لكن هذا، في الواقع، هو ما كنت آمله؛ إذ لم آسف قط على أي وظيفة فقدتها. فأحيانا كنت أصل إلى المكان الذي أريد، ثم أقف على الرصيف أتطلع إلى متجر الثياب النسائية وإلى مراياه وسجاده البالي، أو أنظر إلى الموظفات وهن ينزلن على درجات السلم في طريقهن لتناول الغداء أثناء الاستراحة التي يتيحها المكتب الذي كان قد أعلن عن الحاجة إلى وظيفة كاتب محفوظات. حتى إنني لم أكن لأدخل المكتب؛ إذ كنت أعلم أن شعري وأظافري وحذائي الخفيض البالي سيقفون عائقا أمام إمكانية حصولي على الوظيفة. وكذلك المصانع، كانت تبعث في نفسي ذات الرهبة؛ فكنت أستمع إلى هدير الماكينات المنبعث من داخل المباني التي تعبأ فيها المشروبات الغازية، أو تجمع زينة أعياد الميلاد، وأرى مصابيحها غير المزخرفة متدلية من أسقفها التي تشبه أسقف الحظائر. لم تكن أظافري أو فردتا حذائي الخفيضتان ذوي أي شأن هناك في المصانع، لكن عدم إتقاني العمل وغبائي فيما يتعلق باستخدام الماكينات كانا سيجلبان علي السباب والنهر (كنت أسمع صيحات زاعقة بأوامر تطغى على أصوات الماكينات). كنت سأطرد شر طردة ويلحقني الخزي. فلم أر نفسي حتى قادرة على تعلم تشغيل آلة تسجيل المدفوعات النقدية. وقد ذكرت ذلك ذات مرة لأحد مديري المطاعم حين فكر جديا في تعييني؛ إذ أجبته بالنفي حينما سألني: «هل ترين نفسك قادرة على التعامل معها؟» وحينها، نظر إلي كأنه لم يسمع في حياته اعترافا كهذا من قبل؛ فبالرغم من كل شيء، كنت أقول الصدق؛ فلم أظن أن لدي القدرة على التعامل مع الأشياء بسرعة وعلى الملأ. ولو حاولت لتسمرت قدماي. فالشيء الوحيد الذي أستطيع فهمه بسهولة كان على شاكلة التفاصيل المعقدة لحرب الثلاثين عاما على سبيل المثال.
الحقيقة هي أنني لم أضطر إلى العمل، فقد كان تشيس يوفر لنا الاحتياجات الأساسية جدا؛ ولذا لم يكن هناك ما يجعلني ألقي بنفسي في هذا الجحيم؛ لأن زوجي فعل ذلك نيابة عني؛ فهو أمر واجب على الرجال.
جال بخاطري أنني قد أستطيع العمل في المكتبة؛ ولذلك سألت هناك عن حاجتهم إلى موظفات مع أنهم لم يعلنوا عن أي وظائف خالية. مع ذلك، أدرجت سيدة تعمل هناك اسمي في قائمة الانتظار؛ كانت سيدة مهذبة لكنها غير مشجعة. بعد ذلك، توجهت نحو متاجر بيع الكتب، وانتقيت منها المتاجر التي لم يبد أنها تحصل المال باستخدام آلة تسجيل المدفوعات النقدية. وكلما كان المتجر فارغا وغير منظم، كان هذا أفضل. كان أصحاب هذه المتاجر يدخنون أو يغفون على مكاتبهم، أما متاجر الكتب المستعملة فقد كانت تفوح منها دوما رائحة قطط.
كانوا يقولون: «الإقبال علينا ليس مهولا خلال الشتاء لنستعين بموظفات.»
