1 - كابتن روبرت والتون يلتقي فيكتور فرانكنشتاين
2 - حكاية فيكتور فرانكنشتاين كما يرويها هو
3 - مأساة تحل بالأسرة
4 - فرانكنشتاين يلتحق بالجامعة
5 - التجارب
6 - نجاح وفشل
7 - عالم بعيد عن العلوم
8 - فرانكنشتاين يعود إلى وطنه
9 - محاكمة جاستين المسكينة
10 - رحلة طويلة على الأقدام
11 - قصة المسخ
12 - طلب المسخ
13 - رحلة إلى إنجلترا
14 - ثم إلى اسكتلندا
15 - نهاية تجاربي
16 - الاتهام
17 - العودة إلى جنيف
18 - انتقام المسخ
19 - أيام فيكتور فرانكنشتاين الأخيرة
1 - كابتن روبرت والتون يلتقي فيكتور فرانكنشتاين
2 - حكاية فيكتور فرانكنشتاين كما يرويها هو
3 - مأساة تحل بالأسرة
4 - فرانكنشتاين يلتحق بالجامعة
5 - التجارب
6 - نجاح وفشل
7 - عالم بعيد عن العلوم
8 - فرانكنشتاين يعود إلى وطنه
9 - محاكمة جاستين المسكينة
10 - رحلة طويلة على الأقدام
11 - قصة المسخ
12 - طلب المسخ
13 - رحلة إلى إنجلترا
14 - ثم إلى اسكتلندا
15 - نهاية تجاربي
16 - الاتهام
17 - العودة إلى جنيف
18 - انتقام المسخ
19 - أيام فيكتور فرانكنشتاين الأخيرة
فرانكنشتاين
فرانكنشتاين
تأليف
ماري شيلي
ترجمة
فايقة جرجس حنا
الفصل الأول
كابتن روبرت والتون يلتقي
فيكتور فرانكنشتاين
بينما كنت واقفا على متن السفينة أتأمل الأرض الجليدية من حولي شعرت ببرد الريح القطبية ينخر عظامي. كنت في منطقة القطب الشمالي. أخيرا تحقق حلم حياتي بالمجيء إلى هنا، ولكن ما الثمن الذي تكبدته أنا ورجالي لتحقيق هذا الحلم؟ علقت سفينتنا وسط الجليد، ولم نعلم هل ستكتب لنا النجاة أم سنموت.
شعرت بحماقتي؛ إذ فشلت الرحلة بأكملها فشلا ذريعا. لقد تحولت رحلتي إلى كارثة تامة بسبب رغبتي في أن أرى جزءا من العالم لم تطأه قدم إنسان من قبل. وها قد انتهى بنا الحال في منطقة بعيدة للغاية في الشمال بسبب أفعالي. كان يجدر بي أن أغتنم أول فرصة وأعود بالسفينة، لكنني رفضت، وبكل عناد واصلت تقدمي، ولم آبه لمدى انزعاج طاقم السفينة من هذا الأمر. كانت معنوياتي منهارة، لكنني كنت عازما على ألا أستسلم.
مر الوقت ببطء شديد، وتمنيت معظم الأيام لو كان برفقتي صديق وفي يؤنس وحدتي؛ شخص أستطيع أن أتحدث إليه أثناء الليالي الطويلة الباردة. لقد افتقدت الأصدقاء أكثر من أي شيء آخر في العالم. لا أنكر أنه كان معي طاقم رجال عظماء على متن سفينتي، لكنهم يعملون لدي. لم يكونوا أصدقائي.
بحلول صباح اليوم التالي ازداد الوضع سوءا؛ إذ أحاط الجليد بالسفينة من جميع الجهات. لم يكن بوسعنا غير الانتظار. وبحلول وقت ما بعد الظهر انقشع الضباب من السماء فاستطعنا أن نرى المزيد؛ كان الثلج الأبيض والجليد يمتدان حول السفينة في كل اتجاه.
أشار أحد الرجال نحو منظر غريب على بعد؛ فالتفتنا فإذ برجل ضخم يجر مزلجة ويتجه موغلا نحو الشمال. راقب الطاقم المشهد إلى أن توارى الرجل ومزلجته عن الأبصار وسط الجليد، فالتفتنا بعضنا إلى بعض وتساءلنا: «ترى من هذا؟! بل ما هذا؟!» فعلى حد علمنا لم يكن هناك بشر في هذا الجزء من العالم.
في الصباح التالي صعدت إلى سطح السفينة لأجد البحارة يتحدثون مع شخص ما إلى جانب السفينة. ملت على جانب السفينة فرأيت رجلا يطفو على قطعة من الجليد، وحوله قطع متناثرة من مزلجة مهشمة! لا بد أن الجليد انجرف نحونا في الليل. وحاول رجالي إقناعه بالصعود إلى سفينتنا لئلا يغرق.
حدثني شيء ما أنه ليس نفس الرجل الذي رأيناه البارحة؛ فذلك المسخ بدا متوحشا وعنيفا، وليس إنسانا كاملا. أما هذا الرجل فقد كان رجلا أوروبيا كما تبين من لكنته الأوروبية الواضحة.
صاح الرجل: «اسمي فيكتور فرانكنشتاين. قبل أن أصعد إلى متن السفينة، هلا أخبرتني من فضلك إلى أين أنتم ذاهبون؟»
أجبته: «أنا كابتن روبرت والتون، وهذه سفينتي، ونحن في رحلة إلى القطب الشمالي.» كان فرانكنشتاين مدثرا في طبقات عدة من الفرو، ومع ذلك لا زال يبدو عليه الشعور بالبرد القارس، فقلت له: «لا بد أن تصعد إلى السفينة؛ ستتجمد عندك.»
أومأ الرجل برأسه، وألقى بحاران له حبلا وساعداه في الصعود إلى متن السفينة. •••
كاد فرانكنشتاين يتجمد وكان في حالة مزرية! كان شاحبا وهزيلا، وكان من الواضح أنه في حاجة إلى وجبة جيدة دافئة. واستنتجت أنه مر بوقت عصيب. بل إنه غاب عن الوعي قبل أن نتمكن من أخذه إلى غرفة دافئة، فدثرناه في بطانيات دافئة وجعلناه يحتسي كوبا من الشاي ساخنا، فبدأ يتحسن بالتدريج وعندئذ احتسى بعض الحساء.
وعندما بدا عليه الشعور بالتحسن نقلته إلى غرفتي، ولسبب ما أردت أن أساعده قدر استطاعتي. تقلب كثيرا في فراشه في الليلة الأولى، وملأ الحزن الشديد عينيه كما لو كان يحمل ثقل العالم كله على منكبيه.
يا لها من مفاجأة أن تعثر على إنسان وسط بحار القطب الشمالي الباردة المتجمدة! أراد البحارة أن يسألوه الكثير من الأسئلة، لكن فرانكنشتاين كان لا يزال سقيما ولم أردهم أن يزعجوه كثيرا. وفي إحدى الليالي، بعد العشاء، عرج علينا مساعدي الأول هاردي.
سأل هاردي: «لماذا قطعت كل هذه المسافة باستخدام مثل هذه المزلجة الصغيرة؟»
فارقت الابتسامة وجه فرانكنشتاين وحلت محلها نظرة بائسة وقال: «كنت أطارد شخصا فر مني.»
تردد هاردي لحظة ثم قال: «هل كان يتحرك باستخدام نفس النوع من المزالج؟»
حدق فرانكنشتاين فيه وقال: «أجل، كيف عرفت؟» - «أظننا رأيناه. رأينا رجلا يجر نفس النوع من المزالج فوق الجليد.»
صاح فرانكنشتاين: «لا بد أنه المسخ! أي اتجاه سلك؟ أرأيته نجا من الجليد أم لا؟ وبأي سرعة كان يتحرك؟»
أجابه هاردي: «لقد اتجه شمالا، هذا كل ما استطعنا أن نراه.»
استلقى فرانكنشتاين شاحب الوجه على الفراش مرة أخرى.
قلت: «كفى هذا الآن! فهو بحاجة إلى الراحة، أراك صباحا يا هاردي.» أومأ هاردي في أدب ثم انصرف.
وضع فرانكنشتاين رأسه على الوسادة ثم قال في لطف: «لا بد أنك تريد أن تعرف كيف وصلت إلى هنا وماذا أفعل، كان لطفا منك أنك لم تسأل.»
قلت: «أنت بحاجة إلى أن تستعيد قواك، هذا أهم بكثير من إجابة أية أسئلة تلح على عقلي.»
ابتسم فرانكنشتاين ابتسامة رقيقة وقال: «لكنك أنقذت حياتي. أنا مدين لك.» - «لا أهمية لهذا الآن. أنت بحاجة إلى الراحة.»
وبعد برهة من الصمت سأل فرانكنشتاين: «أتظن أن الجليد قد انهار بما يكفي لتدمير المزلاج الآخر؟ أتظنه فقد إلى الأبد؟»
أخبرته أنه من الصعب التيقن من ذلك لأن الجليد كان لا يزال صلبا. استغرق فرانكنشتاين في تفكير عميق مرة أخرى ثم قال: «أفضل أن أعود إلى سطح السفينة ترقبا لظهور ذلك المزلاج.»
نهيته بقوة قائلا: «لا، صحتك واهنة للغاية والجو شديد البرودة. سأكلف أحد رجالي بترقبه.»
ابتسم وقال: «أشكرك يا روبرت، هذا كرم منك.»
مرت الأيام القليلة التالية دون وقوع أحداث جديرة بالذكر. تحسنت صحة فرانكنشتاين، لكنه ظل واهنا، وأمضى أوقاتا طويلة غارقا في التفكير. وعلى الرغم من حزنه فقد تسامرنا معظم الليالي حتى وقت متأخر، فبات هو الصديق الذي كنت أصبو إليه بشدة في هذه الرحلة غير الموفقة. وكان كل مأربي هو أن أساعده بكل ما في وسعي، فقد كان فرانكنشتاين إنسانا دمث الخلق، حكيما وذكيا، وكلما عرفته عز علي أن أراه متألما.
تحدثنا في إحدى الليالي عن رحلتي لاكتشاف القطب الشمالي، وأخبرته بالقصة كلها، ولسبب ما ازددت غما.
قلت في خشونة: «أخشى أن تظنني إنسانا أحمق يا فرانكنشتاين، لأنني أنفقت كل أموالي وضغطت على رجالي بشدة من أجل المجيء إلى هنا. لا أعرف سبب أهمية أن أكتشف أراضي لم يرها إنسان من قبل. ثمة شيء بداخلي يدفعني للمضي قدما وأخشى أن شيئا لن يوقفني حتى أتمم الأمر بنجاح. أرجو أن تفهمني، وألا أسقط من نظرك.»
اغرورقت عينا فرانكنشتاين بالدموع عندما شعر بالحماسة المتقدة في صوتي، ثم صاح: «يا لك من تعس! روبرت، لا بد أن تنصت جيدا إلى قصتي. لا بد أن تدرك الخطر الذي تخلفه مثل هذه الرغبات القوية!»
اندهشت من ثورته وقلت: «أي قصة؟ ما الذي تتحدث عنه يا فرانكنشتاين؟»
رد فرانكنشتاين سريعا: «معذرة، أرجو أن تغفر لي تحدثي بهذه الحدة. دعنا نتحدث عن شيء آخر.»
غيرت الحديث نزولا على رغبته، وتحدثنا عن طفولتي وأختي التي تعيش في لندن ثم أوينا إلى الفراش.
اعتذر فرانكنشتاين مرة أخرى في الصباح التالي قائلا: «روبرت، لم أقصد أن أصرخ فيك. واعلم أنني فقدت كل شيء أحببته في هذه الحياة بما في ذلك زوجتي وصديق عزيز لي. أريد أن أخبرك بالقصة بأكملها. أظن أنها قد تساعدك في معرفة طريقك.»
الفصل الثاني
حكاية فيكتور فرانكنشتاين
كما يرويها هو
تنحدر عائلتي من جنيف. كدح أبي في العمل بشدة في شبابه. لقد أضنى نفسه في العمل بحق حتى إنه لم يفكر في أي شيء بخلاف واجبه نحو وطنه. حتى الحب بدا أقل أهمية في نظره، ولم يتزوج إلى أن تقدم به العمر.
تتجلى طبيعة صلاح أبي الحقيقية في قصة زواجه من أمي؛ فقد كان لأبي صديق عزيز اسمه بوفورت فقد كل ما يملك ومر بظروف عصيبة. علم الرجل أن حياته قد انهارت، وكان معه من المال ما يكفي فقط لسداد ديونه قبل أن يرحل هو وابنته إلى لوسرن. ولم يرد بوفورت أن يرى أصدقاءه بعدما حدث له؛ إذ كان رجلا أبيا لم يشأ أن يعرف أحد ما حل به.
وطوال عشر سنوات كاملة ظل أبي يبحث عن صديقه ظنا منه أنه في مقدوره أن يجعله يعود إلى بلدته، وأراد أن يساعده في الوقوف على قدميه مرة أخرى.
ولما عثر عليه أبي أخيرا كانت حاله أسوأ كثيرا مما يمكن أن يخطر ببال أبي. كان بوفورت في حالة إعياء شديد، واضطرت ابنته كارولين أن تترك عملها كي تتفرغ لرعايته، وكان كل ما بحوزتهما معا بضع سنتات لا غير. وعلى الرغم من الحياة القاسية التي عانتها كارولين، فإنها احتفظت برقة وطيبة فؤادها اللتين رآهما والدي فوقع في غرامها.
تدهورت صحة بوفورت ومات في غضون أشهر قلائل، واغتمت كارولين للغاية؛ إذ لم تكن فقيرة فحسب، وإنما صارت الآن أيضا وحيدة تماما في العالم. وفي يوم جنازة والدها بكت بحرقة شديدة. وماذا تسطيع أن تفعل غير ذلك؟ وقعت كارولين بجانب النعش وبكت، لقد كمدها موت والدها، لكنها كانت أيضا تتساءل عن مصيرها الآن؟!
رفعها والدي برفق، وأخبرها أنه سيعيدها إلى جنيف ويعتني بها. وبعد مرور عامين تزوجا.
وعلى الرغم من فارق السن بينهما، فإنهما نعما بحياة زوجية سعيدة، إذ كان أحدهما يكن الحب والاحترام للآخر، وترك والدي عمله كي يقضي المزيد من الوقت برفقتها، فالسنوات الطويلة التي قضتها أمي في رعاية والدها أضعفت صحتها. ولكي تتحسن صحتها انتقلا إلى إيطاليا حيث المناخ أكثر دفئا. وولدت في نابولي، وذهبت معهما في كل رحلاتهما، وأحباني حبا جما.
ولما كنت في الخامسة من العمر زرنا بحيرة كومو. وكان من عادة أمي أن تقدم المساعدات للعائلات الفقيرة أثناء رحلاتنا، إذ كانت تود أن ترد الجميل إلى العالم بأن تساعد الآخرين تماما كما ساعدها أبي. وخلال إقامتنا عند بحيرة كومو صادفت أمي رجلا وزوجته يعتنيان بأسرتهما الكبيرة، من بين أبنائهما فتاة جميلة صافية البشرة شقراء الشعر ذات عينين زرقاوين جميلتين كانت مميزة عن باقي أشقائها. كانت الفتاة شديدة الجمال فأحبتها أمي في الحال.
