Insanawiyya Muqaddima Qasira
الإنسانوية: مقدمة قصيرة جدا
Genres
يبدو أن قضاء العمر بأكمله في القيام بالأعمال الطيبة ليس ضروريا وحسب لعيش حياة ذات معنى، وإنما هو غير كاف أيضا. هب أن رجلا يعيش في ظل نظام حكم شمولي يكرس حياته كلها لمساعدة المرضى من الأطفال لكن لا لسبب إلا لأنه يخشى العواقب الوخيمة التي ستترتب على مخالفته أوامر هذا النظام في هذا الشأن. هل عاش حياة ذات معنى؟ رغم أعماله الطيبة، لا يمكن القول بأي حال من الأحوال إنه عاش حياة ذات معنى. ربما ما يوضحه هذا المثال الذي ضربناه هو أنه كي تكون حياتك ذات معنى بحق، يجب أن تبدي تمتعك بنوع من «الاستقلالية»؛ فيجب أن تكون أنت من يوجه أفعالك، لا أن تتبع تعليمات غيرك وحسب.
وأظن أن كثيرا منا سيضيف أن أحدهم قد «يعتقد» أن حياته كانت مضيعة للوقت بلا هدف لكنها كانت في الواقع ذات معنى عظيم. وفي المقابل، أظن أن أغلبنا سيقر بأن شخصا قد «يعتقد» أن حياته ذات معنى عظيم لكنها في الحقيقة لم تكن كذلك.
على سبيل المثال، هب أن سيدة كرست حياتها بنجاح لقيادة حركة تنادي بسيادة البيض، هل ستكون بذلك قد عاشت حياة ذات معنى؟ قد تظن هي وأتباعها ذلك، لكن هل يضمن ذلك أنها عاشت حياة ذات معنى؟ يبدو لي أن الإجابة هي «لا»! فكي تعيش حياة ذات معنى، أنت لست مضطرا لأن تكون أخلاقك سامية. لكن إن كان مشروع حياتك الأساسي غير أخلاقي تماما، فلا يمكن إذن أن يمنح حياتك معنى. وبسبب الطبيعة غير الأخلاقية لمشروع هذه السيدة العنصري، لا يمكن أن يجعل هذا حياتها ذات معنى (رغم أن حياتها يمكن أن تكون ذات معنى لأسباب أخرى بالتأكيد). هكذا يمتد حبل أفكاري البديهية (مع إقراري باختلاف آخرين معي).
لاحظ كذلك أن حياة ذات معنى يمكن أن تنتهي بفشل مشروعها الرئيسي. تأمل روبرت فالكون سكوت الذي ناضل ببسالة كي يكون أول من يصل إلى القطب الجنوبي، ورغم فشله في ذلك، يرى كثيرون أن حياة سكوت كانت مثالا مشرقا على حياة عاشها صاحبها كما ينبغي. والقول نفسه ينطبق على كثير من المحاولات البطولية الفاشلة، ومنها - مثلا - الألمان الذين حاولوا، لكنهم فشلوا في اغتيال هتلر من أجل إنهاء الحرب العالمية الثانية نهاية سريعة.
لقد علمنا أن هناك سمات معينة ينبغي أن تتمتع بها الحياة كي تكون ذات معنى. على سبيل المثال، مشروع أخلاقي أو هدف يسعى صاحبه وراءه بتوجيه ذاتي، لكن هل حتى هذا كاف؟ لا يبدو ذلك؛ فسعي شخص غير كفء - وإن كان متحمسا لهدفه - طيلة حياته وراء هدف جدير بالعناء غالبا ما يكون هزليا أكثر من كونه ذا معنى. (2) هل البحث عن معنى الحياة سعي وراء سراب؟
الغرض من القسم السابق هو توضيح الصعوبة البالغة لوضع تعريف فلسفي محدد لما يجعل الحياة ذات معنى.
