أنا جمهور،
أخضع لعدد من القوانين،
بمقدار ما عندي من أفراد،
كل كائناتي كيمائيا ملوثة،
وليس هناك علاج واحد،
لما يستحيل أن يخضع لسبب واحد.
ولذلك فنحن نحارب في جميع الجبهات، سواء كان الأمر وقاية أم علاجا. وأكدت قولها: جميع الجبهات؛ من نظام التغذية إلى الإيحاء الذاتي، ومن الأيونات السلبية إلى التأمل والتفكير.
وعلق على ذلك ويل بقوله: معقول جدا.
وقال باهو: ربما كان أكثر من معقول. هل حاولت مرة أن تتكلم كلاما معقولا مع مجنون؟ وهز ويل رأسه: أنا فعلت ذات مرة. ورفع خصلة الشعر التي وخطها المشيب والتي كانت تميل إلى أحد جانبي جبهته، وظهر تحت حد الشعر أثر جرح مثلم، شاحب اللون غريب الشكل وسط البشرة السمراء. وقال: لحسن حظي أن الزجاجة التي رماني بها كانت رقيقة جدا. وسوى شعره المنفوش ووجه بصره نحو الممرضة الصغيرة. وكان وجهه يتلألأ كله بنوع من المرح الفولتيري المريب وهو يقول: لا تنسي يا آنسة رادا أن لا شيء يطير بصواب من لا عقل له أكثر من العقل. وبالا جزيرة صغيرة يحيط بها إحاطة كاملة ألفان وتسعمائة مليون من مرضى العقول؛ ولذلك حذار من المبالغة في التعقل. وفي بلد المجانين لا يمكن أن يصبح العقل الكامل ملكا. إنهم يعدمونه بغير محاكمة.
وضحك ويل غير مبال، ثم صوب نظره مرة أخرى نحو الممرضة الصغيرة، وسألها: أليس لديكم من يطلب دخول مستشفى الأمراض العقلية؟ - عندما مثل ما عندكم؛ أقصد بالنسبة لعدد السكان. على الأقل هذا ما ورد في الكتب الدراسية. - ولذلك فإن السكنى في دنيا العقلاء لا تختلف عن السكنى في دنيا غير العقلاء. - ليس الأمر كذلك مع أولئك الذين تجعلهم كيمياء أبدانهم من مرضى العقول. هؤلاء يولدون عرضة للمرض. والمتاعب الصغيرة التي قد لا يلاحظها غيرهم تحطمهم تماما. ولقد بدأنا من عهد قريب فقط نكشف عن الأسباب التي تجعلهم عرضة للمرض، وبدأنا نتبناهم قبل أن ينهاروا. وما إن تم فرزهم حتى أمكننا أن نزودهم بقدر من المناعة. الوقاية كما ذكرت من قبل؛ وطبعا من جميع الجبهات في وقت واحد. - إذن فهناك فارق - حتى لمن قدر لهم أن يكونوا من مرضى العقول - بين أن يولد الإنسان في عالم عاقل أو أن يولد في عالم غير عاقل. - وهناك أيضا فارق بالنسبة للمصابين بأمراض عصبية. نسبة مرضى الأعصاب عندكم واحد لكل خمسة أو حتى أربعة. أما عندنا فالنسبة واحد لكل عشرين. وهذا الواحد المنهار يجد العلاج، في جميع الجبهات. أما التسعة عشر الذين يتماسكون فقد وجدوا الوقاية في جميع الجبهات. ويعود بي هذا الحديث إلى أولئك الأطباء الأمريكان، وكان ثلاثة منهم من أطباء العلاج النفساني، وأحد هؤلاء يدخن السيجار بغير توقف وفي لغته لكنة ألمانية. وقد وقع عليه الاختيار لكي يحاضرنا. ويا لها من محاضرة! وأمسكت الممرضة الصغيرة برأسها بين كفيها وقالت: لم أسمع قط شيئا مثلها. - في أي موضوع كانت؟ - كانت عن طريقة معالجتهم لمن تبدو عليهم أعراض عصبية. ولم نكد نصدق ما سمعنا. إنهم لا يحاربون أبدا في جميع الجبهات، إنما يحاربون في نصف جبهة واحدة. المريض عندهم لا جسم له إذا استثنيا الفم والشرج. إنه ليس كائنا عضويا، ولم يولد بهيكل عام أو بمزاج خاص. كل ما لديه طرفا جهاز هضمي، وأسرة، ونفس. ولكن أي نفس؟ إنها قطعا ليست العقل كله، أي ليست العقل كما هو على حقيقته. وكيف يمكن أن تكون كذلك في حين أنهم لا يأخذون تشريح بدن المريض في اعتبارهم، أو تركيبه الكيماوي الحيوي، أو وظائف أعضائه؟ العقل مستخلص من الجسد، هذه هي الجبهة الوحيدة التي يحاربون فيها، بل وليس في هذه الجبهة بأسرها، واستمر الرجل صاحب السيجار يتحدث عن اللاشعور. ولكن اللاشعور الذي أعاروه انتباههم هو اللاشعور السلبي؛ أي النفايات التي يحاول الفرد أن يتخلص منها بإلقائها في القاع، ولم يذكر كلمة واحدة عن اللاشعور الإيجابي، ولم يحاولوا مساعدة المريض على أن يفصح عن مكنون نفسه لدفعة الحياة أو لطبيعة بوذا. بل ولم يحاولوا أن يعلموه زيادة الوعي في حياته اليومية. وأنت تعرف نداء المينة: الآن في هذا المكان، وانتباه! وحاكت في ذلك طيور المينة، ثم واصلت حديثها قائلة: هؤلاء القوم يكتفون بترك مريض الأعصاب البائس يتمرغ في عاداته القديمة التي لا تجعله بكليته في مكانه وزمانه. والأمر من أوله إلى آخره بلاهة في بلاهة! والعجيب أن صاحب السيجار لم يعترف بذلك، وكان ماهرا في عرضه غاية المهارة؛ ومن ثم فإن الأمر عنده ليس بلاهة، إنما هو بالضرورة شيء إرادي، شيء ما يدفع المريض نحو مسلكه؛ كأن يكون مخمورا، أو أن يلوك لنفسه فكرة سخيفة حتى يعتقد في صحتها لمجرد ورودها في كتاب مقدس. ثم انظر إلى رأيهم فيما هو طبيعي. صدق أو لا تصدق أن الرجل العادي عندهم هو من يشعر باللذة الجنسية والذي يتكيف مع المجتمع. ومرة أخرى وضعت الممرضة رأسها بين راحتيها. ثم أضافت: إن ذلك أمر لا يتصوره العقل! إنهم لا يفكرون في جدوى اللذة الجنسية، ولا يفكرون في لون مشاعرك أو آرائك أو مدركاتك، ثم ماذا عن المجتمع الذي يفترضون تكيفك معه؟ هل هو مجتمع عاقل أو مجنون؟ وحتى إن كان عاقلا بدرجة قصوى، فهل من الصواب أن تتكيف معه تماما؟
Unknown page