المقَدّمة [بقلم المعلق]
- بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وشفيع المسلمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإن هذا الكتاب (إرشاد السالك) في الفقه المالكي من أخصر المتون وأجمعها للأحكام الفقهية، فقد اشتمل على أحكام كثيرة لا توجد إلا في المطولات، كما أنه ترك أحكامًا أُخرى زدتها عليه في هامشه حتى تكون فائدته تامة، واستيعابه شاملًا، ولا شك أن القارئ سيجد في كثير من مواضع الكتاب غموضًا كان يجب أن يوضح بالشرح ولكني مقيد بالوقت القصير، وبالرغبة في الاختصار على ما كان، ولولا ذلك لشرحته شرحًا واسعًا يجعله في مصاف الكتب الكبيرة التي لا يحتاج الناظر فيها إلى الاطلاع على غيرها، ولعل الله يوفق في وقت قريب إلى تحقيق ما أصبو إليه ويصبو إليه كل محب للدين عامل على نشره بنشر كتبه، إنه نعم المولى ونعم المعين ونعم النصير.
طريقة الكتاب: يسير هذا الكتاب على طريقة مالكية العراق. ولهم آراء في الفقه تخالف آراء غيرهم من مالكية الأقطار الأخرى، فقد ترى فيه الرأي راجحًا قويًا وهو ضعيف عند غير العراقيين، وقد ترى فيه الرأي ضعيفًا وهو مشهور قوي عند غيرهم أيضًا، غير أن هذه الآراء المذكورة في هذا الكتاب مع مخالفتها لغيرها قد تكون قوية في الواقع مؤيدة بالدليل الذي تأويله إلا بعد التمحل والتخريج غير السديد، وقد تكون ضعيفة لا سند لها يمكن التعويل عليه إلا الرغبة في حملها على ما يرى أصحابها وهم في سبيل ذلك يركبون الشطط، ويبعدون عن سواء السبيل.
ومن أمثلة الآراء القوية في الواقع المؤيدة بالدليل قول المؤلف في باب الحيض في الاستمتاع بالحائض (ولا بأس بالاستمتاع بأعاليها شادة عليها إزارها) فإن المعتمد في مذهب مالك أنه يجوز للزوج الاستمتاع بأعالي بدن زوجته وأسافله حتى مباشرة ما بين السرة والركبة ما عدا الجماع، ولكن رأي المؤلف هو الأرجح لأن النبي ﷺ كان يأمر نساءه أثناء الحيض بلبس الإزار ويقصر تمتعه على غير ذلك قالت عائشة ﵂ في هذه المسألة (وكان يأمرنا أن نأتزر) أي نلبس الإزار، ولأن مباشرة ما بين السرة والركبة ربما أدت إلى الجماع المحرم فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ومن أمثلة الآراء الضعيفة التي لا يسندها دليل قوي قوله في الصوم في المفطر أن (لا بدخول ذباب وغبار أو حقنة إلخ) أي لا يفطر الصائم بدخول ذلك جوفه، فقد جعل الحقنة غير مفطرة وأطلق ذلك والصحيح أن الحقنة الشرجية مفطرة وأن الحقنة التي لا تفطر هي الحقنة في إحليل الذكر لأنها لا تصل إلى المعدة والأمعاء وكذلك في قبل المرأة على رأي في المذهب.
وهذا شأن أكثر الكتب فيها القوي والضعيف والغث والسمين. والمؤلف الأجر (١) إن شاء الله مادام يقصد بعمله وجه الله ويخلص وجهه إلى الله، نسأله تعالى أن يبصرنا بالصواب وأن يرعانا بعنايته، وأن يهدينا سواء السبيل.
طه الزيني.
ترجمة المؤلف
-هو: عبد الرحمن بن محمد بن عسكر شهاب الدين البغدادي المالكي، مدرس المدرسة المستنصرية، كان فقيهًا عالمًا زاهدًا سالكًا طريق الزهد والصلاح والعبادة، وله في ذلك تأليف حسن، وله التصانيف الحسنة المفيدة منها كتاب المعتمد في الفقه. غزير العلم، ذكر فيه مشهور الأقوال غالبًا، وكتاب العمدة في الفقه. وكتاب الإرشاد أبدع فيه كل الإبداع جعله مختصرًا وحشاه بمسائل وفروع لم تحوها المطولات مع إيجاز بليغ، وله في الحديث وغيره تآليف مشهورة. كان مشاركًا في علوم جمة وكتبه تدل على فضله، توفي سنة ٧٣٢ رحمه الله تعالى وإيانا، تلقى عنه ولداه القاضيان الفضلان أحمد ومحمد، وقد شرح قاضي المالكية في وقته تاج الدين بهرام بن عبد الله الدميري المتوفي سنة ٨٠٥ كتاب الإرشاد هذا، بشرح واسع في ستة مجلدات كما شرح العلامة الشيخ زروق المتوفي سنة ٨٩٩ بشرح جيد مفيد.
(مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) (حديث شريف)
_________
(١) ["والمؤلف الأجر": هكذا في نسخة الشركة الإفريقية، ولعله "وللمؤلف الأجر ... "، وهو سياق المعنى. دار الحديث]
Unknown page