Futuhat Makkiyya
الفتوحات المكية في معرفة الاسرار الملكية
Publisher
دار إحياء التراث العربي
Edition Number
الأولى
Publication Year
1418هـ- 1998م
Publisher Location
لبنان
باؤوا بقرب الله في ملكوته . . . إلا الشويطن باء بالخسران اعلم أيدك الله أنه لما مضى من عمر العالم الطبيعي المقيد بالزمان المحصور بالمكان إحدى وسبعون ألف سنة من السنين المعروفة في الدنيا وهذه المدة أحد عشر يوما من أيام غير هذا الاسم ومن أيام ذي المعارج يوم وخمسا يوم وفي هذه الأيام يقع التفاضل قال تعالى ' في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ' وقال ' وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ' فأصغر الأيام هي التي نعدها حركة الفلك المحيط الذي يظهر في يومه الليل والنهار فاقصر يوم عند العرب وهو هذا لا كبر فلك وذلك لحكمه على ما في جوفه من الأفلاك إذ كانت حركة مادونه في الليل والنهار حركة قسرية له قهر بها سائر الأفلاك التي يحيط بها ولكل فلك حركة طبيعية تكون له مع الحركة القسرية فكل فلك دونه ذو حركتين في وقت واحد حركة طبيعية وحركة قسرية ولكل حركة طبيعية في كل فلك يوم مخصوص يعد مقداره بالأيام الحادثة عن الفلك المحيط المعبر عنها بقوله مما تعدون وكلها تقطع في الفلك المحيط فكلما قطعته على الكمال كان يوما لها وبدور الدور فأصغر الأيام منها هو ثمانية وعشرون يوما مما تعدون وهو مقدار قطع حركة القمر في الفلك المحيط ونصب الله هذه الكواكب السبعة في السموات ليدرك البصر قطع فلكها في الفلك المحيط لتعلم عدد السنين والحساب قال تعالى ' وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا ذلك تقدير العزيز العليم ' فلكل كوكب منها يوم مقدر يفضل بعضها على بعض على قدر سرعة حركاتها الطبيعية أو صغر أفلاكها وكبرها فاعلم أن الله تعالى لما خلق القلم واللوح وسماهما العقل والروح وأعطى الروح صفتين صفة علمية وصفة عملية وجعل العقل لها معلما ومفيدا إفادة مشاهدة حالية كما تستفيد من صورة السكين القطع من غير نطق يكون منه في ذلك وخلق تعالى جوهرا دون النفس الذي هو الروح المذكور سماه الهباء وهذه الأسمية له نقلناها من كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأما الهباء فمذكور في اللسان العربي قال تعالى ' فكانت هباء منبثا ' كذلك لما رآها علي بن أبي طالب أعني هذه الجوهرة منبثة في جميع الصور الطبيعية كلها وأنها لا تخلو صورة منها إذ لا تكون صورة إلا في هذه الجوهرة سماها هباء وهي مع كل صورة بحقيقتها لا تنقسم ولا تتجزى ولا تتصف بالنقص بل هي كالبياض الموجود في كل أبيض بذاته وحقيقته ولا يقال قد نقص من البياض قدر ما حصل منه في هذا الأبيض فهذا مثل حال هذه الجوهرة وعين الله سبحانه بين هذا الروح الموصوف بالصفتين وبين الهباء أربع مراتب وجعل كل مرتبة منزلا لأربعة أملاك وجعل هؤلاء الأملاك كالولاة على ما أحدثه سبحانه دونهم من العالم من عليين إلى أسفل سافلين ووهب كل ملك من هؤلاء الملائكة علم ما يريد إمضاءه في العالم فأول شيء أوجده الله في الأعيان مما يتعلق به علم هؤلاء الملائكة وتدبيرهم الجسم الكلي وأول شكل فتح في هذا الجسم الشكل الكري المستدير