Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genres
65
ولذلك ينسب جادامر الأخطاء إلى إمكانية الفهم، وأن الوصول إلى المثل الأعلى للتنوير، وهو المعرفة الكاملة - أي المعرفة المتحررة من كل وجهات النظر الخاصة أو من كل التحيزات - هو أمر مستحيل، بل محض وهم باعتبارها تصورا حديا أو نهائيا؛ لأننا في الأصل كائنات موجودة وفاعلة في التاريخ، والوعي نفسه هو أحد أساليب وجودنا التاريخي؛ أي أن الوعي نفسه محدود ومحدد بالتاريخ.
لقد أعطى جادامر للهرمنيوطيقا بعدا أعمق عندما جعل للفهم دورا أساسيا في فلسفته التأويلية، وعلى الرغم من أن مقولة الفهم قديمة في تاريخ الفلسفة، إلا أن جادامر توسع في إمكانيات الفهم توسعا لا حد له؛ فالهرمينوطيقا لديه هي مفتاح لفهم البشرية وفهم الآخرين: «الفهم حدث يتم بشكل متبادل بين كل من المفسر والنص، الذات والموضوع. ولهذا فإن البحث عن معنى موضوعي، في ذاته، غير ملائم لاستيعاب الفهم بوصفه ذاتا شفافة تحتوي المضمون في ذاتها أو تتحكم تحكما نهائيا كاملا في موضوعها.»
66
وربما تتضح أهمية مفهوم أو نظرية الفهم عند جادامر في الأزمة التي واجهها العالم في العصر الحديث والمتعلقة بالقدرة على فهم الماضي وفهم الثقافات الأخرى، ويريد جادامر أن يقيم نوعا من التواصل اللغوي بين البشر لفهم أنفسهم وفهم الآخرين بحرية وتعاطف. وقد دافع جادامر عن الذاتية، وكيفية انصهار الذات في النص والتحامها بأفقه، فوعيه التاريخي الفعال يتضمن من الوجود أكثر مما يتضمن من الوعي.
هكذا حدث عن جادامر نوع من التحول من التأمل في الذات على الطريقة الديكارتية إلى نظرة جديدة تماما: إن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بتعامله مع العالم وبقصديته المتجهة نحو الآخرين من خلال اللغة، ومن خلال سلوكه مع الأشياء والأحداث. وهذه نظرة مختلفة تماما إلى الإنسان الذي لا يعرف نفسه - كما يرى جادامر - ولا يقوم بعملية المعرفة عن طريق الفصل بين الذات والموضوع؛ لأن وجود الإنسان التاريخي أسبق من بحثه عن المعرفة أو من معرفته لنفسه. لقد تحولت الفلسفة الآن إلى التأمل في الشروط التي لا غنى عنها للقصدية (باعتبارها ماهية الوعي عند هوسرل)، ويكشف هذا التأمل أننا قبل كل شيء كائنات فاعلة ومجسدة في العالم، وأن معرفتنا للعالم تقوم على تعاملنا معه، وأنه ليس هناك مجال «لموضعة» سيطرتنا على العالم باعتبارنا كائنات فاعلة فيه.
67
وقد أصبحت مهمة الفلسفة هي توضيح هذه الخلفية أو هذا الموقف، وبيان ما ينطوي عليه ومراجعته باستمرار بحيث نصل إلى فهم أفضل للإنسان ككائن فاعل وعارف ومنفتح على العالم وعلى الآخرين انفتاحا حرا.
هكذا تحول المثل القديم من معرفة الذات إلى صنع الذات بحدوث تحول في التراث العقلي الذي كان يرتكز على النقد الذاتي، فلم تعد المعرفة من خلال معرفة الذات فقط. بل من خلال التعامل مع الآخرين والأشياء من حولنا عبر اللغة. بذلك تحولت الفلسفة إلى بحث في اللغة، ولهذا السبب نفسه ينتظر الكثير من فلاسفة التأويل لتأسيس فلسفة حرية وانفتاح عن طريق لغة مشتركة يكشف فيها عن جذور الهيمنة والكذب والخطأ والسيطرة؛ لكي تستهدف الوصول إلى لغة إنسانية وعقلانية تجمع بين البشر على أساس الثقة المتبادلة والحوار المفتوح، ومن ثم يبحث فلاسفة التأويل في الأيديولوجيات في محاولة لرفع الأقنعة عن بعض المفاهيم المستخدمة مثل السلطة، والمعنى والأيديولوجيا ... إلخ. (3-11) التفكيكية
ننتقل الآن من القراءة الهرمنيوطيقية - التي تفضي إلى «المعنى الحقيقي» أو إلى دلالة النص الفلسفي أو حقيقة الموضوع الذي يطرحه النص - إلى نوع آخر من فلسفة قراءة وتفسير النصوص وهي التفكيكية التي يحلو للبعض أن يصفها بأنها تعبر عن أفكار لنهايات: نهاية التاريخ ونهاية الفلسفة. والتفكيكية هي آخر الفلسفات أو التيارات التي ظهرت في الربع الأخير من القرن العشرين في محاولة لتفكيك ثوابت الفكر الفلسفي الغربي من أنساق ومذاهب ومفاهيم منطقية وعقلية، أنها بمعنى آخر خطاب نقدي - في نهايات القرن العشرين - لكل إبداعات الحضارة الغربية وثوابتها العقلية المستقرة. وجاك دريدا (1931م-...) هو أحد أقطاب هذا الخطاب التفكيكي، وقد احتل مركز الدائرة في المسرح الفلسفي الفرنسي عام 1967م بنشر ثلاثة كتب كانت بداية مشروعه لتفكيك الميتافيزيقا الغربية أو ما سماه مركزية اللوجوس
Unknown page