي تستند إلى علاقات مختلفة إقليمية وعالمية.
حدود الاتصال
هذه هي خطوط الحدود السياسية التي تجري في أماكن وأقاليم ذات اتصال طبيعي وبشري في آن واحد، ولا يعني هذا أن كافة الحدود السياسية الحالية في مناطق الاتصال الطبيعي تسهل عملية الاتصال عبر الحدود، بل إن بعضها يقف أمام الاتصال الطبيعي المعتاد تماما، مثل الحدود التركية السورية في قسمها الغربي من الفرات إلى لواء الإسكندرونة، والحدود العراقية الإيرانية في قسمها الجنوبي بين السهول العراقية وسهول خوزستان، ومثل هذه المناطق مثار لمشكلات الحدود السياسية داخل دول الشرق الأوسط، ومعظمها مشكلات كامنة، وسوف نعالجها فيما بعد.
وتوضح الخريطة 38 عددا من مناطق الحدود القلقة أو التي تسمح بالاتصال المعتاد لمجموعات وأراض قسمتها الحدود السياسية الحالية، ويمكن أن تقسم إلى ثلاث فئات: حدود تقسم أحواضا نهرية، وأخرى أقاليم طبيعية وبشرية متكاملة، وثالثة تقسم أراضي القبائل الرعوية المتنقلة.
خريطة (39): لواء الإسكندرونة. اقتطاع التكامل الإقليمي لحوض العاصي، وتكوين جيب تركي داخل سوريا.
أولا: الحدود السياسية في أحواض الأنهار والأقاليم المتكاملة تقرأ الرموز أ - ط مع تلك التي توجد في خريطة 38. (أ) أحواض أنهار مقدونيا وتراقيا التي تنبع من بلغاريا وجنوب يوجسلافيا وتنتهي في السهل الساحلي اليوناني، وتقطع الحدود السياسية هنا أقاليم طبيعية صغيرة تشكلها الأحواض النهرية، كما أنها تقطع وحدة مقدونيا - كإقليم بشري - بين اليونان ويوجسلافيا بوجه خاص، وهذه المنطقة لا تشكل الآن مثارا للنزاع بينما كانت كذلك خلال النصف الأول من هذا القرن حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. (ب) حوض نهر العاصي الأدنى، اقتطع من سوريا في أواخر عهد الانتداب الفرنسي وأعطي لتركيا، ومن الناحية الطبيعية البحتة (انظر الخريطة 39)، فإن اقتطاع الجزء الأدنى من العاصي قد أضر بتكامل النهر وأية مشروعات يمكن أن تقام عليه بصورة متكاملة، وصحيح أن سوريا قد أقامت عدة مشروعات متكاملة على أعالي النهر وأواسطه، إلا أنه كان ممكنا استخدام منطقة بحيرة العمق كخزان طبيعي وإقامة محطة طاقة، وكذلك تجفيف المستنقعات حول البحيرة وجعل المنطقة امتدادا زراعيا جيدا، ومن ناحية أخرى فإن جبال الأمانوس تقف عائقا طبيعيا أمام اتصال منطقة أنطاكية بميناء الإسكندرونة، ومن الناحية البشرية البحتة فإن لواء الإسكندرونة بأكمله منطقة عربية سلالة ولغة (انظر خريطة 40). (ج) وادي الفرات بين سوريا وتركيا، وهو لا يشكل في الوقت الحاضر مشكلة سياسية؛ لأنه يرتبط إلى حد بعيد بالفاصل اللغوي بين العربية في الجنوب (سوريا) وبين الكردية والتركية في الشمال (تركيا)، ولكن الأمر في النهاية قد يحتاج إلى اتفاقات اقتصادية بين سوريا وتركيا والعراق حول استخدام أمثل لمائية النهر، ومثله في ذلك نهر الدجلة، كمشكلة اقتصادية مستقبلية بين تركيا والعراق بوجه خاص.
