دعاها فنفرت، فألح في الدعاء، فاضطرت إلى أن تستجيب، وأحب أن يداعبها فجمحت، ولكنه أغلظ الصوت وحدد اللحظ، فاضطرت إلى أن تسمع لمداعبته وإلى أن تذعن لطلبه حين سألها أن ترقص معه. ثم عرض عليها أن يصحبها في طريقها إلى الدار بعد أن انتهى الرقص، فهمت أن تعتذر وأن تشكر، ولكن لحظة حادة من عينه تلك التي كانت تنفذ إلى أعماق نفسها، فتملأ قلبها رعبا وتهز جسمها هزا عنيفا، أكرهتها على أن تقبل منه شاكرة له ما عرض عليها.
وفي أثناء الطريق ألقى إليها حبه إلقاء، لم يتلطف في لفظ ولم يتظرف في إشارة، ولم يصطنع رقة ولا لينا، ولم يظهر تأثرا ولا افتتانا، ولم يسلك إلى قلبها طريق الغزل التي تعود أن يسلكها العاشقون، وإنما أنبأها في لهجة عسكرية بأنه يحبها ويريدها على أن تكون له زوجا.
وقد ثارت نفسها لهذا الحب الذي يلقى إلقاء، ولهذا الزواج الذي يصدر به الأمر، ولكنها خافت، فلم تعلن ثورتها، ولم تظهر جموحها، وإنما آثرت الصمت، فخرجت به عن لا ونعم كما يقول بشار. ووجد الرفق إلى قلب هذا الفتى سبيلا، فلم يلح في هذا اليوم ولم يراجع، وإنما اكتفى بإلقاء الحب وعرض الزواج، وانتظر أن تثمر هذه الحبة التي ألقاها في هذا القلب الخصب الجديد.
ولم تره الفتاة أسبوعا كاملا، ولم تفكر فيه إلا يوما أو يومين ضائقة به نافرة منه، ثم انقطعت الأسباب بينه وبين نفسها حتى كان آخر الأسبوع، وهمت أن تخرج مع المساء إلى حيث يلهو الفتيان والفتيات بالرقص واستماع الموسيقى في ميدان غير بعيد من شجرات الصنوبر تلك التي يأوي إلى ظلها العاشقون إذا آثروا أن يخلص بعضهم لبعض نجيا. على أنها لم تكد تفكر في الخروج حتى خطرت لها صورة هذا الفتى البغيض، فترددت ثم أخذت نفسها بالبقاء، ثم ترددت ثم غالبها مرح الشباب.
فخرجت تسعى على خوف واستحياء، ولم تكد تبعد عن دارها خطوات حتى رأت هذا الفتى يسعى إليها بطيئا متثاقلا، ويلقي عليها لحظه كأنه الصخر يلقى على الجسم الضعيف، فهمت أن تعود أدراجها. ولكنها سمعت صوتا وقفها في مكانها لا تتقدم ولا تتأخر حتى انتهى الفتى إليها، فأخذ بذراعها وقادها إلى الميدان ورقص معها ما أحب الرقص، ولم يستطع فتى أن يدنو منها أو يسألها رقصة من الرقصات، حتى إذا بلغ الفتى أربه من الرقص قال لها في صوته الهادئ الحازم المخيف: «ستعودين الآن وسأصحبك إلى الدار.» ولم تستطع إلا أن تذعن وتعود كما أراد أن تعود.
وفي أثناء الطريق لم يلق إليها حبا، ولم يعرض زواجا، وإنما أنبأها بأنه سيخطبها إلى أسرتها إذا كان الغد، وأنها ستقبل الخطبة إذا سئلت، وقد استقبلت الفتاة هذا الكلام بثورة عنيفة لم تستطع لها إخفاء، فقالت لصاحبها في صراحة حازمة إنها لا تحبه ولا ترضاه لها زوجا وتود لو خلى بينها وبين الطريق.
وهمت أن تسترسل في هذا الزجر والتأنيب، ولكنه عدل بها عن طريقها في حركة عنيفة خفيفة معا، وحول وجهها نحو المحيط العريض المضطرب المصطخب، وقال لها في صوت حازم رقيق: «أترين إلى هذا البحر الذي لا حد له ولا قرار؟ فإنه سيتزوجك إذا لم أتزوجك أنا، فاختاري أحبنا إليك وآثرنا عندك وموعدك الغد.» ثم ردها إلى دارها لم يلق إليها حديثا ولم يسألها عن شيء.
وأنفقت الفتاة ليلتها ووجه نهارها من الغد، تروعها صورة البحر العريض العميق، وتروعها صورة هذا الفتى الغليظ العنيف. والغريب أنها لم تتحدث إلى أمها بشيء من حديث هذا الفتى، لم تفزع إليها، ولم تستعن بها. وإنما كاتمت سرها كتمانا شديدا، كأنما كانت تخاف إن استعانت بأمها أن تعينها وترفض الخطبة، فيحمل الفتى عليها هذا الرفض ويزوجها من البحر بدل أن يزوجها من نفسه.
وأقبل الفتى مع المساء فخطب الفتاة إلى أهلها، وعرضت الخطبة على الفتاة فلم تستطع لها رفضا، ولم تمض أسابيع حتى أمنت الفتاة شر البحر واحتملت شر هذا الزواج الغريب.
على أن هذا كله ليس شيئا بالقياس إلى غرابة ما كانت تجده هذه الفتاة بعد أن أصبحت زوجا لهذا الرجل الذي غصبها غصبا، فهي كانت - وما زالت إلى هذا الوقت الذي تحدثني فيه - تبغض زوجها أشد البغض إذا نأت عنه أو قربت منه. لا تستطيع أن تراه ولا أن تسمعه دون أن تنقبض نفسها أشد الانقباض، فإذا دنا منها متلطفا في اعتدال وأخذ معها في دعابته الهادئة، لانت له ودانت في خوف وإشفاق.
Unknown page