وقالت لي إحدى العاملات ذات مرة ربما علي العودة في الربيع. «مع أننا لا نعمل كثيرا في الربيع أيضا.» •••
لا يشبه شتاء فانكوفر أي شتاء آخر مر بي؛ شتاء بلا ثلوج، بلا أي شيء حتى على شاكلة الرياح الباردة. في منتصف النهار، عندما أتجه نحو وسط المدينة، كنت أشم رائحة تشبه رائحة السكر المحترق؛ وأعتقد أن منبعها الأسلاك العلوية التي توصل التيار الكهربائي إلى الحافلات. كنت أمشي في شارع هستينجز ولا أرى امرأة أخرى غيري؛ لم أر سوى السكارى والمتشردين والعجائز المساكين والصينيين الذين يجرون أقدامهم على الطريق جرا. لم يسئ إلي أحد منهم بكلمه. كنت أمر على المستودعات والأراضي التي تغطيها الحشائش حيث لا يوجد أي رجل على مرمى البصر، أو كنت أمشي عبر حي كيتسيلانو، أشاهد منازله الخشبية الشاهقة التي تعج بأناس يعيش بعضهم بالقرب من بعض، كما كنا في مقاطعة دنبار الراقية، ذات المنازل أحادية الطابق المبنية من الجص، والأشجار المبتورة فروعها. أو كنت أمشي عبر حي كيريزديل، حيث تزرع الأشجار الأكثر فخامة - كأشجار البتولا - في المروج. أمشي عبر هذا الحي وأشاهد العوارض الخشبية التي تعلو المباني المشيدة على غرار العمارة التيودورية، وأستمتع بتناسق العمارة الجورجية، والبيوت ذات الأسطح الشبيهة بأسطح بيوت قصة بيضاء الثلج المبنية بالقش، أو ربما كانت أسطحا من القش الحقيقي. أنى لي أن أعرف؟
في كل هذه الأماكن التي يعيش فيها الناس، كانت مصابيح منازلهم تضاء بحلول الرابعة عصرا، ثم تضاء بعدها مصابيح الشوارع، ثم أضواء الحافلات الكهربائية. وكانت السحب غالبا ما تتفرق في السماء غربا فوق البحر لتنفذ من خلالها الأشعة الحمراء وقت الغروب. وفي المنتزه - الذي أستدير حين أصله عائدة للمنزل - تتلألأ أوراق شجيرات الشتاء التي يداعبها الهواء الرطب المصاحب لحمرة الأفق الباهتة عند الغروب. كان ذلك هو وقت عودة المتسوقين إلى منازلهم، والوقت الذي يفكر فيه العاملون والموظفون في العودة إلى بيوتهم، ووقت خروج من ظلوا في بيوتهم طوال اليوم ليحظوا بقدر قليل من النزهة تجعلهم يتوقون أكثر لبيوتهم. وفي طريق عودتي، كنت أقابل نساء يدفعن عربات أطفال أمامهن، وأخريات بصحبتهن صغار متذمرون، ولكنني لم أظن قط أنني سأمر بما يمرون به قريبا. قابلت عجائز مع كلابهم، وعجائز آخرين يتحركون ببطء أو يجلسون في مقاعد متحركة، يدفعهم رفاق أو قائمون على رعايتهم. قابلت السيدة جوري تدفع أمامها السيد جوري. كانت ترتدي رداء على كتفيها وقبعة من الصوف الناعم أرجواني اللون (علمت منها أنها تحيك معظم ثيابها بنفسها)، وكانت قد وضعت على وجهها مقدارا كبيرا من الزينة الوردية. أما السيد جوري، فكان - حين رأيتهما - يرتدي قبعة بسيطة ويدثر رقبته بوشاح ثقيل. وعندما رأتني السيدة جوري، ألقت علي تحية صاخبة توحي بأنني من ممتلكاتها، أما هو فلم يلق التحية. لم يبد مستمتعا بجولته، لكن القعداء نادرا ما نجد على وجوههم تعبيرا سوى الإذعان، وإن كان يبدو على بعضهم المهانة أو الحقد الصريح.
قالت لي السيدة جوري بعدها: «عندما قابلناك في المنتزه منذ بضعة أيام، ما كنت في طريقك للعودة إلى المنزل بعد أن بحثت عن عمل، أليس كذلك؟»
كذبت عليها وأجبتها بالإيجاب؛ إذ كنت أميل لإخفاء الحقيقة عنها بخصوص أي شيء. «حسنا. كنت سأقول لك إن كنت تبحثين عن وظيفة، فعليك تحسين مظهرك قليلا. تتفقين معي، أليس كذلك؟»
أجبتها ببلى. «لا أفهم كيف تخرج النساء في أيامنا هذه بالطريقة التي يخرجن بها! فعن نفسي لا يمكن أن أخرج من بيتي منتعلة حذاء خفيضا، دون أن أضع أي زينة على وجهي، حتى إن كانت وجهتي هي متجر البقالة، ناهيك عن طلب الحصول على وظيفة من أحدهم.»
Unknown page