Haqiqa Muqaddima Qasira
الحقيقة: مقدمة قصيرة جدا
Genres
بيد أن هذا المنطق متسرع إلى حد ما؛ ففي الواقع، ثمة فارق ضخم إذا كنت تحلم الآن؛ أولا: سيكون الجزء الأكبر من معتقداتك خاطئا؛ فقد تعتقد بوجود قطعة من كعك الفراولة؛ أي شيء مادي، أنتجها خباز، ولها شكل ووزن ومحتوى سكر معين، شيء يسبب إدراكك لهذه القطعة من الكعك، لكن كل هذه المعتقدات ستكون خاطئة؛ فليس هناك قطعة كعك بهذه المواصفات، بل مجرد مجموعة من الصور في عقلك تتجمع معا بطريقة معينة لتشكل فكرتك عن قطعة الكعك، دون أي صلة بأي كعك في الواقع الخارجي على الإطلاق.
ثانيا: سيكون عليك أن تراجع معتقداتك بشأن الأخلاق والمبادئ الأخلاقية. ربما تعتقد أن ثمة أشخاصا حولك، كزوجك وأبويك وأصدقائك وزملائك. فإذا كنت في حلم، فكل هذا غير واقعي. هناك أفكار في عقلك تعتقد أنها تمثل أشخاصا، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك. نحن عادة ما نعتقد أننا مجبرون على أن نتصرف على نحو أخلاقي نظرا لتبعات أفعالنا على الآخرين. فإذا كان فعل معين يسبب معاناة للآخرين، فعلينا أن نحجم عن القيام به؛ أما إذا كان يسبب إسعادهم، فعلينا أن نكافح من أجل القيام به، ولكن إذا لم يكن كل الناس الذين تتعامل معهم إلا صورا في حلمك، فهذا الدافع يتلاشى تماما. مع ذلك، ما زال عليك أن تتجنب الأفعال غير الأخلاقية التي سيكون لها عواقب مؤسفة بالنسبة لك (فأن ينتهي بك الأمر في سجن بالحلم ليس أفضل حالا بكثير من أن ينتهي بك الأمر في السجن في الواقع)، ولكن ما دمت تستطيع الإفلات بفعلتك، فإن أماني الآخرين وهمومهم لن تردعك بالضرورة عن أي فعل؛ نظرا لأن تلك الأماني والهموم كلها غير واقعية بالمرة.
إذن هناك في الحقيقة تبعات جوهرية لما تعرفه وللطريقة التي يجب أن تتصرف بها إذا لم تكن تجربتك بأكملها إلا حلما، هذه النتائج تصبح متطرفة بشكل خاص إذا افترضنا أن الموجود هو أنت فقط والأفكار التي تدور بعقلك. هذه الحالة الفلسفية يطلق عليها «نظرية الإيمان بالذات» وتقلص العالم ليصبح في حجم عقلك. (لعلك تعرف المزحة التي يكتب فيها شخص مرتبك مؤيد لنظرية الإيمان بالذات لكاتبة عمود النصائح: «سيدتي العزيزة، أنا من المؤمنين بنظرية الإيمان بالذات، وهذا وضع محمود، وأتساءل لماذا لا يوجد أشخاص آخرون مثلي؟») بالمقارنة بنظرية الإيمان بالذات، يعتبر الاعتقاد بأنك تحلم الآن معتدلا؛ فإذا كنت تحلم الآن، فسيكون هناك وقت تستيقظ فيه، وهناك طرق محدودة نقول بها إنك قد تملك بعض المعتقدات الصحيحة (ربما معتقدات في الحقائق الرياضية، التي قد تكون سليمة أيضا في عالم اليقظة)، يمكننا أيضا أن ندافع عن التصرفات الأخلاقية في عالم الحلم (إذا قلنا إن التصرفات غير الأخلاقية تشوه شخصيتك، وإذا كانت شخصيتك شيئا موجودا على الأقل جزئيا في حالة اليقظة الخاصة بك). ولكن بالنسبة للمؤمنين بنظرية الإيمان بالذات، فليس هناك عالم خارجي، وليس هناك أشياء، وليس هناك أشخاص؛ هناك شخص واحد فقط، هو أنا، وكل شيء يحدث داخل عقلي.
عادة ما يرتبط القلق مما إذا كنا نحلم الآن بالفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650) الذي ناقش هذه القضية في مستهل كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى». أما في النقاش المعاصر، فغالبا ما يتم بحث هذه القضية بتناول بديلها الأكثر حداثة وتكنولوجية: القلق من أن نكون دماغا في وعاء.
تتيح لنا التكنولوجيا الطبية الحديثة الحفاظ على حياة بشر يفتقدون أعضاء حيوية متنوعة كالقلب أو الكليتين. وسرعان ما ستكون هناك رئات وأكباد صناعية، وليس ثمة مبالغة في الخيال حين نقول إنه في وقت من الأوقات في المستقبل سنتمكن من الإبقاء على حياة دماغ بشري على الرغم من تدمير جسده. سيتم إمداد هذا الدماغ بالمواد الغذائية عبر بديل للدم - في العادة محلول مؤكسج من أملاح متعددة - ولن يعود معتمدا على جسمه السابق من أجل وظائف الحفاظ على الحياة. تم تحقيق نجاح في هذا الاتجاه مع أدمغة الخنازير الغينية، ويبدو أنها مسألة وقت قبل أن يستطيع الطب فعل الشيء نفسه بأدمغة البشر.
