فقال الدمشقي: «لا هذا ولا ذاك، ولكن النكبة جاءتنا من الخارج، ولعلك تسمع بالمماليك الذين يحكمون الديار المصرية وكبيرهم الآن علي بك؟»
فأجفل السيد عبد الرحمن عند سماعه اسم علي بك، وتذكر ما ناله من النكبات على يديه، فقال وهو يشرق بدموعه: «نعم سمعت بأولئك المماليك وكبيرهم المذكور، ولكن ما علاقتهم بهذه البلاد؟»
فقال الدمشقي: «لقد أرسل علي بك هذه الحملة لفتح هذه البلاد والاستيلاء عليها، وسمعنا أن هذه الحملة كثيرة العدد والعدة، ويتولى قيادتها محمد بك أبو الذهب صهر علي بك، وقد استولت على سواحل سوريا وما فيها من السفن بمساعدة الشيخ ضاهر الزيداني، كما سمعت بأنها فتحت طبريا ونابلس وغيرهما، وبأنها الآن في طريقها إلى هنا؛ ولهذا فالباشا وأهل المدينة كلهم في قلق عظيم، ولعلكما مررتما بأسوار المدنية وشاهدتما ما يجري فيها من أعمال الترميم والتحصين استعدادا للدفاع.» •••
استعاذ السيد عبد الرحمن بالله من شر هذا الخطر الجديد، وتذكر هو وعلي خادمه تلك الليلة التي قضياها في الجامع الأزهر مع اللاجئين إليه فرارا من الجنود الخارجين في تلك الحملة، ثم أراد معرفة الأسباب التي أدت إلى إرسالها، فقال لمحدثه الدمشقي: «وما الذي دعا علي بك إلى مد عدوانه إلى هذه البلاد، هل وقع خلاف بينه وبين الباشا هنا؟»
فقال الدمشقي: «لم يحدث أي شيء يدعو إلى هذا العدوان، ولكن ذلك المملوك الجبار الطاغية تمرد على الدولة العلية وطرد الباشا ممثلها من مصر، ثم لم يكفه هذا فبعث بصهره هذا القادم إلينا لفتح الحجاز بحجة الانتصار لشريف مكة وتأديب الخارجين عليه. وعلى كل حال ما أرى إلا أن الدوائر ستدور على الباغي بإذن الله، وسوف ندافع عن بلادنا تحت راية مولانا الخليفة المعظم، وما النصر إلا من عند الله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.»
وتحقق السيد عبد الرحمن من بعد ما سمعه من الدمشقي في المقهى، أن في بقائه في دمشق أكبر الخطر على حياته، ولكنه قال لنفسه: «كيف أغادر هذه المدينة قبل استكمال البحث عن ولدي فيها؟» وبقي صامتا يفكر في هذا الأمر وكله حيرة وقلق واضطراب.
ولم يسع خادمه الوفي إلا أن يشاركه حيرته فبقي صامتا هو الآخر، وإن استقر رأيه على أن يتبع سيده كظله إلى كل مكان يحل فيه، ليكون عونا له في كل ملمة، ويفديه بحياته إذا اقتضى الأمر ذلك.
أما الدمشقي فأدرك ارتباكهما، وحسب أنها خائفان لأنهما غريبان، فمال على السيد عبد الرحمن وربت كتفه متلطفا وقال: «لا تخف يا سيدي؛ فأنت وصاحبك في حمانا، وثق بأن كل دمشقي لا يتأخر عن تقديم حياته وكل ما يملك فداء لضيفه، وإذا تنازلتما بترك الفندق الذي تنزلان به لتقيما معي بمنزلي حتى يقضي الله بما شاء في أمر الحرب المنتظرة، فإني أعد ذلك شرفا لي وحسن حظ.»
فأعجب السيد عبد الرحمن بمروءة الرجل وشهامته ولطف عباراته مما يدل على طيب عنصره وكرم أخلاقه، وشعر كأنما أزيح عن صدره حمل ثقيل، فالتفت إليه وعيناه مغرورقتان بدموع التأثر وقال: «بورك فيك يا سيدي وفي أهل دمشق جميعا، إنكم حقا لأهل لكل كرامة وفخار، وأعتقد أن الله ناصركم على أولئك الباغين.»
ثم نهض مستأذنا في الانصراف بعد أن شكر له أريحيته وكرمه وعرفه اسمه واسم علي، كما عرف أن اسمه هو سليمان، فألح عليهما في قبول دعوته إياهما إلى الإقامة بمنزله، ولما رأى إصرارهما على البقاء في الفندق أعطاهما عنوان منزله ليقصدا إليه في أي وقت، ثم نهض ليوصلهما إلى الفندق ويطوف بهما خلال ذلك بعض أسواق المدينة وشوارعها.
Unknown page