خريطة (40): توزيع اللغات في تركيا سنة (1965). (أ) مجموعة الأكراد: (1) أكثر من 50٪ لغة كردية. (2) 25-50٪ أكراد. (3) 10-25٪ أكراد. (4) 2-10٪ أكراد. (ب) مجموعة العرب: (5) 25-50٪ عرب. (6) 10-25٪ عرب. (7) 2-10٪ عرب. (ج) مجموعة الأتراك: (8) أكثر من 90٪ أتراك. (د) أقليات لغوية أخرى: (11) لاظ. (12) جورجانيين. (13) شركس. (14) أرمن. (15) يونان. (16) بوماك. (9) حدود المحافظات التي يقل فيها الأتراك عن 50٪. (10) حدود المحافظات التي يقل فيها الأتراك عن 90٪. مجموع المتكلمين بالتركية يشكلون 90٪ من مجموع سكان الدولة، والأكراد يشكلون 7,1٪، والعرب 1,2٪. نقلا (بتصرف) عن:
J. T. Clarke, & E. W. Fisher population of the Middle East and North Africa London 1972 . (د) أودية منطقة جرجان وسهولها بين إيران والاتحاد السوفيتي شرقي بحر قزوين، ويوجد هنا تداخل لغوي وقومي بين التركمانية والإيرانية، وفي المنطقة احتمالات بترولية ومعدنية أخرى، فضلا عن الاستثمار الزراعي، ولا توجد في الوقت الحاضر مشكلات سياسية خاصة بهذا الإقليم. (ه)، (و) مناطق المصبات الداخلية - بحيرات ومستنقعات - لأنهار قصيرة تأتي من الجبال المجاورة، وهي ذات أهمية حيوية في أية مشروعات للري في هذا الإقليم الهضبي الصحراوي بين أفغانستان وإيران، وأهم المشكلات التي ظهرت حتى الآن هي تلك التي تدور حول تنظيم مياه نهر هلماند - مشار إليه في الخريطة بالرمز «و» - ومعظم مسار النهر يجري في أفغانستان، وتعارض إيران المشروعات الأفغانية الخاصة بتصريف مياه النهر، وذلك من أجل التنسيق المشترك لري إقليم سستان الإيراني، والمنطقة جزء متكامل، سواء في إيران أو أفغانستان، وأكبر مجموعاتها الحضارية هي قبائل البالوتش. (ز) منطقة شط العرب وتصريف أنهار الدجلة والفرات وقارون المشترك في السهول الجنوبية للعراق، والتي تمتد عبر الحدود إلى كل إقليم خوزستان الإيراني، طبيعيا المنطقة وحدة سهلية متصلة، وبشريا هي أيضا إقليم عربي السكان، لكن المشكلة في أساسها تنبع من أن خوزستان هي منطقة البترول الرئيسية في إيران، وأن امتدادات إيران إلى شط العرب كانت من أجل تأمين ميناء لشحن البترول عند عبدان . في الوقت الحاضر اتجه ثقل الإنتاج البترولي إلى جنوب شرقي خوزستان وشرقي ساحل الخليج في اتجاه شيراز، ومدت أنابيب لنقل البترول إلى ميناء صناعي أقيم في جزيرة الخرج، غربي بوشير. (ح) الحدود المصرية السودانية في النوبة قسمت الإقليم اصطناعيا، لكن علاقات حسن الجوار المستمرة لا تجعل للمشكلة أثرا في العلاقات السياسية بين الجارتين. (ط) الحدود السودانية الإثيوبية عند نهر السوباط وروافده العديدة تؤدي إلى تقسيم إقليم طبيعي متكامل، ويضاف إلى ذلك أن المنطقة كلها تسكنها قبائل نيلية - النوير بوجه خاص - ومعظمها تمتد أوطانها الرئيسية في داخل السودان الجنوبي، والمنطقة ما زالت متخلفة، ومن ثم لا تظهر مشكلات غير عادية في الإقليم.
