قلت في ارتباك: «إنه ليوم جميل، قيادة السيارة فيه كانت ممتعة.» وقد كان يوما جميلا بالفعل، وكانت القيادة فيه ممتعة بالفعل؛ فلم تكن أوراق الأشجار قد ذبلت بعد، وإنما تغيرت حوافها فقط إلى لون الصدأ، وبدت الحقول بعد حصادها ذهبية اللون مما تبقى من الزرع عليها. إذن، لماذا تبدد جمال الطبيعة في حضور أبي وفي منطقته (ودعنا لا ننس أيضا أنه كان في حضور السيدة باري وفي منطقتها)؟ لماذا يبدو ما قلته - أو تحدثت به بصدق وتلقائية - متوافقا مع احتضاني للسيدة بي؟ ففي أحد الأمرين مبالغة، وفي الآخر زيف عاطفي.
عندما انتهت المناظرة، نهض أبي وأطفأ التليفزيون؛ لأنه لن يشاهد الإعلانات الدعائية إلا في وجود السيدة بي، وحين تتكلم مادحة إياها قائلة إنها تريد أن ترى الطفل الجميل ذا الأسنان الأمامية البارزة، أو تلك الدجاجة تطارد ذلك الشيء الذي لا تذكر اسمه (لم تكن تحاول أن تنطق كلمة «نعامة» أو أنها لا تستطيع أن تتذكرها). وكل إعلان يمتعها يسمح بمشاهدته، حتى إعلان رقائق الذرة الراقصة، وقد يقول هو: «الحقيقة أن فكرة الإعلان ذكية.» أعتقد أن هذا نوع من التحذير لي.
ما رأيه في كينيدي ونيكسون؟ «ما هما إلا مواطنان أمريكيان.»
حاولت أن أفتح المجال للمحادثة قليلا. «ماذا تعنين؟»
عندما يسأله أحد عن موضوع يظن أنه لا داعي للحديث فيه - أو عندما يطلب منه أن يدخل في نقاش عن أمر لا يحتاج إلى دليل إثبات - كان يلجأ إلى طريقته المعهودة في رفع شفته العليا من جانب واحد في اشمئزاز مظهرا سنين كبيرتين ملطختين بآثار التبغ.
كرر: «ما هما إلا مواطنان أمريكيان .» وكأنني أنا من نطقت هذه العبارة في البداية.
وهكذا جلسنا، بلا حديث وبلا صمت أيضا؛ لأنه - كما تتذكر - يتنفس بصخب؛ وكأنه يتنفس فيما يبدو من أعماق أزقة مبنية بالحجر تتصاعد منها أنفاسه خلال بوابات ذات صرير، تصدر صوتا ضعيفا يشبه سقسقة الطائر الصغير ثم صوت قرقرة ماء؛ وكأن جهازا غير بشري انطفأ في صدره. أتخيله من أنابيب بلاستيكية وفقاعات ملونة. لا يفترض بك أن تلاحظ أنفاسه، وسأعتادها عما قريب، لكنها تطغى على أي غرفة يوجد فيها، شأنها شأن كرشه الكبير وساقيه الطويلتين وتعبير وجهه. ترى ما هذا التعبير؟ يبدو كأنه حصل على قائمة من الأخطاء، بعضها قديم لم يطوه النسيان وبعضها متوقع، وقد رسم على وجهه تعبيرا يقصد به إنذار المرء - صاحب الأخطاء - كم هو صبور على الأخطاء التي يعلم المرء نفسه أنه ارتكبها، وأيضا على الأخطاء التي لا يراوده شك أنه سيقع فيها. أظن أن كثيرا من الآباء والأجداد يتكلفون كثيرا من العناء كي تكون لهم هذه النظرة - حتى أولئك الذين ليس لهم أي سلطة بعيدا عن بيوتهم، على عكسه - لكنه هو الوحيد الذي يتقنها تماما وبشكل دائم. •••
آر، لدي الكثير هنا لأفعله ولا وقت - كما يقولون - لفتور الهمة. حجرة الانتظار قد بليت جدرانها من أثر الأجيال المتعاقبة من المرضى الذين كانوا يسندون بكراسيهم محتكين بها. أعداد قديمة بالية من مجلة ريدرز دايجستس موضوعة على المنضدة. ملفات المرضى محفوظة في صناديق من الكرتون وموضوعة أسفل سرير الفحص، وسلال القمامة - حالها أنكى وأمر - متآكلة من أعلى، وكأن الفئران قرضتها. ولم يكن حال البيت أفضل؛ ففي حوض الغسيل بالطابق السفلي شقوق بنية اللون رفيعة كالشعر، وفي المرحاض بقعة صدئة مزعجة. لا بد أنك قد لاحظت أنه أمر أحمق، لكن أكثر ما أزعجني هو كل تلك الكوبونات والمطبوعات الدعائية. إنها داخل الأدراج أو تحت صحون فناجين القهوة أو ملقاة هنا وهناك، مع أن العروض أو التخفيضات التي تعلن عنها قد انتهت منذ أسابيع أو أشهر أو سنين عديدة مضت.
ليس الأمر أنهما ما عادا يتحكمان في زمام الأمور، أو أنهما كفا عن المحاولة؛ كل ما في الأمر أن كل شيء صار معقدا. فقد صارا يرسلان ثيابهما إلى المغسلة، وهو تصرف سديد، بدلا من أن تظل السيدة بي عاكفة على غسل الملابس بنفسها، لكن أبي لا يستطيع أن يتذكر الموعد المحدد لإحضار الثياب، فيحدث تلك الجلبة الشائنة المعهودة لعدم وجود ما يكفي من الملابس. والأدهى من ذلك أن السيدة بي تعتقد أن المغسلة تغشها، وتستغرق هذا الوقت الطويل في انتزاع البطاقات من على ثيابهم ثم تثبيتها على ثياب غيرها أقل منها جودة؛ ولذلك لا تفتأ تتشاجر مع عامل توصيل الثياب، متهمة إياه بأنه يتعمد أن يكون بيتهم هو آخر بيت يوصل إليه الملابس، وهذا - على الأرجح - هو ما يفعله.
وكذلك تحتاج الأفاريز إلى تنظيف، وكان من المفترض أن ينظفها ابن أخت السيدة بي، لكنه أصيب في ظهره؛ لذلك فإن ابنه سوف يأتي ليحل محله، لكن ابنه لديه مشاغل كثيرة متأخر في تنفيذها ... وهكذا الحال باستمرار.
Unknown page