إذ كان أفضل الأشكال ثم نزل سبحانه بالإيجاد والخلق إلى تمام الصنعة وجعل جميع ما خلقه تعالى مملكة لهؤلاء الملائكة وولاهم أمورها في الدنيا والآخرة وعصمهم عن المخالفة فيما أمرهم به فأخبرنا سبحانه أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ولما انتهى خلق المولدات من الجمادات والنبات والحيوان بانتهاء إحدى وسبعين ألف سنة من سني الدنيا مما نعد ورتب العالم ترتيبا حكميا ولم يجمع سبحانه لشيء مما خلقه من أول موجود إلى آخر مولود وهو الحيوان بين يديه تعالى إلا للإنسان وهي هذه النشأة البدنية الترابية بل خلق كل ما سواها إما عن أمر إلهي أو عن يد واحدة قال تعالى ' إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ' فهذا عن أمر إلهي وورد في الخبر أن الله عز وجل خلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده وخلق آدم الذي هو الإنسان بيديه فقال تعالى لإبليس على جهة التشريف لآدم عليه السلام ' ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ' ولما خلق الله الفلك الأدنى الذي هو الأول المذكور آنفا قسمه اثني عشر قسما سماها قال تعالى ' والسماء ذات البروج ' فجعل كل قسم برجا وجعل تلك الأقسلام ترجع إلى أربعة في الطبيعة ثم كرر كل واحد من الأربعة في ثلاثة مواضع منه وجعل هذه الأقسام كالمنازل والمناهل التي ينزل فيها المسافرون ويسير فيها السائرون في حال سيرهم وسفرهم لينزل في هذه الأقسام عند سير الكواكب فيها وسياجتهم ما يحدث الله في جوف هذا الفلك من الكواكب التي تقطع بسيرها في هذه البروج ليحدث الله عند قطعها وسيرها ما شاء أن يحدث من العالم الطبيعي والعنصري وجعلها علامات على أثر حركة فلك البروج فاعلم فقسم من هذه الأربعة طبيعته الحرارة واليبوسة والثاني البرودة واليبوسة والثالث الحرارة والرطوبة والرابع البرودة والرطوبة وجعل الخامس والتاسع من هذه الأقسام مثل الأول وجعل السادس والعاشر مثل الثاني وجعل السابع والحادي عشر مثل الثالث وجعل الثامن والثاني عشر مثل الرابع أعني في الطبيعة فحصر الأجسام الطبيعية بخلاف والأجسام العنصرية بلا خلاف في هذه الأربعة التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ومع كونها أربعة أمهات فإن الله جعل اثنين منها أصلا في وجود الأثنين الآخرين فانفعلت اليبوسة عن الحرارة والرطوبة عن البرودة فالرطوبة واليبوسة موجودتان عن سببين هما الحرارة والبرودة ولهذا ذكر الله في قوله تعالى ' ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين لأن المسبب يلزم من كونه مسببا وجود السبب أو منفعلا وجود الفاعل كيف شئت فقل ولا يلزم من وجود السبب وجود المسبب ولما خلق الله هذا الفلك الأول دار دورة غير معلومة الانتهاء إلا لله تعالى لأنه ليس فوقه شيء محدود من الأجرام يقطع فيه فإنه أول الأجرام الشفافة فتتعدد الحركات وتتميز ولا كان قد خلق الله في جوفه شيأ فتتميز الحركات وتنتهي عند من يكون في جوفه ولو كان لم تتميز أيضا لأنه أطلس لا كوكب فيه متشابه الأجزاء فلا يعرف مقدار الحركة الواحدة منه ولا تتعين فلو كان فيه جزء مخالف لسائر أجزائه عد به حركاته بلا شك ولكن علم الله قدرها وانتهاءها وكرورها