أما الجدير ذكرا بقصة فارس الدوار، فهو أنه كان يعزو نجاحه في سنوات الحريق إلى تعامله مع الأجانب، فلما كان ما كان معه في سنوات الإفلاسات والتسويات صار أثبت برهانا على مبدئه الأول، وهو أن معاملة السوريين تورد المرء حتفه التجاري، فكثيرا ما يتنهد أمام الناس، ويقول إنه لو بقي على معاملاته مع الأجانب لكان اليوم من أرباب الملايين، إلا أنه لسوء حظه مال إلى معاملة المواطنين، فصار ما صار على رأسه وخرب بيته، ثم إنه لليوم يندب سوء طالعه بارتكابه تلك الغلطة إذ مال إلى مواطنيه فعاملهم، وخربت تجارته؛ حتى إنه لا يستحيي أن يصرخ بالذين يطالبونه بالأمانات، وقد وعدهم في بادئ الأمر بالوفاء أنهم كانوا سبب خرابه، فلولاهم لظل تاجرا كبيرا، ولكنه خسر من جراء رغبته في نفعهم ما لا تعوضه السنون الكثيرة.
هذا ما حدث له باختصار، ولكني مورد المغزى من حياة هذا الرجل، وهو أنه يوما ما إذ كنت موجودا في أحد المنازل زائرا، وكان حضرته من جملة الحاضرين، أطلعنا أحدهم على ما جاء في عدد ذلك اليوم من إحدى الجرائد، وفيه مقدمة طويلة عن نجاح المحل التجاري المعروف باسم «حمصوني وشركاه»، وبها يلفت المحرر أنظار القراء لمطالعة إعلانهم في الصفحة الثالثة. فما كان من فارس الدوار إلا أنه ضحك، وهز رأسه كثيرا وقال:
كما كنا كذا أنتم
كما صرنا تصيرونا
الثقة في البشر
في سنة 1890 وصل إلى الولايات المتحدة شاب في الثلاثين من عمره يدعى مصطفى الشاهين، وقد كان ذا مطامح تجارية كبيرة، إلا أنه كان خاليا من الأسباب التي توصله إلى مراميه؛ ولهذا اضطر أن يتاجر، وإنما متاجرة بسيطة، فكان يجول القرى والمزارع حاملا صندوقه الخشبي، يبيع الفلاحين دبابيس وأمشاطا وسلعا صغيرة، وظل خمس سنوات يعمل ويجد حتى توفر لديه زهاء ألفي ريال في الكمر الذي أتى به من البلاد، وكان يتمنطق به تحت القميص في الأول، خوفا على ما فيه من المال، ولما استأنس ولم يعد يخاف اللصوص لم يستطع أن يغير عادته؛ فقد جرب يوما أن ينزع عنه الكمر، ولكنه عاد إليه في اليوم التالي؛ لأن النزلة الصدرية مدت إليه يدها لتصافحه، ولكنه لم يمد إليها يده؛ ولهذا اضطر أن يعود إلى سابق عادته.
ورجل كمصطفى الشاهين لا يشغل عقله ووجدانه إلا أن يكبر في عالم المالية، ويصير على حسابه محل كبير يؤمه الباعة، فيغنم منهم الأرباح وهو جالس على كرسيه كالآمر الناهي، لا سيما وأنه اكتسب بعض الخبرة في جلب البضائع ومعرفة الغث من السمين منها يرى أن الألفي ريال التي ذخرها خير رأسمال للتجارة.
ولكن أين الزبائن؟
هنا سأل نفسه هذا السؤال، وأعمل فكرته في الجواب عليه.
إن المحل الذي يطمح إلى إنشائه لا يمكن أن يكون في نيويورك؛ لأن الرجل عارف نفسه أنه غير كفء للتجارة في بلد عظيم بين تجار عظام. وهو لا يفلح إذا أنشأه أيضا في قرية من القرى التي قضى سنوات هجرته متجولا فيها؛ لأن القرية الواحدة لا تكفي لنجاح المحل لقلة سكانها، في حين أنه لا يستطيع أن يحمل المحل على ظهره كما كان يفعل بالكشة، فيجرب حظه في هذه القرية وتلك.
Unknown page