و«فليكوفسكي» وهو يقوم بهذه التلفيقة الكبرى، يعمد إلى ترجمة «نتر» ومرادفاتها بالقصة إلى ملك، وهي إن صلحت للدلالتين إله وملك، فإنها تستعمل عادة للإشارة للآلهة، أما «جب» إله الأرض، وحفيد «رع آتوم» فيصبح عند «فليكوفسكي» الأمير الملكي الذي فقد عرشه بعد غرق أبيه بمعجزة البحر الملفوق بالعصا السحرية، ولأن حجر العريش فيما يبدو كان تسجيلا لحالة هامة من حالات الكسوف، فقد قام جب بالدور المطلوب منه حسب نص التعويذة والذي من أجله وجد أصلا هو وأشقاؤه من آلهة؛ فخلقهم كان بغرض حماية «رع آتوم» من «أبوفيس».
لكن من المهم هنا أن نسجل للعالم البارع «فليكوفسكي» سقطة لا تليق به؛ فالسرد هنا جميعه يتناول «حربا خاضها الفرعون - حسبما يقول - ضد الملك الهكسوسي «أبوفيس»، إذن لم تكن مطاردة ضد الإسرائيليين» - حتى لو أخذنا بتزويره - وحتى يلتقي النص مع الزمن الذي حدده لدخول الهكسوس، وهو ذات الوقت الذي خرج فيه بنو إسرائيل، «فلا بد أن يكون الملك الهكسوسي ليس «أبوفيس»، إنما يجب أن يكون «سالاتيس» أول ملوك الهكسوس على مصر؛ لأن «أبوفيس» الأول وليس الثاني أو «أبوب الأول» هو الملك الرابع من ملوك الهكسوس الفعليين على مصر، وليس ملك الغزو، ولو ذهبنا إلى كونه ربما كان «أبوفيس» أو «أبوب الثاني»، فإن ذلك يعني أن تلك الحرب قد حدثت في آخر عصر الهكسوس، وهو ما يبعد أربعة قرون عن عصر خروج بني إسرائيل حسب تاريخه هو وتزمينه للأحداث.»
الحقيقة أن الرجل رغم براعته، ورغم أنه أمتعنا فعلا بأكبر عملية تزوير وتلفيق، فإنه كبا حتى الآن لأكثر من كبوة، أما هذه فكانت سقطة شديدة. (5-3) تزييف دلالات بردية الأرميتاج
اكتشف بردية الأرميتاج المصرولوجي «جولنشيف»، وقام بترجمتها ودرسها وتحقيقها وتحليلها كل من «بيت وبرستد وإرمان وجن وجاردنر»، وهي محفوظة الآن بمتحف «ليننجراد»، وتحوي نبوءات الكاهن المرتل «نفررحو». وتدعي البردية أنها ألقيت في حضرة الفرعون «سنفرو» أحد أوائل ملوك الأسرة الرابعة من الدولة القديمة. وفي رأينا أنه قد دخلها على حالتها التي وصلتنا أكثر من خدعة: الأولى في كونها تحكي عن أحداث تخص عصرا، وكتبت في عصر آخر ونسبت إليه، وقد ذهبنا في كتاب «أوزيريس ...» «أنها كتبت في عصر الثورة في العصر المتوسط الأول في نهاية الدولة القديمة، وأعطيت قيمة تقليدية - حيث القديم يكتسي القداسة والتبجيل - بنسبتها إلى عصر موغل في القدم، عصر «سنفرو» قبل عصر الثورة بقرون طوال.» «أما الخدعة الثانية فهي في نسبتها لعصر موغل في القدم قبل الأحداث التي تروج لها بالفعل، مما يكسبها قدرة أعظم على التنبؤ.»
