وما شعر إلا وهو على مقربة من الجوزة، ولما وقع بصره على قبر حجر اختلج قلبه في صدره لتذكره ليلتهم على ذلك القبر، فتاقت نفسه إلى البكاء فوق ترابه لعل هاتفا ينبئه بحقيقة ما يبدو له من الغرائب، وفيما هو يفكر في ذلك مر بخاطره الشيخ الناسك فقال في نفسه: يا ليتني ألقاه وأستطلعه هذا الأمر فلعله يفرج همي، ولم يكد يفكر في ذلك حتى رأى شيبوب خارجا من وراء الجميزة وهو يثب على جذعها كأنه يحاول الصعود، فأراد عامر أن يناديه ولكن بصره وقع على أعلى الجوزة فرأى شيخا متكئا على بعض أغصانها، فتفرس فيه فإذا هو الشيخ الناسك بعينه. فأجفل وعجب لوجوده هناك، ثم تذكر ما ظهر منه من الغرائب السابقة فزال عجبه، وارتاح لالتقائه به في ذلك المكان، وقبل أن يهم بمخاطبته رآه يتحرك، فتربص ليرى ما يبدو منه فإذا هو ينحدر نازلا بأسهل ما يكون، فظل عامر واقفا حتى وصل الناسك إلى الأرض والكلب يحوم حوله ويثب على يديه ورجليه كأنه يرحب به.
وكان الناسك قبل أن يصل إلى الأرض قد أرسل شعر ناصيته على جبينه وعينيه فغطى ما بقي من سحنته خاليا من الشعر إلا رأس أنفه وصاح قائلا: لقد قضي الأمر يا عامر، ولكن لا تجزع فإنهم لن يقتلوه على عجل، فارتعدت فرائص عامر واقشعر بدنه وهم بيد الشيخ ليقبلها فأمسك الشيخ يده وقال: تجلد يا عامر وكن رجلا.
فأمسك عامر نفسه وارتاح لمكاشفته بحال سلمى فقال: إني لا أجزع على عبد الرحمن ولكني خائف على سلمى.
قال: وما يخيفك عليها؟
قال: لقد طلبها يزيد لتكون زوجا له فقبلته بالرغم مني.
فأرخى الشيخ الناسك يده فأفلتت يد عامر، ولبث كلاهما صامتا وعامر ينظر ما يبدو من كرامات الشيخ وقلبه يخفق، فإذا بالشيخ قد جلس وأسند ظهره إلى الجوزة وهو يحك رأسه بأطراف أظافره كأنه يفكر في أمر، ثم قال: وأي بأس على سلمى من زواجها بيزيد؟
قال عامر: ألا ترى بأسا عليها يا سيدي؟ وهب أنه لا بأس عليها، فكيف تنكرت لعبد الرحمن؟!
فضحك الشيخ حتى بدت نواجذه وقال: لا شك في أنها لم تقرر ذلك إلا بعد تفكير.
فتعجب عامر وقال: لكن كيف يطاوعها قلبها على ذلك؟! كيف تخون خطيبها وابن عمها وترضى بذلك الأموي بديلا منه؟!
فقال الشيخ: تأدب يا عامر، إن ابنة عدي لا تخون، وهي لم تأت الشام وتكابد مشاق الأسفار وتتحمل الأخطار لتخون قلبها وتغدر بابن عمها.
Unknown page