لذا لم يعد رسم لوحات تجسد الإنسان «بعد التكعيبية» شيئا مقدسا للغاية؛ إذ يمكن تحويله إلى منظر طبيعي كثير التضاريس - وبعد الدادائية وأوبرا «التوقع»، صار التداعي اللاعقلاني للأفكار يؤسس نفسه كوسيلة لفهم الطبيعة البشرية، في أعمال من «ووزيك» لبيرج إلى «أغنيات لملك مجنون» لماكسويل ديفيز. وكما أشار العديد من المعلقين، هناك عدد من الخيوط أو السلالات يجدر النظر إليها هنا؛ فالتغيرات الفنية الجوهرية في الموسيقى، على سبيل المثال في عام 1912، والتي شهدت التحرر من الموضوعاتية في «الألعاب» لديبوسي، وبداية النغمات النشاز في «بييرو في ضوء القمر» لشونبرج، والمقاييس والإيقاعات الثورية لباليه «طقوس الربيع» لسترافينسكي، كان يمكن - واستطاعت بالفعل - أن تنطلق في شتى أنواع الاتجاهات، ولم تكن جميعها لا مقامية، ولم يكن أحدها ينتمي إلى أي جماعة طليعية بعينها. وكانت الابتكارات الثلاثة جميعا محررة، وجميعها فرضت مشكلات جديدة على المؤلفين الموسيقيين على اختلاف قناعاتهم، وأمكن استخدامها داخل نطاق جميع صنوف الأطر التمثيلية للأفكار، ما أتاح، على سبيل المثال، الأحاديث الممطوطة الرمزية الصوفية لأوبرا كارول شيمانوفسكي «الملك روجر»، والهمجية المدنية لباليه بيلا بارتوك «الماندرين العجيب»، وحتى الكوميديا الغنائية التي اتسم بها عمل ويليام والتون «الواجهة».
ولعل الأفضل أن نرى التقنيات الحداثية باعتبارها قادرة على المواجهة في شتى أنواع الاتجاهات، على الرغم من المطالبات التقدمية المتعلقة بالطرق المستحسنة للاستفادة منها؛ على سبيل المثال، تطور الكولاج السياسي في حقبة الفايمار، أو تأثيرات التغريب البريختي. ويرجع هذا إلى أن الفن الحداثي الراسخ كان يستهدف - بشكل شبه دائم - التأثيرات السياسية أو الاجتماعية (أو الدينية) المتعددة على عقل القارئ، أو المستمع، أو المشاهد. ومن هنا جاء الطابع النسوي لدوروثي ريتشاردسون وفيرجينيا وولف، وقومية ييتس وجويس، والتحليل الاجتماعي لأودن وزملائه، وجورج جورسز، وجون هارتفيلد (هيلموت هيرزفيلد) وأوتو ديكس، ودفاع أودن، وإليوت، وسترافينسكي عن المسيحية، والعلاقة بين فن العمارة والمجتمع، تلك العلاقة التي طرحها جروبيوس ولو كوربوزييه؛ والنقد الساخر واللاعقلاني لإرنست وأراجون، والتحرر الجنسي الذي استهدفه جيد، وجويس، ولورانس، وبريتون، ناهيك عن النقد الاجتماعي الشعبي في أفلام مثل: «الأزمنة الحديثة»، و«ميتروبوليس»، و«المدمرة بوتمكين» وما إلى ذلك. ومعظم هذا الفن، بالنظر إلى الفرضيات العامة للمجتمعات في أوروبا في مطلع القرن العشرين، ليبرالي أو يساري بشكل واسع في المقصد، إلى حد أنه يقارن الأيديولوجيات السياسية المحافظة السائدة مع نموذج غير إلزامي، ولكنه نقدي للثقافة.
شكل 4-2: جون هارتفيلد، «كما في العصور الوسطى ... كذلك في الرايخ الثالث» (1934). المقارنة بين الثقافات بالمونتاج الفوتوغرافي التلميحي، والخيانة النازية لكل ما هو حديث.