ربما جزء من الصعوبة التي نواجهها هنا هو أننا نفترض أنه من أجل تحديد ما يجعل الحياة ذات معنى، يجب أن نعين سمة واحدة تتمتع بها كل الحيوات ذات المعنى ولا تتمتع بها سواها؛ السمة التي تجعلها ذات معنى. ولكن لم يجب وجود مثل هذه السمة الوحيدة؟ ربما يكون البحث عن معنى الحياة - تلك السمة الوحيدة المراوغة التي تمنح الحياة معناها - سعيا وراء سراب. ربما يكون مفهوم الحياة ذات المعنى هو ما يطلق عليه الفيلسوف لودفيج فتجنشتاين «مفهوم التشابه العائلي»؛ فأفراد العائلة الواحدة قد يشبه بعضهم بعضا، رغم عدم وجود سمة واحدة مشتركة بينهم جميعا (أنف كبير أو أذنين صغيرتين). ويفترض فتجنشتاين أن الأمر نفسه ينطبق مثلا على ما نطلق عليه «ألعابا»؛ فأشياء مثل الطاولة ولعبة الورق سوليتير وكرة القدم والشطرنج وكرة الريشة؛ كلها يشبه بعضها بعضا بدرجات مختلفة، لكن هل توجد سمة واحدة تشترك فيها جميع الألعاب، ولا تتمتع بها سواها، بمقتضاها تكون كلها ألعابا؟ لا يعتقد فتجنشتاين ذلك، ويقول:
لا تقل: «يجب وجود شيء مشترك بينها، وإلا فلن تكون «ألعابا»»؛ لأنك إن تأملتها، فلن ترى شيئا مشتركا بينها جميعا، لكن هناك تشابهات وعلاقات ومجموعة كاملة من الأنماط على ذاك النحو. مرة أخرى: لا تفكر، بل انظر! انظر على سبيل المثال إلى الألعاب اللوحية بعلاقاتها المتعددة، ثم انتقل إلى ألعاب الورق حيث ستجد الكثير من أوجه التشابه مع المجموعة الأولى، لكن ستسقط الكثير من السمات المتشابهة وستظهر سمات أخرى، وعندما ننتقل إلى ألعاب الكرة، ستظل كثير من السمات المشتركة، لكن سيزول الكثير منها أيضا. هل الألعاب كلها «مسلية»؟ قارن الشطرنج بلعبة إكس-أو؛ هل يوجد دوما فوز وخسارة، أم منافسة بين اللاعبين؟ تأمل جانب الصبر. في ألعاب الكرة يوجد فوز وخسارة، لكن عندما يلقي طفل بكرته إلى الحائط ويلتقطها ثانية، تختفي تلك السمة ... نتيجة هذا الاستعراض أننا نرى شبكة معقدة من أوجه التشابه المتداخلة والمتقاطعة؛ أحيانا تشابهات عامة، وأحيانا أخرى تشابهات في التفاصيل. لا يسعني التفكير في تعبير لوصف هذه التشابهات أفضل من «التشابهات العائلية»؛ لأن التشابهات المتنوعة بين أفراد الأسرة - البنية والملامح ولون العينين والمشية والمزاج وغيرها - تتداخل وتتقاطع على النحو نفسه. ويمكنني القول إن «الألعاب» تكون أسرة.
إن كان فتجنشتاين مصيبا، فإن البحث عن السمة الوحيدة التي تتمتع بها الألعاب دون غيرها سعي وراء سراب؛ إذ لا وجود لها. لكن بالطبع لا يستتبع ذلك عدم وجود ما نطلق عليه اللعبة، أو أن السمة التي تجعل شيئا لعبة يجب أن تكون خصيصة غامضة ما لم نحددها بعد.
وربما نقترف الخطأ نفسه عندما نفترض أنه إن كان بالإمكان أن نعيش حياة ذات معنى؛ إذن يجب وجود سمة وحيدة تشترك فيها الحيوات ذات المعنى لا يتمتع بها غيرها. وعجزنا عن تعيين تلك السمة من بين جملة السمات المادية في حياتنا قد يضللنا فنخلص إلى أن حياتنا تفتقر للمعنى، أو أن السمة المراوغة التي تمنح الحياة معناها لا بد أنها تنتمي لعالم آخر غير عالمنا.
Unknown page