فحدث عن تلك اعلحركة اليوم ولم يكن ثم ليل ولا نهار في هذا اليوم ثم استمرت حركات هذا الفلك فخلق الله ملائكة خمسة وثلاثين ملكا أضافهم إلى ما ذكرناه من الأملاك الستة عشر فكان الجميع أحدا وخمسين ملكا من جملة هؤلاء الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ثم خلق تسعمائة ملك وأربعا وسبعين وأضافهم إلى ما ذكرناه من الأملاك وأوحى إليهم وأمرهم بما يجري على أيديهم في خلقه فقالوا ' وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلقنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا ' وقال فيهم ' لا يعصون الله ما أمرهم فهؤلاء من الملائكة هم الولاة خاصة وخلق الله ملائكة هم عمار السموات والأرض لعبادته فما في السماء والأرض موضع إلا وفيه ملك ولا يزال الحق يخلق من أنفاس العالم ملائكة ما داموا متنفسين ولما انتهى من حركات هذا الفلك الأول ومدته أربع وخمسون ألف سنة مما تعدون خلق الله الدار الدنيا وجعل لها أمدا معلوما تنتهي إليه وتنقضي صورتها وتستحيل من كونها دارا لنا وقبولها صورة مخصوصة وهي التي نشاهدها اليوم إلى أن تبدل الأرض غير الأرض والسموات ولما انقضى من مد حركة هذا الفلك ثلاث وستون ألف سنة مما تعدون خلق الله الدار الآخرة الجنة والنار اللتين أعدهما الله لعباده السعداء والأشقياء فكان بين خلق الدنيا وخلق الآخرة تسع آلاف سنة مما تعدون ولهذا سميت آخرة لتأخر خلقها عن خلق الدنيا وسميت الدنيا الأولى لأنها خلقت قبلها قال تعالى ' وللآخرة خير لك من الأولى ' يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ولم يجعل للآخرة مدة ينتهي إليها بقاؤها فلها البقاء الدائم وجعل سقف الجنة هذا الفلك وهو العرش عندهم الذي لا تتعين حركته ولا تتميز فحركته دائمة لا تنقضي وما من خلق ذكرناه خلق إلا وتعلق القصد الثاني منه وجود الإنسان الذي هو الخليفة في العالم وإنما قلت القصد الثاني إذ كان القصد الأول معرفة الحق وعبادته التي لها خلق العالم كله فما من شيء إلا وهو يسبح بحمده ومعنى القصد الثاني والأول التعلق الإرادي لا حدوث الإرادة لأن الإرادة لله صفة قديمة أزلية اتصفت بها ذاته كسائر صفاته ولما خلق الله هذه الأفلاك والسموات وأوحى في كل سماء أمرها ورتب فيها أنوارها وسرجها وعمرها بملائكته وحركها تعالى فتحركت طائعة لله آتية إليه طلب للكمال في العبودية التي تليق بها لأنه تعالى دعاها ودعا الأرض فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها لأمر حد لهما قالتا أتينا طائعين فهما آتيتان أبدا فلا تزالان متحركتين غير أن حركة الأرض خفية عندنا وحركتها حول الوسط لأنها أكر فإما السماء فاتت طائعة عند أمر الله لها بالإتيان وأما الأرض فأتت طائعة لما علمت نفسها مقهورة وإنه لابد أن يؤتي بها بقوله أو كرها فكانت المرادة بقوله تعالى ' أو كرها ' فأتت طائعة كرها فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وقد كان خلق الأرض وقدر فيها أقواتها من أجل المولدات فجعلها خزانة لأقواتهم وقد ذكرنا ترتيب نشء العالم في كتاب عقلة المستوفز فكان من تقدير أقواتها وجود الماء والهواء والنار وما في ذلك من البخارات والسحب والبروق