ورواه سعيد بن المسيب ، عن ابن عباس [29] أخبرنا أبو الحسن أحمد بن الحسن بن أيوب النقاش ، حدثنا أحمد بن موسى بن إسحاق ، حدثنا أبو الحسن علي بن الحسين بن محمد بن المخزومي ، حدثنا أبو حاتم السجستاني ، حدثنا وهب بن جرير ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عباس ، رضي الله عنه قال : قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " ما فعل حليف لكم ، يقال له : قس بن ساعدة الإيادي " . قالوا : هلك يا رسول الله ، فتأوه النبي عليه السلام لموته تأوها شديدا ، ثم قال : " كأني به بالأمس في سوق عكاظ ، على جمل أفرق ، في إزارين ، وهو يخطب الناس ، وهو يقول : يا أيها الناس اجتمعوا ، ثم اسمعوا وعوا ، من عاش مات ، ومن مات فات ، وما هو آت آت ، إن في السماء لخبرا ، وإن في الأرض لعبرا ، بحار لا تفور ، ونجوم لا تمور ، وسقف مرفوع ، ومهاد موضوع ، ومطر ونبات ، وذاهب وآت ، وأحياء وأموات ، وعظام ورفات ، وليل ونهار ، وضياء وظلام ، ومسيء ومحسن ، وغني وفقير ، يا أرباب الغفلة ، ليصلح كل واحد منكم عمله ، تعالوا نعبد إلها واحدا ، ليس بمولود ولا والد ، أعاد وأباد ، وغدا إليه المعاد ، أقسم قس قسما بالله وما أثم ، لئن كان في الأرض ليكونن سخطا ، إن لله دينا ، هو أرضى من دينكم الذي أنتم عليه ، يا أهل إياد ، ما لي أرى الناس يذهبون ، فلا يرجعون ، أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سمعته يتمثل بأبيات شعر ، ولساني لا ينطلق بها " . فقام رإليه رل منهم ، فقال : يا رسول الله ، أنا سمعتها منه ، فهل علي فيه من إثم إن أنا قلته ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قل ، فإن الشعر كلام ، حسنه حسن ، وقبيحه قبيح " . فقال : سمعته يقول
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر
ورأيت ققوما نحوها يسعى الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي ولا يبقى على الحدثان غابر
أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يزيد في إيمان قس بن ساعدة ؟ " فوثب رجل من القوم ، فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا نحن في ملاعبنا ، إذ أشرف علينا من حرة الجبل ، فرأيت طيرا كثيرا ، ووحشا كثيرا في بطن الوادي ، وإذا قس بن ساعدة مؤتزر بشملة مرتد بأخرى ، وبيده هراوة ، وهو واقف على عين من ماء ، وهو يقول : لا وإله السماء لا يشرب القوي قبل الضعيف ، بل يشرب الضعيف قبل القوي . فوالذي بعثك بالحق يا رسول الله ، لقد رأيت القوي من الطير يتأخر حتى يشرب الضعيف ، ولقد رأيت القوي من الوحش يتأخر حتى يشرب الضعيف ، فلما تتحامى حوله هبطت إليه من ثنية الجبل ، فرأيته واقفا بين قبرين يصلي ، فقلت : أنعم صباحا ، ما هذه الصلاة التي لا تعرفها العرب ؟ قال : صليتها لإله السماء ، فقلت : وهل للسماء من إله سوى اللات والعزى ؟ فانتفض وانتفخ لونه ، ثم قال : إليك عني يا أخا إياد ، إن في السماء إلها عظيم الشأن ، هو الذي خلقها فسواها ، وبالكواكب زينها ، وبالقمر المنير والشمس أشرقها ، أظلم ليلها ، وأضاء نهارها ؛ ليسلف بعضها في بعض ، ليس له كفوية ، ولا أينية ، ولا كيموسية ، فقلت له : فما أصبت موضعا تعبد إله السماء إلا في هذا المكان ؟ فقال : إني لم أصب في زمني غير صاحبي هذين القبرين ، وإني منتظر ما أصابهما ، وسيعمكم حق من هذا الوجه ، وأشار بيده نحو مكة ، فقلت له : وما هذا الحق ؟ قال : رجل أبلج أحور ، من ولد لؤي بن غالب ، يعني محمدا عليه السلام ، يدعوكم إلى كلمة الإخلاص ، وعيش الأبد ، ونعيم لا ينفد فإن دعاكم فأجيبوه ، وإن استنصركم فانصروه ، قد وصف لي فيه علامات شتى ، وخلائق حسانا ، قال : إنه لا يأخذ على دعواه أجرا ، قلت : فما لك لا تصير إليه ؟ قال : إني لا أعيش إلى مبعثه ، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه ، لكنت أول من يسعى إليه ، فأضرب بصفقة كفي صفقة كفه ، فأقيم بين يديه لحكم ربي تبارك وتعالى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حسبك ، فإن القس بن ساعدة كان أمة ، يبعثه الله تبارك وتعالى يوم القيامة أمة وحده " *
Page 66