كان الجزء الأكبر من الفن الحداثي، مثلما أوضحت، تحرريا وفردي النزعة. وقد حاول العديد من المعلقين اللاحقين على الحداثة الإشارة إلى الطريقة التي صار بها تقليد أساسي للفن الحداثي، بالنسبة لهم، جزءا من نقد يساري، بوجه عام، للمجتمع. وتنطوي الحداثة على «تقليدين» على الأرجح. أحد هذين التقليدين يركز على نزعة طليعية - حيث يفهم أن لكلمة «تقدمي» معاني هيجلية ماركسية إضافية - لوعي بالتقدم التاريخي نحو التحرر الاجتماعي (والتي يمكن الإفصاح عن «طبيعتها الحقيقية» للمبتدئين في الفلسفة أو النظرية أو اللغة الفنية ذات الصلة). يميل الفنانون في هذا التقليد المثالي لأن يكونوا أشبه بهؤلاء الفلاسفة الذين أرادوا تنقية اللغة الدارجة، جاعلين إياها أكثر منطقية وأكثر «علمية» (مثل: دي ستيل، وحركة الباوهاوس، وشونبرج في بعض الحالات المزاجية). وينظر فنانون آخرون إلى اللغات المختلفة للفن باعتبارها لغة اجتماعية في جوهرها، وربما حتى كلعبة. ومن داخل المجتمع الفني وبالنظر وراءه، نجدهم واعين بالمنافسة، بل ولديهم وعي بدرجة ما بأساليب خطاب القوة المتنافسة الخاصة بمؤسسات بعينها (وينطبق هذا بشكل خاص على تلك المهتمة بتحرر المرأة). وسوف يكون للتجديد والتطور بالنسبة لهذه المجموعة الثانية علاقة كبيرة بالتطور التاريخي غير المنظم - إلى حد ما - للمؤسسات وللنشر، وفي ذلك المجلات الطليعية، وللعرض النقدي من أنواع أخرى، ومن ذلك التعاون مع الجماعات الطليعية، والتصورات والمفاهيم الصحفية، وكل خصوماتهم وعلاقاتهم التعاونية. ومهما كان مدى التزامهم تجاه تجمعات طليعية بعينها، سوف تركز فرضيتهم الأساسية على تعددية مؤسسية تتيح لهم الازدهار داخل مجال نقاشي للآراء التي تحظى بأفضل الفرص للوصول إلى الحقيقة. أما بالنسبة لليمين واليسار المتطرفين، على الجانب الآخر، فشعارهم هو «ابق ناقدا»، بمعنى الاستمرار في الإيمان والقناعة بالأمر إلى أن تتحقق لك السيطرة، ولا تغرق في صدام غير نقدي مع القواعد الاجتماعية الجديدة، أو تصبح متساهلا أكثر مما ينبغي مع أمور مثل استقلال العمل أو استقلال الأشخاص. لكن بالنسبة للوسط الليبرالي، فإن النقاش النقدي الذي تثيره الأفكار والأعمال الفنية الجديدة والصعبة هو ما يهم في الأساس.
هذا يعني أنه كانت هناك جماعات فوضوية وراديكالية وموقرة للتقليد حول الوسط السياسي أسست حداثة ليبرالية، فقامت الحركة الدادائية، على سبيل المثال، التي رفضت في بياناتها الأولى أي شكل من أشكال الأيديولوجيا المنظمة، بالتشكيك في المؤسسات التي كانوا هم أنفسهم يعملون تحت مظلتها، ما جعل الدادائية بالنسبة لكثيرين النموذج المثالي لطليعية راديكالية؛ ما أدى إلى «ثورة ضد الفن» هاجمت «الفرضية غير النقدية القائلة بأن الفن يجسد ويبيح رؤية ما للثقافة». أما التقليد الليبرالي البرجوازي، على الجانب الآخر، فكان يميل إلى التوفيق ما بين أفضل ما في الثقافة وأفضل ما في الفن، لتكوين ما من شأنه أن يصمد ويظل ملائما، بما في ذلك فن الماضي (وهو منهج للتقليديين والحداثيين التلميحيين وصف فيما سبق).
