Futuhat Makkiyya
الفتوحات المكية في معرفة الاسرار الملكية
Publisher
دار إحياء التراث العربي
Edition Number
الأولى
Publication Year
1418هـ- 1998م
Publisher Location
لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم فلنقل أنه لما كانت أمهات المطالب أربعة وهي هل وما وكيف ولم فهل ولم مطلبان روحانيان بسيطان يصحبهما ما هو فهل ولم هما الأصلان الصحيحان للبسائط لأن في ما هو ضرب من التركيب خاصة وليس في هذه المطالب الأربعة مطلب ينبغي أن يسأل به عن الله تعالى من جهة ما تعطيه الحقيقة إذ لا يصح أن يعرف من علم التوحيد إلا نفي ما يوجد فيما سواه سبحانه ولهذا قال ' ليس كمثله شيء ' و ' سبحان ربك رب العزة عما يصفون ' فالعلم بالسلب هو العلم بالله سبحانه كما لم يجز أن نقول في الأرواح كيف وتقدست عن ذلك لأن حقائقها تخالف هذه العبارة كذلك ما ينطلق على الأرواح من الأدوات التي بها يسأل عنها لا يجوز أن يطلق على الله تعالى ولا ينبغي للمحقق الموحد الذي يحترم حضرة مبدعه ومخترعه أن يطلق عليه هذه الألفاظ فإذن لا يعلم بهذه المطالب أبدا وصل ثم إنا نظرنا أيضا في جميع ما سوى الحق تعالى فوجدناه على قسمين قسم يدرك بذاته وهو المحسوس والكثيف وقسم يدرك بفعله وهو المعقول واللطيف فارتفع المعقول عن المحسوس بهذه المنزلة وهي التنزه أن يدرك بذاته وإنما يدرك بفعله ولما كانت هذه أوصاف المخلوقين تقدس الحق تعالى عن أن يدرك بذاته كالمحسوس أو بفعله كاللطيف أو المعقول لأنه سبحانه ليس بينه وبين خلقه مناسبة أصلا لأن ذاته غير مدركة لنا فتشبه المحسوس ولا فعلها كفعل اللطيف فيشبه اللطيف لأن فعل الحق تعالى إبداع الشيء لا من شيء واللطيف الروحاني فعل الشيء من الأشياء فأي مناسبة بينهما فإذا امتنعت المشابهة في الفعل فأحرى أن تمنع المشابهة في الذات وإن شئت أن تحقق شيئا من هذا الفصل فانظر إلى مفعول هذا الفعل على حسب أصناف المفعولات مثل المفعول الصناعي كالقميص والكرسي فوجدناه لا يعرف صانعه إلا أنه يدل بنفسه على وجود صانعه وعلى علمه بصنعته وكذلك المفعول التكويني الذي هو الفلك والكواكب لا يعرفون مكونهم ولا المركب لهم وهو النفس الكلية المحيطة بهم وكذلك المفعول الطبيعي كالموالد من المعادن والنبات والحيوان الذين يفعلون طبيعة من المفعول التكويني ليس لهم وقوف على الفاعل لهم الذي هو الفلك والكواكب فليس العلم بالأفلاك ما تراه من جرمها وما يدركه الحس منها وأين جرم الشمس في نفسها منها في عين الرائي لها منا وإنما العلم بالأفلاك من جهة روحها ومعناها الذي أوجده الله تعالى لها عن النفس الكلية المحيطة التي هي سبب الأفلاك وما فيها وكذلك المفعول الانبعاثي الذي هو النفس الكلية المنبعثة من العقل انبعاث الصورة الدحيية من الحقيقة الجبرئيلية فإنها لا تعرف الذي انبعثت عنه أصلا لأنها تحت حيطته وهو المحيط بها لأنها خاطر من خواطره فكيف تعلم ما هو فوقها وما ليس فيها منه إلا ما فيها فلا تعلم منه إلا ما هي عليه فنفسها علمت لا سببهما وكذلك المفعول الإبداعي الذي هو الحقيقة المحمدية عندنا والعقل الأول عند غيرنا وهو القلم الأعلى الذي أبدعه الله تعالى من غير شيء هو أعجز وأمنع عن إدراك فاعله من كل مفعول تقدم ذكره إذ بين كل مفعول وفاعله مما تقدم ذكره ضرب من ضروب المناسبة والمشاكلة فلابد أن يعلم منه قدر ما بينهما من المناسبة إما من جهة الجوهرية أو غير ذلك ولا مناسبة بين المبدع الأول والحق تعالى فهو أعجز عن معرفته بفاعله من غيره من مفعولي الأسباب إذ وقد عجز المفعول