والرعود والآثار العلوية وذلك تقدير العزيز العليم وخلق الجان من النار والطير والدواب البرية والبحرية والحشرات من عفونات الأرض ليصفو الهواء لنا من بخارات العفونات التي لو خالطت الهواء الذي أودع الله حياة هذا الإنسان والحيوان وعافيته فيه لكان سقيما مريضا معلولا فصفي له الجو سبحانه لطفا منه بتكوين هذه المعفنات فقلت الأسقام والعلل ولما استوت المملكة وتهيأت وما عرف أحد من هؤلاء المخلوقات كلها من أي جنس يكون هذا الخليفة الذي مهد الله هذه المملكة لوجوده فلما وصل الوقت المعين في علمه لإيجاد هذا الخليفة بعد أن مضى من عمر الدنيا سبع عشرة ألف سنة ومن عمر الآخرة الذي لا نهاية له في الدوام ثمان آلاف سنة أمر الله بعض ملائكته أن يأتيه بقبضة من كل أجناس تربة الأرض فأتاه بها في خبر طويل معلوخم عند الناس فأخذها سبحانه وخمرها بيديه فهو قوله لما خلفت بيدي وكان الحق قد أودع عند كل ملك من الملائكة الذين ذكرناهم وديعة لآدم وقال لهم إني خالق بشرا من طين وهذه الودائع التي بأيديكم له فإذا خلقته فليؤد إليه كل واحد منكم ما عنده مما أمنتكم عليه ثم إذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فلما خمر الحق تعالى بيديه طينة آدم حتى تغير ريحها وهو المسنون وذلك الجزء الهوائي الذي في النشأة جعل ظهره محلا للأشقياء والسعداء من ذريته فأودع فيه ما كان في قبضتيه فإنه سبحانه أخبرنا إن في قبضة يمينه السعداء وفي قبضة اليد الأخرى الأشقياء وكلتا يدي ربي يمين مباركة وقال هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون وهؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون وأودع الكل طينة آدم وجمع فيه الأضداد بحكم المجاورة وأنشأه على الحركة المستقيمة وذلك في دولة السنبلة وجعله ذا جهات ست الفوق وهو مايلي رأسه والتحت يقابله وهو مايلي رجليه واليمين وهو مايلي جانبه الأقوى والشمال يقابله وهو مايلي جانبه الأضعف والأمام وهو مايلي الوجه ويقابله الخلف وهو مايلي القفا وصوره وعدله وسواه ثم نفخ فيه من روحه المضاف إليه فحدث عند هذا النفخ فيه بسريانه في أجزائه أركان الأخلاط التي هي الصفراء والسوداء والدم والبلغم فكانت الصفراء عن الركن الناري الذي أنشأه الله منه في قوه تعالى من صلصال كالفخار وكانت السوداء عن التراب وهو قوله خلقه من تراب وكان الدم من الهواء وهو قوله مسنون وكان البلغم من الماء الذي عجن به التراب فصار طينا ثم أحدث فيه القوة الجاذبة التي بها يجذب الحيوان الأغذية ثم القوة الماسكة وبها يمسك ما يتغذى به الحيوان ثم القوة الهاضمة وبها يهضم الغذاء ثم القوة الدافعة وبها يدفع الفضلات عن نفسه من عرق وبخار ورياح وبراز وأمثال ذلك وأما سريان الأبخرة وتقسيم الدم في العروق من الكبد وما يخلصه كل جزء من الحيوان فبالقوة الجاذبة لا الدافعة فحظ القوة الدافعة ما نخرجه كما قلنا من الفضلات لا غير ثم أحدث فيه القوة الغاذية والمنمية والحاسية والخيالية والوهمية والحافظة والذاكرة وهذا كله في الإنسان بما هو حيوان لا بما هو إنسان فقط غير أن هذه القوى الأربعة قوة الخيال والوهم والحفظ والذكر هي في الإنسان أقوى منها في الحيوان ثم خص آدم الذي هو