إن طبيعة الحركة الطليعية هي القضية هنا، إذا كنا نحاول فهم الحركات الحداثية في العموم، وليس إدراك النزعات اليسارية، أو الليبرالية، أو اليمينية داخلها بشكل انتقائي والدفاع عنها. وأتفق مع ديانا كران في أن كل الفن الطليعي تقريبا، سواء ينزع إلى اليسار أو اليمين، هو فن متقدم في الأفكار، ومجدد أو تجريبي في الأسلوب، وصنعه فنانون «لديهم التزام قوي تجاه القيم الجمالية المتمردة على التقاليد، ويرفضون الثقافة الشعبية وأسلوب حياة الطبقة الوسطى على حد سواء.» وهكذا تكون الحركة الطليعية مكملة للعمل الأكبر للثقافة العالية، وهي تتمحور حول حل المشكلات الفنية والجمالية (بالمقارنة مع الثقافة الشعبية، التي تتسم بمزيد من الصيغية في منهجها). وهذه الحلول، كما حاولت أن أشير، يمكن أن تخلق مكسبا معرفيا قيما للفنان والجمهور؛ لذلك فإن حركة ما تكون طليعية «من الناحية الجمالية»، من منظور كران، إذا ما أعادت تعريف التقاليد الجمالية، واستفادت من الأدوات والتقنيات الفنية الجديدة، وأعادت تعريف طبيعة العمل الفني. وهي طليعية «من الناحية السياسية» (أي في أسلوبها في تناول المحتوى الاجتماعي) إذا ضمت قيما نقدية اجتماعية وسياسية مختلفة عن قيم ثقافة الأغلبية، وأعادت تعريف العلاقة بين الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية، وتبنت توجها نقديا نحو المؤسسات الفنية (كما في الدادائية على اليسار، و«معيار» إليوت على اليمين، على سبيل المثال). ومن الممكن أن يستوفي الحداثيون على اليسار واليمين هذه المعايير (ويتم هذا بالنسبة لليمين، بشكل كاف عادة؛ حيث يمكن دمج التطور التكنولوجي الرأسمالي مع عملية تحديثية؛ ما يترتب عليه ظهور فن عمارة الباوهاوس).
وقد افترض العديد من المعلقين اليساريين على الحداثة، بما لا يدعو للاستغراب، أن اتجاهها «تقدمي» (كجزء من المفهوم اليساري للتطور التاريخي)، وأن تجديدات الاتجاه الخاصة باليمين تتسم بالتوق إلى الماضي، على أقصى تقدير، ولكن يمكن للمرء أن يتساءل إن كانت الحركات الطليعية، سواء يسارية أم يمينية، تقدمية بأسلوب حداثي مميز، أم هي ببساطة تتابعات تاريخية للصراعات السياسية الراسخة (صراعات القرن التاسع عشر في الواقع) بالوسائل الفنية المعاصرة. هل هناك أي شيء حداثي بطبيعته يمكن الإفصاح عنه من خلال مثل هذا التحليل السياسي؟
تؤكد الحداثة، مثل غيرها من الحركات الفنية، تأكيدا كبيرا على التجديد والتغيير الفني، ولكن يظل السؤال قائما بشأن ما إذا كانا تقدميين أخلاقيا أو سياسيا في الواقع. هل يقودان الحقبة ككل في اتجاه معين؟ دائما ما يكون هذا من قبيل التفكير القائم على الأماني؛ فقد كانت هناك حركات طليعية متشعبة عديدة كانت في غاية النجاح ودامت طويلا، ولكن أي «نموذج خطي» للحداثة ككل سوف يكون - بصفة أساسية - ذا نزعة توحيدية ومدفوعا أيديولوجيا (مثلما يشير هجوم أدورنو على سترافينسكي الوارد في الفصل الثاني). والواقع أن فكرة التطور النخبوي أو المدفوع من الحركة ربما تكون قد ضللت كثيرين في ذلك الوقت؛ لأن بمقدورنا الآن النظر إلى الحقبة ككل، وأن نرى، في الواقع، أن تعددية انتقائية وحوارا كانا سائدين.
ولدينا في الموسيقى، على سبيل المثال، شتراوس ومالر، إذا جاز التعبير، على الجانب الرومانسي والمعبر عن الذات، وسترافينسكي على الجانب «الموضوعي» والتحول إلى الكلاسيكية الجديدة، وشونبرج الذي يتحول من جانب إلى آخر. وقد ظلت الاحتمالات الثلاثة متاحة إلى جانب المناهج الأكثر انتقائية بكثير للحداثيين المجددين؛ أمثال: تشارلز آيفز، وإدجار فاريز، وجون كيدج؛ لذلك دائما ما يكون أمرا نظريا إلى حد الهراء الاعتماد على جدلية خفية، ينظر فيها إلى مدرسة شونبرج، أو التجليات الخفية لحركة دي ستيل، أو ثيوصوفية وخرافة ييتس، أو حتى تطور السمات الشكلية، مثل «التسطيح»، الذي اعتبره كليمنت جرينبرج السمة النوعية المميزة للرسم الحديث بحق، أو الدافع «العلمي» نحو اقتران الفن بالتكنولوجيا، المؤيد من الباوهاوس؛ باعتبارها الحامل الأوحد «لعبء التاريخ التقدمي» في الفنون.
