قالت: «ما عساي أن أفعل الآن؟ لقد تخليت عني وليس بيدي حيلة، أليس كذلك؟ أتمنى أن تفي بوعدك لرؤسائك أفضل مما فعلت معي.»
كان هذا هراء بالطبع. لم أعدها بأي شيء فيما يتعلق بمدة بقائي معها، لكنني مع هذا خالجني شعور بالقلق يشوبه بعض الذنب؛ إن لم يكن شعورا بالذنب. صحيح أنني لم أعدها بشيء، لكن ماذا عن المرات التي لم أستجب فيها لطرقها على بابي، أو تلك المرات التي كنت أتسلل فيها من المنزل وإليه دون أن تلحظني، خافضة رأسي دون مستوى نافذة مطبخها؟ وماذا عن تظاهري الفاتر بالإخلاص في مصادقتها في مقابل عروضها السخية؟
قالت: «لكن من الرائع أن حدث ذلك، فأنا لا أريد شخصا لا يعتمد عليه يرعى السيد جوري، كذلك فإنني لم أكن راضية بالكامل عن طريقة رعايتك له، أؤكد لك هذا.»
وسرعان ما وجدت جليسة أخرى؛ وكانت امرأة كثيفة شعر الجسم، ضئيلة الحجم، شعرها أسود تغطيه ببونيه شبكي. لم أسمعها تتكلم قط، لكنني كنت أسمع السيدة جوري تكلمها ؛ فقد كان بابها مفتوحا أعلى الدرج وكان من المنطقي سماعها. «لم تغسل حتى الفنجان الذي احتسى فيه الشاي، بل وكانت تنسى في معظم الأوقات أن تعد له الشاي. لا أدري ما كانت فائدتها. تجلس وتقرأ الصحيفة.»
في تلك الأيام، حين كنت أغادر المنزل ذهابا إلى العمل، كانت نافذة المطبخ تصفع ورائي، ويرن صوتها في أذني مع أنها كانت تتحدث ظاهريا مع السيد جوري. «هي ذي تمضي في طريقها دون أن تكلف نفسها عناء التلويح لنا وتحيتنا. لقد منحناها وظيفة وقت لم يقبلها أحد، لكنها لا تبالي بذلك. بالطبع، لا تفعل.»
لم ألوح لهما، وكنت مضطرة أن أسير أمام النافذة الأمامية حيث كان السيد جوري جالسا، لكن راودني التفكير أنني إذا لوحت أو حتى نظرت له، فقد يشعر بالإهانة، أو حتى الغضب؛ فأي شيء سأفعله قد يشعرهما بالإهانة.
لكنني ما كنت أبلغ نهاية المربع السكني الذي يلينا حتى أنسى أمرهما بالكامل. كانت الفترات الصباحية خلال ذلك الوقت من السنة مشرقة. وفي طريقي إلى العمل، كنت أمشي وملئي شعور بالارتياح، معتزمة على تحقيق هدفي. وفي مثل هذه اللحظات، يبدو لي ماضي القريب مشينا بشكل غامض. ساعات قضيتها خلف ستائر المهجع، وساعات قضيتها على طاولة المطبخ أملأ صفحة تلو الأخرى بالفشل، وساعات قضيتها في حجرة قائظة مع رجل هرم؛ السجادة الخشنة، والمفروشات المخملية، ورائحة ثيابه وجسده، وقصاصات الورق الملصقة الجافة، وأوراق الصحف التي تغطي الأرضية فأضطر أن أشق طريقي خلالها؛ والقصة المروعة التي احتفظ بها وجعلني أقرؤها له (لم أفكر للحظة أن ذلك من المآسي الإنسانية التي كنت أعشق قراءتها في الكتب). إن تذكر كل هذا كان أشبه بتذكر فترات مرضي أثناء طفولتي؛ عندما كنت حبيسة - عن طيب خاطر - في فراشي وعلى ملاءتي القطنية الوثيرة التي تنبعث منها رائحة زيت الكافور، حبيسة الإعياء والحمى، وواقعة في شرك رسائل - لم أفك رموزها - حملتها لي أغصان الشجر التي أطللت عليها من نافذتي بالدور العلوي. لم أندم على هذه الأوقات، وإنما كنت أنبذها بطبيعة الحال، لكنها بدت جزءا مني - أكان جزءا مريضا؟ - بدأت الآن أنبذه. قد يظن أحد أن الزواج هو ما أدى إلى هذا التحول، لكن هذا لم يحدث لفترة؛ ففي البداية كبت رغباتي وأعدت الكرة وأبقيت على شخصيتي القديمة؛ شخصيتي العنيدة الكتومة التي لا تليق بامرأة. لكنني الآن خلعت هذا الثوب وأضحيت أشكر ربي على هذا التحول، فقد صرت زوجة وعاملة حسنة المظهر وعلى قدر كاف من الكفاءة لمواجهة الصعاب. وهذا ليس بالغريب، فقد غدوت قادرة على النجاح. •••
طرقت السيدة جوري بابي وبيدها كيس وسادة، وسألتني - وهي ترسم على وجهها ابتسامة عدائية شنيعة تظهر أسنانها - إذا ما كان هذا الكيس يخصني. فأجبتها دون تردد أنه لا يخصني، فكيسا الوسادتين اللذان أملكهما تحشوهما الوسادتان على السرير.
فقالت بلهجة معذبة: «حسنا، فهو ليس ملكي بكل تأكيد.»
قلت: «كيف تجزمين بهذا؟»
Unknown page