الإنسان بالقوة المصورة والمفكرة والعاقلة فتميز عن الحيوان وجعل هذه القوى كلها في هذا الجسم آلات للنفس الناطقة لتصل بذلك إلى جميع منافعها المحسوسة والمعنوية ثم أنشأه خلقا آخر وهو الإنسانية فجعله دراكا بهذه القوى حيا عالما قادرا مريداص متكلما سميعا بصيرا على حد معلوم معتاد في اكتسابه فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنه سبحانه ما سمى نفسه باسم من الأسماء إلا وجعل للإنسان من التخلق بذلك الاسم حظا منه يظهر به في العالم على قدر ما يليق به ولذلك تأول بعضهم قوله عليه السلام أن الله خلق آدم على صورته على هذا المعنى وأنزله خليفة عنه في أرضه إذ كانت الأرض من عالم التغيير والاستحالات بخلاف العالم الأعلى فيحدث فيهم من الأحكام بحسب ما يحدث في العالم الأرضي من التغيير فيظهر لذلك حكم جميع الأسماء الإلهية فلذلك كان خليفة في الأرض دون السماء والجنة ثم كان من أمره ما كان من علم الأسماء وسجود الملائكة وإبانة إبليس يأتي ذكر ذلك كله في موضعه إن شاء الله فإن هذا الباب مخصوص بابتداء الجسوم الإنسانية وهي أربعة أنواع جسم آدم وجسم حواء وجسم عيسى وأجسام بني آدم وكل جسم من هذه الأربعة نشؤه يخالف نشء الآخر في السببية مع الاجتماع في الصورة الجسمانية والروحانية وإنما سقنا هذا ونبهنا عليه لئلا يتوهم الضعيف العقل أن القدرة الإلهية أو أن الحقائق لا تعطي أن تكون هذه النشأة الإنسانية إلا عن سبب واحد يعطى بذاته هذا النشء فرد الله هذه الشبهة بأن أظهر هذا النشء الإنساني في آدم بطريق لم يظهر به جسم حواء وأظهر جسم حواء بطريق لم يظهر جسم ولد آدم وأظهر جسم أولاد آدم بطريق لم يظهر به جسم عيسى عليه السلام وينطلق على كل واحد من هؤلاء اسم الإنسان بالحد والحقيقة ذلك ليعلم أن الله بكل شيء عليم وأنه على كل شيء قدير ثم إن الله قد جمع هذه الأربعة الأنواع من الخلق في آية من القرآن في سورة الحجرات فقال ' يا أيها الناس إنا خلقناكم يريد آدم من ذكر يريد حواء وأنثى يريد عيسى ومن المجموع من ذكر وأنثى يريد بني آدم بطريق النكاح والتوالد فهذه الآية من جوامع الكلم وفصل الخطاب الذي أوتي محمد صلى الله عليه وسلم ولما ظهر جسم آدم كما ذكرناه ولم تكن فيه شهوة نكاح وكان قد سبق في علم الحق إيجاد التوالد والتناسل والنكاح في هذه الدار إنما هو لبقاء النوع فاستخرج من ضلع آدم من القصيري حواء فقصرت بذلك عن درجة الرجل كما قال تعالى ' وللرجال عليهن درجة ' فما تلحق بهم أبدا وكانت من الضلع للأنحناء الذي في الضلوع لتحنو بذلك على ولدها وزوجها فحنو الرجل على المرأة حنوه على نفسه لأنها جزء منه وحنو المرأة على الرجل كونها خلقت من الضلع والضلع فيه انحناء وانعطاف وعمر الله الموضع من آدم الذي خرجت منه حواء بالشهوة إليها إذ لا يبقى في الوجود خلاء فلما عمره بالهواء حن إليها حنينه إلى نفسه لأنها جزء منه وحنت إليه لكونه موطنها الذي نشأت فيه فحب حواء حب الموطن وحب آدم حب نفسه ولذلك يظهر حب الرجل للمرأة إذ كانت عينه وأعطيت المرأة القوة المعبر عنها بالحياء في محبة الرجل فقويت على الإخفاء لأن الموطن لا يتحد بها اتحاد آدم بها فصور في ذلك الضلع جميع ما صوره وخلقه في جسم