زارت أمي هذه الأسرة لأيام عديدة وأمضت الكثير من الوقت تساعد الأم المسكينة وعائلتها الكبيرة، وأحضرت لهم الطعام والملابس، وأمضت أوقاتا طيبة مع الأطفال. وإبان إقامة أمي معهم راقبت الفتاة الجميلة عن كثب فوجدتها حلوة الطبع، طيبة الخلق، لها ابتسامة عذبة.
وبعد ظهر أحد الأيام جلست أمي والمرأة تتسامران والأطفال يلهون ويضحكون ويركضون أمامهما.
أخبرت المرأة أمي أن الفتاة الجميلة ليست ابنتها، ولكنها انضمت إلى العائلة بعدما مات والداها وأصبحت يتيمة، ومع أنها انحدرت من أسرة ثرية فإنها لا تملك أي مال الآن. كاد قلب أمي ينفطر في هذه اللحظة؛ إذ كانت قصة الفتاة تشبه قصتها تمام الشبه حتى إنها سألت المرأة هل يمكن أن تأتي الفتاة لتعيش معنا. وافقت المرأة، وهكذا انضمت إليزابيث لافينزا الجميلة إلى أسرتنا.
أحببت إليزابيث منذ أن رأتها عيناي، فقد كانت فتاة مشرقة وفاتنة صارت هي كل عالمي، فلم نتشاجر قط أو حتى يسيء أحدنا للآخر. كنا مختلفين أيما اختلاف، فما كان من هذا الاختلاف إلا أن عزز أكثر حب أحدنا للآخر. أحبت إليزابيث الشعر والأشياء الجميلة: الأزهار البرية، وشروق الشمس، والفراشات. أما أنا فقد أحببت العلوم، وعالم الطبيعة، والمفكرين العظماء.
كان العالم في نظري سرا كبيرا أردت أن أسبر غوره. أحبت إليزابيث منظر الأشياء، أما أنا فقد أردت أن أكتشف كيف تعمل الأشياء. وتعاونا معا في كل دراستنا، فكنا نقضي الساعات نجول في الحقول ونسبح في البحيرات ونقرأ طوال ساعات الليل.
وبعد مولد أخي إيرنست قرر والداي العودة إلى الوطن للأبد، فاستقررنا في منزل بجنيف وابتعنا منزلا صغيرا في بيليريف، على الساحل الشرقي من بحيرة جنيف. وعشنا في الريف أكثر مما عشنا في المدينة، إذ كان الريف مكانا رائعا لنترعرع فيه.
أمضينا أنا وإليزابيث كل لحظة معا، وعادة ما كان ينضم إلينا صديقنا هنري كليرفال، الذي كان ودودا محبا للهو والمرح، وكان ثلاثتنا مختلفين اختلاف الليل والنهار، ومع ذلك أحببنا بعضنا بعضا. نعم ثلاثتنا بطفولة سعيدة سعادة بالغة، وكانا هما أعز أصدقائي، وكنت على يقين من أننا سنظل على الدوام مقربين بعضنا من بعض.
كنت صبيا رزينا دائم التفكير. وأردت أن أتعلم كل شيء وأي شيء، وقد استهوتني أسرار السماء والأرض إلى ما لا نهاية، فكان لا يشغلني شيء سوى العالم من حولي: كيف يسير؟ ولم نحن هنا؟ وكيف جئنا كلنا إلى هذا العالم؟ وما الذي يبعث الحياة في شيء ما؟ ومتى أثارت دراستي اضطرابي - وهو ما كان يحدث كثيرا - كانت إليزابيث تهدئ من روعي. وعندما كنت أصب جم تركيزي على موضوع واحد كان هنري يضحكني.
ولما كبرت تعمقت في دراستي أكثر فأكثر، وأذهلتني قوة العلوم الحديثة، فكنت أقرأ طوال الوقت، وسودت الدفاتر بأفكاري. وباتت كلمات العلماء هي حياتي. وكلما استذكرت تعاظمت رغبتي في معرفة المزيد، فقرأت المزيد والمزيد. لكن كلما قرأت أكثر ازداد انزعاجي؛ إذ لم يجب ولا عالم واحد عن أسئلتي قط، ولم يخبرني ولا كتاب واحد بما أردت أن أعرفه بالضبط. كانت الأفكار تتزاحم برأسي طوال الليل عادة. وكان أصدقائي وأفراد عائلتي لطفاء، فتغاضوا عن أمزجتي المتقلبة، وكانوا يدعمونني مع أنني كنت أمضي أوقاتا طويلة منكبا على قراءة كتب قديمة تعلوها الأتربة.
وظلت الطبيعة مثار تساؤل وغموض لي. بحثت عن سر الحياة. في حقيقة الأمر أردت أن أصنع حياة، لكنني علمت أنه ليس في مقدوري فعل هذا. ولم يكن الوقت والمال يعنيان لي الكثير. الشيء الوحيد الذي كان يهمني هو الاهتداء إلى اكتشاف عظيم. لعلي أستطيع إنقاذ البشرية من الأمراض. وربما أمكنني منع الموت العنيف. ولعلي أستطيع في نهاية المطاف الإجابة عن تلك الأسئلة الغامضة.
وفيما كنا نقيم في بيتنا الصيفي الصغير، في الصيف الذي بلغت فيه الخامسة عشرة من العمر، إذ بعاصفة عنيفة هوجاء تهب دون سابق إنذار تقريبا، والرعد يهزم عاليا في السماء، والسماء تتقد بوميض البرق. وقفت عند الباب الخلفي وحدقت في السحب أتابع العاصفة. وفجأة قصف الرعد بقوة في كل الأرجاء! وبعد لحظة ضربت صاعقة برق شجرة بلوط قديمة أمامي مباشرة، فقسمت قوة الصاعقة الشجرة إلى نصفين ثم اضطرمت النيران فيها.
وعندما خرجت في الصباح التالي لأتفقد الشجرة، كان كل ما وجدته هو جذل محترق وقطع خشب متناثرة في كل مكان.
ومن ثم ركزت بشدة على الكهرباء، إذ أردت أن أعرف كيف اجتمعت كل هذه القوة في صاعقة برق؛ فبدأت بالأساسيات ودرست الرياضيات. علمت أن المبادئ الأساسية تحوي الخيط الذي سيمكنني من بناء مجدي الشخصي. وسرعان ما انشغلت بمنطق الأعداد. لعلي لو علمت حينذاك ما الذي سيحل بي في السنوات اللاحقة، لامتنعت عن الدراسة، لكن القدر دبر الأمور بطريقته، وحدثت العاصفة لسبب ما.
الفصل الثالث
مأساة تحل بالأسرة
مرت السنون وكبرنا. وسرعان ما آن أوان سفري للالتحاق بالجامعة. وقبل رحيلي إلى ألمانيا مباشرة مرضت إليزابيث بشدة بالحمى القرمزية، واستبد بنا جميعا القلق من أجلها، وما زاد الأمر سوءا أن الطبيب أخبرنا أن نبتعد عنها خشية أن تنتقل العدوى إلى أي أحد آخر.
تولى الطبيب الاعتناء جيدا بإليزابيث. وبعد مرور أسبوع من مرضها جاء إلى أمي بوجه حزين وأخبرها بأن حالة إليزابيث تدهورت، فلم تحتمل أمي الابتعاد عنها أكثر من هذا، فهرعت إليها واعتنت بها حتى استردت صحتها. لكن سرعان ما تحول هذا الحب إلى مأساة، ومرضت أمي أيضا.
تمكنت الحمى القرمزية من أمي ولم تفارقها، وساءت حالتها أكثر فأكثر. وقبل موتها مباشرة طلبت أمي أن تراني أنا وإليزابيث. جلسنا إلى جانبيها في سكون كل منا يمسك بإحدى يديها. ومع أن وجهها كان شاحبا فقد ظلت جميلة. شخصت إلينا في محبة بعينيها الشفوقتين، وابتسمت وهي تخبرنا بأنها تريدنا زوجين، وكانت تعلم أننا كنا صغيرين على أن نتزوج على الفور، لذا جعلتنا نقطع لها وعدا بأن نتزوج عندما نكبر. لم نندهش أنا وإليزابيث من طلبها؛ إذ كنا نعلم دائما في أعماق قلبينا أننا سنتزوج في نهاية المطاف. ووعدناها برضا تام بأننا سنتزوج حالما أنتهي من دراستي.
عندئذ طلبت أمي من إليزابيث أن تعتني بأسرتنا بعد رحيلها، وأرادتها أن تربي إيرنست وأخي الأصغر ويليام الذي كان رضيعا بعد، فوعدتها إليزابيث بأنها ستشملهما بأحسن رعاية.
وبعدما ودعت أبي وداعا مليئا بالحب، رقدت أمي رقاد الموت في هدوء. بكيناها بكاء مرا، وافتقدنا وجودها كل يوم. لكن الحقيقة المرة هي أن عجلة الحياة لا تتوقف؛ فبعد مرور وقت قليل أخبرني أبي برغبته في أن أذهب إلى الكلية، وأنه يتفهم أنني أفتقد أمي وأنني أريد أن أمكث لمؤازرة أسرتي، لكنه أخبرني أنه لا ينبغي أن تتوقف حياتي بسبب حزني؛ ففي النهاية تعليمي أهم من حزني.
لم أشأ أن أترك أسرتي في خضم حسرتها الشديدة على موت أمي المفاجئ، لكن إليزابيث حدثتني على انفراد في أحد الأيام ونصحتني بالذهاب.
قالت إليزابيث في هدوء: «فيكتور، كلما عجلت بإنهاء دراستك استطعنا أن نتزوج سريعا. كانت أمنية والدتك عند موتها أن ترانا سعيدين. لا بد أن ترحل إلى ألمانيا. لو كانت والدتك على قيد الحياة لكان هذا ما ستريده.»
علمت في قرارة نفسي أن إليزابيث على حق. وقد كانت محقة بشأن الكثير من الأمور. وأصبحت إليزابيث الصخرة التي نعتمد عليها كلنا؛ إذ كانت قوية واعتنت بأبي وأخوي عناية خاصة، وأغدقت علينا الحب من قلبها العطوف الرقيق، فكان حبي لها يزيد مع انقضاء كل يوم. أحببتها حبا عميقا. لقد كانت إنسانة معطاءة. ولما علمت أن أسرتي في رعايتها سهل علي الرحيل كثيرا.
وفي الليلة التي سبقت يوم رحيلي إلى ألمانيا جلسنا أنا وهنري وإليزابيث في المطبخ نحتسي مشروب الشيكولاته الساخنة ونتسامر. تذكرنا قصصا من طفولتنا، وتحدثنا عن أحلامنا، ولم يرد أحد منا أن ينام، لذا سهرنا طوال الليل. واحتسينا طوال الليل بلا انقطاع قدحا تلو الآخر من ذلك المشروب الحلو الدافئ. وعندما أشرقت الشمس في الصباح التالي لم يرد أحدنا أن يفارق الآخر.
وبعد ساعتين كانت حقائبي جاهزة وموضوعة في العربة. وأخيرا حان وقت الرحيل. عانقت أبي عناقا طويلا، وطلبت من إليزابيث أن تعدني بأن تكتب إلي بلا انقطاع. وحبس إيرنست دموعه وأمسك بالرضيع ويليام بقوة، وصافحني هنري بكل قوته. لقد ودعوني وداعا حارا رائعا.
دلفت داخل العربة وقلت لهم: «لا تقلقوا جميعا! سأراكم عما قريب!»
بهذه الكلمات بدأت الرحلة الطويلة إلى ألمانيا. استلقيت في المقعد ونظرت من نافذة العربة إلى منزلي الذي أخذ يتضاءل شيئا فشيئا في الفضاء. ولأول مرة في حياتي صرت وحيدا تماما.
الفصل الرابع
فرانكنشتاين يلتحق بالجامعة
استغرقت الرحلة ثلاثة أيام سفر طويلة للوصول إلى إنجولشتات. ومن فرط التعب فاتني جمال المدينة المحيطة بالجامعة. وأمضيت الكثير من الوقت من الأسبوع الأول في حجرتي أستعد للدروس.
جاء يوم الاثنين، وأخذت خطاب التعريف الخاص بي إلى الأساتذة الجامعيين. استقبلني أستاذ العلوم الجديد، الأستاذ كريمب، بفتور. سألني وقد استقرت نظارته فوق طرف أنفه عما درست. فأخبرته عن كل الكتب التي اطلعت عليها عندما كنت صغيرا، وأخبرته أيضا كيف تعلمت كل شيء قدر استطاعتي عن عالم الطبيعة ثم بدأت أدرس الرياضيات. ولما عرف أي علماء قرأت لهم بدأ يصيح: «هراء! كل ذلك هراء!» ثم غمس قلمه في الحبر وكتب في عجالة لبرهة.
ثم قال لي: «ابدأ من هنا. احفظ هذه الكتب عن ظهر قلب. لا بد أن تبدأ من جديد اعتبارا من اليوم.»
أخذت الورقة التي أعطاني إياها. ثم نظر إلي نظرة صارمة وأضاف: «سأعلمك العلوم الطبيعية اعتبارا من الاثنين القادم، وسيعلمك الأستاذ والدمان الكيمياء يوما ويوما. هذا كل شيء.»
قلت في هدوء: «أشكرك يا أستاذ . لن أدخر وسعا لأعوض ما فاتني قبل ذلك الحين.»
أومأ الأستاذ كريمب برأسه، ثم غادرت مكتبه وأنا منزعج لأنني متأخر للغاية.
بدأت دروسي الأسبوع التالي. وكان الأستاذ والدمان يكبر الأستاذ كريمب سنا. بدأ شعره البني يتحول إلى الرمادي إلى جانب أذنيه. ومع أنه كان قصير القامة فقد كان له صوت جهوري.
بدأ درسنا الأول بتاريخ الكيمياء. شرح الأستاذ مدى تطور العلوم على مر السنين قائلا: «هناك تطور هائل يتحقق؛ فبمساعدة الميكروسكوب يستطيع العلماء المعاصرون أن يروا عالما لم نكد نعلم بوجوده قبل اليوم.»
وجلجل صوته في كل أنحاء الفصل وهو يقول: «اكتشف هؤلاء العلماء كيف يجري الدم في أنحاء جسم الإنسان ولماذا، وعرفوا مما يتألف الهواء الذي نستنشقه، ويمكنهم أن ينتزعوا الرعد من السماء، وأن يجعلوا الأرض تهتز. إن الإمكانيات التي تمتلكها العلوم اليوم غير محدودة مثل العقول التي تسعى وراءها.»
وتوقف الأستاذ والدمان عن الحديث لبرهة ثم تابع: «وأنتم أيها الطلبة الأحداث ستكونون المجموعة التالية من المفكرين العظماء.»
تسارعت الأفكار برأسي، وفكرت في نفسي: «أجل! أجل! أجل! أنا فيكتور فرانكنشتاين سوف أكشف حقيقة أعظم أسرار العالم!» وحددت هذه الأفكار مصيري، وتدفقت أحلامي كالنهر العظيم، وما من شيء كان بمقدوره أن يعترض سبيلها. وصرت أفضل طلبة الأستاذ والدمان، ولم يفتني درس واحد، وكنت أنصت إلى كل كلمة يقولها.
