وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ لِهَذَا الْقَائِلِ بِأَنَّ اللَّفْظَ لَوْ أَفَادَ الْمَعْنَى عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، فَإِمَّا أَنْ يُفِيدَ مَعَ الْقَرِينَةِ أَوْ بِدُونِهَا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَعَ الْقَرِينَةِ الْمَخْصُوصَةِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَكُونُ هُوَ مَعَ تِلْكَ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَوْ أَفَادَ مَعْنَاهُ الْمَجَازِيَّ بِدُونِ قَرِينَةٍ. لَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْحَقِيقَةِ إِلَّا كَوْنُهَا مُسْتَقِلَّةً بِالْإِفَادَةِ بِدُونِ قَرِينَةٍ.
وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا نِزَاعٌ فِي الْعِبَارَةِ.
وَلَنَا أَنْ نَقُولَ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُفِيدُ إِلَّا مَعَ الْقَرِينَةِ هُوَ الْمَجَازُ، وَلَا يُقَالُ لِلَفْظَةِ مَعَ القرينة حقيقة فيها لِأَنَّ دَلَالَةَ الْقَرِينَةِ لَيْسَتْ دَلَالَةً وَضْعِيَّةً حَتَّى يُجْعَلَ الْمَجْمُوعُ لَفْظًا وَاحِدًا دَالًا عَلَى الْمُسَمَّى.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ: فَهَذَا "الْقَوْلُ"* لَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِدَفْعِهِ وَلَا التَّطْوِيلُ فِي رَدِّهِ فَإِنَّ وُقُوعَ الْمَجَازِ وَكَثْرَتَهُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَشْهَرُ مِنْ نَارٍ عَلَى عَلَمٍ وَأَوْضَحُ مِنْ شَمْسِ النَّهَارِ.
قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ١: أَكْثَرُ اللُّغَةِ مَجَازٌ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَبَا عَلِيِّ الْفَارِسِيَّ٢ قَائِلٌ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الَّتِي قَالَهَا الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَمَا أَظُنُّ مِثْلَ أَبِي عَلِيِّ يَقُولُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ إِمَامُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ مِثْلُ هَذَا الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ الظَّاهِرِ الْجَلِيِّ.
وَكَمَا أَنَّ الْمَجَازَ وَاقِعٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ فَهُوَ أَيْضًا وَاقِعٌ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ وُقُوعًا كَثِيرًا بِحَيْثُ لَا يَخْفَى إِلَّا عَلَى مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الظَّاهِرِيَّةِ٣: نَفْيُهُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَمَا هَذَا بِأَوَّلِ مَسَائِلِهِمُ الَّتِي جَمَدُوا فِيهَا جُمُودًا يَأْبَاهُ الْإِنْصَافُ وَيُنْكِرُهُ الْفَهْمُ وَيَجْحَدُهُ الْعَقْلُ.
وَأَمَّا مَا اسْتُدِلَّ بِهِ لَهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَجَازَ كَذِبٌ لِأَنَّهُ يَنْفِي فَيَصْدُقُ نَفْيُهُ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الصَّادِقَ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ الْحَقِيقَةِ فَلَا يُنَافِي صِدْقَ إِثْبَاتِ الْمَجَازِ وَلَيْسَ فِي الْمَقَامِ مِنَ الْخِلَافِ مَا يَقْتَضِي ذِكْرَ بَعْضِ الْمَجَازَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَمْرُ أَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَمَا أَنَّ الْمَجَازَ وَاقِعٌ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وُقُوعًا كَثِيرًا فَهُوَ أَيْضًا وَاقِعٌ فِي السُّنَّةِ وُقُوعًا كَثِيرًا وَالْإِنْكَارُ لِهَذَا الْوُقُوعِ مباهتة لا يستحق المجاوبة.
_________
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
_________
١ هو عثمان بن جني، أبو الفتح، من أئمة الأدب والنحو، صرفي لغوي، توفي ببغداد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة هجرية، عن نحو خمس وستين عامًا، من آثاره: "سر الصناعة" "شرح ديوان المتنبي". ا. هـ. شذرات الذهب "٣/ ١٤٠"، الأعلام "٤/ ٢٠٤".
٢ هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، الفارسي، الفسوي، أبو علي، إمام النحو، ولد سنة ثمان وثمانين ومائتين هـ، وتوفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة هجرية، من آثاره: "أبيات الإعراب" "أبيان المعاني". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "١٦/ ٣٧٩"، هدية العارفين "١/ ٢٧٢".
٣ وهي فرقة تنسب إلى مؤسسها داود بن على الظاهري الأصفهاني شيخ أهل الظاهر، وستأتي ترجمته في الصفحة "١٣٥"، ويقال لها الداوودية، وهم يأخذون بالظاهر ويرفضون التأويل والرأي. ا. هـ. مفاتيح العلوم "٤٦". وسير أعلام النبلاء "١٣/ ٩٧".
1 / 67