آدم فكان نشء جسم آدم في صورته كنشى الفاخوري فيما ينشئه من الطين والطبخ وكان نشء جسم حواء نشء النجار فيما ينحته من الصور في الخشب فلما نحتها في الضلع وأقام صورتها وسواها وعدلها نفخ فيها من روحه فقامت حية ناطقة أنثى ليجعلها محلا للزراعة والحرث لوجود الإنبات الذي هو التناسل فسكن إليها وسكنت إليه وكانت لباسا له وكان لباسا لها قال تعالى ' هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ' وسرت الشهوة منه في جميع أجزائه فطلبها فلما تغشاها وألقى الماء في الرحم ودار بتلك النطفة من الماء دم الحيض الذي كتبه الله على النساء تكون في ذلك الجسم جسم ثالث على غير ما تكون منه جسم آدم وجسم حواء فهذا هو الجسم الثالث فتولاه الله بالنشء في الرحم حالا بعد حال بالانتقال من ماء إلى نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظم ثم كسا العظم لحما فلما أتم نشأته الحيوانية أنشأه خلقا آخر فنفخ فيه الروح الإنساني فتبارك الله أحسن الخالقين ولولا طول الأمر لبينا تكوينه في الرحم حالا بعد حال ومن يتولى ذلك من الملائكة الموكلين بإنشاء الصور في الأرحام إلى حين الخروج ولكن كان الغرض الإعلام بأن الأجسام الإنسانية وإن كانت واحدة في الحد والحقيقة والصور الحسية والمعنوية فإن أسباب تأليفها مختلفة لئلا يتخيل أن ذلك لذات السبب تعالى الله بل ذلك راجع إلى فاعل مختار يفعل ما يشاء كيف يشاء من غير تحجير ولا قصور على أمر دون أمر لا إله إلا هو العزيز الحكيم ولما قال أهل الطبيعة أن ماء المرأة لا يتكون منه شيء وأن الجنين الكائن في الرحم إنما هو من ماء الرجل لذلك جعلنا تكوين جسم عيسى تكوينا آخر وإن كان تدبيره في الرحم تدبير أجسام البنين فإن كان من ماء المرأة إذ تمثل لها الروح بشرا سويا أو كان عن نفخ بغير ماء فعلى كل وجه هو جسم رابع مغاير في النشء غيره من أجسام النوع ولذلك قال تعالى إن مثل عيسى أي صفة نشء عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الضمير يعود على آدم ووقع الشبه في خلقه من غير أب أي صفة نشئه صفة نشء آدم إلا أن آدم خلقه من تراب ثم قال له كن ثم إن عيسى على ما قيل لم يلبث في بطن مريم لبث البنين المعتاد لأنه أسرع إليه التكوين لما أراد الله أن يجعله آية ويرد به على الطبيعيين حيث حكموا على الطبيعة بما أعطتهم من العادة لا بما تقتضيه مما أودع الله فيها من الأسرار والتكوينات العجيبة ولقد أنصف بعض حذاق هذا الشان الطبيعة فقال لا نعلم منها إلا ما أعطتنا خاصة وفيها ما لا نعلم فهذا قد ذكرنا ابتداء الجسوم الإنسانية وأنها أربعة أجسام مختلفة النشء كما قررنا وأنه آخر المولدات فهو نظير العقل الأول وبه ارتبط لأن الوجود دائرة فكان ابتداء الدائرة وجود العقل الأول الذي ورد في الخبر أنه أول ما خلق الله العقل فهو أول الأجناس وانتهى الخلق إلى الجنس الإنساني فكملت الدائرة واتصل الإنسان بالعقل كما يتصل آخر الدائرة بأولها فكانت دائرة وما بين طرفي الدائرة جميع ما خلق الله من أجناس العالم بين العقل الأول الذي هو القلم أيضا وبين الإنسان الذي هو الموجود الآخر ولما كانت الخطوط الخارجة من النقطة التي في وسط الدائرة إلى المحيط الذي وجد