نظرا لأن الحدود السياسية الحالية في الشرق الأوسط جاءت معظمها كحدث عارض حديث نتيجة تكوين مناطق النفوذ الإنجليزية والفرنسية، وتحديد حدود الدولة العثمانية (جمهورية تركيا فيما بعد)، لهذا اخترقت خطوط الحدود أراضي قبائل الرعاة المتنقلين في أماكن كثيرة، وقسمتهم إلى ولاءات سياسية مختلفة، وبرغم الحدود السياسية الحالية فإن دول الشرق الأوسط قد راعت ضرورة التنقل الرعوي عبر الحدود في مواسم معينة كأمر حيوي بالنسبة لهذه القبائل، ومن ثم فإن الحدود هنا حدود اتصال بالضرورة، وهذه هي أهم هذا النوع من الحدود (تقرأ الأرقام التالية مع خريطة 38): (1)
في المنطقة الهضبية الجبلية الوعرة بين إيران والعراق وتركيا تمتد أوطان القبائل الكردية الرعوية المختلفة، وبالرغم من أن الحدود المشتركة لهذه الدول الثلاث تقفل في وقت الأزمات، إلا أن ذلك لا يعوق الحركة الاقتصادية للرعاة بين مراعي الصيف في أعالي الجبال ومستقراتهم الشتوية في بطون الأودية، ونظرا لوعورة المنطقة، فإن الثورات الكردية المتكررة تجد دائما طريقا للحصول على السلاح والدعم عبر هذه الحدود المشتركة، وخاصة بين إيران والعراق. (2)
الحدود التركية السورية في شمال الجزيرة حيث تمتد قبائل عربية رعوية بين أعالي دجلة وديار بكر وبين إقليم الجزيرة في سوريا (انظر خريطة 40). (3)
قبائل إقليم الجزيرة بين العراق وسوريا، مثل شمر. (4)
قبائل بادية الشام مثل الرولة وعنزة، التي تنتقل موسميا في هجرات محددة عبر حدود سوريا والأردن والعراق والسعودية. (5)
قبائل منطقة وادي سرحان المتنقلة بين الأردن والسعودية. (6)
قبائل سيناء والنقب والأردن. (7)
القبائل الرعوية في منطقة غرب الجبل الأخضر في عمان، وتنقلها المستمر في منطقة الحدود بين عمان والإمارات المتحدة والسعودية. (8)
قبائل نجران وأعالي حضرموت بين اليمن الشمالية والجنوبية والسعودية. (9)
القبائل التركمانية والأفغانية والإيرانية على الحدود المشتركة بين الاتحاد السوفيتي وإيران وأفغانستان. (10)
قبائل البالوتش على الحدود المشتركة بين أفغانستان وباكستان وإيران. (11)
قبائل أولاد علي بين مصر وليبيا. (12)
قبائل البشارية والعبابدة بين مصر والسودان. (13)
قبائل البجة والهدندوة بين السودان وإريتريا (إثيوبيا). (14)
قبائل النوير والأنواك في حوض السوباط بين السودان وإثيوبيا. (15)
القبائل الصومالية التي تمتد من الصومال إلى داخل الصومال الفرنسي، وكل إقليم أوجادين في جنوب شرق إثيوبيا.
هذه باختصار الصفات الأساسية لوظائف الحدود في الشرق الأوسط، ويجب ألا ننزعج من كثرة المشكلات، فهذا أمر طبيعي في غالبية الحدود السياسية في العالم، فمثلا بالرغم من استقرار الحدود الفرنسية الألمانية، إلا أن إقليمي اللورين والألزاس يصطبغان بصبغة ألمانية أكثر منها فرنسية، وأن هذه الحدود تقطع تكاملا بشريا واقتصاديا طبيعيا في حوض الراين بين فرنسا وألمانيا، والقليل من مشكلات الحدود في الشرق الأوسط هي التي تثير بعض القلقلة وعدم الاستقرار، وحتى هذه تكون حتى الآن مشكلات كامنة في الأغلب الأعم.
هوامش
ختام
دول الشرق الأوسط كنتيجة لصراع قرن من الزمن
تلخص الخريطة 41 نتائج قرن من التاريخ السياسي وجيوبوليتيكية القوى المتصارعة على الشرق الأوسط، فقد استقلت دول الشرق الأوسط داخل إطارات سياسية كان الاستعمار قد حددها لأسباب لم تعد قائمة، وترتب على ذلك أن الحدود الراهنة قد خلقت مناطق نزاع كامنة أو قائمة بين دول المنطقة، وهذه المشكلات ومناطق النزاع هي (تقرأ الأرقام مع الخريطة 41): (1)
لواء الإسكندرونة بين سوريا وتركيا: مشكلة كامنة. (2)
الصراع التركي اليوناني حول قبرص: مشكلة قائمة تستخدم الجاليتين التركية واليونانية كوسيلة لتصعيد الخلافات بينهما، هذا بالرغم من أن قبرص دولة مستقلة، وأن اليونان وتركيا زميلتان في حلف الأطلنطي، ولهذا فإن في قبرص قوات دولية لتهدئة النزاع حينما يظهر على السطح. (3)
مشكلة فلسطين بأسرها، وهذه مشكلة قائمة، وأكثر مشكلات الشرق الأوسط خطورة، وقد أدت إلى أربع حروب بين إسرائيل والدول العربية، ولا تزال مشكلة مستعصية على الحل، وأبعاد المشكلة الفلسطينية أكثر وأخطر من الامتداد المكاني لفلسطين، فلإسرائيل أطماع أرضية واستراتيجية في مصر والأردن وسوريا ولبنان، ومن ثم تدخل هذه الدول صراعا مستمرا أو مباشرا، والفلسطينيون مشتتون خارج فلسطين مما يؤدي إلى إثارة القضية في العالم العربي بأسره، والقضية في مجموعها عربية بغض النظر عن الحدود السياسية للدول العربية، وهي أيضا قضية صهيونية عالمية الصبغة بحيث تدفع دولا غربية كثيرة إلى مجال الصراع. وقضية القدس هي الأخرى واحدة من الدوافع التي تجعل المشكلة الفلسطينية مشكلة على مستوى ديني إسلامي ومسيحي خارج حدود فلسطين، وفي المجموع فإن القضية الفلسطينية شديدة التشعب والتعقيد، وذلك نابع من أنها محاولة لزرع جسم سياسي غريب عنصري المذهب عدواني الطابع والمميزات، يرفضه بناء الشرق الأوسط السياسي والحضاري والاقتصادي. (4)
مشكلة الأكراد في العراق هي أكبر مشاكل الأكراد إثارة؛ إذ لا تظهر المشكلة في إيران وتركيا (هي في الواقع مشاكل كامنة يمكن أن تحرك من الخارج أو من الداخل)، وتتراوح مشكلة الأكراد في العراق بين التهدئة والإثارة حسب طبيعة علاقات متشابكة في التركيب السياسي الداخلي للعراق مع الدول المجاورة.
