Inqilab Cuthmani
الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة: أصدق تاريخ لأعظم انقلاب
Genres
لو استمرت أوروبا نائمة في ظلام القرون الوسطى لبقيت الدولة العلية سائرة في هذه الطريق العوجاء سير مملكة الصين، أو سلطنة المغرب الأقصى التي انحطت إلى درجة البداوة، بعد أن كان لها في العمران قدم راسخة، بسبب مهاجرة الأندلسيين إليها ومتاجرتهم في إفريقية الغربية، ولكن أوروبا استيقظت من غفلتها في القرون الجديدة، وأوجدت هذه المدينة العجيبة التي بهرت العالم، وغيرت وجه الأرض باكتشافاتها واختراعاتها وعلومها وفنونها وآدابها، وتجاوزت دول أوستريا «النمسا» وروسيا والبندقية إلى ممتلكات الدولة العلية، فأحست بالضعف والانحطاط والتقهقر، وبدأت في الإصلاحات الجديدة من عهد السلطان مصطفى خان الثالث: فأحدثت الطوبخانة، وأنشأت معملا لصنع المدافع، وأقبل السلطان سليم الثالث بهمة عالية وإقدام على القيام بالإصلاح، ورتب إدارة الطوبجية والبحرية، وجلب المعلمين والمهندسين من أوروبا، وأحدث النظام الجديد، فاغتالته أيدي المنون بسبب هيجان الانكشارية الذين فسدت أخلاقهم، وأصبحوا بلاء مبرما على الأمة والدولة، بعد أن كان لهم في الفتوحات العثمانية شأن عظيم، ومفاخر كثيرة مسطورة في تاريخ أوروبا العسكري.
السلطان محمود الثاني
ثم جلس السلطان محمود الثاني وأزال غائلة الانكشارية، ونظم العساكر الجديدة، وأجرى من الإصلاحات ما هو مفصل في التاريخ العثماني، وأصاب الدولة العلية من الحوادث المهمة ما حملها على الاحتكاك بالدول الأوروبية والدخول في ميدان سياستها مثل حروبها مع روسيا، واحتلال نابليون بونابرت لمصر وسوريا، وخروج محمد علي باشا، وحرب المورة، واستقلال اليونان، وحوادث جبل لبنان، وتدخلت أوروبا في شئون الدولة العلية باسم المحاماة عن المسيحيين: فروسيا تحامي عن الأمم السلافية وجميع المتدينين بالمذهب الأرثوذكسي، وفرنسا عن الكاثوليك، وإنجلترا عن مبشري البروتستانت، وكن جميعهن يحرضن المسيحيين من رعية الدولة مقاومة الاستبداد، ويطالبن الباب العالي بإجراء الإصلاحات، ووضع القوانين والنظامات لمنع التعدي على النصارى، ولمساواتهم في الحقوق مع المسلمين، والباب العالي يجد الاستفادة من العداوة القديمة التي غرستها الحروب الصليبية بين المسلمين والنصارى؛ أهون عليه من سوق العساكر وتكبد المصروفات الحربية لتسكين الفتن وإخماد الثورات؛ وهكذا جرت المذابح، وارتكبت الفظائع التي تقشعر الجلود من سماع وصفها، وعادت على الوطن بالويل والخراب: كمذابح الروم في حرب المورة، ومذابح لبنان في حادثة الشام، وكمذابح البلغار في حرب روسيا الأخيرة، وهي التي قام لها جلادستون وقعد، وأرغى وأزبد، على منبر الخطابة في مجلس العموم الإنجليزي، وآخرها الفظائع الأرمنية المعروفة، وهي نقطة سوداء في صحيفة التاريخ.
صدراة مصطفى رشدي باشا
إن الحوادث التي جرت قبل معاهدة باريس ساقت بعض رجال الدولة إلى تعلم اللغات الأوربية، ولا سيما الفرنسية؛ للوقوف على سياسة أوروبا ولتنظيم العساكر البرية والبحرية. وكان لأكثر المتعلمين نسبة وتردد على مصر، التي شرعت بالإصلاحات على عهد محمد علي باشا؛ فنبغ من رجال الدولة مصطفى رشيد باشا السياسي الشهير، ابن مصطفى أفندي متولي وقف السلطان بايزيد، وكان مولده في الأستانة (1241ه).
