Ismacil Casim
إسماعيل عاصم في موكب الحياة والأدب
Genres
فرددنا على انتقاده ونحن نظن أن الزميل كتب جملته الأولى بغير روية ولا تدبر، وأنه لا يجب أن يهمل انتقاده لتسرعه فيه، وحسبنا أن ما سيتبع به مقاله الأول لا بد أن يجيء محكما بليغا مقنعا، فنقارعه الحجة بالحجة ، ونرجع إلى التواريخ وأقوال الفلاسفة والكتب السماوية لنؤيد أدلتنا ونثبت آراءنا؛ لأننا لا نكتب إلا ما نرى فيه النفع لوطننا وجامعتنا؛ ولأن الموضوع الذي طرقناه لا يمكن أن يشك في فائدته إنسان عنده قليل من الإدراك والتصور ومحبة الوطن والملة.
غير أننا - وا حر قلباه - لم نر في رسالة صاحبنا التي أدرجت بعدد أمس شيئا يؤبه به ويستحق الحفاوة والاعتناء.
وجدنا حضرة إسماعيل بك يدور في مقاله الطويل العريض حول نقطة واحدة لا يتحول عنها، وهي أنه لا يصح أن يقال إنه لا يوجد في مصر غير خطيب واحد، وهذا القول الذي ذكرناه نحن ورددناه غير مرة مؤملين أن يستفز أصحاب النخوة ممن لهم القدرة على الخطابة في الشئون المهمة، هو الذي أحفظ حضرة الزميل وأقامه وأقعده وجعله ينتقد علينا ويشفع الانتقاد بالرد على غير جدوى.
ولو أن حضرة المحامي الفاضل طرق باب البحث، وهو يعلم من نفسه القدرة على ولوج الباب الذي طرقه، لكنا سررنا وقلنا أنعم بهذا الوطني الغيور والكاتب المجيد والشيخ الخبير والمنتقد البصير. أما وهو يناظرنا بكلام مغلوط وعبارات مضطربة وتهكم مذموم وتعريض مستنكر وتنكيت مستهجن، لا يصلح إلا أن يذكر بين العامة لا في مواضع الجدل والبحث والتحقيق. فقد رأينا أن نجول معه هذه الجولة الأخيرة مزيفين ما جاء به من المحاولة والمغالطة والشرود عن الموضوع الأصلي، وبعد ذلك فإذا أحب أن يجيب على مقالنا بشيء جديد نظرنا فيه، فإن كان مكتوبا بقلم بليغ وفكر سام أحللناه محل العناية والاهتمام، وإلا أعرضنا عنه واشتغلنا من الخدمة العامة بما هو أنفع وأجل. فإن وظيفة الصحف فوق التشاغل بالأخذ والرد فيما لا طائل من ورائه، وشأن الجدال الأدبي أرفع من سفاسف الأقوال، ونحن أحوج إلى نشر شيء نافع أو التكلم عن موضوع خطير من إثبات شيء ثابت من نفسه؛ لأن البديهيات لا تحتاج إلى براهين، فالخطابة نافعة أمر لا يحتاج إلى تأييد، والقول بأن مصر لم يقم فيها الآن واحد من الخطباء الذين يقودون الأمة إلى القيام والعمل والارتقاء سوى خطيب واحد. أمر مقرر مشهود محسوس. إذن لم يبق فيما دار ويدور بيننا وبين إسماعيل بك من النقط الفرعية ما يدعو إلى كثرة القيل والقال.
استهل مقالته بقوله: «إني أشكر عزتكم كصحافي حر ينشر ما يرد إليه، ثم يعقب عليه ولكن بشرط مراعاة آداب المناظرة لا كما ذكرتم في التعقيب على مقالتنا المندرجة في العدد 180، وكنت أتعشم في فطانتكم أن تكونوا أول مقتد بخطيبكم الحبيب؛ حيث قال في خطابته بلزوم تجرد الصحافة من الشتائم والطعن والترفع عما يأتيه أصحاب الوريقات الساقطة منها.» ولسنا ندري ماذا أراد بهذه الجملة، ونحن لم نخرج عن أدب البحث في كل ما فندنا به أقوال حضرته، ومن دأبنا أن نعرض عن التعريض المستهجن، فكيف بنا نعمد إلى الطعن والسباب، ولكن ما لنا ولما يعزوه إلينا بلا دليل وقد قرأ القراء الأفاضل أقوالنا وأقواله، وعلموا أينا الذي شط عن جادة الأدب، أنحن وقد قمنا ننصر الفضيلة ونعضد الاجتهاد ونشجع الإقدام ونحث على الاقتداء بالنافع، أم هو وقد قام يحارب الفضيلة وينتصر للتراخي ويحسن الجبن والذل ويثبط العزائم والهمم.
