وقالت: «سأنظفهما سريعا. لم أسألك إن كنت ترغب في احتساء الشاي. يمكنني إعداد القهوة أيضا. أو لا هذا ولا ذاك؛ ما رأيك في بعض الجن المخلوط بماء التونك لكلينا؟ ما المانع في ذلك؟ تبدو لي فكرة جيدة.»
رن جرس الهاتف؛ وكان جرسا قديما عاليا مزعجا، بدا وكأنه صادر من الردهة بالخارج، لكن سونيه عادت مسرعة إلى المطبخ للرد عليه.
تحدثت بعض الوقت، ثم توقفت لإنزال الغلاية عن النار عندما أصدرت صوت صفير. سمعها كنت تقول: «لدي زائر الآن»، وتمنى ألا تكون قد أجلت موعدا مع شخص يرغب في معاينة المنزل. لهجتها العصبية الجريئة جعلته يعتقد أن هذه لم تكن مكالمة ودية، فربما تتعلق بأمور مالية؛ ولذا لم يحاول سماع المزيد.
ذكرته الكتب والصحف المتكدسة في رواق الردهة بالمنزل الذي عاشت فيه سونيه مع كوتر أعلى الشاطئ. في الواقع، الإحساس العام بعدم الراحة والإهمال ذكره بذلك المنزل، وبغرفة المعيشة فيه التي كانت تدفئها مدفأة حجرية منتصبة في أحد الجوانب. وبالرغم من اشتعال النيران في تلك المدفأة - في المرة الوحيدة التي ذهب فيها إلى هناك - تناثر الرماد القديم منها، بالإضافة إلى قطع من قشر البرتقال المحروق وبعض القمامة. امتلأ المكان بالكتب والكتيبات التي تناثرت هنا وهناك. وبدلا من الأريكة، كان هناك سرير خفيف نقال؛ وكان على الزائر الجلوس وقدماه متلامستان مع الأرض - مع عدم إسناد ظهره - أو الرجوع إلى الخلف والاستناد إلى الحائط مع رفع قدميه عن الأرض وتشبيكهما أسفله. هكذا جلست كاث وسونيه في تلك المرة؛ ولم تشاركا على الإطلاق في الحديث الدائر. جلس كنت على مقعد بعد أن أزاح عنه كتابا ذا غلاف باهت اللون يحمل عنوان «الحرب الأهلية في فرنسا». تساءل كنت: هل هذا هو ما يطلقون عليه الآن الثورة الفرنسية؟ ثم وقعت عيناه على اسم المؤلف؛ كارل ماركس. وحتى قبل أن يرى الاسم، شعر بالعدائية والإرهاب الفكري يغشيان الغرفة. كان شعورا مماثلا لما ينتاب المرء في غرفة مليئة بآيات من الإنجيل، وصور للمسيح على ظهر أحد الحمير، أو سائرا عند بحر الجليل؛ الشعور بالإرهاب الفكري ذاته. لم يدفعه إلى هذا الشعور الكتب والصحف فحسب، وإنما الفوضى التي رآها عند المدفأة، والبساط الذي انمحى الرسم من عليه، والستائر خيشية النسيج. كان ثمة خطأ في قميص كنت وربطة عنقه. شك في ذلك من النظرة التي رمقتهما بها كاث، لكن بما أنه ارتداهما بالفعل، فما كان ليغيرهما على أي حال. أما كاث، فكانت ترتدي واحدا من قمصانه القديمة وسروالا من الجينز تغلقه فوق السحاب بمجموعة من دبابيس المشبك بدلا من الزر. رأى كنت أن ملابس زوجته لا تليق بالذهاب إلى دعوة على العشاء، لكنه استنتج أن هذه الملابس هي الوحيدة التي كان بوسعها ارتداؤها.
كان ذلك قبل ولادة نويل مباشرة.
أعد كوتر وجبة العشاء؛ كانت وجبة رائعة من الكاري، وشرب الجميع الجعة. كان كوتر في الثلاثينيات من عمره؛ أي أكبر من سونيه وكاث وكنت . كان طويل القامة، ضيق الكتفين، بارز الجبين، أصلع الجبهة، وذا سوالف نحيلة وشعثاء، كذلك كان يتحدث بنبرة واثقة سريعة وهادئة.
حضر العشاء أيضا زوجان أكبر سنا؛ امرأة بثديين متدليين وشعر أقرب للشيب مرفوع لأعلى من الخلف، ورجل قصير منتصب القامة غير مهندم الثياب، وإن كانت به لمحة من الرقي في أسلوبه، وصوته الحاد، وحديثه الدقيق، واعتياده تشبيك أصابعه على هيئة مربع منتظم. كان هناك أيضا شاب أصهب بعينين دامعتين منتفختين، وبشرة مبقعة. كان طالبا غير متفرغ يعول نفسه بالعمل سائقا لشاحنة تلقي بالصحف للصبية الذين يعملون على توصيلها بعد ذلك. كان من الواضح أنه قد بدأ لتوه هذه الوظيفة، وأخذ الرجل الأكبر سنا - الذي كان على معرفة به - يضايقه بتذكيره بخزي توصيل مثل هذه الصحيفة؛ تلك الأداة المستخدمة من الطبقات الرأسمالية، والناطقة باسم علية القوم.
وبالرغم من أن ذلك قد قيل على سبيل المزاح إلى حد ما، فإن كنت لم يستطع منع نفسه من التعليق، ورأى أن باستطاعته الإدلاء بدلوه ومقاطعتهما مثلما سيفعل فيما بعد أيضا. فقال إنه لا يجد عيبا في تلك الصحيفة.
كان الحضور يتوقعون منه مثل هذا القول. كان الرجل الأكبر سنا قد عرف قبل ذاك أن كنت يعمل صيدلانيا في إحدى سلاسل الصيدليات. وسأل الشاب كنت على نحو يوحي بأن الآخرين سيعتبرون ذلك مزحة: «هل تعمل في الإدارة؟» لكن كنت لم يعتبرها كذلك، وقال إنه تمنى أن يعمل في الإدارة.
قدم الكاري، وتناول الجميع الطعام، وشربوا المزيد من الجعة، وزودت النار بالحطب، وأظلمت السماء الربيعية، وتلألأت أضواء حي بوينت جراي على الجانب الآخر من خليج بورارد. وأخذ كنت على عاتقه مسئولية الدفاع عن الرأسمالية، والحرب الكورية، والأسلحة النووية، وجون فوستر دالاس، وإعدام جوليوس وإيثيل روزينبيرج، وأي شيء آخر وجهه الآخرون إليه. هزأ من فكرة إقناع الشركات الأمريكية للأمهات الأفريقيات بشراء اللبن الصناعي وعدم إرضاع أطفالهن طبيعيا، ووحشية شرطة الخيالة الكندية الملكية مع الهنود، وفوق كل ذلك هزأ من احتمالية أن يكون هاتف كوتر مراقبا. اقتبس حديثه من صحيفة «تايم»، ولم يخف عليهم هذه الحقيقة، بل صرح بها أمامهم.
Unknown page