لئن كان من استقلال بعض أمراء القاصية عن الخلافة العباسية ما دعا إلى فصم عرى الجماعة، فإن هذا الانفصال مهما كان نوعه نشأت منه أيضا فوائد عظيمة في عمران البلاد ورسوخ الحضارة العربية فيها، فبنو الأغلب في إفريقية، وبنو طولون وبنو عبيد في مصر، وبنو سامان في بخارى، وبنو بويه في شيراز، وبنو سبكتكين في غزنة، كل هؤلاء نسجوا على منوال بني العباس في بغداد، فصارت كل عاصمة من هذه العواصم بتراتيبها وعلمها مثل دار السلام مصغرة.
وكأي من قاعدة كقرطبة والقيروان والفسطاط ودمشق وبخارى وسمرقند وبلخ وهراة وأصبهان والري ومرو ونيسابور وشيراز ومراغة وهمذان وخوارزم بل سجستان وجرجان وطبرستان وقزوين وجوين وبست وسرخس وبيهق وأشر وسنة وفرغانة والصغد والشاش وطوس وغيرها من بلاد الشرق كانت آية في حركتها العلمية، وضع الأمويون أساسها، وترسم خطاهم فيها بنو العباس فألبست ثوب القطر الذي انتشرت فيه، ودخلت معظم هذه المدن في طور مدنية أصبحت معها كل واحدة منها دار علم وحكمة، تدرس فيها العلوم على اختلاف صنوفها باللغة العربية، والناس في أرض الترك والفرس والخزر يتقدمون كل يوم خطوة من التعرب، أما البربر في الغرب فإنهم أنشأوا بسيوفهم ممالك في تاهرت وسلجماسة وتلمسان والريف وفاس ومكناس، واستولوا على الأندلس لكن المدنية أضرت بهم لما
1
احتكوا بأهلها في البلاد الأندلسية فقضت عليهم كما قضوا عليها، فكان شأنهم شأن المغول في فك عرى المدنية الإسلامية وقلة الاستعداد للأخذ بمذاهبها؛ فإن مذاهب الترف استولت على صنهاجة ومنهم المرابطون فهلكوا فيها كما هلك قبل ثمانية قرون أسلافهم الفانداليون في شمالي إفريقية. وصف المقدسي الري في القرن الرابع، فقال: «إن فيه مجالس ومدارس وقرائح وصنائع ومطارح ومكارم وخصائص، لا يخلو المذكر من فقه، ولا الرئيس من علم، ولا المحتسب من صيت، ولا الخطيب من أدب، هو أحد مفاخر الإسلام وأمهات البلدان، به مشايخ وأجلة، وقراء وأئمة، وزهاد وغزاة وهمة.» ووصف قصر عضد الدولة في شيراز، وكان فيه ثلاثمائة وستون غرفة يجلس كل يوم في واحدة، فقال في خزانة كتبه: إن عليها وكيلا وخازنا ومشرفا من عدول البلد، ولم يبق كتاب صنف إلى وقته من أنواع العلوم كلها إلا وحصله فيها، وهي أزج
2
طويل في صفة كبيرة فيه خزائن من كل وجه، وقد ألصق إلى جميع حيطان الأزج والخزائن بيوتا طولها قامة في عرض ثلاثة أذرع من الخشب المزوق، عليها أبواب تنحدر من فوق، والدفاتر منضدة على الرفوف. لكل نوع بيوت وفهرستات فيها أسامي الكتب. وكان عضد الدولة
3
محبا للعلوم وأهلها فقصده العلماء من كل بلد وصنفوا له الكتب، ولا تظن أن عضد الدولة كان كأكثر الملوك يخرب أقاليم ليعمر له قصرا، بل كان عاقلا فاضلا حسن السياسة شديد الهيبة، أما أبوه ركن الدولة، وكانت إمارته أربعا وأربعين سنة، «فقد أصيب به الدين والدنيا جميعا لاستكمال خلال الخير فيه.»
ولقد كانت بخارى وسمرقند عاصمتي العلم على عهد السامانيين حتى كادت حضرتهم تماثل حضرة بني العباس، «وكانت بخارى في الدولة السامانية مثابة المجد، وكعبة الملك، ومجمع أفراد الزمان، ومطلع نجوم أدباء الأرض، وموسم فضلاء الدهر.» وكان في مراغة
4
Unknown page