وفي يوم من الأيام قررت أن أعرج عليه في منزله، إذ كنت أريد أن أقرأ المزيد من الكتب. فرح الأستاذ لرؤيتي، وقد بدا في منزله مختلفا تماما عنه في الجامعة.
سألني في هدوء: «كيف يمكنني أن أساعدك يا فيكتور؟» جلسنا في غرفة المعيشة، واحتسينا القهوة، وتحدثنا عن الكيمياء لوقت طويل.
شرحت له قائلا: «أريد أن أتعلم كل ما أستطيع عن الكيمياء يا سيدي. هل لديك المزيد من القراءات أو التجارب التي يمكنني أن أجريها؟»
أجابني: «أيها الشاب، يسرني أن أسمع كم تتوق إلى التعلم! لكن العلوم لا تقتصر على الكيمياء. لكي تكون عالما بارعا بحق لا بد أن تتعلم كل أنواع العلوم المختلفة، بما فيها الرياضيات.»
أجبته: «أجل يا سيدي، أنا مستعد أن أتعلم أي شيء وكل شيء لا بد أن أعرفه كي أصير عالما عظيما!»
كان الأستاذ والدمان لطيفا حينها حتى إنه أراني معمله الخاص؛ فرأيت الماكينات الرائعة، وأراني أدواته، وأخبرني كيف أنشئ معملا لنفسي. ونحو نهاية مقابلتنا أعطاني قائمة بالكتب التي كنت أبحث عنها. كم كان يوما رائعا! لقد كان له عظيم الأثر علي؛ فقد قرر مصيري.
الفصل الخامس
التجارب
كانت الجامعة هي كل عالمي طيلة العامين التاليين، وقد أدهش تقدمي الأستاذ والدمان. وكان أفضل جانب في العلوم هو الاكتشافات العديدة التي اهتدينا إليها. وبنهاية دراستي كنت قد طورت العديد من الأدوات التي كنا نستخدمها في عملنا اليومي. وهكذا أنهيت دراستي الجامعية عالما أنني أتممت تعليمي بنجاح.
ها قد انتهيت من الجامعة الآن، وكان أمامي قرار لأتخذه؛ فإما أعود إلى وطني وأتزوج من إليزابيث، أو أمكث وأستمر في عملي في المعمل؛ فلا زالت لدي أسئلة عن الجسم البشري وآلية عمله: ما الذي يبعث الحياة في كائن ما؟ كان هذا سؤالا صعبا، لكنني ابتغيت بشدة أن أعرف الإجابة. كل الأدوات اللازمة للوصول إلى مثل هذا الاكتشاف العظيم كانت متاحة هنا في معملي. وكل شيء على الجامعة أن توفره كان طوع بناني. لذا قررت ألا أرجع إلى وطني، وبدلا من ذلك مكثت في إنجولشتات.
ولكي أكتشف أسرار الحياة كان لا بد أن أتعلم المزيد عن الموت. قطعا هي فكرة كئيبة، لكنها بدت لي منطقية في ذلك الحين، فبدأت أدرس الجسم البشري وأرى ماذا يحدث له بعد أن تفارقه الحياة.
لم تبد الأمور التي قد تزعج الآخرين مزعجة لي على الإطلاق. ولم أرتعب من الأشباح أو العمل في وقت متأخر وسط القبور. كنت أمضي الساعات في القبور وسط الجثث، أراقب كل مرحلة من مراحل التغير التي تمر بها الجثث. وأذهلتني الفروق بين الحياة والموت، وكنت ألاحظ كل فرق منها.
انقضى الوقت سريعا، فلم ألحظ انقضاء الأسابيع والشهور. وعندئذ، في يوم من الأيام، توصلت إلى أروع اكتشاف، فبعد كثير من التفكير والعمل المضني، اكتشفت أنني أستطيع أن أبعث الحياة في مادة ميتة. فتحت أمامي هذه الاكتشافات عالما جديدا تماما من الفرص وكأنما بفعل السحر.
هتفت: «لقد نجحت! إنها تعمل!»
استغرقت دقيقة حتى استطعت التقاط أنفاسي. جلست على أحد المقاعد بجانب تجربتي وفكرت فيما أفعل الآن. كيف ينبغي لي أن أستخدم الاختراع؟ هل أصنع رجلا مثلي؟ أو أصنع شيئا بسيطا كحيوان صغير؟
قلت لنفسي: «كلا، ما الذي يحتاجه العالم؟ لا يحتاج العالم إلى حيوان آخر. كلا، سأقدم للعلم أعظم الخدمات إذا صنعت إنسانا. ماذا سيظن الناس؟!»
أطلقت العنان لمخيلتي. وجعلني هذا النجاح المبدئي أظن أنني أستطيع أن أفعل أي شيء أعزم عليه. لا بد أن يصير هذا الإنسان مثاليا. لذا استغرقت بضعة أشهر أجمع كل شيء أحتاجه. ودفعني هدفي النهائي وكأنه إعصار. لا الحياة ولا الموت بمقدورهما أن يمنعاني عن المضي قدما، فسأكون أنا صانع جنس جديد من الكائنات الحية.
كرست كل وقتي لعملي، فشحبت وجنتاي من قضاء وقت طويل للغاية بالمعمل، ونحل جسمي من عدم تناول الطعام الكافي، وتسارعت الأفكار في ذهني ليل نهار، ونادرا ما كنت أتوقف عن العمل لأنال قسطا من النوم، وقضيت ليالي طويلة أعمل على ضوء القمر وضوء الشموع، إذ كنت مفعما بالطاقة والحماس.
وكان يفصل معملي، الكائن بالطابق العلوي من شقتي، عن سائر الشقق الأخرى سلالم مائلة طويلة، الأمر الذي كان من حسن حظي؛ فلم أكن أريد البتة أن يعثر أي شخص آخر على عملي. كنت أشعر أن الناس لن يفهموا ما الذي أصنعه ولماذا.
كانت الزجاجات المليئة بالسوائل تنتشر في كل الأرجاء، فكان منظرها سيخيف الزائر. وكانت مقلات الأعين، والآذان، وأعضاء أخرى من جسم الإنسان - كثير منها أخذته من المستشفى المحلي - ملقاة في كل مكان. استخدمت أي أعضاء طالتها يدي، فكان أهم شيء عندي هو صنع هذا الإنسان، بصرف النظر عن أي شيء آخر.
انقضى الشتاء وجاء الربيع ومن بعده الصيف، فأصبحت الرياح دافئة، وأينعت الأزهار. ولم أدرك التغيرات المناخية التي طرأت من حولي، ولم أر أيا منها. كل ما استطعت أن أراه هو عملي وحسب. ما من شيء استطاع أن يحركني من مكاني؛ لا التفكير في أصدقائي وأسرتي، ولا حتى في محبوبتي إليزابيث الجميلة.
أدركت أن أسرتي كانت غاضبة مني لأنني لم أرسل لهم ولا خطابا واحدا منذ أشهر، لكنني كنت أعرف في أعماقي أنهم سوف يسامحونني، فهم يعرفون أنني أحبهم. قلت لنفسي إن وراء كل الاختراعات العظيمة تضحيات عظيمة. تراكمت الخطابات الآتية من أفراد الأسرة في حجرة معيشتي كما هي مغلقة وغير مقروءة.
وانقضى الصيف وجاء الخريف، وتغير العالم خارج نافذة معملي مرة أخرى. لقد مرت علي في لمح البصر المواسم التي كنت أحبها والأوقات التي كنت أترقب مجيئها بشغف. اعترتني حمى متزايدة لازمتني طويلا معظم الليالي، وتلفت أعصابي. وكان الشيء الوحيد الذي مكنني من الاستمرار هو التفكير في النجاح.
قلت لنفسي في إحدى الليالي: «قريبا. قريبا سيحيا هذا الرجل.»
الفصل السادس
نجاح وفشل
في ليلة من الليالي انهمرت الأمطار بلا انقطاع خارج نوافذ معملي. شعرت بالبرد الشديد بسبب هواء شهر نوفمبر/تشرين الثاني البارد. ولم أكد أصدق أنني انتهيت من العمل. جمعت الأدوات حولي وحاولت أن أبعث الحياة في الكائن الذي صنعته. أوشكت شمعتي أن تحترق كليا. وشعرت بالوهن والإعياء. وعندئذ، على بصيص الضوء الخافت، رأيت المسخ يفتح عينين صفراوين كسولتين. وخرج من فمه نفس. وتحركت ذراعاه وساقاه. لقد دبت فيه الحياة!
بدأت أبكي في الحال تقريبا. لم تكن دموع الفرح كما قد يخال لك. لا، لقد بكيت بؤسا وندما.
صرخت: «ما الذي فعلته؟! يا للكارثة!»
لقد اخترت أعضاء جسمه بعناية بالغة، لكن الأمر تحول إلى كارثة. كيف أصف الرعب الذي انتابني؟ لقد رأيته قبل أن أبعث الحياة فيه، لكنني لم ألحظ أنه كان شديد القبح. والآن بعد أن أصبح على قيد الحياة، ليس بوسعي أن أفعل أي شيء سوى الندم على أفعالي.
كان حجم أطرافه مناسبا، لكن منظر عينيه الشاحبتين المليئتين بالدموع كان بشعا . ولم يكد جلده المصفر يغطي عضلاته وأوردته، وكان شعره أسود ومسترسلا، وأسنانه بيضاء لؤلؤية، لكن شفتيه رفيعتان وسوداوان.
لقد قضيت عامين أصنع هذا المسخ، والآن بعد أن انتهيت تلاشت روعة حلمي كما تلاشى ضوء شمعتي. امتلأ قلبي بالرعب والاشمئزاز. ولم أستطع تحمل النظر إليه، فاندفعت خارج معملي وألقيت بنفسي في فراشي. لم أستطع أن أخلد إلى النوم بسهولة، وراودتني أحلام سيئة مليئة بالصور المخيفة لأمي المسكينة المتألمة وإليزابيث وهي سقيمة.
وعندما استيقظت من نومي وأنا أتصبب عرقا بغزارة، كان المسخ يقف فوق رأسي! أصدر ضوضاء، ربما كانت محاولة منه أن يتحدث. ثم رفع يده العملاقة ليمسكني لكنني وليت الأدبار من الحجرة بأقصى سرعة ممكنة. ركضت عبر السلالم، ثم خرجت من الباب ومنه إلى الشارع. وقفت لأنظر إن كان يتتبعني، ثم ركضت نحو المدينة.
أمضيت بقية الليل أجول في شوارع إنجولشتات، وأنصت إلى وقع الأقدام ورائي. ترى ماذا كان هذا الكائن الشنيع يريد مني؟ سيطر المسخ المرعب الذي صنعته بنفسي على عقلي هذه الليلة، فكنت أرتعب لدى سماع أي صوت، وأظن أن الجسم الذي منحته الحياة مرتكبا خطأ بشعا على وشك الإمساك بي. تخيلت يديه الكبيرتين المخيفتين حول عنقي. كيف انتهى كل شيء إلى هذا الحال بالغ السوء؟ لقد تحول حلمي إلى كابوس حي.
مشيت طوال الليل وسط الأمطار المنهمرة بغزارة، ولم أجرؤ على العودة إلى شقتي. وأخيرا انتهى بي المطاف عند إحدى الحانات على الجانب الآخر من المدينة حيث كانت تقف عربة سويسرية. انفتح باب العربة وإذ بي أرى صديقي العزيز هنري كليرفال.
صاح هنري: «فيكتور! كم أنا سعيد برؤيتك! يا للحظ! كيف عرفت بأمر وصولي؟»
للحظة نسيت تعاستي وأمر المسخ، وبدد نسيم الصباح البارد كل أخطائي؛ فللمرة الأولى منذ شهور أفكر في أمر آخر بخلاف تجاربي.
صحت: «هنري!» ثم عانقته بقوة وأجبته: «لا، لم أعرف أنك قادم. ماذا تفعل هنا؟ سعدت برؤيتك للغاية!»
ابتسم وقال: «أخيرا سمح لي أبي بالذهاب إلى الجامعة. أتصدق هذا؟»
أجبته: «هذا رائع! كيف حال أسرتي؟ لا بد أنك محمل بالأخبار من أهلي. كيف حال إليزابيث؟ ووالدي؟ وأخوي؟»
أجاب: «لا تقلق يا فيكتور. جميعهم بخير، مع أنهم يتمنون لو كنت تراسلهم أكثر من هذا.» ثم لكمني في كتفي مازحا وحدق بي وقال: «يا إلهي! أنت هزيل وشاحب، هل أنت مريض؟»
أجبته: «كنت أعمل ليلا ونهارا على إحدى التجارب.» نسيت كل شيء حدث لي الليلة المنصرمة وقلت في عجالة: «دعنا نعود إلى منزلي لنتناول إفطارا شهيا!»
استقللنا عربة هنري إلى شقتي، وبعدما بلغنا المبنى الذي أقيم فيه تملكني الخوف. ماذا لو أن المسخ لا زال هناك؟ لا يمكن أن يراه هنري. ماذا سيظن بي؟
توقفت العربة أمام باب المبنى، وودع هنري السائق. جمعنا حقائبه واتجهنا إلى الممر الأمامي. قلت له: «انتظرني هنا دقيقة واحدة، أود أن أرتب الشقة سريعا.»
رد هنري: «أوه يا فيكتور، لا أكترث بالفوضى. أنا متعب وأود أن أجلس في مكان لا يهتز مثل العربة.»
قلت له متوسلا: «أرجوك، دقيقة واحدة فحسب.» ثم ارتقيت السلالم في لمح البصر. ولما بلغت باب شقتي اقشعر بدني. استجمعت كل شجاعتي، وفتحت الباب على مصراعيه. توقعت أن أجد شبحا، عالما أن تلك المخاوف ستطاردني دائما. تنفست الصعداء عندما وجدت شقتي خاوية؛ لقد رحل المسخ البشع!
صحت عند السلالم: «هنري، هيا اصعد!»
جلبت لنا مديرة منزلي وجبة إفطار ضخمة، فتناولنا الطعام معا وأخبرني هنري كل شيء عن رحلته. كانت الرحلة من جنيف في غاية الإثارة! استمر يتحدث ويتحدث عن الناس الظرفاء الذين التقى بهم على طول الطريق. ابتسمت واستمعت إلى قصصه. كم كنت أفتقد صديقي هنري! فقد أنستني أشهر عديدة أمضيتها منعزلا في معملي متعة الصداقة البسيطة.
بعدما انتهينا من تناول الطعام لم أستطع أن أهدأ؛ فقد تحرر شيء ما بداخلي ولم أستطع كبح جماح نفسي، فبداخلي كم هائل من الطاقة. قفزت فوق المقاعد ألوح بيدي بقوة وأقهقه على نحو هستيري. وانزعج هنري من سلوكي الغريب.
صاح في وجهي: «فيكتور، اهدأ لحظة. أنت تثير أعصابي بكل حركاتك. ما الخطب؟»
قلت له: «لا شيء! أنا في أحسن حال!» ثم انفجرت في الضحك ولم أستطع أن أتوقف.