تخيل أنك تحاول، الآن، تحديد أي من جويس، أو وولف، أو لورانس، أو بيكاسو، أو كاندينسكي، أو إرنست، أو موندريان، كان الأكثر «تقدمية»، ولماذا. ناهيك عن طرح نفس السؤال بالنسبة لويلز، وشو، وبريخت، وآخرين، الذين «كانوا» حقا ملتزمين بالتدخل السياسي اليساري؛ لأنه من المفترض أن يكون السؤال في حالتهم أكثر سهولة في إجابته. ما يحدث - في الغالب - هو أننا نفكر في خط تطوري مقبول بوجه عام؛ كخط التحرر النسائي، وحينئذ يكون المقياس أوضح كثيرا. فنجده يضع إبسن قبل شو وجويس، على الرغم من معتقداته المستقاة من إبسن، في موضع مختلف، فيما يحذف إليوت ولويس وباوند ومعظم المستقبليين، بينما تكون فيرجينيا وولف - باعتبارها مناصرة للحركة النسائية، ومجددة، وتتميز بوعي ثقافي، وعلى الأخص في رواية «بين الفصول» (1941) - على الجانب «اليميني» بدرجة أو بأخرى.
إن هذا التصنيف الأخلاقي والسياسي، بقدر ما قد يعتبر قيما في سياقه، فإن تأثيره محدود على فهمنا لتطور تاريخ حركات الفن الحداثي. إنه انخراط حقيقي مع حركة التحرر النسائي، كما هو موضح في الكتابات الكثيرة التي تناولت هذا الأمر، سيكون من شأنه النظر عن كثب شديد إلى شتى أنواع التجمعات المؤسسية والاجتماعية، والكاتبات وعلاقاتهن المتبادلة، وما إلى ذلك.
يمكننا من منظورنا الخاص أن نرى أن الأنماط المتباينة قد أدت إلى صنوف مختلفة من الدلالة الثقافية الواسعة ذات المدى الطويل، والتي تضفي على أعمال كبار الفنانين الحداثيين مكانتهم المتعارف عليها. والتغيرات المهمة هنا لا تكمن فقط داخل الثقافة «الرفيعة»؛ فكما يذكرنا ديريك سكوت: «كان لموسيقى البلوز ذات الاثنتي عشرة فاصلة، والتي قيست في إطار الدلالة الاجتماعية، أهمية أكبر بالنسبة لموسيقى القرن العشرين من صف الاثنتي عشرة نغمة.» قد ينظر إلى الأخيرة بوصفها أكثر «تقدمية»، ولكن فقط في نطاق التقاليد الشكلية للموسيقى ككل؛ فالمقاييس الاجتماعية والجمالية في تفاعل دائم، وفي الحقب ذات النشاط الفني الكبير من الممكن أن تكون مستعصية بشدة على التنبؤ.
ثمة تركيز جمالي مقيد على التطورات في التقنية (وما يلازمها دائما وعلى نحو مفرط من السعي وراء العمل المنهجي الموحد لأقصى حد، كما في حقبة الستينيات من القرن العشرين) يميل لأن يقودنا للاعتقاد بأن مجموعة موسيقية ما يمكن أن تكون بمفردها على الخط الصحيح أو «الضروري» للتطور. فهناك، مثلا، علاقة واضحة تقدمية تقنيا بين أوبرات «تريستان» و«إلكترا» و«التوقع» في تطويرها للكروماتية، إلا أن ما يحرك التشابهات بينها حقا كأعمال فنية مستمد على نحو مؤكد من الأفكار الأكثر انتشارا، بوجه عام، عن التجسيد اللاعقلاني والإباحي الجديد للنساء ونشاطهن الجنسي. وكما قلت من قبل، فإن الأفكار التي تقف وراء التغيير الفني، وتأثيراتها النفسية المستحبة بدرجة ما أو بأخرى على الجماهير، هي التي تشكل أهمية لمفاهيم التقدم، وهذه الأفكار توجد داخل وخارج الفنون، وليست جميعها سياسية بوضوح.
Unknown page