Janaqu Masamir Ard
الجنقو مسامير الأرض
Genres
قسم الشيخ العربي
الأراضي التي زرعها البنك وموظفوه قدرت بثلاثة آلاف فدان، أو أكثر بقليل، في الواقع كانت هذه الأرض بورا؛ تنمو فيها أشجار الكتر، الطلح والسيال، وبعض الأعشاب الموسمية التي تخضر مع موسم المطر؛ مثل البوص، والنال والعدار، وقد حجزت هذه المساحة منذ عصر الاستعمار الإنجليزي كمراع للماشية؛ حيث يحيط بتلك المنطقة وبأعداد كبيرة بدو الحمران واللحويين، الذين يعتمدون في حياتهم على الرعي، وما كانت فدادين البنك لتثير إشكالية ما لولا أنها كانت كل ما تبقى من أراض غنية بالأعشاب للرعاة، حيث إن كبار التجار ظلوا يستولون على أراضي الرعي بشراهة في السنوات العشرين الأخيرة؛ مما دفع الرعاة إلى الهجرة إلى ما حول المدن والتجمعات السكنية، وقد تخلص كثير منهم من حيواناته، واشترى عربة ربع نقل وبيتا، وفتح دكانا أو مطعما، وعمد على حياة المدينة، ولكن الكثيرين منهم استعصموا بماشيتهم، وهؤلاء هم من أثار المشاكل.
دفع الرعاة بوثيقة قديمة منذ عهد الإنجليز تخصص المكان للرعي، ترسمه، تخططه، تحدد معالمه، ممهورة بختم وتوقيع الحاكم الإنجليزي في ذلك الزمان مستر غوردون باشا، يحتفظ بالوثيقة الشيخ عباس اللحوي، وهو أحد الشيوخ الأعراب في جراب من جلد الماعز، محشور في شنطة حديدية كانت تستخدم لتخزين الذخيرة من بقايا حرب الطليان والإنجليز، كانت تفوح منها رائحة وبر الشياه، وعبق عشرات المواسم المطيرة، ووهن الأزمنة التي تنسحب متباطئة كسولة، وعفونة طازجة لخيانات مختلف الحكومات الوطنية، وشتى الحكام الوطنيين، كانت تنتظر في صبر حذر، كفتيلة لغم قديم صدئ، طرح الشيخ العربي الوثيقة على الأرض مباشرة، على الرغم من المحاولات المميتة من قبل أعضاء اللجنة لإقناع الشيخ العربي بوضعها فوق طاولة كبيرة من الصاج، كانت تتوسط جمهرة الخصوم والمصلحين، قرئت على عجل وكأنها محفوظة مدرسية، ثم حلف شيخ العرب بالطلاق على أنه إذا لم يتنازل موظفو البنك عن الأرض بما زرعوه عليها، أنه سيفعل ما لا تحمد عقباه، مؤكدا أنه لا يخشى الحكومة إطلاقا، ما دامت عصابة من البلطجية والسفهاء تقلع حقوق الناس نهارا جهارا، وختم حديثه قائلا: «السواي مو حداث!»
ودون أن يستمع لما قيل بعد ذلك، طوى وثيقته في رفق وأناة وخرج، تبعه في صمت سبعة من أولاده وكبار عشيرته، ووصل إلى مسامعهم بعد يومين أن مدير البنك علق قائلا: ورقته دي خليه يبلها ويشرب مويتها، هو قايل الإنجليز لسع قاعدين؟ ظاهر عليه من ناس أهل الكهف.