الذي يشبه سبب الفاعل له من وجوه عن إدراكه والعلم به فافهم هذا وتحققه فإنه نافع جدا في باب التوحيد والعجز عن تعلق العلم المحدث بالله تعالى وصل يؤيد ما ذكرناه إن الإنسان إنما يدرك المعلومات كلها بإحدى القوى الخمس القوة الحسية وهي على خمس الشم والطعم واللمس والسمع والبصر فالبصر يدرك الألوان والمتلونات والأشخاص على حد معلوم من القرب والبعد فالذي يدرك منه على ميل غير الذي يدرك منه على ميلين والذي يدرك منه على عشرين باعا غير الذي يدرك منه على ميل والذي يدرك منه ويده في يده يقابله غير الذي يدرك منه على عشرين باعا فالذي يدرك منه على ميلين شخص لا يدري هل هو إنسان أو شجرة وعلى ميل يعرف أنه إنسان وعلى عشرين باعا أنه أبيض أو أسود وعلى المقابلة أنه أزرق أو أكحل وهكذا سائر الحواس في مدركاتها من القرب والبعد والباري سبحانه ليس بمحسوس أي ليس بمدرك بالحس عندنا في وقت طلبنا المعرفة به فلم نعلمه من طريق الحس وأما القوة الخيالية فإنها لا تضبط إلا ما أعطاها الحس إما على صورة ما أعطاها وإما على صورة ما أعطاه الفكر من حمله بعض المحسوسات على بعض وإلى هنا انتهت طريقة أهل الفكر في معرفة الحق فهو لسانهم ليس لساننا وإن كان حقا ولكن ننسبه إليهم فإنه نقل عنهم فلم تبرح هذه القوة كيفما كان إدراكها عن الحس البتة وقد بطل تعلق الحس بالله عندنا فقد بطل تعلق الخيال به وأما القوة المفكرة فلا يفكر الإنسان أبدا إلا في أشياء موجودة عنده تلقاها من جهة الحواس وأوائل العقل ومن الفكر فيها في خزانة الخيال يحصل له علم بأمر آخر بينه وبين هذه الأشياء التي فكر فيها مناسبة ولا مناسبة بين الله وبين خلقه فإذن لا يصح العلم به من جهة الفكر ولهذا منعت العلماء من الفكر في ذات الله تعالى وأما القوة العقلية فلا يصح أن يدركه العقل فإن العقل لا يقبل إلا ما علمه بديهة أو ما أعطاه الفكر وقد بطل إدراك الفكر له فقد بطل إدراك العقل له من طريق الفكر ولكن مما هو عقل إنما حده أن يعقل ويضبط ما حصل عنده فقد يهبه الحق المعرفة به فيعقلها لأنه عقل لا من طريق الفكر هذا ما لا نمنعه فإن هذه المعرفة التي يهبها الحق تعالى لمن شاء من عباده لا يستقل العقل بإدراكها ولكن يقبلها فلا يقوم عليها دليل ولا برهان لأنها وراء طور مدارك العقل ثم هذه الأوصاف الذاتية لا تمكن العبارة عنها لأنها خارجة عن التمثيل والقياس فإنه ليس كمثله شيء فكل عقل لم يكشف له من هذه المعرفة شيء يسأل عقلا آخر قد كشف له منها ليس في قوة ذلك العقل المسؤل العبارة عنها ولا تمكن ولذلك قال الصديق العجز عن درك الإدراك إدراك ولهذا الكلام مرتبتان فافهم فمن طلب الله بعقله من طريق فكره ونظره فهو تائه وإنما حسبه التهيؤ لقبول ما يهبه الله من ذلك فافهم وأما القوة الذاكرة فلا سبيل أن تدرك العلم بالله فإنها إنما تذكر ما كان العقل قبل علمه ثم غفل أو نسي وهو لم يعلمه فلا سبيل للقوة الذاكرة إليه وانحصرت مدارك الإنسان بما هو إنسان وما تعطيه ذاته وله فيه كسب وما بقي إلا تهيؤ العقل لقبول ما يهبه الحق من معرفته جل وتعالى فلا يعرف أبدا من جهة الدليل إلا معرفة الوجود وإنه الواحد المعبود لا غير فإن الإنسان المدرك لا يتمكن له أن يدرك شيأ أبدا إلا ومثله موجود فيه ولولا ذلك ما أدركه البتة ولا عرفه فإذا لم يعرف شيأ إلا وفيه مثل ذلك الشيء المعروف فما عرف إلا ما يشبهه ويشاكله والباري تعالى لا يشبه شيأ ولا في شيء مثله فلا يعرف أبدا ومما يؤيد ما ذكرناه أن الأشياء الطبيعية لا تقبل الغذاء إلا من مشاكلها فأما