ويقول بعد ذلك: «أن ليس من الحكمة أن يتعصب الصحافي لما ينشر، والكاتب لما يكتب والخطيب لما يقول، ويعده تنزيلا من عزيز حميد فيغضب لأي انتقاد عليه.» ونحن نقول إن الصحافي الذي يكتب اليوم بقلمه شيئا ثم يتحول عنه في الغد لغير سبب معقول أو دليل حي جديد لجدير به أن يسمى مذبذبا أو مرائيا أو متحولا، ومن ذا الذي يرضى بهذه السمة الرديئة والسمعة السيئة لنفسه، وإذا كنا لا نتعصب لما نكتب في مصلحة وطننا فلأي شيء نتعصب؟! ألآراء حضرة المحامي، وهي تخالف مصلحة الوطن على خط مستقيم؟! أما إن الكاتب الحر لا يجب عليه أن يسلك سبيل المغالطة ليوهم الناس صحة رأيه؟! فهذا ما لا نخالفه فيه، بل هو مذهب يجب أن ينتهجه الكتاب جميعا، ونحن في مقدمة الذين ينزعون إليه، ولكن حضرة المحامي الذي يقول ويجاهر به يعمل ضد ما يقول كما يتبين مما نشرناه من مقالة أمس وما سنوضحه اليوم، ويا ليتنا كنا نعثر في مقال حضرته بدليل واحد نقابله بدليل من عندنا ينقضه، ولكنا حتى الساعة لم نتوفق إلى ذلك؛ فإن أقواله كلها خالية من الأدلة، ونحن لم ننسب إليه شيئا لم يجئ في رسالته، ولكنا استخلصنا من لهجة كلامه أنه تحامل علينا وتحمل منا لإغفال ذكره من عداد الخطباء المصريين، وهذا شيء لا يحتاج إلى برهان لدى من قرأ كتابة حضرته واندفاعه فيها ضد الخطيب الوطني الوحيد، وهب أن ذلك يقتضي برهانا ناصعا فليس ثمة من دليل مقنع كتصديه لنا لكوننا أيدنا رصيفنا الغيور فيما أبداه وذكرناه في مجال الخطابة دون سواه، ومن المعلوم لدى من يعرفون إسماعيل بك أن حضرته شغوف بالتهافت على الخطابة في أي مكان كان - ناسب الوقت أو لم يناسب، دعي إليها أو لم يدع - ولكن ذلك كله كان منذ أعوام بعيدة، أما الآن فهو مثل أقرانه الذين يقدرون على الخطابة ولا يخطبون. فذكرنا مصطفى كامل باشا في كلام عام عن الخطابة في مصر، وإغفالنا إسماعيل عاصم بك من سياق الحديث، أمر جاء شديدا على نفسه، فتطوح إلى الاعتراض علينا دون أن يكون له حق في اعتراضه.
وبعد ذلك فإنا نرى حضرته قد أنفق ساعة من وقته هدرا بإيراده عبارات مقتضبة محرفة من أقوالنا، لا تشم منها رائحة أفكارنا، ولا ترمي إلى حقيقة مقاصدنا، ولبث يشير إلى «العامود» الثاني أو الثالث من الصحيفة الأولى أو الثانية من العدد 176 وخلافه، مما لا حاجة لنا إلى إعادته أو الرد عليه؛ لأنه شيء لا يفيد في نفس الموضوع، وإن كان أفاد حضرته في جعل مقالته ضافية الذيل ...