عندئذ ظننت لحظة أنني رأيت المسخ فقلت وأنا أبكي: «لا تسألني!» ثم وضعت يدي على عيني وصرخت: «إنه يعرف! يعرف! أوه، يا إلهي أنقذني! أنقذني!» وكنت أرى في ذهني المسخ وقد أمسك بي وراح يهزني بكل قوة. قاومته، وعندئذ سقطت على الأرض.
هرع هنري إلي، ولا بد أنه ساعدني في الوصول إلى فراشي، لكنني لا أتذكر أي شيء فقد أصبت بحمى لازمتني لفترة من الزمن. اعتنى هنري بي عناية بالغة، وقرر ألا يخبر أسرتي في الحال لأنه يعرف أنهم سيقلقون بشدة علي. لا ينشد المرء صديقا أفضل من هذا!
مرت الشهور دون أن أشعر، وملأت أفكار سيئة أحلامي، ومناظر بشعة للمسخ الذي صنعته. وتملكني الخوف مما فعلته ولا أستطيع أبدا إلغاءه وكأن لم يكن. تقلبت في فراشي كثيرا ليلة تلو الأخرى. ومكث هنري إلى جانبي ليل نهار، وكان يطعمني الحساء ويقرأ لي. تملكت الحمى مني بشدة حتى إن الأيام كانت تمر ولا أستطيع فيها أن أنهض من الفراش، فأصبحت غرفتي هي عالمي بأكمله، ونافذتي هي الطريقة الوحيدة التي عرفت منها أن العالم لا يزال موجودا.
وبالتدريج، بعد الكثير من نوبات الفزع، بدأت أشعر بالتحسن، وكانت ألمانيا في ذلك الحين في ذروة فصل الربيع؛ فالطيور تصدح فوق الأشجار وبدأت الأزهار تتفتح. وكدت لا أصدق أنني كنت سقيما طوال فصل الشتاء، فكيف انقضى كل هذا الوقت؟ ما الذي حدث للمسخ؟ ما الذي فعلته؟ طردت كل هذه الأفكار من ذهني وحاولت أن أفكر في حياتي السابقة على بدء تجاربي. كم استمتعت بوجودي بالخارج. كم لهونا أنا وهنري وإليزابيث حينما كنا صغارا. والآن تحسن مزاجي للغاية بسبب هذا الجو اللطيف جدا.
قلت في صباح أحد الأيام: «هنري! لقد أحسنت إلي أيما إحسان. وكان من المفترض أن تبدأ بالفعل دراستك، لكنك أمضيت فصل الشتاء كله تعتني بي.» ابتسم هنري لكنه لم ينبس ببنت شفة، لذا استرسلت في كلامي : «كيف سأرد لك هذا الإحسان؟»
رد هنري: «لا حاجة إلى هذا. كل ما عليك هو أن تتحسن. هذا هو كل ما يهم.» وسكت دقيقة ثم قال: «لكن ثمة شيئا واحدا يمكنك أن تساعدني فيه.»
ارتعدت فرائصي تحت الغطاء. تراه سيسألني عن معملي؟ أو لعله رأى ما يشير إلى المسخ في مكان ما؟ لعله عرف كل شيء! لن أستطيع أن أتحمل إذا اكتشف هنري الأمر، فماذا سيظن بي؟ هل سيخبر أسرتي؟ وهل سيخيب أملهم هم أيضا في؟
لاحظ هنري هلعي فقال متوسلا: «أرجوك لا تنزعج. أريدك أن تبعث خطابا إلى أهلك، فهم يريدون أن يطمئنوا عليك، فالقلق يستبد بهم بشأن صحتك.»
تنفست الصعداء وقلت: «هل هذا هو كل ما في الموضوع؟» ونزعت عني الغطاء وجلست في الفراش وقلت: «بالطبع! لا أريدهم أن يقلقوا بشأني بعد الآن لأنني تحسنت كثيرا.»
هرع هنري نحو الطاولة وقال: «ثمة خطاب هنا من إليزابيث. سأخرج بعض الوقت، وأدعك تقرؤه بنفسك.»
وابتسم لي هنري في عذوبة، وارتدى قبعته وغادر الغرفة. جلست على طاولتي وفتحت الخطاب في هدوء لا أعلم ماذا أتوقع، فقد مر زمن طويل منذ أن قرأت خطابا من أسرتي. ورقص قلبي طربا لمجرد التفكير في مدى سعادتي لسماع أخبارهم.
الفصل السابع
عالم بعيد عن العلوم
توسلت إلي إليزابيث في خطابها كي أكتب إليهم ولو كلمة واحدة، فقد مر زمن طويل منذ أن سمعوا أخباري. وأخبرتني أنها اضطرت أن تقنع والدي ألا يذهب إلى ألمانيا للوصول إلي! وأخبرتني وسط كلامها الحلو كم تاقت إلى المجيء إلى إنجولشتات أيضا، لكنها كانت مضطرة أن تمكث للاعتناء بالمنزل وبأخوي.
أوحت لي كلمات الخطاب بالأخبار السارة فحسب؛ فقد بلغ أخي إيرنست لتوه السادسة عشرة من العمر، وأخبرتني كم يرغب في العمل في السلك الدبلوماسي، مثل أبينا. وذكرت كم كنت سأفخر به لكونه مواطنا سويسريا صالحا! وأخبرتني بشأن مدى كفاءة مربية الأطفال جاستين، وكم هي مسرورة بوجود صديقة إلى جانبها.
كتبت إليزابيث: «نحن كأختين! أنا سعيدة للغاية بوجودها معي ولا سيما لأن ويليام مشاغب للغاية!»
وأكملت بقية الخطاب بأخبار محلية حول أصدقائنا وجيراننا. استمتعت بكل كلمة في الخطاب. وأنهت إليزابيث الخطاب بطلبها مرة أخرى أن أكتب إليهم من أجل خاطرها. يا لها من فتاة جميلة عذبة. ولكم افتقدتها في تلك اللحظة. وشعرت بجم حماقتي لعكوفي على عملي البائس. كنت قد نسيت الأمور المهمة في العالم؛ حب الأصدقاء والأسرة.
رددت على خطابها في الحال، وأخبرتها كم أتوق لها وكم أحبها، وعندما انتهيت من كتابة الخطاب وضعته في بريد نفس اليوم.
وأخيرا، وبعد أسبوعين آخرين استطعت أن أغادر غرفتي. كان هذا أمرا رائعا أيضا، لأن هنري كان على وشك بدء دروسه ومن ثم سيتسنى لي أن آخذه في جولة في أنحاء الجامعة.
قضينا يوما نتجول في الجامعة، وقدمته إلى كل شخص أعرفه، وأريته كل مباني أقسام العلوم القديمة وكل فصولي القديمة. وعندما بلغنا المعمل شعرت بالدم يهرب من وجهي لدى رؤيتي كل الأدوات التي أزعجتني بشدة. لاحظ هنري انزعاجي وساعدني في عطف على الخروج من المعمل. أعرف أنه أرادني أن أخبره ما الخطب، لكنني لم أستطع أن أفعل هذا؛ فالحقيقة مرعبة للغاية.
بدأ هنري دراسته في غضون يومين، ولم يكن لديه اهتمام بالعلوم على الإطلاق، وإنما أراد أن يتعلم كل شيء حول شتى لغات العالم. ولما لم أكن ممن يؤثرون الراحة قررت أن أستذكر هذه اللغات أيضا.
قضينا الصيف على هذا المنوال؛ نقرأ ونستذكر دروسنا معا، فقد كان من الجيد أن أشغل بالي. وأرسلت إلى أبي أخبره أنني سأعود إلى جنيف في الخريف. لكن عندما حان الوقت الذي كان من المفترض أن أرحل فيه ساءت الأحوال الجوية بشدة فاضطررت أن أمكث في إنجولشتات طول فصل الخريف.
لم تكن الطرق آمنة للسفر عليها قبل شهر مايو/آيار. ومرة أخرى جعلني جو الربيع أشعر بتحسن كبير. مر عام على نوبة مرضي وأصبحت أقوى من ذي قبل. كنت أشعر بأنني على ما يرام بالفعل حتى إن هنري اقترح أن نذهب في جولة سيرا على الأقدام في أنحاء البلد حول الجامعة. رأيتها فكرة رائعة إذ يمكنني أيضا أن أودع الأرض التي كنت أدعوها وطني على مدى الأعوام القليلة الماضية.
سافرنا لمدة أسبوعين، وأنعش الهواء النقي قلبي ورئتي، فقد أمضيت الكثير من الوقت في معملي وأنفي مدفون في التجارب والكتب. ونسيت تماما كم كنت أستمتع بوجودي في الخارج. تفتحت الأزهار وأخذني جمالها، وبدت الأشجار رائعة. وتلألأت صفحة مياه البحيرة، فنسيت السنة التعيسة الماضية.
تمشينا أنا وهنري وتسامرنا كثيرا؛ فقد كانت تربطنا علاقة صداقة قوية، وقد أدخلت صحبته الطيبة السعادة على قلبي بشدة. تذكرت من كنت، قبل أن آتي إلى المدرسة وأعبث بالطبيعة وقبل أن أخطئ وأصنع مسخا بشعا.
رجعنا إلى الجامعة بعد ظهر يوم أحد. وفي طريق عودتنا إلى إنجولشتات لم نلتق إلا بأشخاص مبتهجين. ارتفعت معنوياتي وكنت أسير في نشاط وبهجة وامتلأ قلبي بالفرح.
الفصل الثامن
فرانكنشتاين يعود إلى وطنه
عندما عدت إلى المنزل وجدت خطابا من أبي في انتظاري. فتحته في سعادة ووجدت أنه يحتوي على أخبار سيئة. قرأت كلمات أبي ببطء: «ليست هناك طريقة سهلة أخبرك بها هذا، مات أخوك ويليام.»
اغرورقت عيناي بالدموع، ومضيت في قراءة الخطاب: خرجت أسرتي للتمشية كعادتهم بعد تناول العشاء، وكان المساء دافئا وهادئا لذا قرروا المكوث خارج المنزل لوقت أطول من المعتاد. سار أبي وإليزابيث وراء ويليام وإيرنست، وبدلا من أن يلحقا بهما قررا الجلوس وانتظار الصبيين إلى حين عودتهما. وعندما عاد إيرنست أخبرهما أن ويليام ركض كي يختبئ وهما يلعبان معا، لكنه لم يستطع العثور عليه في أي مكان.
ارتعد أبي وإليزابيث، وبدءوا جميعا في البحث عنه في الحال. أمضوا ساعات وساعات لكنهم لم يتمكنوا من العثور عليه، فاستدعوا الشرطة وتجمع فريق للبحث، وقضوا الليل كله يبحثون عن ويليام. بحثوا في كل مكان وكل ركن يمكن أن يختبئ فيه طفل صغير لكن دون طائل. لم ينبس أحد من فريق البحث ببنت شفة، لكنهم جميعا خافوا أن يكون قد وقع مكروه لويليام المسكين. وكانت ليلة مفجعة لإليزابيث.
في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي عثر أبي على أخي، وقد وقع أسوأ ما كان يخشاه: كان ميتا. حزن أبي والجميع حزنا جما.
وكتب أبي في الخطاب: «ارجع يا فيكتور، فأنت الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يساند إليزابيث في هذا الوقت العصيب.»
كان وقع الخبر على إليزابيث أصعب من وقعه على أي فرد في الأسرة، فقد ظنت أن الخطأ خطؤها؛ فهي التي أعطت ويليام في هذا الصباح قلادة ذهبية تخص والدتنا، وظنت أنه لا بد أن القلادة هي التي تسببت في الحادث السيئ، فقطعا التقى به لص وحاول أن يأخذ القلادة. لو لم تعطه إياها لكان لا زال على قيد الحياة.
وضعت الخطاب على الطاولة وأجهشت في البكاء.
قال هنري: «فيكتور، ما الخطب؟ هل وقع مكروه؟»
لم أستطع أن أتكلم، لذا أعطيته الخطاب، فصاح هنري: «يا إلهي! وماذا ستفعل؟»
أجبته: «لا بد أن أرجع إلى بلدي في الحال؛ فأسرتي في أمس الحاجة إلي، ويجب أن أكون معهم.»
حزمت حقيبتي في عجالة، ولم يكن هناك وقت للتنظيم فألقيت الأشياء بداخلها في كل الاتجاهات في محاولة ألا أفكر في أمر أخي المسكين. ساعدني هنري، وطلب من مديرة المنزل أن تعبئ لي غداء، وقد فعلت هذا برضا. ورتبنا معا كتبي وأوراقي وملابسي من أجل رحلة العودة إلى جنيف.
كان هنري ينوي أن يستمر في الإقامة بشقتي في إنجولشتات، فلا بد أن يكمل دراسته، ولم أكن أمانع في هذا. غير أنني أغلقت معملي جيدا وأخذت المفتاح معي إذ لم أشأ أن يدخله هنري أثناء غيابي.
سرنا ببطء، وقلوبنا تدمي، إلى العربة. عانقني هنري بقوة وودعني وداعا مليئا بالشجن وقال: «أرسل تحياتي إلى أسرتك يا فيكتور، وأخبرهم أنني في غاية الحزن لما حدث.» - «سوف أخبرهم يا هنري. أنت صديق مخلص. سأفتقدك بشدة.»
ولم يكن هناك شيء آخر يقال، لذا صعدت إلى العربة، وصاح السائق في الحصانين وابتعدنا. التفت لأطل عبر النافذة على هنري الذي كان لا يزال يقف في مكانه يلوح بعدما ابتعدت العربة، وانهمرت الدموع على وجهي. انتحبت على أخي العزيز الطيب، وفكرت في أمي. شعرت بالأسف على نفسي، وعلى خذلاني لأسرتي. كان لا بد أن أكون سندا لهم أثناء هذا الوقت العصيب. كل ما تمنيته هو ألا يكون قد فات الأوان.
كانت العربة دافئة ومريحة، لكن رحلتي التي دامت ثلاثة أيام كانت مليئة بالألم؛ فقد مرت ست سنوات منذ أن رأيت وطني. وعندما رأيت قمة الجبل الأبيض أجهشت بالبكاء؛ فها هو وطني، وطني الحبيب! وحل الظلام عندما اقتربنا من الوطن، وبوصولنا إلي جنيف كانت المدينة قد أغلقت أبوابها، فاستدار السائق واتجه بي إلى مدينة سيشرون الصغيرة التي تبعد نحو ميل حيث قضيت الليل.
عندما ترجلت من العربة وتمطيت نظرت لأعلى ورأيت السماء صافية وتزخر بالكثير من النجوم. راق لي الجو من حولي. كانت ساقاي متعبتين للغاية من طول السفر، فأدركت أنني لن أستطيع النوم أبدا، فقررت أن أزور البقعة التي عثر أبي فيها على ويليام.
ولما كانت أبواب المدينة مغلقة، كان لا بد أن أعبر بحيرة جنيف بالقارب. ومن حسن حظي أنني استطعت أن أستعير قاربا من النزل الذي كنت أقيم فيه. وأثناء رحلتي القصيرة انقلب الجو سريعا للأسوأ فأومض البرق في السماء التي كانت صافية منذ دقائق فحسب. وبدأت الأمطار تهطل، فجدفت بالقارب بكل ما أوتيت من قوة كي أصل إلى البر. تلبدت السماء بالغيوم، فصعب علي أن أرى طريقي. وقصف الرعد فوق رأسي وأنا أتقدم بسرعة نحو البر.
