وفي بلرم أنشأ العرب أول مدرسة للطب، وما عهد مثلها في جميع أوروبا، بل إن مدارس الطب في الغرب أنشئت بعد مدرسة صقلية العربية بأعوام، ومنها انتشر الطب في بلاد إيطاليا، وساعد أن الباباوات كانوا رحلوا إلى أفينيون من أرض فرنسا فخلا الجو للعلم العربي، وأخذ يسري إلى كل من استعد للأخذ بمذاهبه من الطليان، هذا مع أن المدنية التي أدخلها العرب إلى جزيرة صقلية كانت أضعف من مدنيتهم في مصر والأندلس، ودلت الآثار أن العرب لما خرجوا من هذه الجزيرة كانت أرقى من اليوم التي دخلوا فيها، فعظم تأثيرهم النافع في صقلية، والتحسين الذي يدخله شعب على شعب هو معيار نفوذ الحضارة التي يحملها الأول إلى الثاني على ما قال لبون.
وتقول آماري: إنه لا يوجد اليوم في صقلية كلها بناء واحد يرد عهده إلى الحكم العربي. ويقول حسن حسني عبد الوهاب:
16
إن جزيرة صقلية تفاخر، وحق لها الفخر، بأن فيها العزيزة والقبة والفوارة وفي بلرم ومدائنها الباسمة «البيضاء» ومعاملها الغنية ومارر وقلاعها التي كانت مما يذكر بالفخر خلال ثلاثة قرون على لسان الشعراء، كان لهم من الشهرة وسلاسة الشعر ورقته ما كان مثله لمن خلدوا قديما اسم قرطبة وإشبيلية وغرناطة.
المقارنة بين صقلية والأندلس
كانت صقلية أزهر الممالك الأوربية في الزمن الذي كان فيه العربي والرومي مرعيا جانبهما، مأخوذا بأيديهما، وكان أثر الرجال الذين ظهروا في جزيرة صقلية أقل بالطبيعة من أمثالهم ممن أنبغتهم الأندلس، والسبب في ذلك ضيق مضطرب هذه الجزيرة، وقصر الزمن الذي دام فيه حكم العرب عليها؛ وهذا لأنها كانت تبعا لإفريقية يتولى أمرها الآغالبة والعبيديون وغيرهم، وحكم الأندلس أعاظم رجال بني أمية ممن طالت أيامهم، وكانوا وطدوا النفوس على اتخاذها وطنا أبديا لهم لا يلتفتون إلى ما وراءهم إلا بقدر ما ترتبط أمة بأمة بعيدة، متفقة معها في النزعة الدينية والعواطف، وكانوا نقلوا كل ما رأوه وسمعوا به في بلادهم الأصلية من أسباب القوة والعلم والصناعة إلى الأندلس نقلا صحيحا وزادوا عليه بثقوب أذهانهم وبما تقتضيه طبائع الأقاليم التي نزلوها.
وإذا جسرنا على الاستنتاج من النتف القليلة التي اتصلت بنا من تاريخ صقلية العربية ندرك أن رجالها في العلم كانوا أقل عددا أو تأثيرا من رجال الأندلس، وإنا إذا عددنا في هذه مئات من النابغين، لا نستطيع أن نعد في صقلية عشرات من عيارهم، ومعظمهم من حملة الشريعة والآداب، ويقال: إن فيها ترجمت كتب أرسطو وأفلاطون، وليس في صقلية من الملوك والأمراء الذين تولوا أمرها من كانوا بشهرتهم أمثال عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الثالث والحكم ممن أظهروا نبوغا في حكم الأندلس.
وليس في العلماء الذين قادوا الأفكار فيها أمثال ابن رشد وابن زهر وابن باجة وابن الخطيب وأضرابهم، وهناك دواع أخرى في هذا التفوق في الأندلس، وهذه على بعدها من مواطن العروبة، هاجر إليها ألوف من صميم العرب وسكنوها وعمروها، وأثر في أنسالهم هواؤها، فجاء منهم غربيون شرقيون على أجمل مثال في الشعوب العاملة الذكية. أما صقلية فكان اعتمادها على أناس من العرب وكثير من البربر، وكانت الجزيرة مهاجرا للاتين الذين جلوا من إفريقية يوم فتح العرب لها، ثم جاءها العرب فاتحين في صقلية، فامتزجوا بأهلها، فلم يكونوا في الحقيقة أمة صقلية كما تكونت أمة أندلسية، وإن كان المسلمون في صقلية كثرة غامرة في أيام حكمهم وبعد زوال سلطانهم عنها.
آثار العرب في صقلية بعد قرون من رحيلهم
وتفيدنا الآثار التي وجدت في المقابر وغيرها
Unknown page