ثم أنتقل إلى قوله «قلتم إننا تألمنا من إغفال ذكر اسمنا من عداد الخطباء، والجواب عليه أنكم ما ذكرتم أسماء خطباء مصر ثم أغفلتم اسمنا حتى كانت تصح النسبة.» وردنا على هذا القول ينحصر في إيراد قوله «ومع ذلك فإن عزتكم من شبان مصر ومن كبار محاميها وخطبائها، وقد أصبحتم في عداد رجال الصحافة فيها، ولا يقال بوجودكم وأمثالكم بفقدان الخطباء من مصر»؛ فإن هذه الجملة بمفردها كافية للدلالة على أن حضرة الزميل تألم من إغفال ذكره، وكان يحب أن يقرن اسمه بجانب اسم مصطفى كامل باشا، لا أن يقال إنه لا يوجد سوى الأخير من الخطباء المصقعين في مصر. فلما أغفلنا ذكره وأسقطنا اسمه وغاظه ذلك ولم يجد من الصواب أن يقول لماذا لا تذكروني في جملة الخطباء، قال لماذا تقولون بوجود خطيب واحد في حين أنه يوجد غيره، وأنتم منهم وأمثالكم (وحضرته فيهم بالطبع) موجودون في مصر.
ثم قال «قلتم إننا ما علمنا حقيقة مرادكم، وهو تمنيكم نهضة قوية تستعيد سابق مجد مصر، والجواب على ذلك أن مقالتكم كلها بديهية ولا تحتاج لتأويل أو إمعان فكر، ولم تذكروا فيها مرادكم الذي ذكرتموه الآن، وحينئذ فلا عتب علينا إذا لم نعلم ما في صدوركم، ولا يعلم الغيب إلا الله.» والجواب على ذلك أننا لا نطلب منه أن يحيط علما بما في الصدور؛ فإن هذا بالطبع فوق قدرته، ولكننا نريد منه أن يعلم ما جاء في نفس مقالتنا الأولى؛ إذ قلنا «فيا أيتها الأوقات التي تصرمت، هل لك أن تعودي وتعيدي لنا نهضتنا الأولى التي كانت تمثلنا في مصاف الأمم الشريفة المشرئبة إلى الحرية والاستقلال.» وقلنا في آخر تلك المقالة «فهكذا ينبغي أن يفعل المصري الذي يرى نفسه كفؤا لأن يؤدي خدمة جليلة لوطنه، ويجد أن مقاله أهون شيء ينفع به وطنه.» فإذا كان حضرته قد قرأ ذلك كله فيما سلف ولم يفقهه، فليس لنا أن نناقشه؛ لأننا إنما نبسط الحقيقة ليفهمها من لا يجحد الحق ولا يصر على المكابرة، وإن كان قد قرأه ولم يفهمه فها نحن اليوم نعيده عليه، ونقول له إن ذلك يشتمل أو يدل على ما زعم حضرة الزميل أنه من مخبئات صدرنا.
ثم قال: «قلتم إننا خلطنا وشططنا كثيرا ونسبنا لكم القول بوجود نهضة وطنية قبل الاحتلال، والجواب عليه أولا بأن ألفاظ خلط وشطط لا تليق بآداب المناظرة والمحاماة، وثانيا إننا لم ننسب لكم القول بوجود نهضة وطنية قبل الاحتلال، بل أنكرنا عليكم قولكم بوجود نهضة وطنية عقب الاحتلال منذ عشرين سنة، وحينئذ يكون ما نسبتموه إلينا في تعقيبكم في غير محله.» ونرد على ذلك بأنه خلط في إدخال ما قبل الاحتلال بما بعده كما سنذكره، وشط في تحامله على مصطفى باشا وجحود أياديه على الناشئين؛ فإنه أفادهم بخطبته وجريدته ومدرسته وتآليفه وليس في هذين اللفظين خروج عن آداب المناظرة كما زعم؛ لأنهما حقيقتان واضحتان. وتنحيه مما نسبه إلينا من وجود نهضة وطنية قبل الاحتلال لا يفيده؛ لأنه قال في انتقاده: «أولا إنه عند دخول المحتلين مصر لم يكن فيها شيء اسمه النهضة الوطنية، ولم تر فيها غير شرذمة من قواد العساكر ثاروا ضد أمير البلاد ... إلخ.» فهل هذا القول لا يشتم منه أننا كنا نتكلم عن حالة مصر قبل الاحتلال إلى أن دخل المحتلون مصر؟ أليس التكلم عن الثوار أو عن نهضتهم أو عما في زمنهم يعد تكلما عما كان قبل وصول المحتلين إلى مصر؟ ألا يؤخذ من هذا أن صاحبنا يركن إلى المغالطة؛ لينقذ نفسه من غلطته، ومع ذلك فنحن لا نشتد في مناقشته ولا نبالغ في مؤاخذته؛ لأنه زج بنفسه في ميدان صعب على جائله.
Unknown page