رسوت على الشاطئ وسحبت القارب بعيدا عن المياه وربطته ثم ركضت نحو الغابة. وكانت عندي فكرة مبدئية من خطاب أبي حول مكان وقوع الجريمة، لذا سرت بهذا الاتجاه. صحت بقوة: «أوه، ويليام! أيها الصبي الحبيب المسكين.» وفيما فارقت هذه الكلمات شفتي رأيت شخصا يركض بعيدا من وراء الأشجار. وقفت كالصنم في مكاني. أيعقل هذا؟ أجل! لقد كان المسخ؛ ذاك الكائن المخيف الذي بعثت فيه الحياة. وفي الحال أدركت أنه هو من اقترف الجريمة. هو وحده من اقتنص حياة ويليام؛ هذا المسخ اللعين!
بدأت أسناني تصطك بعضها ببعض، وشعرت بوهن في ساقي، فاتكأت على إحدى الأشجار وحاولت أن أتنفس بعمق. رأيت المسخ وهو يركض بسرعة مبتعدا. وبدأت أطارده على الرغم من الوهن الشديد الذي أصاب ساقي. أصابت أغصان صغيرة ساقي، وكدت أتعثر فوق عدد من الصخور. ركضت بأقصى سرعة ممكنة لدي. قفز المسخ فوق أشجار متساقطة ثم جثم تحت الأفرع. حاولت بكل ما أوتيت من قوة أن أمسك به لكن دون طائل، فقد بلغ حافة الغابة الصغيرة ثم اختفى.
جلست بجانب إحدى الأشجار فيما استمرت الأمطار في الهطول، فكانت ملابسي تتشرب بالماء أكثر فأكثر، لكنني لم أستطع الحراك. ترى ماذا يريد المسخ؟ وهل كانت هذه جريمته الأولى؟ ما عدد الأشخاص الآخرين الذين آذاهم؟
قضيت ليلتي مبللا وأشعر بالبرد القارص في الهواء الطلق. وعندما طلع النهار شققت طريقي عائدا للنزل وأرجعت القارب. قررت أن أسير بقية الطريق إلى المنزل، فقد يساعدني هذا الوقت على التفكير، وتولى سائق العربة نقل حقائبي إلى المنزل. وتسارعت الأفكار في ذهني: كيف أفسر لوالدي ما حدث؟ كيف أخبره أنني صنعت إنسانا، مسخا، من أعضاء مختلفة؟ كيف أخبره أن هذا المسخ قتل ويليام وأنه مختبئ في مكان ما في الجبل الأبيض؟ سأبدو مجنونا. لا، لا بد أن أحتفظ بسري لنفسي في الوقت الحالي. ليس أمامي خيار آخر.
وأنا أسير في الطريق نحو منزلنا لاحظت أنه لم تحدث سوى تغيرات طفيفة للغاية، ولم يبد أن المنزل تغير، وكان هذا يبعث على الراحة. وفي هدوء فتحت الباب الأمامي ودلفت للداخل، فوجدت أخي إيرنست مستيقظا بالفعل وجالسا في غرفة المعيشة.
ابتسم ابتسامة واهنة وقال: «مرحبا بعودتك يا فيكتور! يؤسفني أن عودتك جاءت وسط كل هذا الحزن. وحينما فتحت ذراعي كاد إيرنست يسقط سقوطا فيهما وأجهش بالبكاء. كنت متألما أيضا. لو لم أجبر نفسي على العمل بهذه الجدية، لما حدث هذا أبدا. أنا المسئول مسئولية تامة عن وقوع هذا الخطأ. لقد دمرت هذه الأسرة الجميلة بيدي، وعملي هو السبب في الحزن الذي تشعر به عائلتي الآن .
سألته: «كيف حال أبي وإليزابيث؟»
مسح إيرنست عينيه وحاول أن يقف بثبات وقال: «حزينان، لكن لما قبض على الجاني الآن ...»
قاطعته: «قبض عليه؟ ماذا تقصد؟ لقد رأيته طليقا الليلة الماضية.»
ارتبك أخي وقال: «لا، إنها جاستين، مربية ويليام. لقد وجه إليها الاتهام وهي في السجن الآن. قبضت الشرطة عليها الليلة الماضية؟»
ارتبكت وقلت في دهشة: «جاستين؟! إنها فتاة طيبة؟ لا، إنها ليست مذنبة. لا بد أن هناك خطأ ما.»
جلس إيرنست على الأريكة وشرح ما حدث: «بعدما رجع أبي بالأخبار السيئة مرضت جاستين، ولازمتها الحمى لبضعة أيام، فاستدعى أبي الطبيب الذي لم يجد بها أي علة. وبينما إحدى الخادمات تأخذ ملابس جاستين لتنظيفها، إذ وقعت قلادة أمنا من جيب تنورتها. تكتمت الخادمة الأمر عن الأسرة لكنها ذهبت إلى الشرطة مباشرة.»
واسترسل أخي: «وعندما جاءت الشرطة لتستجوبها، لم يكن من جاستين إلا أن بكت. كانت مرتبكة أيما ارتباك ومنزعجة للغاية حتى إن الشرطة قررت أنها لا بد أن تكون هي الجانية.»
وبينما نتحدث دخل أبي، وقد بدا خائر القوى ومتعبا، لكنه ابتسم ابتسامة دافئة عندما رآني.
قال أبي: «بني، كم أنا سعيد لعودتك إلى بيتك.» وعانقته بقوة.
هتف إيرنست: «أبي! يعرف فيكتور من قتل ويليام ...»
قال أبي: «وا أسفاه، ونحن أيضا نعرف، وليتني ما كنت أعرف. من المؤسف أن تعرف أن شخصا عاملناه كفرد من أفراد الأسرة يفعل شيئا بهذه البشاعة.»
قلت: «لكن جاستين بريئة يا أبي.» كنت أتوق إلى أن أخبره كل شيء بشأن المسخ وكيف فشلت تجربتي فشلا ذريعا، لكنني لم أستطع، فسيغضب مني لا ريب.
قال أبي: «حسنا، أتمنى أن تكون على حق. ستبدأ محاكمتها اليوم.»
التفت لأرى إليزابيث قادمة نحو الغرفة. لم يغير الزمن من ملامحها، فعلى الرغم من حزنها الواضح، فقد تحولت من فتاة صغيرة لطيفة إلى امرأة جميلة. ولما رأيتها اضطرمت نيران الحب الذي أكنه لها في قلبي.
تعانقنا، وكما أبي وأخي، قالت لي هي أيضا إنها سعيدة بعودتي إلى البيت. أخبرها إيرنست سريعا عن حديثنا.
التفتت إليزابيث إلي وقالت: «فيكتور، لا بد أن ننقذ جاستين. لا أصدق أنها هي التي ارتكبت الجريمة، ولن أصدق هذا!» ثم جلست على الأريكة، وأخرجت منديلها من جيبها ومسحت دموعها.
ثم أردفت إليزابيث: «إنها فتاة طيبة، وقد أحبت ويليام كما لو كان أخاها، ويستحيل أن تكون قد آذته. لا أستطيع أن أتخيل موقف الشرطة!»
أجهشت إليزابيث في البكاء مرة أخرى، فوضعت يدي على كتفها وقلت: «إليزابيث اهدئي. جاستين بريئة، ليس هناك ما نخشاه. ولن تسجن.» وبداخلي قطعت وعدا بأن أفعل كل ما بوسعي كي أعوض عن كل ما ارتكبته من أخطاء وأصلح الموقف الذي جعلت أسرتي تمر به؛ فهم لا يستحقون أن يعانوا بسبب أخطائي الكثيرة.
قلت لإليزابيث: «لا تقلقي، سيكون كل شيء على ما يرام.» ثم ابتسمت لها ابتسامة دافئة وأمسكت بيدها وقلت: «أعدك بهذا.»
أضاف أبي: «لا بد أن نثق أن نظامنا القانوني سيفعل الشيء الصحيح. حتما ستظهر الحقيقة.»
وبتلك الكلمات الأخيرة اتجهت أنا وأسرتي إلى غرفة الطعام لتناول الإفطار حيث ساد الصمت. كنت أعلم في قرارة نفسي أنهم يفكرون في ويليام المسكين، وكم كانت ستحزن أمي لو أنها على قيد الحياة. لكن ذهني كان يعاود التفكير في فكرة واحدة مرعبة: أين المسخ الآن؟
الفصل التاسع
محاكمة جاستين المسكينة
بدأت المحاكمة في تمام الساعة الحادية عشرة صباحا. وذهبت الأسرة بأكملها إلى المحاكمة. ذهب أبي وإليزابيث كي يشهدا في المحكمة أن جاستين إنسانة بارة، أما أنا وإيرنست فقد اقتصر دورنا على المؤازرة. فاضت نفسي بالغضب والندم؛ إذ كان يجدر بجاستين أن تحيا حياة طيبة، فهي إنسانة مخلصة وبارة، وما كان يجدر أن تخضع لمحاكمة بتهمة القتل! غير أنني لم أستطع أن أخبر أي شخص بما أعرفه، فقد يظنونني مختل العقل، ويعزلونني بقية حياتي. وأي نفع سيعود من وراء هذا؟
جلست جاستين في قفص الاتهام، وبدت شاحبة لكن هادئة، وانهمرت الدموع على وجنتيها لدى رؤيتها أسرتي تدخل قاعة المحكمة.
طلب حاجب المحكمة من الحضور أن يلتزموا النظام وأعلن بدء المحاكمة. اجتمعت الأدلة ضد الفتاة المسكينة. ذكر الادعاء أنها قضت الليل كله بالخارج، وذكرت إحدى البائعات في السوق أنها شاهدتها باكر الصباح التالي في مكان قريب من البقعة التي عثر فيها على جثة ويليام. وسألت المرأة جاستين ماذا تفعل، لكن كل ما حصلت عليه هو إجابة مشوشة. أما أقوى دليل ملموس ضدها فهو واقعة عثور الخادمة على القلادة المفقودة في ملابس جاستين.
دعا القاضي جاستين لتدافع عن نفسها، فكان صوتها واضحا، لكن كان من الجلي أنها مرتبكة أيما ارتباك.
قالت: «إنني بريئة تماما. أعرف أنني أستطيع أن أقولها جهارا، لكنكم لن تصدقوني. وسمعتي الطيبة يجب أن تكون دليلا أيضا.»
أخبرت جاستين القاضي أن إليزابيث سمحت لها بزيارة عمتها يوم مقتل أخي. وفي طريق عودتها إلى جنيف التقت برجل سألها هل رأت صبيا صغيرا مفقودا. وعندما أدركت جاستين أنه ويليام الذي لم يمكن العثور عليه، انضمت إلى فريق البحث، وعلى مدار الساعات القليلة التالية بحثت في كل أنحاء الغابة عن أخي.
ومضت جاستين في حديثها مخبرة المحكمة بأنها توقفت أخيرا عن بحثها في وقت متأخر للغاية. وفي ذلك الحين كانت المدينة قد أغلقت أبوابها، ولم تعرف جاستين ماذا تفعل، لذا طلبت بلطف من رجل كبير أن تنام في مخزن الحبوب الخاص به.
قضت ليلة باردة مرعبة مستلقية على بعض القش في مخزن الحبوب بالقرب من المدينة. وكانت أي ضوضاء حولها توقظها لذا لم تنم إلا وقتا ضئيلا للغاية. وعندما التقت بالبائعة كانت مضطربة لأنها لم تنم. ولو أنها كانت تسير بالقرب من البقعة التي عثر فيها على ويليام، فهي لم تفعل هذا عمدا. وماذا عن القلادة؟ قالت جاستين وهي تبكي إنها لم تعرف كيف وصلت إلى جيبها. كان هذا هو الشيء الوحيد الذي لم تستطع تفسيره.
بعدئذ تحدث كثيرون من أهل البلدة. كثيرون منهم يعرفون أن جاستين إنسانة صالحة، لكنهم يصدقون الدليل. رأوا أنها كانت مذنبة. وأخبر والدي هيئة المحكمة كيف أحسنت جاستين خدمة أسرتنا. وبعد ذلك استدعت هيئة المحكمة إليزابيث إلى منصة الشهادة، وأخبرت إليزابيث المحكمة أنه لا يمكن أن تفعل جاستين أي شيء يؤذي الأطفال الذين تربيهم.
أقسمت إليزابيث قائلة: «إنها بريئة تماما.»
حركت كلمات إليزابيث كثيرين من الحضور. ونظرت جاستين في امتنان لكلماتها الطيبة وعلت وجهها أمارات الشجاعة. غير أن القاضي لم يبد مقتنعا على الإطلاق. وأدلت هيئة المحلفين بأصواتها وانتظرنا بصبر عد الأصوات.
عاد حاجب المحكمة إلى قاعة المحكمة وأعلن أن جاستين مذنبة! شعرت باليأس الشديد، وحكم على جاستين أن تقضي بقية عمرها في السجن. انهارت إليزابيث إلى جانبي وأجهشت بالبكاء. ولم أدخر جهدا كي أواسيها على الرغم من الألم الذي يجيش بصدري.
كان كل هذا خطئي أنا! ويدي - ليس سواها - هي التي صنعت هذا المسخ. ولم أستطع أن أوقف ذهني عن تقليب هذه الذكريات البشعة مرارا وتكرارا. ماذا لو لم تكن هذه الحادثة هي آخر الأفعال الشريرة التي يرتكبها المسخ؟ ماذا لو أن ويليام وجاستين هما أول ضحاياه؟
أنا حي طليق وأخي ميت وجاستين في السجن. ما من شيء من شأنه أن يزيل الألم الذي يجيش في نفسي؛ فرغبتي العمياء في الوصول إلى اكتشاف عظيم كان ثمنها غاليا للغاية. وبدلا من أن أجد أملا في عملي، لا أشعر بشيء الآن سوى الحزن.
تركت أحداث الأسابيع القليلة الماضية آثارها السيئة على جسدي الواهن أصلا. ولم يستطع شيء أن يفصلني عن حزني العميق سوى حديث طويل مع أبي.
قال أبي بعد ظهر أحد الأيام عندما رآني جالسا في أحد الأركان أحدق عبر النافذة: «يا بني، لم يحب أحد طفله بالقدر الذي أحببت به أخاك، لكننا لا يمكن أن نقضي كل أيامنا نحدق في جمود عبر النافذة. كلنا حزانى. ينبغي أن تكون نافعا لكل من جاستين وأخيك، فبدون هذا لن ينفع أي رجل مجتمعه.»
كان أبي على حق، لكن كلماته لم تعن الكثير لي.
قررنا أن نقضي بعض الوقت في منزلنا الصيفي في بيليريف، إذ كان غلق أبواب المدينة في وقت مبكر من المساء يشعرني بأنني حبيس. وسعدت بوجودي في الريف وبالقدرة على التجوال بحرية.