والخدعة الثالثة التي ربما جازت على كثير من الباحثين، فهي أنها استثمرت مرة ثالثة في عصر يخالف العصرين السابقين: عصر «سنفرو» وعصر الثورة، بأن أضيف إلى متنها الأصلي نصا إضافيا ألحق بآخرها، وهو النص الذي - بعد سرد أحداث الصراع الاجتماعي، وتسلل الآسيويين إلى البلاد - يضيف نبوءة بملك منقذ يأتي ويخلص البلاد من كبوتها، أشارت إليه باسمه المختصر «آميني». وذهب المؤرخون إلى أنه هو «آمنمحات الأول» مؤسس الأسرة الثانية عشرة من الدولة الوسطى، مما حدا بهم إلى تزمينها «بإثبات تاريخها في عصر ذلك الفرعون، وأنها كتبت في عهده ثم نسبت إلى أيام «سنفرو»، كي تتحول إلى لون من ألوان الدعاية لآمنمحات كملك عادل منقذ»، وهو ما نوافق عليه تماما. لكنا سقنا في المقابل عددا من القرائن التي تشير إلى أن «الجزء الأخير الذي يتنبأ بالملك المنقذ «آميني» هو فقط الذي تصح نسبته لعصر «آمنمحات»»، وأن هذا الجزء قد أضيف بالفعل أيامه أو قبل صعوده سدة العرش بزمن يسير، وكان معلوما باليقين للكاتب الذي أضاف تلك النبوءة أن «آمنمحات» لا بد سيصبح ملكا للبلاد. أما بقية متن الوثيقة فكان بالفعل يسبق عصر «آمنمحات» بزمان، «وأن ذلك الأصل قد تم تدوينه زمن الثورة، وبالتحديد أيام فوضى العصر المتوسط الأول»، وهكذا أصبحت الوثيقة تبدو بكاملها كرؤية تنبؤية بقدوم «آمنمحات».
أما السر في عدم اليقين من التأريخ الصادق لزمن الأحداث الواردة بها، أنها لم تدون بالفعل على النسخة التي وصلتنا إلا في عهد الدولة الحديثة، من قبل كاتب عاش في القرن 1500ق.م؛ حيث ظهرت له أهمية النص الأصلي الذي بدا موشكا على التلف، فقرر نسخه والاحتفاظ به، ولما لم يجد بردية خالية عنده قام بنسخها على ظهر بردية كان يستخدمها لإجراء حساباته الخاصة، وبذلك وصلتنا نبوءة «نفررحو» بالصدفة البحتة، بما تحويه من غموض ومن أغلاط كثيرة حدثت نتيجة النسخ عن نص قديم يختلف أسلوبه عن أسلوب عصر الناسخ.
وترجع أهمية الوثيقة لكونها - في رأينا - «دونت لأول مرة في عصر الثورة بالعصر المتوسط الأول»، لكنها بعكس «إبيور» الذي ركز اهتمامه على أحداث الثورة، فإنها «ركزت اهتمامها على تسلل الآسيويين للبلاد»، فألقت الضوء على ما أهمله «إبيور» وساقه في شذرات لا تعطي تفصيلا عن ذلك التسلل بشكل واف، وهنا يجدر بنا أن نضيف أنه ليست فقط مؤخرة البردية هي التي أضيفت إليها في عهد «آمنمحات»، بل إن بالمدخل شواهد واضحة على كونها بدورها تمت إضافتها في عهد «آمنمحات».
الوثيقة تبدأ بالملك «سنفرو» جالسا وسط حاشيته: «وقال لهم جلالته: يا إخوتي لقد أمرت بطلبكم لتبحثوا لي ... عن أي شخص يتحدث بكلام جميل وألفاظ منتقاة، عندما أسمعها أجد فيها تسلية، عندئذ سجدوا ... وقالوا ... يوجد مرتل عظيم للإلهة باست يا أيها الملك، اسمه نفررحو، وهو «رجل شعبي قوي الساعد» وكاتب حاذق الأنامل ... فقال جلالته: اذهبوا وأئتوني به ... فقال المرتل نفررحو: هل تريد كلماتي عما حدث أو ما سيحدث يا مولاي الملك؟ فقال جلالته: لا، مما سيحدث؛ لأن الحاضر قد أتى إلى الوجود يمر بنا، ثم «مد يده إلى صندوق مواد الكتابة، وأخذ قلما وقرطاسا ومدادا وكتب: كتابة ما تحدث به الرائي نفررحو». ابن مقاطعة عين شمس، حينما كان يفكر فيما سيحدث في الأرض، ويفكر في حالة الشرق حينما أتى الآسيويون بقوتهم» (ولنلحظ أن نفررحو من عين شمس بالدلتا، مما يجعله أقرب إلى معايشة أحداث التسلل البدوي بل وكان في مركز هذا التسلل في بوبسطة معبد الربة القطة باستت). ويقول نص كلام «نفررحو»:
فؤادي، لطالما تألمت من أجل تلك الأرض التي نشأت فيها.
وقد أصبح الصمت نقيصة.
Unknown page