A ، وكل مقالة في هذه الجريدة موقعة بهذا الحرف هي له، ولا يعلم ذلك أحد سواي وسوى صاحب الجريدة. ولو اطلع رجال الحكومة على فحوى هذه المقالة لأخذهم الغضب.»
قالت: «وما فحواها؟»
فاقتربت منها وقالت همسا: «إنه يشدد النكير على عبد الحميد ورجاله، ويهددهم بزوال ملكهم، ويحتج عليهم، وينسب إليهم الظلم والنهب. إنها لهجة شديدة، ولكنهم يستحقون أشد من ذلك.»
فقالت والدتها: «ولكننا نخاف على عزيزنا رامز من غدرهم.»
وكانت شيرين ذات جمال ساحر فتان وفي عينيها ما ينم على الذكاء وسرعة الخاطر وشدة عاطفة الحب. وكانت طويلة القامة مع اعتدال وتناسب، والصحة بادية في محياها، وقوة الإرادة ظاهرة حول فمها، لا ينظر إليها ناظر إلا هابها. وقد زادها العلم رونقا وطلاوة، لأنها تثقفت أحسن تثقيف، وهي تحسن التركية والفرنسية والرومية تكلما وكتابة. والفضل في ذلك إلى والدتها، فقد كانت من فضليات النساء وأقواهن عقلا، وقد ربت ابنتها على الحرية وصدق اللهجة، فشبت شيرين كبيرة النفس قوية العزيمة تكره الظلم والظالمين. وقد أحبت رامزا كاتب تلك المقالة وأحبها منذ الصغر، وهو ابن خالتها، وقد ماتت أمه وهو صغير فعني أبوه بتربيته، وغرس في قلبه حب الحرية وكره الظلم والظالمين.
وقد نشأت شيرين ورامز معا، فتحابا وامتزجت روحاهما، وتعاهدا على الاقتران، وكان هو من أرباب الأقلام يكتب الفرنسية كما يكتب لغته التركية، واشتهر بين معارفه بحب الحرية، فلم يجد سبيلا للعمل في الحكومة، وربما سعى له بعض ذوي النفوذ ليلحق بعمل ما فلا يلبث أياما حتى يخرج منه، وأخذ يعيش من مكاتبة الصحف التركية في الأستانة والفرنسية في باريس بتوقيع مستعار، وأكثر ما يكتبه في تلك الصحف انتقاد لأعمال الحكومة.
والكتابة لذيذة، وكانت تلذ رامزا على الخصوص، لأنه كان يجعلها وسيلة للاجتماع بشيرين، فإذا كتب مقالة وأعجبته قرأها لها وسمع ملاحظاتها عليها، وكثيرا ما كانت ترشده إلى الصواب في بعض الموضوعات، لأنه كان شديد الوطأة سريع الاندفاع فيقوده ذلك إلى التطرف، وكانت هي أعدل منه مزاجا وأربط جأشا فتنتقده وتباحثه، فيلذ له الرجوع إلى رأيها. أما المقالة التي كانت تقرؤها في ذلك اليوم فلم يكن قد أطلعها عليها قبل إرسالها فجاءت شديدة اللهجة.
فلما قالت لها أمها: «ولكننا نخاف على عزيزنا رامز من غدرهم»، ظهرت البغتة عليها كأنها انتبهت لشيء فاتها، وتصاعد الدم إلى محياها، ونظرت إلى أمها وقالت: «صدقت يا أماه، إن رامزا يعرض نفسه للخطر، ولو أطلعني على هذه المقالة قبل إرسالها لعدلت لهجتها. سأعاتبه على ذلك متى جاء. لكنه قد تأخر والشمس كادت تغيب!» قالت ذلك والتفتت إلى باب الحديقة فرأت الداخلين يتزاحمون وليس بينهم رامز. ثم وقع بصرها على شاب بهي الطلعة منتصب القامة رشيق الحركة تنجلي الحماسة في وجهه، ورأت أمها تنظر إليه وتبتسم، فقالت: «من هذا يا أماه؟ أراك تعرفينه.»
قالت: «ألم تعرفيه يا شيرين؟ هذا نيازي بك صديق رامز ورفيقه في المدرسة.»
قالت: «عهدته ضابطا.»
Unknown page