كنت أترك المنزل معظم الليالي وأفراد أسرتي نائمون. كنت آخذ القارب وأقضي ساعات عديدة في الماء. أحيانا كنت أترك الشراع مرفوعا وأشق طريقي بوجهة معينة، لكنني في معظم الأحيان كنت أترك المياه لتحمل القارب إلى حيث تشاء، وأستلقي في قاعه وأحدق في النجوم، فكان جمال السماء البسيط يحملني على البكاء. كنت أبكي بصوت مرتفع عالما أنه ما من أحد سيسمعني أو يراني سوى الضفادع والأسماك.
عشت في خوف طيلة الوقت لمعرفتي أن المسخ لا يزال على قيد الحياة. ماذا لو فعل شيئا آخر؟ كيف سأحترم ذاتي؟ ماذا لو آذى شخصا آخر أحبه؟ أثارت هذه الفكرة غضبي بشدة فصررت بأسناني وصرخت بأعلى صوتي.
في تلك اللحظات كل ما كان يشغلني هو حرمان ذلك المسخ من الحياة التي وهبته إياها. لو استطعت أن أعيد عالمي إلى الحالة التي كان عليها قبل أن أجري تجاربي، لعلي كنت أستطيع أن أصلح الأمور مرة أخرى. كانت الأفكار التي تشغلني حينها أفكارا شريرة. لكن أيهما أسوأ؟ صنعه أم قتله لمنع وقوع المزيد من الأمور السيئة؟ لقد كانت معضلة أخلاقية من الدرجة الأولى.
كان كل فرد في بيتنا حزينا. وحاول أبي أن يبدو قويا متماسكا، لكن جميعنا كان يدرك أنه لم يعد كما كان. وكادت إليزابيث تبكي كل يوم تقريبا. وحاولت من أجلهما أن أكون قويا من الخارج وأن أخفي ألمي الداخلي.
وفي خضم حزننا العميق غادر أخي إيرنست، وتمنينا له حظا سعيدا في عمله الدبلوماسي. كم كان غريبا أن الحياة تكرر نفسها؛ فمنذ سنوات قليلة فحسب غادرت منزلنا بعدما فقدنا أمي، وها هو إيرنست يرحل الآن بعد فقدان شخص آخر من العائلة مباشرة.
وفي يوم من الأيام جلست أنا وإليزابيث نتحدث وأخبرتني أنها منزعجة لما آلت إليه الأمور. قالت لي: «إن المصير الذي حل بالمسكينة جاستين يجعلني أرى العالم مكانا سيئا. كانت الأمور السيئة تحدث قبلا في الكتب فحسب، والآن حياتنا مليئة بالحزن. لقد كانت جاستين بريئة، لكنها سجنت. هل هذا عدل؟»
آه يا حبيبتي إليزابيث! لقد كان يسوءني بشدة أن أراها بهذا الانزعاج، وكنت أنا السبب في كل هذه المشكلات، ليس لأنني من تسبب فيها بالفعل، ولكن لأنني من صنع المسخ. اصفر وجهي، ولاحظت إليزابيث شحوب وجهي.
أمسكت بيدي وقالت: «أنا آسفة يا حبيبي. لم أقصد أن أزعجك.» ثم ضغطت على يدي بقوة وقالت: «سيكون كل شيء على ما يرام. ربما ليس اليوم، لكن قريبا. أعدك بهذا.»
ابتسمت لها برقة، لكنني لم أشعر بأي تحسن، إذ كنت أدرك في عقلي أن الأمر لن ينتهي قريبا.
قلت لها: «معذرة يا إليزابيث، أريد أن أكون بمفردي الآن.» ثم نهضت من الأريكة واتجهت إلى غرفتي. لقد أردت أن أخبرها الحقيقة، وأشرح لها أن كل ما حدث هو خطأ مني، لكنني لم أستطع أن أجبر نفسي على فعل ذلك.
وبعد ساعات قررت أن السبيل الوحيد إلى راحتي هو القيام بنزهة طويلة عبر جبال الألب. ربما لو قمت برحلة أخرى كتلك التي قمت بها أنا وهنري أستطيع أن أتغلب على تألمي لما حل لويليام وجاستين المسكينين.
الفصل العاشر
رحلة طويلة على الأقدام
في الصباح التالي، وفي اللحظة التي بدأت فيها الشمس تشرق، تسللت خارجا من الباب الأمامي مراعيا ألا أوقظ أحدا. انطلقت بخطى ثابتة نحو منحدرات جبال الألب، على أمل أن يصفي هواء الجبل المنعش البارد ذهني. وبعد مرور وقت قليل اتجهت صوب الطريق المؤدي إلى مدينة شامونكس؛ وهي مدينة صغيرة مقامة في واد جميل.
بدت الطرق ممهدة تحت حذائي طويل الرقبة، وكان الجو معتدلا ومشرقا. وخفت الهموم التي أحملها كلما ابتعدت أكثر نحو الجبال، التي كانت شاهقة الارتفاع على جانبي! وبدا كأنما يعلو قمة كل منها أهرامات عملاقة من الجليد، وكانت المنحدرات الشديدة خلابة للغاية حتى إنني لم أمل أبدا من النظر إليها، مهما طال الوقت الذي سرت فيه على هذا الدرب. ثمة شيء سحري في بلادي. وقد أحببت السير عبر جبال الألب.
استغرقت يوما حتى أصل إلى مدينة شامونكس، وكان بها نزل رائع وجدت به غرفة لأقضي فيها ليلتي. وفي اللحظة التي وضعت فيها رأسي على الوسادة رحت في سبات عميق.
استيقظت في الصباح التالي وانطلقت مرة أخرى. تجولت عبر وادي شامونكس وأصوات الطبيعة تصدح من حولي. هفت الريح وسط الأشجار، وأزبد النبع، والمياه تنحدر على الجبل. لقد أفادتني الرحلة، لكنني ما زلت مضطربا، لذا قررت أن أمكث يوما آخر قبل أن أعود أدراجي.
هطلت الأمطار في اليوم التالي، لكنني لم أشأ أن أقضي اليوم بالداخل. وما الذي ستفعله العاصفة لي؟ لقد مررت بما هو أسوأ منها بكثير. استعرت بغلا من النزل حتى أستطيع أن أصل إلى قمة جبل مونتينفيرس. كانت الأنهار الجليدية عند القمة رائعة للغاية. لقد كنت بحاجة إلى أن أراها بالفعل هذا اليوم، إذ كنت موقنا من أن المنظر وحده سيجعلني أشعر بتحسن.
وكان الدرب المؤدي إلى أعلى الجبل وعرا، لكنه لم يكن مستحيل السير فيه. اصطفت أشجار الصنوبر على جانبي الطريق، وكان الدرب يتلوى وينعطف فيما نشق أنا والبغل طريقنا لأعلى. كان الوادي تحتنا بمسافة بعيدة، وكانت هناك أكواخ للتدفئة، ورأيت النيران المضطرمة، والناس بداخل الأكواخ يقضون أيامهم كعادتهم في سعادة.
قلت في نفسي: «هذه هي أمارات الحياة الرائعة، هل يمكن أن أكون يوما ما سعيدا هكذا؟»
لقد وقعت الكثير من الأحداث في حياتي، وتوالت على ذهني أفكار بشأن الأحداث التي وقعت طيلة السنوات القليلة الماضية وأنا أرتقي الجبل: موت أمي، والأوقات التي قضيتها في الجامعة، وتجربتي البشعة، ورؤية المسخ، وويليام المسكين، وجاستين البريئة؛ فأدركت أن الأمور لن تعود أبدا لسابق عهدها، ولن أعود أبدا ذلك الصبي الذي كان ينظر إلى صاعقة البرق في تعجب.
هطلت الأمطار من السماء، لكنني واصلت المسير. وفي الوقت الذي بلغت فيه قمة مونتينفيرس كان قد حل وقت الظهيرة تقريبا. تركت البغل ليستريح إلى جانب الطريق ثم انطلقت. سرت ساعتين أخريين ثم جلست على إحدى الصخور المطلة على نهر الجليد. وبعدما استرحت هناك لبعض الوقت، ظننت أن لدي طاقة كافية تمكنني من عبور النهر الجليدي، لكنني استغرقت ساعتين للوصول إلى الجانب الآخر، ولكن ممارسة المشي نفعتني بشدة.
تلفت حولي وتفرست في الجبال، فرأيت بهاء مونتينفيرس يرتفع في الفضاء الفسيح ووراءه مباشرة الجبل الأبيض العظيم مونت بلانك. صرخت في السماء: «أرجوك اجعلني أكن سعيدا! أرجوك دعني أنس كل هذا. لا يمكنني أن أستمر على هذا المنوال! لا يمكنني حقا.»
وما إن نطقت بهذه الكلمات حتى رأيت رجلا يركض بسرعة عبر نهر الجليد. قفز فوق مناطق كنت قد استغرقت بعض الوقت للمرور بها خشية أن أقع. وعندما نظرت إليه عن كثب تبين أنه أطول بكثير جدا من الإنسان الطبيعي.
فكرت في نفسي: «لا، مستحيل!» وشعرت بالدوار وكدت أسقط لولا أن هواء الجليد البارد أعاد لي توازني: لقد كان المسخ! وقد جاء يركض باتجاهي. واعترتني رجفة من الخوف والغضب معا.
صرخت: «أيها المسخ! كيف تجرؤ أن تقترب مني بعد الذي اقترفته! ألست خائفا مني؟ ألا ترى غضبي؟»
أجابني صائحا: «أعرف أنك تكرهني. حيثما ذهبت كرهني الجميع. أنا بائس، لكنك أنت الذي صنعتني وأنت الوحيد الذي تجمعني به صلة.»
اقترب مني أكثر واسترسل: «أريدك أن تفعل شيئا من أجلي. إذا وافقت سأتركك وشأنك، وإذا لم توافق سأجعل حياتك جحيما.»
صرخت: «كيف تجرؤ على تهديدي! كيف تجرؤ على تهديدي!» وركضت نحو البقعة التي يقف فيها رافعا قبضتي يدي. تنحى المسخ جانبا بكل خفة فسقطت على الجليد. ونهضت من مكاني ونفضت الجليد عن بنطالي.
قال المسخ: «لا تتصرف بحماقة. طيلة العامين الماضيين رأيت السعادة تملأ الأرجاء من حولي، لكنني لم أذق طعم هذه السعادة. رأيت الناس يحبون ويحبون، لكن ما من أحد أحبني قط. تعلمت الكلام والقراءة والتفكير بوضوح، ومع كل هذا لا زال الناس يرفضونني. أنت صنعتني يا فرانكنشتاين، والآن لا بد أن تبارك حياتي كما بوركت حياتك بالناس الذين يحبونك.»
صحت بأعلى صوتي: «ارحل! نحن عدوان أيها المسخ. لا يهم أنني صنعتك.»
نكس المسخ رأسه دقيقة ثم قال: «كيف أجعلك تنصت لي؟ كيف أجعلك تفهم؟ يا فرانكنشتاين ، أنا وحيد تماما في هذا العالم. إذا كان صانعي يمقتني ويحتقرني، فكيف أتوقع خلاف ذلك من أي شخص آخر؟»
وتهدج صوته وهو يتابع حديثه: «إن منزلي الآن هو الجليد البارد في هذه الجبال. إنني أحيا حياة قاسية، وأنت وحدك الذي تملك القدرة على مساعدتي. أرجوك، اسمع قصتي فحسب، وعندما تسمعها كلها يمكنك أن تصدر حكمك علي.»
وضعت يدي فوق أذني وهززت رأسي وصحت: «كلا، كلا! لا أريد الاستماع إليك. أنت أحلت حياتي إلى جحيم. ارحل فحسب، ولا تتحدث إلي ثانية.»
قال بإصرار: «ليس قبل أن تنصت إلى قصتي. ليس قبل أن تعرف ماذا أريد أن أطلب منك وماذا أريدك أن تفعل. أرجوك يا فرانكنشتاين، الجو قارس البرودة هنا، وهذا الجو ليس جيدا من أجلك؛ فقد تمرض. تعال معي إلى كوخي.»
وبينما كنت أفكر لحظة في هذا الاقتراح أضاف: «لا تزال حياتي في يدك. وأنت وحدك الذي يمكنك أن تقرر هل أرحل إلى الأبد ولا أؤذي أبدا أولئك الذين تحبهم مرة أخرى أم لا.»
واستدار المسخ ثم سار عائدا عبر النهر الجليدي. وتبعته عبر الجليد في بطء. لقد كرهته، لكنني أدين له بهذا؛ سأنصت إلى قصته.
الفصل الحادي عشر
قصة المسخ
سرنا أنا والمسخ في هدوء نحو كوخه، الذي بدا مبنى بدائيا. دخلنا وجلسنا إلى جوار نار مشتعلة، فجعلت ألسنة اللهب وجه المسخ الشاحب يتوهج بضوء غريب. وبدأ المسخ قصته من بداية حياته؛ من تلك اللحظة المصيرية المشئومة التي تركته فيها.
قال: «من الصعب علي أن أتذكر الأيام الأولى من حياتي؛ فجميعها تبدو كتلة ضبابية واحدة هائلة. كنت أرى وأشعر وأسمع وأشم في وقت واحد، وكانت كل حواسي مشوشة تماما.»
قاطعته لأسأله: «هل كانت كل حواسك تعمل في نفس الوقت؟ قطعا كان هذا مشوشا.» - «كان هذا في البداية، لكنني تعلمت بعدئذ أن أميز بينها. وكان الضوء يتعب عيني، فكنت أضطر أن أغمضهما وقتا طويلا. وبعد أن غادرت شقتك شققت طريقي نحو الغابة بالقرب من إنجولشتات. استلقيت بجانب نبع مياه ورحت في النوم. وبعد ساعات استيقظت على ألم في معدتي واحتقان في زوري. واكتشفت أنني أستطيع أن أشرب مياه النبع وكانت رائعة. وعندئذ أكلت بعضا من ثمر التوت والجذور التي وجدتها في الغابة. معدتي ليست كمعدتك يا فرانكنشتاين، فمعدتي تستطيع أن تهضم الأطعمة الخشنة.»
قام المسخ بعيدا عن النيران لما ارتفعت درجة حرارة الغرفة. ولم أكن أعرف فيما أفكر أو حتى ماذا أقول؛ لذا أنصت إليه فحسب. - «عندما استيقظت كان الظلام يغشى الأرض وكان الجو باردا. لم تكن الملابس التي ارتديتها دافئة بما يتناسب مع حالة الجو. كنت تعيسا للغاية، وكانت ذراعاي وساقاي تؤلمني، وكثير من الأفكار تدور في رأسي - ولم أفهم أي فكرة منها - لذا جلست وبكيت إذ لم أكن أعرف ماذا أفعل غير ذلك.
أضاء القمر السماء، وشعرت بتحسن. ونهضت ووجدت عباءة قديمة كان قد ألقاها أحدهم تحت إحدى الأشجار. وفي الوقت الذي كانت جميع حواسي تعمل فيه معا كان الشيء الوحيد الذي يجعلني أشعر بتحسن هو رؤية القمر الذي كان يهدئني.»
سألته: «كم من الوقت أمضيت في الغابة؟» - «أياما كثيرة؛ لم يكن لي مكان آخر أذهب إليه. مكثت هناك إلى أن استطعت أن أهدئ حواسي وأميز بعضها من بعض.»