أعضاء لجنة المصالحة زعموا بحكم ما لهم من معرفة وثيقة بأمزجة العرب، نابعة من معايشة لصيقة أن بعض المال والاعتذار سوف يبطل ثورة شيخ العرب، ويحولها في الغالب إلى تكبيرة فرح، وبالفعل حدد مبلغ من المال كبير أضيف إليه وعد بهبة إلى شيخ العرب، مقدارها مائة جوال من الذرة بعد الحصاد، وتم إرسال المبلغ والوعد مع وفد الصلح رفيع المستوى، حيث أكرمهم شيخ العرب، مبديا رفضا ضعيفا للمال والوعد، ولكنه سرعان ما عاد وتسلمه جبرا لخاطرهم! فيما بعد فسر أحد أعضاء الوفد أن قبول الشيخ المال بهذه السهولة، يعني أنه أخذه كحق لا كرشوة، وهذا يعني أنه لا يزال على موقفه الأول، لم يصدقه أحد، فالبعض متشائم تسيطر عليهم روح التشكك، وشيخ العرب بنفسه أكد على أن إكرام الزائرين لا يتم بأقل من قبول وساطتهم، وذاك إرث قديم يحرصون على صونه، وإذ قال شيخ العرب فإنه يعني ما يقول، قال العضو المتشكك: ولكنه حلف بالطلاق!
قالوا ساخرين: العربي لو ما حلف بالطلاق في اليوم ثلاث مرات يكون مريضا!
كانت في نفس المتشكك خيوط منطق واهنة أخرى، لكنه فضل الاحتفاظ بها حتى لا يصنف طابورا خامسا، كما أن به رغبة صميمة في أن تستمر علاقته بالبنك مزدهرة وسالمة من عوارض الزمان والمكان، ما لك وموضوع شيخ العرب؟ قالوا: إن البنك عندما صنف أعداء التقدم والمدنية بالحلة، الموسومين بتهمة خلق المشاكل، وإثارة النعرات القبلية، وادعاء المعرفة، أخذت أنا وصديقي مواقع في رأس القائمة، فليس غريبا إذن أن يستجوبني مكتب الأمن في بناياته المرعبة خلف السوق، وكانوا يطالبونني بالإجابة عن سؤال واحد، داروا حوله كثيرا، وقد كانوا بدءوا به أيضا، وخرجت منهم دون أن أشبع شهية السؤال فيهم؛ لأنهم انتهوا به كذلك: لماذا جئت إلى الحلة؟
أنا ذاتي لم أسأل نفسي هذا السؤال، وكان حريا بي أن أفعل، لقد زرنا أنا وصديقي أماكن كثيرة؛ قرى، مدنا، ومفازات، ومنذ أن طردنا للصالح العام قبل خمس سنوات ما استقر بنا الحال في مكان أكثر مما استقر بنا بالحلة؛ حيث تزوجت أول امرأة أحبها، وأعرفها في حياتي، وهي ألم قشي، وللمرة الأولى فلحت الأرض، وصار لي بيت، وأرض خاصتي، وأظن ذلك من بعض حكمة خلقنا؛ إعمار الأرض.
لا أذكر كيف كنت أجاوبهم، ولكنني ذكرت اسم ألم قشي أكثر من عشرين مرة، على الرغم من أنهم لم يطرحوا علي ولو سؤالا عرضيا عنها، قالوا إنهم يعرفون عني وعنها كل شيء، ولكنهم لا حاجة لهم بهذا الذي يعرفون، إنهم يريدون معرفة شيء واحد فقط: لماذا جئت إلى الحلة؟ بيني وبين نفسي أعرف أن هذا السؤال هو المفتاح السحري لدائرة إبليس عند طواسين الحلاج، إذا قبلت به دخلت الدائرة اللعينة التي تحتوي في بطنها على أخرى، كلما انغلقت واحدة انفتحت واحدة، فيستحيل الخروج إلا للدائرة السابقة فقط؛ لذا كنت بغريزة ميتافيزيقية أنزلق على سطح الدائرة، ولا أحفر فيها، حذر الولوج، وهو ما يعرفه الأمنيون بالزوغان من الإجابة، وغالبا ما يعالج هذا المرض الخطير بالضرب في الرأس مباشرة، لكنهم لم يفعلوا؛ ظنا منهم أن الوقت تجاوز هذا الأسلوب فضرره أكثر من نفعه.
جهنم، جهنم عديل
Unknown page