عنها تخرج على لاسواء لكل جزء من المحيط كذلك نسبة الحق تعالى إلى جميع الموجودات نسبة واحدة فلا يقع هناك تغيير البتة كانت الأشياء كلها ناظرة إليه وقابلة منه ما يهبها نظر أجزاء المحيط إلى النقطة وأقام سبحانه هذه الصورة الإنسانية بالحركة المستقيمة صورة العمد الذي للخيمة فجعله لقبة هذه السموات فهو سبحانه يمسكها أن تزول بسببه فعبرنا عنه بالعمد فإذا فنيت هذه الصورة ولم يبق منها على وجه الأرض أحد متنفس وانشقت السماء فهي يومئذ واهية لأن العمد زال وهو الإنسان ولما انتقلت العمارة إلى الدار الآخرة بانتقال الإنسان إليها وخربت الدنيا بانتقاله عنها علمنا قطعا أن الإنسان هو العين المقصودة لله من العالم وأنه الخليفة حقا وأنه محل ظهور الأسماء الإلهية وهو الجامع لحقائق العالم كله من ملك وفلك وروح وجسم وطبيعة وجماد ونبات وحيوان إلى ما خص به من علم الأسماء الإلهية مع صغر حجمه وجرمه وإنما قال الله فيه بأن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس لكون الإنسان متولدا عن السماء والأرض فهما له كالأبوين فرفع الله مقدارهما ولكن أكثر الناس لا يعلمون فلم يرد في الجرمية فإن ذلك معلوم حسا غير أن الله تعالى ابتلاه ببلاء ما ابتلى به أحدا من خلقه إما لأن يسعده أو يشقيه على حسب ما يوفقه إلى استعماله فكان البلاء الذي ابتلاه به أن خلق فيه قوة تسمى الفكر وجعل هذه القوة خادمة لقوة أخرى تسمى العقل وجبر العقل مع سيادته على الفكر أن يأخذ منه ما يعطيه ولم يجعل للفكر مجالا إلا في القوة الخيالية وجعل سبحانه القوة الخيالية محلا جامعا لما تعطيها القوة الحساسة وجعل له قوة يقال لها المصورة فلا يحصل في القوة الخيالية إلا ما أعطاه الحس أو أعطته القوة المصورة من المحسوسات فتركب صورا لم يوجد لها عين لكن أجزاؤها كلها موجودة حسا وذلك لأن العقل خلق ساذجا ليس عنده من العلوم النظرية شيء وقيل للفكر ميز بين الحق والباطل الذي في هذه القوة الخيالية فينظر بحسب ما يقع له فقد يحصل في شبهة وقد يحصل في دليل عن غير علم منه بذلك ولكن في زعمه أنه عالم بصور الشبه من الأدلة وأنه قد حصل على علم ولم ينظر إلى قصور المواد التي استند إليها في اقتناء العلوم فيقبلها العقل منه ويحكم بها فيكون جهله أكثر من علمه بما لا يتقارب ثم إن الله كلف هذا العقل معرفته سبحانه ليرجع إليه فيها لا إلى غيره ففهم العقل نقيض ما أراد به الحق بقوله تعالى ' أولم يتفكروا ' ' لقوم يتفكرون ' فاستند إلى الفكر وجعله إماما يقتدى به وغفل عن الحق في مراده بالتفكر أنه خاطبه أن يتفكر فيرى أن علمه بالله لا سبيل إليه إلا بتعريف الله فيكشف له عن الأمر على ما هو عليه فلم يفهم كل عقل هذا الفهم إلا عقول خاصة الله من أنبيائه وأوليائه يا ليت شعري هل بأفكارهم قالوا بلى حين أشهدهم على أنفسهم في قبضة الذرية من ظهر آدم لا والله بل عناية إشهاده إياهم ذلك عند أخذه إياهم عنهم من ظهورهم ولما رجعوا إلى الأخذ عن قواهم المفكرة في معرفة الله لم يجتمعوا قط على حكم واحد في معرفة الله وذهب كل طائفة إلى مذهب وكثرت القالة في الجناب الإلهي الأحمى واجترؤا غاية الجراءة على الله وهذا كله من الابتلاء الذي ذكرناه من