خريطة (41): الصورة المعاصرة للشرق الأوسط. مناطق النزاع الكامنة والقائمة. [يقرأ تفسير الأرقام في القسم الثاني الختام.] (5) إقليم خوزستان أو عربستان: مشكلة كامنة وتهدد بالإثارة في مواقف معينة بين العراق الذي يريد أن يوسع واجهته البحرية، وبين إيران التي تحتفظ بالإقليم لأسباب اقتصادية حيوية (البترول)، وذلك برغم أن الإقليم - كما قلنا من قبل - عربي حضاريا، ومتكامل طبيعيا مع سهول العراق الجنوبية. (6) مشكلة محدودة بين العراق والكويت: مشكلة حديثة ولم تعد قائمة. (7)، (8) المناطق المحايدة بين السعودية من ناحية والعراق والكويت من ناحية أخرى، لا تشكل مثارا للنزاعات، ويمكن التوفيق بين مصالح الدولتين السعودية والعراقية في حالة ظهور البترول أو غيره من مصادر الثروة، على نحو ما حدث في المنطقة المحايدة بين الكويت والسعودية. الأصل في إنشاء هذه المناطق المحايدة تسهيل حركة الرعاة التقليدية دون تعقيدات سياسية. (9) جزر الطنب وأبو موسى العربية التي احتلتها إيران، وترتبط أهميتها باستراتيجية إيران في التحكم المطلق في مضيق هرمز، بالإضافة إلى احتمالات الكشف البترولي حول هذه الجزر، كما هو الحال في كثير من مناطق الخليج. (10) منطقة البوريمي كمشكلة كامنة الآن بين السعودية وعمان والإمارات المتحدة. (11) منطقة بيحان وحدود السعودية مع اليمن الجنوبية. (12) الحدود الإدارية بين مصر والسودان: مشكلة كامنة لا تثور إلا في أوقات الاختلاف بين الدولتين. (13) إقليم العيسي والأفار (الصومال الفرنسي) يمثل آخر مستعمرة في الشرق الأوسط، وهي الآن مشكلة كامنة، وأهميتها الاستراتيجية واضحة على مدخل البحر الأحمر. (14) إقليم أذربيجان الإيراني: كانت فيه دوافع انفصالية عن إيران، بحكم العلاقات الدولية العالمية وتأثيرها على الشرق الأوسط. مشكلة كامنة في الوقت الحاضر. (15) نزاع حديث بين تركيا واليونان على تحديد المياه الإقليمية بسبب التنقيب عن البترول في المياه الإقليمية، ومثار النزاع يرجع إلى التداخل الكبير بين الساحل التركي والجزر اليونانية المواجهة للساحل، والقريبة منه، ويؤدي ذلك إلى صعوبة الاتفاق على تحديد المياه الإقليمية لكل من الدولتين في مسافات بحرية ضيقة، ولعل اتفاقا بالمناصفة - في حالة وجود البترول - يحل هذا النزاع.
وبعد
فإنه برغم أن الحدود السياسية الحالية عرض حديث إلا أنها أصبحت حقيقية مسلما بها، ومع ذلك يمكن التجاوز عن آثار هذه الحدود بتكريس ائتلاف أرضي أكبر من الأمر الواقع، خاصة وأن التعامل والتعاون الاقتصادي بين الدول العربية في الشرق الأوسط القلب حقيقة أكبر بكثير من حقيقة الحدود العارضة.
Unknown page