ولم يكن النهار خيرا من الليل، وكأنما اصطلحت مظاهر الطبيعة وأسباب الحزن على نفوس هذه الأسرة البائسة، فاضطرتها إلى هذا السجن البغيض الذي هو أثقل شيء عليها؛ لأنه يخلي بينها وبين حقائق الأشياء، ويكرهها على أن تخلو إلى نفسها وتعكف على آلامها وتذعن لهذه الخواطر المحزنة المؤلمة التي تضطرب في نفوس المحزونين والبائسين.
فقد أصبحنا وإن الشمس لتنشر على القرية وما حولها من هذه الآكام اليسيرة التي ترتفع وتتدرج في لين ورفق ودعة غشاء رقيقا جدا من الضوء، يسحر العين ولكنه يثير في النفس شيئا من الحزن والأسى؛ لما ينقصه من القوة والثبات والاستقرار، ويحمل النفس على أن تتساءل: أقادر هذا الضوء على أن يثبت ويقوى فيغمر الأرض بحرارته وجماله ويبعث فيها القوة والنشاط؟ أم منهزم هو أمام هذه السحب التي تسعى من بعيد سعيا رفيقا ولكنه ملح؟
وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى كان جواب هذا السؤال واضحا؛ فقد انجاب عن الربى والآكام هذا الغشاء الرقيق المتهلهل من ضوء الشمس، وامتلأ الجو بهذا السحاب الذي كان يسعى ثقيلا يبطئ من ثقله لا من رفقه ولا من كلسه. وهذه الآكام تحجب عنا، وهذه الربى تخفى علينا، وهذه آفاقنا تحد من كل وجه، وهذا السحاب الثقيل البطيء يدنو من الأرض ويسعى في السماء وكأنه يزحف على الأرض زحفا. وهذه ظلمة كثيفة تأخذنا من كل وجه، وهنا نحن أولاء نتحدث فيما بيننا بأن يومنا لن يكون مضيئا ولا مشرقا ولن يكون يوم عمل ونشاط.
وما نطيل الحديث في ذلك، فقد أخذنا نسمع قصف الرعد بعيدا ولكنه يدنو، وإنها لعاصفة عنيفة قد ثارت في السماء فوقفت الحركة وألجأت الناس إلى دورهم . وهذا المطر ينهمر غزيرا عنيفا، وكل شيء يدل على أنه سيتصل وسيستغرق اليوم كله. وها نحن أولاء قد لجأنا إلى دارنا كما لجأ الناس، وخلونا إلى أنفسنا وأخذنا نشغلها بالحديث حينا، وبهذه الأعمال اليسيرة حينا آخر. ولكن الغريب في أمرنا أن صبرنا على الحديث ضئيل، ليس له حظ من ثبات أو استقرار، كأنما يخاف بعضنا بعضا، وكأنما يشفق بعضنا من بعض، وكأنما نحذر إن اتصل الحديث أن ينتهي بنا إلى ما لا نحب؛ فنحن نقتصد فيه اقتصادا، وينتهي بنا إلى البخل والإغراق في الصمت. وأي شيء أبغض من الصمت المتصل بين أسرة متحابة متعاطفة لا تستطيع الحديث؛ لأنه قد ينتهي بها إلى ما تكره، ولا تستطيع الصمت؛ لأنه قد يكون أسرع بها من الحديث إلى ما لا تحب؟!
وإذن فليفر بعضنا من بعض حتى لا يؤذي بعضنا بعضا بالحديث ولا بالصمت، وقد فعلنا. فأما أنا فخلوت إلى الكتب، وأما أبواي وأخي فالله يعلم إلام خلوا، وبماذا اشتغلوا.
وتجمعنا المائدة، فياله من اجتماع كئيب كله حيرة وكله ألم، وكله تردد بين هذا الحديث المتقطع الذي لا غناء فيه، وهذا الصمت الكثيف الملح الذي يريد أن يتصل، والذي يقول أكثر من كل حديث. ومع ذلك فقد لاحظت غموضا في وجه أمي وشيئا من الإلغاز في وجه أبي، ولاحظت فيما كانا يلقيان إلي من النظرات شيئا من العناية لم أتعوده من قبل، فيه إشفاق ظاهر وحنان قوي، وحب لم يتعودا أن يظهراه على هذا النحو.
ولم يكن حديثهما إلي - على تقطعه وندرته - يخلو من بعض هذا. فقد كان الصوت رقيقا عذبا أرق وأعذب مما ألفت، وكانت الجمل غامضة ملتوية بعض الشيء، وكان فيها تلميح للمستقبل ولكنه تلميح حزين، يريد أن يخفي حزنه وأن يظهر مسرورا مبتهجا بعض السرور والابتهاج. ولم يكن أخي بأوضح من أبوي وجها ولا نظرا، ولكن غموض وجهه ونظراته لم يكن يشوبه الحنان والعطف ولا الإشفاق والحب، وإنما كانت تشوبه هذه الدعابة الماكرة التي ألفتها منه، والتي ضقت بها غير مرة؛ لأنها لا تخلو من قسوة تبعث الحنق وتثير الغيظ، وربما رأيت على وجهه بين حين وحين ابتسامة لا تخلو من سخرية، ولكنها في الوقت نفسه لا تخلو من مودة ودعابة ومزاح. ليس من شك في أن بينهم أمرا يخفونه، ولا يريدون أن أظهر عليه إلا شيئا فشيئا، كأنهم يهيئونني له تهيئة، ويعدونني له إعدادا. فما عسى أن يكون هذا الشيء؟
لقد فكرت فيه، وزعمت لنفسي أني لا أعرفه، وأني حريصة على معرفته، وأني ضيقة بجهلي له وغموضه علي. وما أرى إلا أني كذبت على نفسي، وما أرى إلا أني تعمدت هذا الكذب؛ فإن نفوسنا - نحن الفتيات حين نبلغ من حياتنا هذا الطور الذي أنا فيه - معقدة أشد التعقيد، ملتوية أعظم الالتواء. والغريب أن آباءنا يظنون بنا السذاجة ويأخذوننا كما يروننا وينتهي إيمانهم بسذاجتنا، إلى أن يقنعنا نحن بهذه السذاجة، وإلى أن يخدعنا نحن عن أنفسنا، وإلى أن يخيل إلينا ويلقي في روعنا أننا كما يظنون، لا نفهم الحياة ولا نتعمقها، ولا نكاد نعرف ما يهيأ لنا وما يراد بنا. ونحن ننظم سيرتنا على هذا النحو من النفاق، من النفاق الذي لا نكاد نحسه ولا نتبينه، فضلا عن أن نعتمده أو نقصد إليه.
كذلك أرادت أوضاع الحياة الاجتماعية أن يخدع الآباء عن أبنائهم، وأن يخدع الأبناء عن أنفسهم، وأن تمثل في كل دار بين الشباب والشيوخ أو بين الجيل الذي يستقبل الحياة والجيل الذي يستدبرها قصة قوامها هذا النحو من الخداع، تضحك أحيانا ولكنها تحزن وتسوء في كثير من الأحيان.
زعمت لنفسي أصيل هذا اليوم أني لم أفهم غموض أبوي وتلميحهما، وأني لم أفهم غموض أخي ودعابته. ولكنني كنت كاذبة على نفسي، ولن أكذب عليك أيها الدفتر العزيز؛ فقد عاهدتك على أن تعرفني كما أنا، واستعنتك على أن أعرف نفسي. لقد فهمت عن أبوي وعن أخي كل شيء.
Unknown page