قرأ القرآن ومبادئ العلوم الإسلامية، وأجاد الخط وتعلم شيئا من مبادئ اللغة الفرنسية، ثم لازم نسيبه الصدر الأسبق اسبارطة علي باشا، وذهب إلى مصر مرارا، وخالط رجالها، وتقلب في مناصب الدولة العلية، وفي سفارة باريس ولوندره، فأكمل تحصيل اللغة الفرنسية، واطلع على دقائق السياسة وخوافيها، وكانت المسألة الشرقية شاغلة وزارات أوروبا؛ بسبب اجتهاد روسيا في جميع كلمة الأمم السلافية، وطمعها في الاستيلاء على القسطنطينية، وروسيا أكبر الدول الأوروبية وأكثرها نفوذا وأشدها خطرا على الموازنة السياسية، فكانت الدول الأوروبية - وفي مقدمتهن إنجلترا التي هي أحرص الدول على مقاومة السياسة الروسية - تشوق الدولة العلية إلى القيام بالإصلاحات الجديدة لتستعيد قوتها السابقة فتحمي نفسها، وتكون لبقية الدول سدا منيعا أمام هجوم روسيا.
السلطان عبد المجيد
لما جلس السلطان عبد المجيد خان (تموز/يوليو سنة 1839) كان مصطفى رشيد باشا سفيرا في لوندره، فعين ناظرا للخارجية وحضر إلى الأستانة، وكان له رأي ودخل كبير التنظيمات، وفي تشرين الثاني/نوفمبر من السنة المذكورة قرأ بحضور رجال الدولة وأعيانها وسفراء الدول الأجنبية الخط الشريف السلطاني المعروف بالتنظيمات، وكانت قراءته في كلخانة - أي دار الورد - وهي من دوائر السراي القديمة - طوب قبو - التي بجانب جامع أياصوفيا؛ ولذا اشتهر بخط شريف كلخانة، وقد اشتمل على تأمين الرعية على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وعلى قاعدة مطردة في استيفاء الأموال الأميرية، وعلى أخذ العسكر بالقرعة وتعيين مدة الخدمة، وإلغاء الامتيازات، وطرح التكاليف بنسبة ما لكل واحد من الثروة، ومساواة الرعية أمام القانون، وإلغاء المصادرة و«الإنغارية»؛ وهي الإجبار على العمل بلا أجرة وتعرف بالسخرة، ونحو ذلك مما هو مدرج في هذا الفرمان المعروف بالتنظيمات.
فالدولة العلية إنما أصدرت هذه التنظيمات إرضاء لأوروبا، ولا سيما إنجلترا. والأمة الإسلامية لم تفهم معنى هذه التنظيمات ولا معنى تأمين الناس على الأرواح والأموال والأعراض، كأن الشريعة التي كانت دستور العمل تبيح التجاوز والتعدي على الأرواح والأموال والأعراض، وحاشاها من ذلك، فالبلاء لم يكن سببه فقدان القانون والشريعة حتى يزول بإصدار هذه التنظيمات، وإنما سببه الاستبداد المتسلط على كل قانون وشريعة، فالحرية التي منحتها التنظيمات لم تكن شيئا مذكورا بجانب الحرية التي منحها القرآن، لو زال الاستبداد والجهل المستوليان على أهله المسلمين، واجتهدوا في فهمه وتأويله على مقتضى نواميس المدينة الحاضرة، كما فعل أحرار العلماء، كالشيخ محمد عبده وغيره.
شرعت الدولة العلية في إجراء الأحكام المشار إليها في التنظيمات، وسنت قانونا لأخذ العسكر جرى تطبيقه في بعض الإيالات، وأحدث في بعضها ثورة وعصيانا كعصيان الأرناؤوط (1844) الذي سكنه رشيد باشا نفسه، ثم باشرت في تنظيم المعارف وفتح المدارس في الأستانة، ونظمت محاكم التجارة المختلطة (1846)، كما نظمت بعض دوائر الدولة وأقلامها، فكان مصطفى رشيد باشا - الذي تولى مسند الصدارة العظمى ست مرات، وتوفي سنة 1274ه/1858م - مصدر هذه الإصلاحات، بسبب وقوفه على الأفكار الجديدة، ومعرفته اللغة الفرنسية والأدبيات العثمانية، وهو أول من أفرغ الكتابة التركية في قالب سهل سلس، بعد أن كادت تكون غير مفهومة عند الجميع، لكثرة ما فيها من التعقيد والتشبيهات الغامضة والألفاظ والتراكيب اللغوية من فارسية وعربية، ونشأ في عهده وتحت ظله الشاعر الشهير إبراهيم شناسي أفندي موجد الأدب العثماني الجديد، حصل العلوم العربية واللغة الفرنسية، وذهب إلى باريس فاطلع فيها على آداب الطريقة المدرسية، ونسج على منوال راسين ولافونتين، وأدخل في الأدب التركي التعقل المشروط في الطريقة المدرسية، كما فصلنا ذلك في كتابنا «تاريخ علم الأدب».
Unknown page