وتنحنح المسخ قبل أن يردف: «وفي يوم من الأيام، لما كان الجو قارس البرودة، سرت لمسافة طويلة. كانت مجموعة من المسافرين قد تركت نيرانا مشتعلة، وعندما جلست إلى جانب النيران ذهلت من الشعور بالحرارة، فوضعت يدي في وسطها مباشرة! وكم أدهشني الألم الذي شعرت به!»
رفع يديه لأرى آثار الحرق، ثم قال: «تفحصت النيران عن كثب ووجدت أنها مكونة من الخشب، لذا نهضت وجمعت المزيد من الخشب حتى تستمر في الاشتعال. في تلك الليلة نمت هناك وشعرت بالدفء للمرة الأولى في حياتي. كان هذا اكتشافا رائعا.»
هطلت الأمطار بغزارة على الكوخ الصغير، إذ كنت أسمع صوت هطولها الشديد على السقف.
وتابع المسخ: «أمضيت الكثير من الوقت في الغابة، وكنت أقتات على التوت والمكسرات والجذور، بل تعلمت أن أسويها على النيران فكان مذاقها أحلى. ولكن بعدما تغير الجو من الخريف إلى الشتاء ندر الطعام، فأدركت أنني لا بد أن أترك الغابة.
وصلت إلى كوخ صغير بدا دافئا وجافا، وأردت حقا أن أدخله، إذ كان الجليد يغطي الأرض والجو قارس البرودة. كان الباب مفتوحا لذا دخلت ورأيت رجلا كبيرا جالسا بجوار النيران يعد إفطاره. وحين دخلت التفت الرجل ثم صرخ بصوت عال، حتى إن صوته آلم أذني. وثب الرجل ثم ركض فرارا مني، تماما مثلما فعلت أنت بعدما تنفست أول أنفاسي.»
كنت أشعر بالمسخ ينظر إلي، لكنني لم أرفع عيني. وتابع المسخ: «أعترف بأنني أكلت إفطار الرجل. كان رائعا، وشبعت للغاية حتى إنني رحت مباشرة في سبات عميق على الأرض هناك.
أدركت أنني لا أستطيع المكوث هناك بعدما رأيت ردة فعل الرجل نحوي. وللمرة الأولى في حياتي سرت صوب المدينة في النهار. صدم الناس وأصابهم الذعر، وراحوا يصرخون ويهربون عند رؤيتي، بل ضربني البعض بالهراوات ورموني بالحجارة لأنهم كانوا خائفين، فما كان مني إلا أن هربت واختبأت.
أي حياة تلك يا فرانكنشتاين؟» أجبت بهز رأسي لكنني لم أنبس ببنت شفة.
وتابع المسخ: «ركضت مبتعدا عن ذلك المكان بأقصى سرعة. ركضت طوال طريق خروجي من المدينة. ركضت إلى أن وصلت كوخا قديما مقاما بجانب بيت صغير. كنت أدرك حينها أنني لا يجب أن أدخل إلى البيت لكي لا يرتعد مني الناس بالداخل ويحاولوا أن يؤذوني. زحفت إلى داخل الكوخ واختبأت هناك. لم يكن الكوخ رائعا، لكنه كان آمنا.
وكان هناك ثقب صغير في جدار الكوخ، ووجدت أنني أستطيع أن أشاهد الأسرة التي تعيش في البيت الصغير. رأيت فتاة صغيرة - سرعان ما عرفت بعد ذلك أن اسمها أجاثا - تحمل دلوا مملوءا بشيء ما إلى المنزل. التقاها أخوها عند باب البيت وأخذ الدلو منها كي لا تحمله أكثر من ذلك. وفي المرة التالية رأيت أخاها، الذي عرفت أن اسمه فيليكس، يحمل آلة ما ويسير نحو الغابة، ثم عاد محملا بالحطب اللازم لإشعال النيران.
أحببت هذه الأسرة الصغيرة. لقد بدوا حزانى، لكنهم كانوا مجدين في العمل. كان والدهما ضريرا، وعادة ما كان يجلس بجانب النيران يعزف على ناي خشبي، وكانت الموسيقى رائعة.
تعلمت الكثير منهم، وقضيت ساعات وساعات أشاهدهم. تعلمت الكلام من الإنصات إليهم، وتعلمت القراءة من خلال سماعهم وهم يروون القصص بعضهم لبعض. شاهدت الفتى والفتاة وهما يحسنان معاملة أبيهما، وشعرت أنه هكذا ينبغي أن تكون الأسرة، وتمنيت هذا لنفسي.
لقد كانوا فقراء للغاية لكنهم سعداء.
بدأت أساعدهم قدر استطاعتي، فامتنعت عن تناول طعامهم وعدت أتناول جذور النباتات والتوت. وفي الليل كنت آخذ أدوات فيليكس من الورشة كي أقطع كومات وكومات من الحطب من أجلهم. وكانوا دائما ما يندهشون لدى رؤية كومة جديدة من الحطب على عتبة بابهم كل صباح!
عاشوا حياة بسيطة هادئة. كانوا فقراء، لكنهم بدوا راضين. وتقت أن أتحدث إلى الرجل الطيب كي أناقش معه كتب فيليكس، وأقضي الوقت في مساعدة أجاثا في الحديقة. لم أبتغ شيئا أكثر من أن أصير جزءا من عائلتهم. أعلم أنك لم تردني أن أصير جزءا من عائلتك، إذ نبذتني بعدما أعطيتني الحياة بلحظات. لكن إذا استطعت أن أجد مكانا آخر لأنتمي إليه فسيعوضني هذا عن الألم الذي شعرت به بعدما تركتني.
وفي يوم من الأيام - وأنا في الغابة أقتات لنفسي طعاما - انحنيت لأشرب الماء فرأيت صورتي على صفحة الماء. يا إلهي! لقد كنت مسخا؛ مسخا مرعبا قبيحا. تمنيت أن تنظر الأسرة إلى قلبي يوما ما وترى حقيقتي، ولا تنظر إلى وجهي المخيف فحسب.
انقضى عام تقريبا، ورأيت أنه حان الوقت الآن كي أجري محاولة وأقابل هذه الأسرة التي أردت باستماتة أن أنضم إليها. وفي صباح أحد الأيام رأيت أجاثا وفيليكس يتركان والدهما وحده كي يتمشيا في الغابة. أمسك الرجل بقيثارته وعزف لبعض الوقت. يا لها من موسيقى عذبة! لقد ألهمتني. زحفت من مخبئي وسرت نحو الباب الأمامي وقرعته.
وسمعت الرجل يدعوني للدخول.
سأل الرجل: «من أنت؟»
أخبرته أنني مسافر وسألته أن أستدفئ بجانب النيران. جلسنا وتسامرنا وقتا طويلا، وأخبرته كيف وصلت إلى هنا، وكيف كنت أعيش في الغابة، وكيف كنت مسخا ينفر منه الجميع. حقق الرجل كل أحلامي عندما قال لي إنني أملك قلبا طيبا نقيا على ما يبدو. كانت تلك لحظة الحقيقة.»
اغرورقت عينا المسخ بالدموع، وهو يتابع حديثه: «أردت من أعماق فؤادي أن أخبره بالقصة بأكملها. وفعلت هذا، وأخبرته أنه أنا من كان يقطع لهم الحطب، ومن كان يساعدهم على مدار الأشهر القليلة الماضية. ذهل الرجل الكبير، ولكن قبل أن يتمكن من قول أي شيء كانت أسرته قد رجعت إلى البيت.
صدم فيليكس وأجاثا لدى رؤيتي وعلى الفور توقعا الأسوأ. صرخ الاثنان في رعب وجذبني الصبي بعيدا عن والده وألقى بي خارج المنزل، وغشي على أجاثا. أعرف أنه كان بمقدوري أن أؤذي فيليكس لأنني أضخم منه بكثير، لكنني لم أستطع أن أحمل نفسي على أذيته.
ركضت من هناك بأقصى سرعتي، وانكسر قلبي.
عرفت حينها أنني لن أستطيع أبدا أن أكون جزءا من أي عائلة، وأدركت أنه لن يقبلني أي شخص في العالم بسبب شكلي القبيح. لا يهم أنني أستطيع القراءة أو الكتابة، ولا يهم أنني أستطيع التفكير أو التحدث عن الفلسفة أو موضوعات عظيمة أخرى؛ سيظل الناس يخشونني دائما. وفي تلك اللحظة امتلأ قلبي كرها لك يا فرانكنشتاين لأنك جئت بي إلى عالم لن يقبلني أبدا.»
الفصل الثاني عشر
طلب المسخ
«قضيت بقية الليل مختبئا في الغابة. وفي الصباح التالي عدت لأرى هل الأسرة الصغيرة بخير. وعندما وصلت إلى هناك سمعت شخصا يقول إنهم رحلوا خوفا على حياتهم. مجرد رؤيتي لحظات معدودات جعلتهم يظنون أنني سوف ألحق بهم الضرر. لقد تخلوا عن كل ما يملكونه ليهربوا مني. تخيل الشعور الذي خالجني حينها يا فرانكنشتاين.
ما كنت لأؤذيهم قط. لقد أحببتهم كما لو كانوا أسرتي.
وأدركت أنني لا بد أن أعثر عليك، فأنت وحدك الذي أتيت بي إلى هذا العالم، وأنت وحدك تستطيع أن تمنحني حياة كريمة.
طال ترحالي، واستغرقت شهورا عديدة لأصل إلى جنيف .» ثم نظر المسخ من نافذة الكوخ الصغيرة إلى الأمطار المتساقطة بالخارج وتابع: «لم أستطع أن أمنع نفسي عن التفكير في السبب الذي جعلك تصنعني إذا كان العالم كله سيكرهني.
عشت في الغابة خارج جنيف. نفس الغابة التي أعرف أنك رأيتني فيها في تلك الليلة المطيرة. وفي صباح أحد الأيام رأيت ويليام. بدا لي صبيا لطيفا، وظننت أنه ربما يمكن أن يتجاهل شخص صغير مظهري الكريه. راقبته هو وأخاه وقتا طويلا وسمعتهما يتحدثان عنك، وظننت للحظة عابرة أنني عثرت على فرد من أفراد أسرتي، فهذه هي الأسرة التي أتيت بي إليها وعليهم أن يقبلوني.
راقبت ويليام وهو يختبئ من إيرنست، وقد ظل مختبئا إلى أن توقف أخوه عن البحث عنه ورحل. وعندها خرجت من الأجمة. وعندما رآني ويليام صرخ. جذبته حتى لا يتمكن من الهرب، لكنه لم يتوقف عن الصراخ، لذا وضعت يدي على فمه حتى يهدأ، وسرعان ما سقط جسده الواهن بين ذراعي وعرفت أنني قتلته. رأيت القلادة حول رقبته فأخذتها، وتركت ويليام هناك وهربت. وجدت الفتاة في مخزن الحبوب هذه الليلة ووضعت القلادة في جيبها.
أعلم أن هذا كان خطأ مشينا، لكنني لم أستطع أن أمنع نفسي. لقد أردت أن أؤذيك يا فرانكنشتاين لأنك أنت الذي أعطيتني هذه الحياة الموحشة البشعة.»
وأخيرا، وبعد ساعات من السرد، أخبرني المسخ بما يريد: «لا أستطيع أن أقضي المزيد من الوقت وحيدا. لا بد أن تصنع كائنا آخر. لا بد أن تصنع صديقا لي، أو زوجة؛ إنسانة مثلي تماما. أنت الوحيد الذي يستطيع أن يفعل هذا.»
وبعدما أنهى المسخ قصته جلس في هدوء. ومر وقت طويل وهو ينتظر إجابتي، وأخيرا أجبته: «كلا. يؤسفني هذا، ولكن الإجابة لا. لن أصنع أبدا مسخا آخر مثلك.»
لمعت عينا المسخ لحظة. وجلسنا صامتين. حاول أن يقنعني بأنها فكرة جيدة فقال: «الجميع يكرهونني. أعدك أنني سأرحل إلى الأبد إذا فعلت هذا الشيء الوحيد من أجلي. أما إذا رفضت فسأستمر في إيذاء الأشخاص الذين تحبهم. أنت مدين لي يا فرانكنشتاين، ألا ترى هذا؟ كل ما حدث خطؤك أنت، وأنت الوحيد الذي يمكنه أن يصححه؟»
سألته: «هل تعدني بحق أن ترحل إلى الأبد إذا صنعت لك صديقا؟ وهل تعد بأن تترك أسرتي وشأنها؟»
قال: «أريدك أن تصنع لي زوجة. إنسانة أقضي أيامي معها. إنسانة مثلي. إذا فعلت هذا أعدك أن أرحل إلى الأبد. وأعدك أنه لن يلحق بأسرتك ضرر آخر.»
أجبته في هدوء: «إذن سأفعل. لكن لا بد أن تعرف أنني لا أريد هذا ... لكنني سأفعل كي أحمي أسرتي.»
قال: «أشكرك يا فرانكنشتاين، وسألتزم بوعدي لك.»
نظر إلي في حذر وقال: «لكن اعلم أنني سأراقبك، كي أتأكد من أنك تلتزم بوعدك لي.»
ثم نهض من مكانه في عجالة وركض من الكوخ تاركا إياي وراءه. واستغرقت ساعات عديدة كيما أعثر على طريقي للعودة إلى البغل الذي كان جائعا للغاية حينما عثرت عليه. نزلنا الجبل سريعا، وقضيت الليلة في النزل، واستيقظت مبكرا في الصباح التالي بعد ليلة من النوم غير المريح.
كانت رحلة العودة الطويلة إلى بيليريف شاقة للغاية. وصلت المنزل في اليوم التالي. ولما سرت مسافة طويلة للغاية دون راحة بدا منظري وحشيا؛ إذ انتصب شعري وتغضنت ملابسي. في بادئ الأمر صدمت أسرتي لدى رؤيتي بهذا المظهر، لكنهم ابتهجوا بعدئذ لعودتي إلى المنزل. ومع أنهم أرادوا أن يعرفوا كل شيء بشأن رحلتي، فلم أستطع أن أخبرهم أي شيء مما حدث طيلة الأيام القليلة الماضية، فلدي الكثير لأفكر فيه، لذا استأذنتهم وأويت إلى الفراش.
الفصل الثالث عشر
رحلة إلى إنجلترا
مرت الأيام والأسابيع دون أن أستطيع البدء في العمل. وكنت أعلم أن هذا سيصيب المسخ بالجنون. كنت قد قرأت عن عالم في إنجلترا يدرس الجسد الأنثوي، وكنت أعرف أن دراسته سوف تساعدني في صنع زوجة المسخ. وأدركت أيضا أنها ربما تكون فرصة جيدة للابتعاد بعض الوقت، وقد أعلل الأمر لوالدي بأنني في حاجة إلى التعلم من هذا المعلم، وقد يمنحني هذا الوقت الكافي كي أصنع هذه المسخ الجديدة بعيدا عن أسرتي، إذ لم أشأ أن يروني في هذه الفترة.
وأملت أيضا أن هذا قد يبعد المسخ عن إليزابيث وأبي، فلا أريده أن يؤذي أكثر أشخاص أحببتهم في حياتي.