ما لا يشاكلها فلا تقبل الغذاء منه قطعا مثال ذلك أن الموالد من المعادن والنبات والحيوان مركبة من الطبائع الأربع والموالد لا تقبل الغذاء إلا منها وذلك لأن فيها نصيبا منها ولو رام أحد من الخلق على أن يجعل غذاء جسمه المركب من هذه الطبائع من شيء كائن عن غير هذه الطبائع أو ما تركب عنها لم يستطع فكما لا يمكن لشيء من الأجسام الطبيعية أن تقبل غذاء إلا من شيء هو من الطبائع التي هي منها كذلك لا يمكن لأحد أن يعلم شيأ ليس فيه مثله البتة ألا ترى النفس لا تقبل من العقل إلا ما تشاركه فيه وتشاكله وما لم تشاركه فيه لا تعلمه منه أبدا وليس من الله في أحد شيء ولا يجوز ذلك عليه بوجه من الوجوه فلا يعرفه أحد من نفسه وفكره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم فاخبر عليه السلام بأن العقل لم يدركه بفكره ولا بعين بصيرته كما لم يدركه البصر وهذا هو الذي أشرنا إليه فيما تقدم من بابنا فلله الحمد على ما ألهم وأن علمنا ما لم تكن نعلم وكان فضل الله عظيما هكذا فليكن التنزيه ونفي المماثلة والتشبيه وما ضل من ضل من المشبهة إلا بالتأويل وحمل ما وردت به الآيات والأخبار على ما يسبق منها إلى الإفهام من غير نظر فيما يجب لله تعالى من التنزيه فقادهم ذلك إلى الجهل المحض والكفر الصراح ولو طلبوا السلامة وتركوا الأخبار والآيات على ما جاءت من غير عدول منهم فيها إلى شيء البتة ويكلون علم ذلك إلى الله تعالى ولرسوله ويقولون لا ندري وكان يكفيهم قول الله تعالى ' ليس كمثله شيء ' فمتى جاءهم حديث فيه تشبيه فقد أشبه الله شيأ وهو قد نفى الشبه عن نفسه سبحانه فما بقي إلا أن ذلك الخبر له وجه من وجوه التنزيه يعرفه الله تعالى وجيء به لفهم العربي الذي نزل القرآن بلسانه وما تجد لفظة في خبر ولا آية جملة واحدة تكون نصا في التشبيه أبدا وإنما تجدها عند العرب تحتمل وجوها منها ما يؤوي إلى التشبيه ومنها ما يؤدي إلى التنزيه فحمل المتأول ذلك اللفظ على الوجه الذي يؤدي إلى التشبيه جور منه على ذلك اللفظ إذ لم يوف حقه بما يعطيه وضعه في اللسان وتعد على الله تعالى حيث حمل عليه سبحانه ما لا يليق بالله تعالى ونحن نورد إن شاء الله تعالى بعض أحاديث وردت في التشبيه وأنها ليست بنص فيه فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين فمن ذلك قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الله نظر العقل بما يقتضيه الوضع من الحقيقة والمجاز الجارحة تستحيل على الله تعالى الأصبع لفظ مشترك يطلق على الجارحة ويطلق على النعمة قال الراعي : نفى الشبه عن نفسه سبحانه فما بقي إلا أن ذلك الخبر له وجه من وجوه التنزيه يعرفه الله تعالى وجيء به لفهم العربي الذي نزل القرآن بلسانه وما تجد لفظة في خبر ولا آية جملة واحدة تكون نصا في التشبيه أبدا وإنما تجدها عند العرب تحتمل وجوها منها ما يؤوي إلى التشبيه ومنها ما يؤدي إلى التنزيه فحمل المتأول ذلك اللفظ على الوجه الذي يؤدي إلى التشبيه جور منه على ذلك اللفظ إذ لم يوف حقه بما يعطيه وضعه في اللسان وتعد على الله تعالى حيث حمل عليه سبحانه ما لا يليق بالله تعالى ونحن نورد إن شاء الله تعالى بعض أحاديث وردت في التشبيه وأنها ليست بنص فيه فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين فمن ذلك قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الله نظر العقل بما يقتضيه الوضع من الحقيقة والمجاز الجارحة تستحيل على الله تعالى الأصبع لفظ مشترك يطلق على الجارحة ويطلق على النعمة قال الراعي :
Page 142