إن الأعمال الحداثية كافة ترتبط بطريقة ما بالبرامج السياسية، لدرجة أنها كانت متفاعلة مع صراعات سياسية حالية في المجتمعات. ويتضح هذا على نحو خاص، على سبيل المثال، في حالة جورج جروش وزملائه في مجال دمج وتجميع الصور الفوتوغرافية، والإخوة هيرزفيلد (انظر الشكل
4-2 )؛ فقد كان باكورة أعمال جروش كدادائي يحمل قدرا كبيرا من التعبير الهندسي المستقبلي والتكعيبي، ولكن خلال مشواره لاحقا، نجده يهذب هذا إلى أسلوب كارتوني أكثر تمثيلا بكثير، على اعتقاد منه بأنه يتفاعل «مع الميول الهائمة كالسحب لما يسمى بالفن المقدس الذي وجد معنى فيما هو تكعيبي وقوطي» في إشارة إلى الحركة التعبيرية. ويذكرنا هذا أنه في جميع الحقب يوجد تقليد من تقاليد الفن الواقعي مدفوع بقوة بالملاحظة الأخلاقية. وفي حالة جروش، يظهر هذا في الكثير من اللوحات ومجموعات رسوماته، وأبرزها «وجه الطبقة الحاكمة» (1921) و«ها هو الإنسان» (1923)، اللذين ربما يكونان الأبرز بين كتبه؛ فهو لا يعنى فقط بالخيانة أو معاناة العمال ، ولكنه ينظر إلى الحياة الخاصة للطبقات الحاكمة، الذين ينظر إليهم كداعرين، ومولعين بقتل الرغبة، وبغاة، فيما يعد رؤية بهيمية وقبيحة وسيرسية للسياسة والنشاط الجنسي. وهي ترمز إلى التجرد من الإنسانية الذي يظهر داخل أي مجتمع رأسمالي، حين يعامل الأقوياء الآخرين كمجرد أشياء.
إنني أعتزم خلق رؤية واقعية تماما للعالم ... لم يعد الإنسان فردا يمثل برؤية نفسية ثاقبة، وإنما هو مفهوم جماعي شبه آلي. اطمس اللون، وستجد الخط مرسوما حول بنية فوتوغرافية متجردة لإعطاء اتساع. مرة أخرى، عودة إلى الثبات وإعادة البناء، والوظيفة مثل: الرياضة، الهندسة، الآلة. لا مزيد من الرومانسية المستقبلية الديناميكية.
لا شك أن جروش قدم إسهامات مهمة للتشخيص الثقافي من النوع السياسي، فنجد لوحته «أعمدة المجتمع» (1926) تقدم توجها تنبئيا نحو النازية؛ إذ تصور عنف وعسكرية اليمينيين. وكما عبر كارل أينشتاين عن ذلك، في عام 1923:
هناك توتر هائل بين أقطاب الفن المعاصر؛ فالبنائيون والرسامون اللاموضوعيون يؤسسون ديكتاتورية للشكل، بينما آخرون أمثال: جروش، وديكس، وشليشتر، يحطمون الواقع بموضوعية لاذعة. إن رسمهم بمنزلة حكم بالموت، ورقابتهم بمنزلة سلاح شرس.
يعتمد جروش على توافق رسام الكاريكاتير مع الواقعية، مهما كان عصريا (كما يفعل بيكاسو)، ولكن ماذا يحدث للمضمون السياسي لعمل حداثي بالكامل، يستغل تقنية حديثة من تقنيات ما بعد الحداثة، ويعتمد على عدة طبقات من التلميح التاريخي والخرافي والفني؟ كثير من الروائع الحداثية جمعت بين التجريب الشكلي والدلالة الفلسفية أو السياسية؛ ف «الرباعيات الأربع» لإليوت، على سبيل المثال، تعد بنية لفظية مستقلة وجميلة، وأيضا تحليلا عميقا للاهوتية الإنجيلية. من الممكن بالطبع وضع الشكلية والاستقلالية الجمالية (اللتين يمكن أن يبدو أنهما موجهتان للمتع الخاصة لا أكثر) والالتزامات السياسية إحداها ضد الأخرى، ولكن في الكثير من الحالات الحداثية كانت متعاونة (لا سيما في «ووزيك»). «الجورنيكا» (1937)
لقد استهللت هذا المقال ببعض الأمثلة، وأود أن أختتمه بمثال له مدلول سياسي عظيم مثل أي عمل آخر. تجمع لوحة «جورنيكا» لبيكاسو (الشكل
Unknown page