Huruf Latiniyya
الحروف اللاتينية لكتابة العربية
Genres
على أن الاعتراض بمسألة «الإجماع» هو تكأة العاجزين، وهم أناس مقلدون غلف العقول، إذا صرعهم الحق لملموا أشلاءهم وهرولوا لاجئين إلى قدس الدين، بل إلى لفظ الدين، يرمون عن قوسه، ويتخذونه مجنا يتقون به ما للحق من طعنات مصميات. والدين في قداسته - كما يعرف رجاله المحترمون - لا شأن له برسم كتابة العربية، وحروف لفظ الدين (ألف، لام، دال، ياء، نون) أوهى من أن يكون لها أي أثر في هذا السبيل، لكنهم في كل حركة وسكنة هكذا يفعلون، ترهيبا للبسطاء وإيهاما وخداعا باسم الدين، والله يشهد إنهم لكاذبون.
اعلم أن الدليلين؛ أي المصدرين الأساسيين الوحيدين في الشرع الإسلامي، هما كتاب الله والصحيح من سنة نبيه الكريم لا غير. وأن هذين المصدرين لما لم يكونا شاملين بالتفصيل لكل أحكام العبادات ولكل الأحكام الأخرى التي تطبق عند طروء ما يطرأ على المسلمين من الأحداث، وما يقوم بينهم من أقضية المعاملات؛ فقد اضطر المسلمون أن يرجعوا إلى الكتاب وصحيح السنة كيما يستنبطوا منهما تفصيل الأحكام في تلك الشئون. ولما كانت الحوادث دائمة التقلب والتجدد، وكان معظم تقريرات ذينك المصدرين واردا في حوادث وأقضية بخصوصها، اضطر المسلمون أن يقيسوا الحوادث والأقضية بأشباهها ونظائرها مما تناوله الكتاب والسنة، وأن يطبقوا عليها ما قرراه من الأحكام في تلك النظائر والأشباه؛ ومن أجل هذا جعلوا القياس من المصادر المعتبرة في الشريعة. وهذا أمر تدعو إليه الضرورة وتأمر به البداهة العقلية تحقيقا لمصلحة الاجتماع. ثم نظروا فوجدوا أن أحوالا قائمة أو تقوم في الناس - وعلى الأخص فيما فتحه المسلمون من الأمصار - من عادات في آداب السلوك، وفي كيفية تناول وسائل الحياة والاستمتاع بها، ومن اصطلاحات ومواضعات وعرف في المعاملات، لم يأمر بها كتاب ولا سنة، ولم يمنع منها كتاب ولا سنة، فأوجبوا بقاء تلك الأحوال - ما هو قائم منها وما يقوم - على ما هي عليه، واعتبارها أصلا يصار إليه إذا حدث بسبب حال منها نزاع. وسموا علة هذا الاعتبار «الإجماع»، وجعلوه من أدلة التشريع الإسلامي ومصادره. وكان هذا الجعل أمرا لازما تدعو إليه أيضا ضرورات الاجتماع، لكن هذا «الإجماع» الذي عبر العلماء عن قوته بكليات من القول المحكم الوجيز؛ كقاعدة «العادة محكمة»، وقاعدة «المعروف عرفا كالمشروط شرطا»، وقاعدة «القديم على قدمه»، هذا الإجماع لا يجوز ألبتة أن يعطل مصلحة من مصالح المسلمين، بل إنه إذا كشفت ظروف الأحوال عن ضرره بالمجموع، وكان في اطراحه والاستبدال به خير للمسلمين، فإن واجب الحاكم الشرعي أن يأمر باطراحه والاستعاضة عنه من الأنظمة والأحكام بما يحقق مصلحة الاجتماع. وإلى هذا الواجب أشاروا أيضا بقواعد منها «الضروريات تبيح المحظورات»، و«درء المفاسد أولى من جلب المصالح»، و«الضرر يزال».
هذا هو مركز «الإجماع» الذي يقولون عنه عند المسلمين. وإذ كانت طريقتي في رسم العربية ورسم القرآن الكريم تزيل الضرر وتحقق مصلحة المسلمين تمام التحقيق، فأعفني من زيادة الكلام في وهانة هذا الاعتراض.
