آه يا سليم! إني أكتب هذا وقلبي يقطر دما، ويداي ترتجفان، وعيناي لا تريان ما أكتب لما حال بينهما وبين هذا القرطاس من الدموع، ولكن عزائي الوحيد أني أضحي في سبيل راحتك وسعادتك.
فإذا قرأت هذا فبادر بالكتابة إلى والدتك جابرا كسر قلبها، وإنها لأحق مني بالرثاء. وقد يهون عليك أن تعود بتصوراتك إلى ما كنت عليه منذ عشر سنين يوم لم يكن لسلمى صورة في ذهنك. أما والدتك فلن تستطيع نسيانها ولا يليق ذلك بك، وهي التي حملتك وأرضعتك ووقفت حياتها على تربيتك. وثق بأني لذلك أحبها وأؤثر راحتها على راحتي.
ولا بد لي قبل الختام من أن أودعك الوداع الأخير فربما لا أراك بعد الآن، وإن كانت صورتك لن تبرح هذا القلب الذي ملكتك وحدك إياه. وحسبي أن تذكرني في ساعات صفوك سواء أكنت بين الأحياء أم بين الأموات، فإني على الحالين لن أنسى هواك، وسأبقى إلى الأبد أحب محبيك وأبغض مبغضيك، وأرجو أن تصفح عن جرأتي هذه، ودم سعيدا سالما للمخلصة الوفية ...
سلمى
وما انتهى سليم من قراءة الخطاب حتى كان قد بلله بالدموع واشتد به الوجد والحزن فاستلقى على السرير وأطلق لنفسه عنان البكاء. وكان وهو يقرأ الخطاب قد لاح له أن يتفقد خطاب والدته الذي أشارت إليه سلمى، ولكن الحزن والهيام أنسياه ذلك، فبقي ممعنا في النحيب حتى جفت دموعه وجف ريقه في حلقه وكاد يختنق، ثم أحس بقشعريرة فالتحف بالغطاء وكان لا يزال متعبا لطول سهره بالأمس وشدة الهيام وكثرة البكاء، فأخذته سنة من النوم. •••
فلنترك سليما نائما، لعله يستريح من تلك الجواذب والدوافع، ولنرجع إلى حبيب وما تم له بعد وصوله مع والدته وشقيقته إلى البيت.
فإن والدته كانت أثناء سير القطار، وحديث شفيقة يدور مع أخيها حول أدما، تتردد في ذهنها خواطر من هذا القبيل، على أنها سرت لما رأت في حبيب ميلا إلى أدما. ولما وصلوا إلى البيت وغيروا ثيابهم، واغتسلوا من الغبار، كان الخادم قد أعد لهم طعام العشاء، فتناولوه وسارت شفيقة إلى فراشها عاجلا كجاري عادتها لأنها كانت خالية البال ساكنة العواطف، لا هم لها سوى مساعدة والدتها في تدبير أمر البيت والترتيب واللبس والطعام، وإذا انتهت من ذلك لا يبقى أمامها سوى النوم.
فلما توجهت تلك الليلة إلى فراشها خلت والدة حبيب به، وأخذا يتجاذبان أطراف الحديث، وكل منهما يفكر في أدما بغير علم الآخر.
فقالت الوالدة، وقد رأت حبيبا صامتا كأنه يفكر في أمر: «ما لي أراك منشغل البال يا حبيب؟ ألعلك تشكو من شيء؟»
فانتبه حبيب، وانتصب جالسا، وقال: «لا يا أماه، لست أشكو شيئا وإني بفضل دعائك ورضائك علي بكل خير وعافية.»
Unknown page