مع ذلك، لا تكمن الصعوبة الأساسية في كيفية الحفاظ على حياة مثل هذا الدماغ، وإنما في الحفاظ عليه نشطا ومحفزا؛ حيث إن الحفاظ عليه معزولا سيكون مثل كونه مشلولا وأعمى وأصم وأبكم وغير قادر على الشم أو التذوق أو اللمس في الوقت نفسه، وهذه حالة أسوأ من حالة المرضى المصابين بمتلازمة المنحبس، والذين يعانون من شلل رباعي وعدم قدرة على الحركة أو التواصل نتيجة تلف الدماغ الأسفل وجذع الدماغ.
شكل 1-2: تعديل سينمائي مبكر لسيناريو الدماغ في وعاء.
على الأقل يتلقى هؤلاء المرضى بعض المدخلات الإدراكية، أما الدماغ المعزول فلا يحصل على أي معلومات عن العالم من حوله. ولكي تحافظ على سعادة دماغ في وعاء، عليك إذن أن تحفز أعصابه على نحو يحفز المدخلات من أعضاء الإحساس السابقة الخاصة به. والقيام بذلك على أي نحو شامل هو بالتأكيد أمر يخرج عن نطاق قدرات العلم في الوقت الحالي، ولكن أساسيات التكنولوجيا اللازمة لذلك موجودة؛ فقد استخدمت واجهات الدماغ-الكمبيوتر لاستعادة القدرة المحدودة على الإبصار للأشخاص الذين لم يولدوا مكفوفين عن طريق زراعة مجموعة من الأقطاب الكهربائية المتصلة بكاميرا في القشرة البصرية مباشرة، وقد تم الحصول على نتائج مشجعة مشابهة مع الأذرع الآلية. وقد يتيح لنا تطوير هذه التقنيات في المستقبل توفير عوالم محاكاة كاملة للترفيه عن الأدمغة المعزولة المتصلة بأجهزة حفظ الحياة. بالطبع لن تكون هذه العوالم المحاكاة قريبة من شكل العالم الواقعي. فسيكون من القسوة المحضة أن نرسل نبضات كهربية للدماغ تجعله يرى ما سيراه إذا كان له عينان؛ إذ سيرى حينها الجزء الداخلي من برطمان مملوء بمادة مغذية سائلة، ثم يتخطى ذلك إلى المنظر المحبط لوحدة حفظ الأدمغة المعزولة في المستشفى المحلي، المليئة بأرفف تحمل صفوفا فوق صفوف من الأدمغة المماثلة. وبما أن الواقع المحاكى جزء من العلاج الطبي بغرض تقليل معاناة المريضة، أفلن يكون من الأفضل إعطاؤها (أو على الأحرى إعطاء مخها) عالما محاكى تتمتع فيه بجسد وتعيش حياة بشرية سعيدة كاملة بكل ما تحمل الكلمة من معنى؟
ولكن هذا يثير خاطرا مقلقا: إذا كان هذا ما قد يفعله الأطباء، وإذا كانت الأدوات التكنولوجية اللازمة ستكون متاحة عند نقطة زمنية ما، فكيف يتأتى لنا أن نعرف أن هذا ليس ما يحدث لنا بالفعل؟ ليس من المجدي أن يكون الرد «نحن نعيش في بداية القرن الحادي والعشرين والأطباء غير قادرين على فعل ذلك حتى الآن.» فإذا كنا أدمغة معزولة يتم إمدادها بعوالم محاكاة، فقد تكون الحالة هي أنه يبدو أننا نعيش في عام 2011 في العالم المحاكى، ولكن التاريخ الحقيقي هو 2199. وقد يكون خداعك بشأن الزمن جزءا من الخطة العلاجية؛ فربما يكون عالم 2199 عالما محبطا قبيحا لا تستحب الحياة فيه؛ ومن ثم فالأفضل لنا أن نعيش في عالم 2011 المحاكى.
قد تظن أن هذه العوالم المحاكاة ليست قابلة للتطبيق، فرغم كل شيء، إن أردنا الحق، فلن تضطر نظم المحاكاة إلى توفير عالم لا يستطيع الدماغ تغييره (شيء أشبه بجعل الدماغ يشاهد فيلما يجري داخل الخلايا العصبية)، وإنما عالم يستطيع الدماغ التفاعل معه ويستطيع التأثير فيه من خلال القرارات التي يتخذها (شيء أشبه بجعل الدماغ يلعب لعبة كمبيوتر داخل الخلايا العصبية)؛ لذا إذا سرت في شارع محاكى وقررت فجأة أن تفتح باب أحد المنازل، فسيكون على نظم المحاكاة أن توفر على الفور كل ما قد تراه وتسمعه وتلمسه وتشمه وتتذوقه في هذا المنزل؛ وبناء هذا القدر الضخم من الواقع المحاكى وتوفيره للدماغ في الوقت الفعلي مهمة هائلة ليست فقط خارج نطاق قدراتنا التكنولوجية الحالية، ولكن أيضا قد تكون خارج نطاق أي حضارة مستقبلية.
Unknown page