لقد كان الموقف قبل انجلائه في بدر، يسعى لتأكيد العلاقة مع التوراة وأصحابها، بسرد القصص التوراتية في آيات قرآنية تؤكد تصديق نبوة النبي ليهود يثرب، وضمن تلك القصص تم تكفير حضارة مصر ممثلة في قوم فرعون الذين أجرموا في حق بني إسرائيل فغرقوا عقابا واستحقاقا، كما انتصرت الآيات للملك دواد الإسرائيلي وهو يقتل جالوت الفلسطيني ويقيم على أنقاض الفلسطينيين دولة إسرائيل، ثم تم الوقوف من حضارة العراق القديم ذات الموقف لأن ملكها النمرود جادل إبراهيم أرومة العبريين في أمر ربه فاستحق هو وآله دمار برج بابل والعذاب.
السؤال الملحاح لا يتحرج ولا يتراجع عن الاجتراء الحر يتساءل: ألا يكفر هذا الموقف فينا نصف هويتنا إن لم يكن معظمها، ويكفر الأسلاف والتاريخ، ويقطع مع الماضي، ويفقدنا الذاكرة الوطنية؟ وإذا كانت خطة الوحي قد استدعت، مصالحة يهود وكل ما ارتبط بها من آيات، فإن الحكمة الإلهية لصالح الموقف الجديد المعادي لليهود، لم تدخل ضمن خطة النسخ بقية البنود المرافقة لقصص مثل قصص فرعون وجالوت ونمرود، آيات ناسخة أو حتى رافضة أو حتى مراجعة لهذا الرتل من الإسرائيليات، أفلا يشرخ ذلك في الذات القومية تجاه الآخر المعادي المتفوق المحتل؟
فكيف نحل هذه الإشكالية دون أن نستهين بأي عنصر في ديننا الحنيف الجليل، ودون أن نفقد تواصلنا مع أصولنا الحضارية القديمة العريقة الأصيلة التي تشكل هويتنا؟
لا أتصور حلا يليق بجلال الوحي وتوقيره سوى إعادة قراءته غير منزوع من سياقه، مرتبطا بواقعه وأحداثه لنعلم حكمة السبب، حتى لا يتصادم الإيمان مع العزة الوطنية بأسلافنا العظماء، ولا يتضارب الوطني مع القومي، ولا يتناقض القومي مع الإيماني.
وهذا النوع من القراءة هو وحده الكفيل الآن برفع الالتباس في علاقة الإيماني بالقومي أو ما يمكن تسميته فك اشتباك. ومن جانب آخر يحقق مصلحة ضرورية هي رفع الانتهازية والاستخدام النفعي للدين ونصوصه حسب مصالح ذوي النفوذ؛ فنحارب إسرائيل بآيات ونصالحها بآيات، ونبني الاشتراكية بآيات ونفتح المجتمع الحر على السوق بآيات، وكي يظل النص القرآني في مكانه اللائق من ثقافتنا دون مصادمات تفرز الأسئلة الصعبة، وربما نكون قد أصبنا، وربما نكون قد أخطأنا، لكنا نحاول لوجه الوطن ما نبغي سوى الفهم وهو مطلب إنساني طبيعي. (6) حول خطاب الحق الديني في القدس
3
هناك حقيقة لا يجادل فيها عربي (على الأقل)، وهي أن إسرائيل استعمار إحلالي يقوم بإحلال اليهود محل الفلسطينيين. ومن هنا يجب مقارنته باليانكي وهو يغزو الشرق والغرب الأمريكي ويبيد هنوده الحمر، ومن بقي منهم كان من باب الحفاظ على فصيلة من الانقراض، لكن ما لا تفوت ملاحظته أن الهنود الحمر كانوا عبر السنين في أمريكا، ولم تقم أمريكا كدولة ثم دولة عظمى إلا بعد هجرة الرجل الأبيض إليها محملا بالناتج الحضاري المادي والمعنوي لزمنه. فحمل معه الثورة العلمية والمنهج الحر في التفكير والممارسة. أما ما تجب ملاحظته بشدة فهو أنه مع هذه المقارنة يجب أن نقارن أنفسنا بالهنود الحمر، وأن نترقب مصيرا مشابها إن بقينا عند ثوابتنا الكبرى المرفوعة أعلاما. وقد سبق واحتل العرب أرض الأندلس احتلالا استيطانيا، وهو أخف وطأة من الإحلالي. لكن مع رفع الأعلام الثوابت أجهض المشروع العلمي الرشدي وذهب ابن رشد إلى أوروبا فحاز ما يناسبه من تقدير وحاز العرب أيضا موقفهم من الحريات، فخرجوا من الأندلس. بينما أصبحت أمريكا قوة عظمى وإسرائيل قوة كبرى. من الحقائق أيضا أننا خضنا معاركنا دفاعا عن حقوقنا، وهي حقوق وليست أوهاما دينية كما تفعل إسرائيل، وليست كما يحولها البعض إلى المستوى الديني فتصبح أوهاما. ولأن الحق مع العرب فقد رفضوا قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة فلسطينية والأخرى إسرائيلية، وقرروا إعلان الحرب.
اللوحة التاريخية تقول إنه رغم أننا أصحاب حق، فقد تمت هزيمتنا هزيمة نكراء ... لماذا؟ معرفة الأسباب تكمن في الإجابة على سؤال آخر أهم: هل كان العقل حاضرا إبان سعينا وراء حقوقنا؟ نقول العقل مجردا الآن وليس ما يستتبعه من حريات ومناهج تفكير علمية وفكر نقدي بلا تحريمات ... إلخ، فقط نسأل: هل كان العقل كتفكير مجرد حاضرا؟
قبل ذلك كان المستوطنون اليهود قد بلغ عددهم في فلسطين حوالي ستمائة ألف نسمة، ما بين رجل وامرأة وطفل. جاءوا من أصقاع شتى ليتعرفوا على أرض فلسطين، وسط قسوة خطوات الاستقرار المعيشي الأول في المهجر. ومع ذلك كان في قدرتهم أن يجيشوا لهذه الحرب 67000 مقاتل، سبق وتدرب معظمهم تدريبا عالي الكفاءة في الحرب العالمية الثانية، ويحملون معهم الفكر المدني إلى جوار القدرة القتالية. واندرجوا جميعا رغم تمايزاتهم المتباعدة الطازجة تحت قيادة عسكرية واحدة. وإبان المعركة أسسوا مجتمعهم المدني بتأسيس أول برلمان ديمقراطي في أرضهم الجديدة.
فماذا كان على الجانب العربي؟
Unknown page