وكانت تجاهد لتسترد صوابها الذي شرد عنها، ورشدها الذي لم يبعد عهدها به، ولكنها لم تكن تبلغ من ذلك ما تريد، إنما هو الصوت العذب يأتيها من بعيد، من بعيد جدا، فيملأ أذنيها، والطيف الجميل يتراءى لها من بعيد، من بعيد جدا، فيملأ عينيها، وإذا قلبها يضطرب بين الثورة والهدوء، ونفسها تضطرب بين الجزع والبشر، وعقلها يضطرب بين الاستقرار والجنون. وفي الحق إنها لم تعلم أكانت يقظة أم نائمة حين تبدل من حولها كل شيء فجاءة ومن غير تمهيد ولا إعداد، فانجابت تلك الظلمات الكثاف التي كانت تملأ غرفتها، وطردت تلك الوحدة المطلقة التي كانت تحيط بشخصها وغرفتها وبيتها، وتملأ الطبيعة من حولها سكونا مخيفا وروعة مثيرة للقلق، وغمر نفسها وغرفتها نور لا سبيل إلى حده ولا الإحاطة به.
ثم نظرت فإذا غرفتها نفسها تتبدل، وإذا هي ترى كأنها في مكان لم تر نفسها فيه من قبل، ولكن يخيل إليها أن لها به عهدا ما، بعيد الأرجاء لا يبلغ الطرف له آخر مهما يدر في نواحيه، قد قامت فيه ألوان مختلفة أشد الاختلاف من الشجر، ونسقت فيه ضروب متباينة أشد التباين من الزهر، وترقرق فيه نسيم هادئ خفيف كأنما تملؤه الحياة، وجرت فيه غدران دقاق شديدة الصفاء، كثيرة الالتواء، وانطلقت فيه أصوات الطير بغناء جميل يملؤه السحر والبهجة، ويتردد فيه من حين إلى حين حنان حزين.
رأت نفسها فجاءة في هذا المكان، وأحاط بها فجاءة هذا الجمال الغريب الذي لا يحد ولا يوصف، ولو قد خلى بينها وبين نفسها وعقلها لاجتهدت في أن تتعرفه وتتبين أمره، وفي أن تبحث وتفكر لتعرف أين هي، وماذا ترى، وماذا تجد. ولكنها لم تفرغ لنفسها لحظة، ولا بعض لحظة، وإنما كان يشغلها عن نفسها هذا الصوت العذب البعيد الذي كان يملأ أذنيها، وهذا الطيف الحلو البعيد الذي كان يملأ عينيها، وهذه الألوان المختلفة من الشعور التي كانت تملك قلبها ونفسها وعقلها حين تسمع الصوت العذب وترى الطيف الجميل.
وكان أشد ما يؤثر في نفسها مما يحمل الصوت إلى أذنيها، هذا اللفظ الذي ظنت أنها لن تسمعه من مصدره منذ انتزع الموت منها في أشد قسوة وعنف ابنتها العزيزة، لفظ «أماه»!
وكان أشد ما يؤثر في نفسها حين كانت ترى ذلك الطيف، هذه الابتسامة الحلوة التي عرفتها في أثناء مرض ابنتها، والتي كانت تظهر على ذلك الوجه الشاحب الكئيب، فتصور الحب والبر وتصور الدعابة والتعزية معا.
كانت المسكينة تظن أنها لن تسمع ذلك الصوت ولن ترى هذه الابتسامة، فسل عن حزنها العميق، وعن سرورها الفياض، حين كانت تسمع وترى ما ظنت أن قد قطعت بينها وبينه الأسباب.
وكان صوت ابنتها يحمل إليها من بعيد، من بعيد جدا ، ألفاظا حلوة فيها تسلية وتعزية، ويحدثها أحاديث تصور البهجة والدعة والنعيم. وكانت ابتسامات ابنتها تحمل إلى نفسها هذه المعاني التي أشرت إليها آنفا، ومعاني أخرى جديدة تدل على أن ابنتها راضية ناعمة مطمئنة، وكأنما كانت تسمع وترى من ابنتها ما يلقى في نفسها أن الفتاة سعيدة مبتهجة لا تريد مهما يكن من شيء أن تخرج من سعادتها وابتهاجها، وكأنما كانت تقول لأمها: لا تحدثيني عن العودة إليكم ولا تطلبيها إلي، فلو قد خيرت لما اخترتها، ولو قد خلى بيني وبينها لما رغبت فيها، ولا ملت إليها، بل لكان انصرافي عنها ونفوري منها أعظم جدا مما تقدرين.
وكان هذا الحديث يلذع قلب الأم المسكينة أشد اللذع ويؤذيه أعظم الإيذاء، ويثير فيه شيئا من الغيظ، فكانت تهم بأن تعاتب ابنتها، ولكن الفتاة لم تكن تمهلها، وإنما كانت ترسل إليها في صوتها العذب وابتسامها الحلو معاني تصور التعزية والتسلية والتشجيع، وتصور فوق ذلك الحب والعطف والرثاء. وكأن الفتاة كانت تقول لأمها إني أرثي لك مما تجدين، ولو استطعت لمحوت الحزن من قلبك محوا، ولرددت إليه حظا من أمن ونصيبا من دعة، ولكني لا أستطيع، فلا بد للكتاب من أن يبلغ أجله، ولا بد لقوانين الحياة والموت من أن تنتهي إلى غايتها، فقد قضي على الناس أن يموت منهم من يموت، ويحيا منهم من يحيا، وأن تكون الذكرى هي الصلة بين أولئك وهؤلاء، وأن يكون في الذكرى كثير من الحزن والألم، وقليل من الراحة والدعة، وأن تعمل الأيام عملها على كر النهار ومر الليل، فيسعى العزاء إلى النفوس شيئا فشيئا، فيقرها ويهدئها ولعله ينتهي بها إلى النسيان.
وكانت الفتاة ترسل إلى أمها في صوتها العذب وابتسامها الحلو أحاديث أخرى تقول فيها: إني لم أزرك الليلة معزية عن فقدي، فأنا أعلم أن أوان هذا العزاء لم يأن بعد، وأنا أعلم أن للحزن أجلا يجب أن يبلغه، وأن للموتى على الأحياء حقوقا يجب أن تؤدى إليهم، ولكن رأيتك صباح اليوم مولهة مدلهة، مهدمة محطمة، قد فطر الجزع قلبك تفطيرا، وفرق الهلع نفسك تفريقا، فأشفقت عليك ورثيت لك، وأقبلت أرد على قلبك المكلوم بعض الدعة وعلى نفسك الثائرة بعض الهدوء.
رأيتك صباح اليوم حين أقبلت على قبري تزورينه، فراعك ما رأيت أو راعك ما لم تري.
Unknown page