69

Jinusayid

جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ

Genres

بقي مايكل صامتا مذهولا يفكر بما سمع «نحن نضحي بالبعض لإنقاذ الكثيرين»، كانت الجملة فيها نوع من العقلانية البعيدة عن العواطف؛ فالموت واقع لا محال. - أنتم تقررون من سيعيش؟! لكن أخبرني من الذي أعطاكم دور الإله في شئون خلقه؟! - نحن لا نقوم بدور الإله ولسنا فرحين بما نفعل، وليس همنا من سنفقد، بل كم سننقذ، لكن أخبرني أنت، ماذا كنت ستفعل لو كنت في مكاني؟ - أنا لا أضع نفسي في هذا المكان مهما حصل، لن أكون أداة قتل بيد المجرمين، لن أعطيهم معلومات من يجب قتلهم حتى لو اضطررت للانتحار، لن أقوم بهذا العمل المخزي والمهين. إن أفعالكم هذه تتنافى تماما مع تعاليم الدين اليهودي، ألم تقرأ عن موسى بن ميمون أنه قال: «لو أن الوثنيين خيروا اليهود وقالوا: أعطونا واحدا منكم لنقتله وإلا سنقتلكم جميعا، فعليهم أن يختاروا الموت جميعا ولا أن تزهق روح يهودي.» - لكن بهذه الحالة سيفنى اليهود ولا يبقى لهم أثر إلى الأبد. أقنعني ماذا نفعل؟ نتركهم يقتلون الجميع وننتظر الذبح نحن كذلك كالخراف في المسالخ؟ ماذا بوسعنا فعله ولم نفعله؟ أنا أردت أن أزيل الهم عن كاهلي قليلا بالبوح فيما أثقل علي، وأنت زدت ما أنا عليه من تأنيب الضمير. سارة كانت ستموت في نهاية الأمر، أرجوك تفهم الأمر. - ماذا تريدني أن أفعل الآن؟ - لا تفعل شيئا، فقط اسمعني، لا أريد شيئا آخر منك، فقط سماعي، سأجن إن بقيت أكتم هكذا، أريد أحدا من أهل الضحايا لأشرح وأبين موقفي أمامه، وأن يكون الشاهد الوحيد أمام تلك الأرواح التي لي يد في إزهاقها، ولطالما أنني كنت مرغما على ما فعلته.

بعدها جاء النادل ووضع كأسا كبيرة من الشراب أمامه، ووضع فنجان القهوة أمام مايكل، والمقبلات والفواكه في منتصف الطاولة، لم يستطع مايكل أن يأخذ رشفة واحدة من الفنجان، كانت نفسه لا تتقبل أي شيء بعد سماعه بموت سارة، وما يحصل في الخفاء لسكان الغيتو. - لماذا لا تحتسي القهوة؟ - لا أستطيع، لقد سدت شهيتي، أشعر بضيق تنفس شديد. - أنا آسف، لكن هذا الذي حصل والقادم أسوأ على ما يبدو. - إن سمحت لي، سأغادر المكان، بت لا أستطيع التحمل. - سأقبل بمغادرتك شريطة أن تعدني بالمجيء مرة أخرى. - أعدك.

خرج من الحانة وهو يركض من زقاق إلى زقاق لا يدري إلى أين وجهته، أو بالأحرى كانت وجهته كل الأمكنة إلا البيت ووجه أمه، شعر أن هنالك شيئا ما سيخنقنه؛ فالخبر قد جثم على صدره، انفجرت الدموع من عينيه مرة أخرى وعاد يبكي بشدة وبصوت مبحوح على قارعة الطريق، تذكر سارة عندما كانت صغيرة يلاعبها ويشتري لها الهدايا ويراها تطير من الفرح وتحضنه وتقبله، يوم كانا يركضان سويا عندما يوصلها إلى المدرسة، يوم كانت تغفو بحضنه وهو يقرأ لها قصة ما قبل النوم، كان أباها بعد وفاة والدهما.

بعدما هدأ قليلا وشعر ببرودة آثار الدموع على خده في تلك الليلة القارسة، مسح وجهه بكم ردائه، وبات يفكر «هل أخبرها بموت سارة، أم أجعل الانتظار يعطيها أملا بالعودة المستحيلة؟ أيهما أقل وطأ على القلب؟! يا إلهي! ألم كبير دفعة واحدة بقول الحقيقة، أم ألم صغير مستمر طوال العمر بكذبة الانتظار؟ لكن ما الذي يضمن تحملها صدمة الفقد؟ إنها سارة آخر العنقود المدللة، ابنتها الوحيدة، لا، لا، لن أخبرها بالحقيقة، لا يمكنني تحمل حدوث مكروه لها، الانتظار هو الحل .. نعم لا شيء غيره».

عند بداية الزقاق رأى أمه من بعيد واقفة على الشرفة متحملة البرد القارس وتنتظره، تأملها وهي لا تراه، وقال في نفسه: «آه لو تعلمين يا أمي كم أحمل من شؤم وبؤس وحزن اليوم، سامحيني لأنني سأكذب عليك بعد قليل، لكن ليس في اليد حيلة، من لنا أنا وديفيد إذا حدث مكروه لك أنت أيضا؟»

اقترب من المبنى أكثر فأكثر، فرأته، لوح إليها بيده مع ابتسامة كاذبة، فأسرعت هي إلى الداخل لتفتح الباب. - هيا أخبرني ماذا قال عن سارة؟ - دعيني أدخل أولا، سنتحدث بغرفتنا، وأخفضي صوتك لئلا يستيقظ الرجل الفظ ويسمعنا كلاما يذهب فرحتنا. - هيا ادخل بسرعة، والآن أخبرني عنها؟ - هي بخير، لكن مرضها سيطول الشفاء منه، ويجب أن تلقى عناية خاصة في المشفى. - وكم سيطول؟ كم سننتظر بعد؟

قال في نفسه: «العمر كله يا أمي، العمر كله.» - سألته ذلك، فأخبرني أن الطبيب يقول إن الأمر بيد سارة، كلما استطاعت التجاوب مع العلاج سريعا ستشفى وتعود إلى أهلها.

ابتهجت الأم وانفرجت أساريرها. - لقد أرحت قلبي يا ولدي. - سارة قوية وستعود قريبا، لا تقلقي.

استرسلت الأم تردد الترانيم والمزامير وتشكر الله الذي لطف بحال ابنتها وأراح بالها، وطلبت العون والرحمة منه بأن يعجل عودتها إليهم ، كان مايكل يسمعها من تحت الغطاء ودموعه تذرف دون إرادة، ويكتم بكاءه لكيلا يخرج صوتا يثير انتباهها. قال في نفسه: «ما أبشع هذه الحياة وأقذرها .. وما أبشع أن تكون ضعيفا إلى هذا الحد فيها، ترى كل يوم وجوه من قتلوا أهلك وسلبوا مالك ودارك وحريتك وكل شيء جميل في حياتك، ثم وضعوك في قفص كبير كفئران التجارب وليس بوسعك فعل أي شيء لهم حتى مجرد وضع عينك بأعينهم مخافة العقاب والعذاب الشديد، أي إهانة للإنسانية هذه؟»

الفصل الثاني والعشرون

Unknown page