على أن العربية ستبقى بفضل الله دائما هي العربية، فإذا كان بعض رجال الدين المحترمين يجدون - كما قد يلوح لي - على أنفسهم غضاضة ما أو مشقة ما من ترك القديم، فليبق لهم رسم القرآن وصحيح الحديث على ما هو عليه الآن - كما قلت في بعض المواقف - وليكتبا لجماهير الناس بالرسم الجديد. بهذه المثابة يبقى القرآن وصحيح الحديث مقروءين قراءة صحيحة من جميع الناس، محفوظين عند جميع الناس. وإن لدينا الآن بالمعاهد الدينية كثيرا من العلماء وآلافا من الطلبة، وهؤلاء إذا بقي لهم رسم العربية كما هو، واستمروا في قراءة كتبهم برسمها الحاضر، فإنهم سيكونون أيضا في طليعة قراء العربية بالرسم الجديد؛ إذ يكفيهم معرفة حروف الهجاء الجديدة وحروف الحركات الثلاث حتى يستطيعوا القراءة بلا أدنى عناء. وإذا قدر لمشروعي النجاح، وهو ما أعتقد أن سيكون عاجلا أو آجلا، فلعل لنا فائدة في بقاء حضراتهم على استعمال الرسم الحاضر، هي أن يؤدوا لنا في المستقبل عمل المستشرقين، ويحلوا لنا رموز ما لم يطبع بالرسم الجديد من قديم الكتب والمؤلفات. بل لعل ما نحن فيه يكون فرصة ساقها الله لحضرات علمائنا الأجلاء وهو ينظر إليهم هل يهتبلونها فيشمروا عن ساعد الجد لتنقية كتب الحديث الشريف مما وضعه ودسه علينا الزنادقة والخوارج والقصاصون والسذج من الصالحين وهواة الإسرائيليات والمتزلفون لذوي السلطان؛ وذلك حتى لا يكتب بالرسم الجديد وينشر للجماهير من الأحاديث إلا ما صحته لا شك فيها ولا ارتياب؟ لعلها تكون فرصة هيأتها يد القدر، فهل هم منتهزوها ففاعلون، كيما ينالوا ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، وهو ثواب ضمنه الله للعاملين المحسنين؟
السادس:
كتب بعضهم يقول:
والحديث بالحروف العربية فمن يقرؤهما في المستقبل؟ ألا تكون الكتابة العربية حينئذ بمنزلة الكتابات التي اندرست كالقبطية القديمة (هو يعني كتابة قدماء المصريين) وغيرها؟
كلا يا سيدي، ها أنت ذا ترى فيما أسلفت ما يطمئنك على بقاء القرآن والحديث مكتوبين بالرسم الحالي، فلن يندرس هذا الرسم، بل سيكون له دائما من رجال الدين وطلبة المعاهد الدينية من يقرءونه ويحافظون عليه.
على أنه لا يغيب عن سيدي أن اختراع الطباعة والفوتوغرافيا والفونوجراف كدس في عدد عظيم من دور الكتب بمشارق الأرض ومغاربها أكداسا من الكتب العربية، قديمها وحديثها، مطبوعها ومصورها، كما كدس أقراصا تشخص جرس ما للحروف العربية من النغمات. وليس تكديس ذلك في البلاد الأجنبية لهوا من أهلها ولعبا، بل إن هناك من العلماء من يعكفون على قراءتها للوقوف على ما بها، لا لاستفادة فلسفة أو علم أو فن أو أدب هم في حاجة إليه، بل للوقوف على تاريخ الفلسفة والعلوم والفنون والآداب ومراحلها التي تكون قطعتها من قبل في بلاد العربية، ثم للوقوف على كيفية النطق بالعربية الفصيحة، بل وعلى كيفية النطق بلهجاتها العامية في مختلف البيئات. فإذا كان هؤلاء العلماء المستشرقون يقرءون هذا الرسم ويحددون جرس العربية وهي غير لغتهم، كما قرءوا من قبل لغة قدماء المصريين البائدة وإن لم يصلوا لتحديد جرسها لانقراض الناطقين بها، أفتظن أننا نعدم، واللغة لغتنا، أن يقوم من بيننا الكثيرون يعملون عمل المستشرقين، حتى لو فرضنا أن المعاهد الدينية عندنا لا تحافظ على الرسم القديم؟ إنك يا سيدي جد متشائم، ولكنك تخلق لنفسك هذا التشاؤم بالصناعة لتخلق الاستشكال. أما أنا فجد متفائل. وكل يعمل على شاكلته، وربك أعلم بأينا هو الأقرب للعربية رحما، وأينا هو الأهدى إليها سبيلا. ولو كان في علم الله تعالى أن تشاؤمك حق، وأن تفاؤلي وحسن ظني بقومنا باطل، لوجب أن أواري أنا وكل قومنا انحطاطنا عن أعين الناس، وأن ندفن رءوسنا في الطين.
السابع:
Unknown page