Jamic Bayan
جامع البيان في تفسير القرآن
أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا
يعني بقوله يرعى: يصغي بسمعه إليه مفرغه لذلك. وكأن الله جل ثناؤه قد أمر المؤمنين بتوقير نبيه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، حتى نهاهم جل ذكره فيما نهاهم عنه عن رفع أصواتهم فوق صوته وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض وخوفهم على ذلك حبوط أعمالهم، فتقدم إليهم بالزجر لهم عن أن يقولوا له من القول ما فيه جفاء، وأمرهم أن يتخيروا لخطابه من الألفاظ أحسنها، ومن المعاني أرقها، فكان من ذلك قولهم: { راعنا } لما فيه من احتمال معنى ارعنا نرعاك، إذ كانت المفاعلة لا تكون إلا من اثنين، كما يقول القائل: عاطنا وحادثنا وجالسنا، بمعنى افعل بنا ونفعل بك.
ومعنى أرعنا سمعك حتى نفهمك وتفهم عنا. فنهى الله تعالى ذكره أصحاب محمد أن يقولوا ذلك كذلك وأن يفردوا مسألته بانتظارهم وإمهالهم ليعقلوا عنه بتبجيل منهم له وتعظيم، وأن لا يسألوه ما سألوه من ذلك على وجه الجفاء والتجهم منهم له، ولا بالفظاظة والغلظة، تشبها منهم باليهود في خطابهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بقولهم له:
اسمع غير مسمع ورعنا
[النساء: 46]. يدل على صحة ما قلنا في ذلك قوله:
ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم
[البقرة: 105] فدل بذلك أن الذي عاتبهم عليه مما يسر اليهود والمشركين. فأما التأويل الذي حكي عن مجاهد في قوله: { راعنا } أنه بمعنى خلافا، فمما لا يعقل في كلام العرب لأن «راعيت» في كلام العرب إنما هو على أحد وجهين: أحدهما بمعنى فاعلت من «الرعية»، وهي الرقبة والكلاءة. والآخر بمعنى إفراغ السمع، بمعنى أرعيته سمعي. وأما «راعيت» بمعنى «خالفت»، فلا وجه له مفهوم في كلام العرب، إلا أن يكون قرأ ذلك بالتنوين ثم وجهه إلى معنى الرعونة والجهل والخطأ، على النحو الذي قال في ذلك عبد الرحمن بن زيد، فيكون لذلك وإن كان مخالفا قراءة القراء معنى مفهوم حينئذ. وأما القول الآخر الذي حكي عن عطية ومن حكى ذلك عنه، أن قوله: { راعنا } كانت كلمة لليهود بمعنى السب والسخرية، فاستعملها المؤمنون أخذا منهم ذلك عنهم فإن ذلك غير جائز في صفة المؤمنين أن يأخذوا من كلام أهل الشرك كلاما لا يعرفون معناه ثم يستعملونه بينهم وفي خطاب نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولكنه جائز أن يكون ذلك مما روي عن قتادة أنها كانت كلمة صحيحة مفهومة من كلام العرب وافقت كلمة من كلام اليهود بغير اللسان العربي هي عند اليهود سب، وهي عند العرب: أرعني سمعك وفرغه لتفهم عني. فعلم الله جل ثناؤه معنى اليهود في قيلهم ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن معناها منهم خلاف معناها في كلام العرب، فنهى الله عز وجل المؤمنين عن قيلها للنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يجترىء من كان معناه في ذلك غير معنى المؤمنين فيه أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم به. وهذا تأويل لم يأت الخبر بأنه كذلك من الوجه الذي تقوم به الحجة. وإذ كان ذلك كذلك فالذي هو أولى بتأويل الآية ما وصفنا، إذ كان ذلك هو الظاهر المفهوم بالآية دون غيره. وقد حكي عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: «لا تقولوا راعنا» بالتنوين، بمعنى: لا تقولوا قولا راعنا، من الرعونة وهي الحمق والجهل.
وهذه قراءة المسلمين مخالفة، فغير جائز لأحد القراءة بها لشذوذها وخروجها من قراءة المتقدمين والمتأخرين وخلافها ما جاءت به الحجة من المسلمين. ومن نون «راعنا» نونه بقوله: { لا تقولوا } لأنه حينئذ عامل فيه. ومن لم ينونه فإنه ترك تنوينه لأنه أمر محكي لأن القوم كأنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: { راعنا } بمعنى مسألته إما أن يرعيهم سمعه، وإما أن يرعاهم ويرقبهم على ما قد بينت فيما قد مضى فقيل لهم: لا تقولوا في مسألتكم إياه راعنا. فتكون الدلالة على معنى الأمر في «راعنا» حينئذ سقوط الياء التي كانت تكون في «يراعيه». ويدل عليها أعني على الياء الساقطة كسرة العين من «راعنا». وقد ذكر أن قراءة ابن مسعود: «لا تقولوا راعونا» بمعنى حكاية أمر صالحة لجماعة بمراعاتهم. فإن كان ذلك من قراءته صحيحا وجه أن يكون القوم كأنهم نهوا عن استعمال ذلك بينهم في خطاب بعضهم بعضا كان خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره، ولا نعلم ذلك صحيحا من الوجه الذي تصح منه الأخبار. القول في تأويل قوله تعالى: { وقولوا انظرنا }. يعني بقوله جل ثناؤه: { وقولوا انظرنا } وقولوا أيها المؤمنون لنبيكم صلى الله عليه وسلم: انظرنا وارقبنا نفهم ونتبين ما تقول لنا وتعلمنا. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { وقولوا انظرنا } فهمنا بين لنا يا محمد. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { وقولوا انظرنا } فهمنا بين لنا يا محمد. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. يقال منه: نظرت الرجل أنظره نظرة بمعنى انتظرته ورقبته. ومنه قول الحطيئة:
وقد نظرتكم أعشاء صادرة
للخمس طال بها حوزي وتنساسي
Unknown page