خلقه الفكر في الإنسان وأهل الله افتقروا إليه فيما كلفهم من الإيمان به في معرفته وعلموا أن المراد منهم رجوعهم إليه في ذلك وفي كل حال فمنهم القائل سبحان من لم يجعل سبيلا إلى معرفته إلا العجز عن معرفته ومنهم من قال العجز عن درك الإدراك إدراك وقال صلى الله عليه وسلم ' لا أحصي ثناء عليك ' وقال تعالى ' ولا يحيطون به علما ' فرجعوا إلى الله في المعرفة به وتركوا الفكر في مرتبته ووفوه حقه لم ينقلوه إلى ما لا ينبغي له التفكر فيه وقد ورد النهي عن التفكر في ذات الله والله يقول ' ويحذركم الله نفسه فوهبهم الله من معرفته ما وهبهم وأشهدهم من مخلوقاته ومظاهره ما أشهدهم فعلموا أنه ما يستحيل عقلا من طريق الفكر لا يستحيل نسبة إلهية كما سنورد من ذلك طرفا في باب الأرض المخلوقة من بقية طينة آدم وغيرها فالذي ينبغي للعاقل أن يدين الله به في نفسه أن يعلم أن الله على كل شيء قدير من ممكن ومحال ولا كل محال نافذ الاقتدار واسع العطاء ليس لإيجاده تكرار بل أمثال تحدث في جوهر أوجده وشاء بقاه ولو شاء أفناه مع الأنفاس لا إله إلا هو العزيز الحكيم . يائه يا ليت شعري هل بأفكارهم قالوا بلى حين أشهدهم على أنفسهم في قبضة الذرية من ظهر آدم لا والله بل عناية إشهاده إياهم ذلك عند أخذه إياهم عنهم من ظهورهم ولما رجعوا إلى الأخذ عن قواهم المفكرة في معرفة الله لم يجتمعوا قط على حكم واحد في معرفة الله وذهب كل طائفة إلى مذهب وكثرت القالة في الجناب الإلهي الأحمى واجترؤا غاية الجراءة على الله وهذا كله من الابتلاء الذي ذكرناه من خلقه الفكر في الإنسان وأهل الله افتقروا إليه فيما كلفهم من الإيمان به في معرفته وعلموا أن المراد منهم رجوعهم إليه في ذلك وفي كل حال فمنهم القائل سبحان من لم يجعل سبيلا إلى معرفته إلا العجز عن معرفته ومنهم من قال العجز عن درك الإدراك إدراك وقال صلى الله عليه وسلم ' لا أحصي ثناء عليك ' وقال تعالى ' ولا يحيطون به علما ' فرجعوا إلى الله في المعرفة به وتركوا الفكر في مرتبته ووفوه حقه لم ينقلوه إلى ما لا ينبغي له التفكر فيه وقد ورد النهي عن التفكر في ذات الله والله يقول ' ويحذركم الله نفسه فوهبهم الله من معرفته ما وهبهم وأشهدهم من مخلوقاته ومظاهره ما أشهدهم فعلموا أنه ما يستحيل عقلا من طريق الفكر لا يستحيل نسبة إلهية كما سنورد من ذلك طرفا في باب الأرض المخلوقة من بقية طينة آدم وغيرها فالذي ينبغي للعاقل أن يدين الله به في نفسه أن يعلم أن الله على كل شيء قدير من ممكن ومحال ولا كل محال نافذ الاقتدار واسع العطاء ليس لإيجاده تكرار بل أمثال تحدث في جوهر أوجده وشاء بقاه ولو شاء أفناه مع الأنفاس لا إله إلا هو العزيز الحكيم .
الباب الثامن في معرفة الأرض التي خلقت من بقية خميرة طينة آدم عليه
السلام وهي أرض الحقيقة وذكر بعض ما فيها من الغرائب والعجائب
يا أخت بل يا عمتي المعقولة . . . أنت الأميمة عندنا المجهولة
نظر البنون إليك أخت أبيهمو . . . فتنافسوا عن همة مغلولة
إلا القليل من البنين فإنهم . . . عطفوا عليك بأنفس مجبولة
يا عمتي قل كيف أظهره مرة . . . فيك الأخي محققا تنزيله
حتى بدا من مثل ذاتك عالم . . . قد يرتضي رب الورى توكيله
Page 177