وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ نَفْسُ مَاهِيَّتِهِ فَيَكُونُ وُجُودُ الشَّيْءِ مُخَالِفًا لِوُجُودِ الْآخَرِ، مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفَظُ الْمَوْجُودِ بِالِاشْتِرَاكِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ: بِمَنْعِ عَدَمِ تَنَاهِي الْمَعَانِي، إِنْ أُرِيدَ بِهَا الْمُخْتَلِفَةُ، أَوِ الْمُتَضَادَّةُ، وَتَسْلِيمِهِ مَعَ مَنْعِ عَدَمِ وَفَاءِ الْأَلْفَاظِ بِهَا، إِنْ أُرِيدَ الْمُتَمَاثِلَةُ الْمُتَّحِدَةُ فِي الْحَقِيقَةِ، أَوِ الْمُطْلَقَةُ فَإِنَّ الْوَضْعَ لِلْحَقِيقَةِ الْمُشْتَرَكَةِ كَافٍ فِي التَّفْهِيمِ.
وَأَيْضًا: لَوْ سَلِمَ عَدَمُ تَنَاهِي كُلٍّ مِنْهَا، لَكَانَ عَدَمُ تَنَاهِي مَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْبِيرِ وَالتَّفْهِيمِ مَمْنُوعًا.
وَأَيْضًا: لَا نُسَلِّمُ تَنَاهِي الْأَلْفَاظِ، لِكَوْنِهَا مُتَرَكِّبَةً مِنَ الْمُتَنَاهِي، فَإِنَّ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، مَعَ تَرَكُّبِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَنَاهِيَةِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الدَّلِيلِ الثَّانِي: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعَامَّةَ ضَرُورِيَّةٌ فِي اللُّغَةِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَوْجُودَ مُشْتَرَكٌ لَفْظِيٌّ، لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًا؟ وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لِمَ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاكُ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، سِوَى الْوُجُودِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِتِلْكَ اللَّفْظَةِ الْعَامَّةِ؟
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالِامْتِنَاعِ: بِأَنَّ الْمُخَاطَبَةَ بِاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لَا يُفِيدُ فَهْمَ الْمَقْصُودِ عَلَى التَّمَامِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَكُونُ مَنْشَأً لِلْمَفَاسِدِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْفَهْمُ التَّامُّ بِسَمَاعِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُوجِبُ نَفْيَهُ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى أَحْوَالِ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ، لَا نَفْيًا، وَلَا إِثْبَاتًا، وَالْأَسْمَاءُ الْمُشْتَقَّةُ لَا تَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْمَوْصُوفَاتِ الْبَتَّةَ، وَلَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ نَفْيَهَا، وَكَوْنَهَا غَيْرَ ثَابِتَةٍ فِي اللُّغَةِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الْوُقُوعِ وَإِمْكَانِهِ: بِأَنَّ الْمُوَاضَعَةَ تَابِعَةٌ لِأَغْرَاضِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ غَرَضٌ فِي تَعْرِيفِ غَيْرِهِ شَيْئًا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَقَدْ يَكُونُ غَرَضُهُ تَعْرِيفَ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى الْإِجْمَالِ، بِحَيْثُ يَكُونُ ذِكْرُ التَّفْصِيلِ سَبَبًا لِلْمَفْسَدَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ﵁ أَنَّهُ قال لمن سأله عن الهجرة عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ هو؟ فقال: "هو رجل يهدني السَّبِيلَ"١.
وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ وَاثِقًا بِصِحَّةِ الشَّيْءِ عَلَى التَّعْيِينِ، إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ وَاثِقًا بِصِحَّةِ وُجُودِ أَحَدِهِمَا لَا مَحَالَةَ، فَحِينَئِذٍ يُطْلِقُ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ لِئَلَّا يَكْذِبَ، وَلَا يُكذَّب، ولا يظهر جهله
_________
١ أخرجه البيهقي في دلائل النبوة "٢/ ٤٩٠" وذكره الكاندهلوي في "حياة الصحابة" بلفظ: "فإذا لقيه لاقٍ فيقول لأبي بكر: من هذا معك؟ فيقول: هادٍ يهديني الطريق. يريد الهدى في الدين ويحسب الآخر دليلًا" "١/ ٣٣٨".
1 / 58