قال، وهو يتململ في رقاده قليلا: «كانت هناك احتجاجات وسط الطلاب بالجامعة. بدأ الأمر عندما قامت قوات الأمن باقتحام إحدى داخليات السكن الطلابي، ثم راحت الأمور تتأزم وتخرج عن السيطرة. وانتظم الطلاب في حملة احتجاجات واسعة بالجامعة، حتى قاموا بإلقاء القنابل المسيلة للدموع علينا، ثم اقتحموا الجامعة واعتقلوا بعض الطلاب.» - «هل كنت تشارك في الاحتجاجات؟» - «لا، كنت أزور بعض الأصدقاء في الكلية.» - «وبعد؟» - «لا أتذكر كل الأحداث جيدا، قاموا بتطويق الكلية من الخارج، وكنا نختبئ نحن في إحدى القاعات عندما داهمتني النوبة. تعاون بعض الطلاب على حملي والخروج بي من الجامعة بطرق ملتوية حتى أوصلوني للمستشفى. لكن النوبة انتهت قبل وصولي للمستشفى.»
قمت بتدوين بعض الملاحظات في مفكرتي: «هل أصبت بنوبة أخرى؟» سألته. - «نعم.» رد باقتضاب. - «متى؟» سألته.
قال: «في شهر يونيو، منتصف هذا العام.»
سألته: «هل كان هنالك شيء مميز في ذلك اليوم؟» - «كانت هنالك احتجاجات في العاصمة، وقد قامت الشرطة بحصار الجامعة ورميها بقنابل الغاز، بل قاموا بإطلاق الرصاص الحي. رأيت طالبا يموت أمام ناظري، بعد أن قاموا بإصابته برصاصة في رأسه من خارج أسوار الجامعة. لم أستطع النوم يومها ولعدة أيام تالية، وظلت صورته وهو مسجى على الأرض، ورأسه ينزف بلا انقطاع، تبرز أمامي كلما أغلقت عيني. وفي ذات الليلة داهمتني ذات الأعراض.»
مرت لحظة صمت، بينما كنت أحاول أن أستوعب ما سمعته. وبسرعة طفت على سطح ذهني ذكرى انتفاضة أكتوبر، بعد أن قامت الشرطة بقتل القرشي، طالب جامعة الخرطوم في ذاك الوقت، وقبل أن يجف دمه اندلعت ثورة عارمة في البلاد أطاحت بحكومة عبود.
كنت صبيا صغيرا آنذاك، لكنني ما زلت أذكر صوت هدير الجموع ، عندما تدفقت للشوارع وهي ترفع اسم القرشي على لافتاتها، وأهازيج النصر وأغاني الحماس التي تتغنى بمجد تلك الأيام، والتي حفظناها فيما بعد عن ظهر قلب. تعلق في ذاكرتي تحديدا أغنية محمد الأمين:
يا أكتوبر نحن اللي عشنا ثواني زمان
في قيود ومظالم وويل وهوان
كان في صدورنا غضب بركان
وكنا بنحلم بالأوطان
Unknown page