Jawhar Insaniyya
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
Genres
سنركز نحن على أربع صفات فقط صاحبت تطور الإنسان عن الرئيسيات الأخرى. تتمثل الصفة الأولى في حدوث تغير في العمود الفقري جعله يسير منتصبا. يعمل هذا على زيادة رؤيته للأفق ويحرر يديه في الوقت نفسه؛ فتستطيع مسح العرق من فوق جبينك وتقشير موزة وأنت تسير، لكن الشمبانزي يجلس حتى يفعل هذا. أما الصفة الثانية فتتمثل في حدوث تغيير في الطول النسبي للإبهام والأصابع الأخرى وفي العضلات التي تتحكم في حركتها؛ فنحن نستطيع ثني إبهامنا وتحريكها كي نمس بها أطراف أصابعنا الأربع الأخرى على نحو أفضل من الشمبانزي، فتسمح لنا القبضة الدقيقة المحكمة بالشعور بشكل الأشياء والتعامل معها على نحو مميز، فيستطيع بعضنا تعلم العزف على الكمان، أو استئصال الزائدة الدودية، في حين أن أداء الشمبانزي في كلتا هاتين المهمتين يكون غير متقن. أما السمة المميزة الثالثة فتتمثل في الأحبال الصوتية؛ فهي توجد داخل الحنجرة، التي تتنفس من خلالها كافة الرئيسيات، في مكان منخفض لدى البشر، وتوجد داخل صندوق صوت معقد بين قطعتين صغيرتين من الغضاريف، وقد نتج عن هذا قدرتنا على إصدار كم هائل من الأصوات المتنوعة - استمع فقط إلى المدى الصوتي للمغني لوتشيانو بافاروتي وتسجيلات ماريا كالاس - بينما لا يستطيع الشمبانزي إصدار صوت عدا النخير. ورغم هذا فإننا نولد بأحبال صوت بدائية في مكان مرتفع من الحنجرة، تماما مثل القرد، فلا يستطيع الأطفال الرضع إلا البكاء والأنين، رغم أنهم مثل الشمبانزي يستطيعون التنفس والبلع في الوقت نفسه؛ أما البشر البالغون فلا يمكنهم هذا؛ فالانخفاض البسيط في مكان الأحبال الصوتية في السنة الأولى تقريبا من عمر الإنسان هو ما يمده بالقدرة على الكلام. أما الصفة الرابعة فتتمثل في ملايين العصبونات والخلايا العصبية المسئولة عن التفكير والذاكرة، وعن القدرة على التفكير المنطقي. توجد هذه الخلايا في منطقة من الدماغ تسمى القشرة، وفي الواقع هي تؤدي الوظيفة نفسها لدى الشمبانزي والبشر؛ فالاختلاف الوحيد أننا نملك ثلاثة أضعاف العدد الموجود لدى الشمبانزي.
أعتقد أن اجتماع هذه الصفات الأربع هو الذي مكن الإنسان من توسيع نطاق بحثه، جسديا وذهنيا، أكثر من أي حيوان آخر. في تأكيدي على أن ما يميز الإنسان هو مجموعة من الصفات، أعمل بذلك على تطبيق تعريف التفرد الذي وضعه اختصاصي المناعة بيتر مدور على هذا النوع: «يختلف فرد عن غيره ليس بسبب امتلاكه صفة فريدة، وإنما بسبب امتلاكه خليطا فريدا من الصفات.»
5
من ناحية أخرى، تعتمد قدرة الإنسان المضاعفة على البحث كثيرا على استخدامه للغة التي ربما أكون قد استخدمتها للتركيز على صفة الكلام وحدها. في كتابه المذهل «التهيؤ والثرثرة وتطور اللغة» فعل عالم الأنثروبولوجيا هذا بالضبط، فهو يقول إن الثرثرة بين البشر هي امتداد لعملية التنظيف بين القردة، وإن الثرثرة هي التي أدت إلى تطور اللغة؛ ومن ثم إلى سلوك الإنسان المعقد. لكن في حين يسهم الكلام دون شك في قدرة الإنسان المتفوقة على السعي الدائم، فإنه لا يفسر وحده ظهور الحضارات وتطور الثقافة؛ فالثرثرة لم تشيد هرم خوفو الأكبر، ولم تؤد إلى رسم الموناليزا أو اكتشاف النظرية النسبية، وإنما هذا كله نتاج لسعي مستمر لا نهاية له.
ظهرت الفروق التشريحية الأربعة بين الإنسان والشمبانزي التي ركزت عليها؛ المشية المنتصبة، واليد سلسة الحركة، والأحبال الصوتية المتطورة، والكم الهائل من العصبونات في قشرة الدماغ، بالتدريج على مدار 5 ملايين سنة مضت أو ما شابه. حدث ظهورها بالصدفة المحضة، وكان فقط نتيجة لحقيقة أن أصحابها، أنواعا متعاقبة من الرئيسيات، أنجبوا آخرين من النوع نفسه. لا تعبر أي صفة عن تغير مفاجئ وكبير في الشكل، تماما مثلما حدث عند تطور الأسماك إلى حيوانات أرضية، وتطور الزواحف لتصبح طيورا. وتتحدد كل صفة تشريحية من هذه الصفات الأربع بعدد من الجينات. حتى الآن لم تكتشف كافة هذه الجينات، ولكن من المحتمل أنها تنتمي إلى عائلات متشابهة لدى البشر والشمبانزي. وكما سنرى في الفصل الرابع، تشبه الجينات المسئولة عن الصفات البشرية الجينات المحددة لوظائف مشابهة في الرئيسيات الأخرى، فيما يتعلق بموضوع البحث ربما يبدو من غير الضروري افتراض وجود جينات «بشرية» من أجل تفسير الفروق الأساسية بين الإنسان والقرد.
ينطبق هذا الاستنتاج على كافة الوظائف الأخرى لدى البشر والشمبانزي أيضا، ويتوافق بسهولة مع حقيقة أن تكويننا الجيني يشبه تكوين الشمبانزي بنحو 95٪،
6
إلا أن وجود اختلاف بنسبة 5٪ ما زال يعني تفرد الإنسان بأكثر من ألف جين في مقابل تلك التي يشترك فيها مع الشمبانزي، ويواصل معتنقو وجهة النظر هذه البحث عن جينات مميزة للإنسان. لا أعتقد أنهم سيجدونها؛ فتفسيري أنا، الذي يشاركني فيه كثير من علماء الجزيئات، مختلف؛ فنحن نرى أن «التشابه بنسبة 95٪» يشير إلى أن كافة جينات الشمبانزي والبشر متشابهة في المتوسط بنسبة 95٪ ومختلفة بنسبة 5٪، فبعض الجينات، مثل سلسلة ألفا التي تدخل في تكوين الهيموجلوبين، تكون متماثلة، بينما تكون بعض الجينات الأخرى، مثل الخاصة بالأنسولين، متطابقة تقريبا، في حين تكون جينات أخرى مختلفة عن بعضها بنسبة تفوق 5٪، لكن حتى هذه الجينات تنتمي إلى العائلة الجينية نفسها، فتحدد الوظيفة نفسها لدى البشر والشمبانزي. فلا توجد جينات «بشرية» تختلف عن جينات «الشمبانزي» على الإطلاق (شكل
1-1 ).
شكل 1-1: التكوين الجيني للشمبانزي والبشر. انظر النص والهامش رقم 26 في الفصل الثاني من أجل الحصول على مزيد من التفاصيل.
Unknown page