Jawhar Insaniyya
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
Genres
هوامش
الفصل الحادي عشر
العلم: التفسير والتجريب
ربما يجدر بنا تقديم ملخص وجيز عن ماهية العلم. على الأرجح لن يكون معظم قراء هذا الكتاب من العلماء. فأنا أفترض، وفي الواقع أرجو، أن يحدث هذا. أولا: لأن عدد غير المهتمين بالعلم يفوق بكثير أولئك الذين درسوا بعض جوانب هذا الفرع المعرفي في الكلية أو الجامعة (يشاركني الناشر في التطلع إلى نطاق واسع من القراء). وثانيا: لأنني أريد أن أقدم لعامة الناس، بما في ذلك رجال السياسة والبيروقراطيين، فرصة لقراءة استعراض محايد - غير متحيز قدر استطاعتي - للتقنيات المعاصرة للتعامل مع الكائنات المعدلة جينيا في الجزء الثالث. وثالثا: لأن أصدقائي المتخصصين في العلوم سيسارعون إلى ادعاء وافتراض أني تجرأت وأقدمت على انتقادهم. ألا تعتبر الرغبة التنافسية، قريبة الطموح، صفة بشرية بحتة؟ ورابعا: لأني شخصيا مولع بآراء تيرانس كيلي،
1
الذي جرؤ على افتراض أن التكنولوجيا أحيانا تنتج علما، وليس العكس، وأحيانا كلما قل ما تنفقه الحكومة على العلوم الأساسية، كان هذا أفضل؛ وبالطبع لا حاجة بنا إلى قول إنه لقي معاملة سيئة من زملائه من المتخصصين في مجال العلوم.
إذا كان العلم يعني أي شيء - وهو في الواقع يعني المعرفة - فبالتأكيد كان أول من أشعلوا نارا علماء. لكني عرفت المعرفة التي تكتسب عبر التجربة والخطأ على أنها تكنولوجيا؛ أما المعرفة التي تكتسب عبر التفكير المنطقي فهي علم.
2
ولا تكفي الملاحظة والتجريب؛ فلا يعتبر رسم خريطة لمواقع النجوم في السماء علما تماما، مثلما لا يعتبر رسم خريطة لساحل إحدى الدول أو رسم خريطة لجينوم الإنسان علما. فالمعرفة العلمية تتمثل في معرفة «لماذا» تبدو النجوم كأنها تتحرك (فهي فعليا أجرام ثابتة بالنسبة للأرض)، أو «لماذا» يوجد شكل معين للخط الساحلي (يتكون عبر عوامل التعرية ومستويات البحر المتغيرة)، أو إلى «ماذا» يشير تسلسل الأدينين والسيتوسين والجوانين والثيامين في الدي إن إيه (إلى بروتينات مختلفة والتحكم في وظائفها). نستطيع جميعا توقع - دون معرفة السبب الأساسي - أن الشمس إذا غربت في نقطة معينة في الأفق في نحو الثامنة من مساء اليوم، فإنها ستفعل ذلك غدا في مكان مختلف قليلا، في موعد مختلف قليلا (إلا إذا كنا عند خط الاستواء؛ حيث لا تحدث تغيرات كثيرة). إلا أن حسابات المستكشفين الأوائل للسماء كانت دقيقة للغاية لدرجة تستحق الذكر.
في مصر، توصل بناة أهرامات الجيزة منذ 4500 سنة إلى تفاصيل فلكية غاية في الدقة (كلها بالطبع دون استخدام تليسكوبات). فيشير جانبان من كل من الأهرامات الثلاثة إلى جهة الشمال بدقة إلى حد كبير. إذا افترضنا أن هذا كان هدف بناة الأهرامات، فكيف أمكنهم تحقيق مثل هذا التراصف؟ لم يكن القدماء المصريون يعرفون البوصلة المغناطيسية، ولم يكن النجم القطبي (الذي يظهر حاليا جهة الشمال طوال الوقت في نصف الكرة الشمالي) يظهر في هذا الوقت في سمائهم ليلا. ربما استخدموا الشمس (لتحديد جهة الجنوب)، لكن ثمة طريقة نجمية أخرى اقترحت مؤخرا. ربما استطاع المهندسون المعماريون محاذاة الأهرامات من خلال مد خط بين نجمتين ساطعتين - واحدة تقع ضمن مجموعة الدب الأصغر والأخرى ضمن مجموعة الدب الأكبر - حتى الأرض؛ وحتما كان هذا الخط سيشير إلى الشمال. أقول إن هذه المحاذاة كانت «دقيقة إلى حد كبير»؛ لأن اتجاه جانبي الأهرامات ينحرف عن جهة الشمال بنحو بضع دقائق قوسية،
Unknown page