وفي صبيحة أحد الأيام، وفيما كنا نتناول الإفطار، قلت: «أبي، أود أن أذهب إلى إنجلترا. أشعر بتحسن شديد في الآونة الأخيرة، وأرى أن هذه الرحلة ستكون نافعة لي. أريد أن ألتقي عالما هناك يمكن أن يساعدني في مشروع سأبدؤه.»
ابتسم أبي لي ابتسامة دافئة، وقد بدا سعيدا وفخورا في تلك اللحظة.
قال أبي: «حسنا يا فيكتور. أراها فكرة رائعة، لكن لا بد أن تعدني بشيء أولا. أنت تعلم كم كانت أمك ترغب في أن تتزوج من إليزابيث، لذا سآذن لك بالسفر إلى إنجلترا شريطة أن توافق على إتمام زواجك لدى عودتك من هناك.»
لقد أحببت إليزابيث من كل قلبي ونفسي، لكنني كنت خائفا. لقد قتل المسخ أخي بالفعل، فماذا لو ألحق الضرر بها هي أيضا؟ لن أسامح نفسي أبدا إذا وقع لها أي مكروه. ابتغيت أن أتزوج إليزابيث، لكن لا بد أن أحل مشكلاتي أولا. لم أستطع أن أخبر أبي بشأن المسخ، لذا رددت: «بالطبع، إنها فكرة رائعة.»
كان أبي سعيدا أيما سعادة! وتحدثنا لبعض الوقت عن رحلتي، ولم يشأ أبي أن أذهب إلى إنجلترا بمفردي، لذا أرسل خطابا إلى هنري يطلب منه أن يرافقني إلى هناك. حددنا كل شيء، وكانت إليزابيث سعيدة بمعرفتها أننا سنتزوج عن قريب، وسر أبي بأن أسرته ستستقر عن قريب، وسافرت إلى إنجلترا.
التقيت أنا وهنري في ستراسبورج، وسافرنا في أنحاء أوروبا ورأينا العديد من المناظر الرائعة. وكان الريف الذي يفصل ما بين مسقط رأسي وإنجلترا مليئا بالقلاع والكنائس، والمروج والغابات. لكن حتى ظرف هنري والمناظر الخلابة لم تجعلني سعيدا؛ إذ كنت مضطرا أن أبدأ عملي المشين من جديد، ولم يستطع أي شيء أن يجعلني أشعر بتحسن.
استغرقنا شهرا كاملا للوصول إلى لندن؛ إذ سافرنا بالعربة، وسيرا على الأقدام، وبالقارب، لكننا وصلنا أخيرا!
الفصل الرابع عشر
ثم إلى اسكتلندا
حالما وصلنا المدينة رجع هنري سريعا إلى دراسته، وقد التقى بمعلمي لغة مختلفين وبدأ من حيث انتهى في إنجولشتات. لقد عدنا إلى الدراسة معا، تماما كما كنا في ألمانيا. حاولت جاهدا أن أخفي مشاعري؛ إذ لم أشأ أن يرى مدى تعاستي من جراء دراسة العلوم من جديد.
وأعادت رؤية المعمل إلى ذاكرتي - على الفور - الوقت الذي كنت أصنع فيه المسخ الأول. كيف أقوم بكل هذا من جديد؟ وكان التفكير في أحداث الأسابيع القليلة الماضية يجعلني يقظا ليلة تلو الأخرى. ما هذا الذي اقترفته؟ ما هذا الذي وعدت به؟
تقدم هنري في دراسته، وقد أحب أن يدرس قدر استطاعته الأماكن البعيدة مثل الصين والهند. كان يرغب في أن يعمل في مجال الأنشطة التجارية ومن ثم يتسنى له زيارة الأماكن التي كان يدرسها.
كانت صحبته الجميلة تخفف عني عبء العمل الحزين. لم أكن أسعد رجل في العالم، لكن على الأقل
كان لي صديق وفي طيب، ففي نهاية الأمر كان هنري سعيدا للغاية لوجودنا معا، وقد التقى الكثير من الأشخاص الجدد وكون الكثير من الصداقات الجديدة. وعادة ما كان يقضي الوقت بالخارج مع هذا أو ذاك، وكان دائما يطلب مني أن أرافقه، لكنني لم أفعل قط، فقد كان طلب المسخ يلازمني كظلي طوال الوقت.
التقيت الأستاذ الجامعي بانتظام وتعلمت من أبحاثه قدرا لا بأس به. لقد قدم لي الكثير من المعلومات بشأن جسد المرأة وكيف يختلف اختلافا علميا عن جسد الرجل. كان معلما طيبا وحكيما، وعلمني كل شيء كنت في حاجة إلى أن أعرفه كي أصنع زوجة المسخ. ومع ذلك انزعجت انزعاجا لا حد له لمعرفتي أن كل شيء تعلمته كان من أجل ذلك المشروع المرعب.
كرست كل وقتي من أجل تجميع الأدوات التي قد أحتاجها للعمل في الكائن الثاني، فأنا مضطر أن أصنع زوجة المسخ. أزعجتني فكرة صنع مسخ آخر غاية الإزعاج، لكنني قطعت وعدا ولا يمكن أن أتراجع عنه. أنشأت معملا صغيرا، وكان لا بد أن أكون حريصا كل الحرص على ألا أدع هنري أو أي شخص آخر يرى ما أفعله. وفيما أوشكت على بدء العمل تلقى هنري خطابا من اسكتلندا يدعونا فيه أحد أصدقائه المقربين لزيارته.
لم أرد أن أذهب لأن ذلك يعني تأجيل العمل مرة أخرى، لكن هنري أصر، لذا أضررت أن آخذ معدات معملي معي، حريصا على أن أطمث أي آثار لمشروعي الأخير، فصار معي صناديق كثيرة حتى إننا اضطررنا إلى تأجير عربة ثانية! ولم يمانع هنري، فقد كان متحمسا لرؤية اسكتلندا أكثر مما كان لزيارة إنجلترا.
انتقلنا عبر مقاطعات رائعة الجمال ومدن صغيرة ساحرة. مر زهاء العام منذ أن التقيت المسخ عند نهر الجليد بمونتينفيرس، ولم أحقق أي تقدم، لكنني لم أره قط أو أسمع عنه أي أخبار، لذا حاولت أن أنساه وأستمتع برحلتنا.
بعد أسابيع قلائل، وصلنا منطقة المرتفعات الاسكتلندية، وبعدما أمضينا شهرا في ضيافة أسرة صديقه ابتغى هنري أن يرى المزيد من معالم اسكتلندا. وكنت أعلم أنني لا بد أن أبدأ عملي، فإذا لم أقم به الآن فلن أمتلك الشجاعة الكافية أبدا لكي أصنع المسخ الثاني. ولاحظ هنري أن مزاجي قد تحسن قليلا منذ أن غادرت إنجلترا، ولم يشأ أن يذهب في رحلته بمفرده فطلب مني أن أرافقه.
قلت له إنني سأكون على ما يرام إذا مكثت بمفردي بعض الوقت. وأخيرا وافق هنري، وقرر أن يرحل في الصباح التالي. أخبرته أنني سأكون بخير، وسأذهب إلى جزر أوركني أثناء رحلته لمشاهدة المزيد من معالم اسكتلندا. وكانت الجزر مكانا مناسبا لعملي إذ كادت تكون غير مأهولة بالسكان، ومن ثم لن يزعجني أحد إلى أن أنتهي من عملي، وأنا لا أبتغي أن يرى أحد ما كنت أفعله، والأهم من كل هذا أنني لم أشأ أن يرى أي أحد المسخ إذا جاء باحثا عني.
في الصباح التالي استعد كلانا للرحيل، وكان هنري لا يزال يساوره القلق من أن أمضي الكثير من الوقت بمفردي في مثل ذلك المكان المنعزل.
قلت: «هنري، أرجوك لا تقلق! سأكون بخير بمفردي، أنت في حاجة إلى أن تذهب وتستمتع بالوقت. وأنا أحتاج أن أنتهي من مشروعي قبل أن أرجع إلى إليزابيث.»
رد: «فيكتور، لا يروق لي هذا، لكنني سأرحل بمفردي إذا قطعت لي وعدا بأن تقابلني في إدنبرة بعد شهر.»
مزيد من الوعود! لا أعرف هل سأنتهي من مشروعي في خلال شهر، لكن على الأقل هناك ما يدعو الآن لقطع هذا الوعد!
أجبته: «أجل، هذه فكرة رائعة يا هنري. سأراك بعد شهر بالضبط.»
وبعدئذ تصافحنا، وابتسم هنري ولوح لي وهو يبتعد في عربته. استغرقت وقتا أطول كي أحزم كل أمتعتي. وأخيرا أصبحت أنا أيضا مستعدا للرحيل، واتجهت إلى جزر أوركني.
استأجرت بيتا صغيرا في حالة مزرية للغاية في قرية صغيرة بالقرب من كيركوول؛ ثلاث غرف إحداها تصلح لأن تكون معملا. وعلى الرغم من أنه كان لدي كل شيء أحتاجه لأستهل عملي، فقد اضطررت أن أرغم نفسي على بدء العمل؛ فقد كان عملا كريها لي، وكنت أشعر باكتئاب شديد أثناء ذلك. عرفت أن ثمة شيئا سيئا وشيك الحدوث، غير أنني لم أعرف ماذا ولا متى.
الفصل الخامس عشر
نهاية تجاربي
أوشك الوقت المعين لي في جزر أوركني على الانتهاء. كان من المفترض أن ألتقي هنري بعد أسبوع واحد قصير، وقد هطلت الأمطار طوال فترة إقامتي بأكملها تقريبا. كانت السماء الرمادية اللون تبعث الراحة في نفسي إلى حد ما، والهواء البارد الرطب يصفي ذهني. نجح العمل وقاربت الانتهاء منه.
أخيرا، حان الوقت. مرت ساعات على غروب الشمس وكنت أعمل في وقت متأخر من الليل، وكانت حجرتي مظلمة لأنني لم أضئ أية شموع. صرخت بصوت مرتفع: «لقد انتهيت! لقد انتهيت من صنع المسخ الثاني!»
راودني مرة أخرى نفس الشعور بالاكتئاب الذي انتابني بعدما صنعت المسخ الأول. وقفت ونظرت إليها وفي يدي المعدات التي تبعث الحياة، لكن شيئا منعني.
لقد وافق المسخ على الرحيل، لكن «زوجته» لا تعرف أي شيء عن خططه، ولم تكن تعرف أنها صنعت من أجله. ماذا لو لم يتبادلا الحب؟ ماذا لو لم ترغب في الرحيل معه؟ ماذا لو كانت أشر منه؟ سيكون لها عقلها الخاص، ولن تزيد قدرة المسخ على التحكم في أفعالها بعد الآن على قدرتي أنا على التحكم في أفعاله.
فكرت في نفسي: «لا، لا يمكنني أن أبعث الحياة في كائن آخر من هذه الكائنات.»
وضعت معداتي جانبا، فلن أضرم الشرارة الأخيرة. وفجأة ظهر المسخ عبر النافذة! لقد رآني وأنا أتوقف عند اللحظة الأخيرة تماما، ورآني وأنا أضع المعدات جانبا وأغادر الغرفة. هززت رأسي يمنة ويسرة كي أخبره أن الأمر قد انتهى، وأنني لن أكمل هذا المشروع. رآني المسخ، فتأوه واغتم وأجهش في البكاء، وبعدها بلحظات اندفع داخل بيتي.
قال المسخ مترجيا: «فرانكنشتاين، لماذا لن تكمل العمل؟ لماذا لن تبعث الحياة فيها؟ لا بد أن تتم الوعد الذي قطعته لي.»
أجبته: «لن أصنع كائنا آخر مثلك.»
قال في إصرار: «أنت مدين لي بالكثير! أنا لا أنتمي إلى هذا العالم، ووجودي هنا هو خطأ منك. إذا رفضتني أنت مثلما رفضني سائر العالم فسأمضي بقية حياتي البائسة تعيسا ووحيدا. ألا ترى هذا؟»
قلت في هدوء: «أنا آسف، لكنني لن أكمل هذا العمل. لن تزيد قدرتك على التحكم في هذا الكائن بعد الآن على قدرتي أنا على التحكم في أفعالك. أنت لا تعرف ما الذي قد يحدث إذا بعثت الحياة فيها. ولن أكون مسئولا عن أي شيء آخر مثلك.»
بدا المسخ غاضبا ومنزعجا فقلت له: «أرجوك قدر موقفي. أعلم أنك تعيس، لكن هذا ليس الحل. والآن لا بد أن ترحل، سأغادر هذا المكان صباح الغد، ولن آخذ أي عمل معي، فلسوف يدفن في هذه الجزر إلى الأبد.»
قال المسخ ببرود: «سوف أرحل، لكنني لن أسامحك أبدا. لقد حنثت بوعدك، ولسوف تدفع ثمن هذا يا فرانكنشتاين، ستدفع ثمن هذا. أسرتك في خطر، وأنت في خطر. سأجعلك تذوق إحساس أن تكون وحيدا في عالم يكرهك كل من فيه. احذرني. سأكون معك في ليلة زفافك.»
أغلق الباب بقوة وراءه ثم ركض في الظلام، وشعرت بالبرد القارس وأنا أطارده بالخارج، وقبل أن أتمكن من الإمساك به قفز المسخ إلى القارب وجدف منطلقا عبر المياه، وبعد قليل توارى عن الأنظار وسط الأمواج فلم أعد أراه.
كان الهدوء يسود البيت، فكان الصوت الوحيد الذي أسمعه هو صوت المحيط. ودوت كلمات المسخ الأخيرة في أذني: «سأكون معك في ليلة زفافك.»
ترى ماذا يقصد بذلك؟!
صحت في هلع: «قطعا يريد المسخ أن يؤذي إليزابيث.» وللمرة الأولى منذ أشهر جلست وأجهشت بالبكاء. لا بد أن أمنعه بأي وسيلة ممكنة. لا بد أن أمنعه قبل أن يؤذي أي شخص أحبه في هذا العالم.
الفصل السادس عشر
الاتهام
استيقظت في الصباح التالي ولا زال الغضب من نفسي ومن المسخ يتملكني. غادرت المنزل وقضيت الصباح أهيم على وجهي كالشبح. كنت بعيدا للغاية عن كل ما أحبه من أشياء وأشخاص. جلست على الشاطئ هذا اليوم ساعات كثيرة، وكنت أشعر بالبرد والخوف والجوع. وما من شيء استطاع أن يجعلني أفيق من غفلتي، لا شيء فيما عدا زيارة من الساعي الذي أحضر لي رزمة من الخطابات.
كانت هناك خطابات من والدي ومن إليزابيث، لكنني كنت مغتما للغاية فلم أستطع أن أفتحها. وكان هناك أيضا خطاب من هنري. جعلتني رؤية خط يده المألوف لي أشعر بشيء من التحسن، ففتحت الخطاب الذي كان مليئا بالقصص الممتعة حول رحلته، وأخبرني كم الحياة في اسكتلندا ممتعة، وأخبرني أن خططه للسفر إلى الهند تسير على ما يرام. أخبرني أنه تلقى خطابا من صديق في لندن يخبره أنه لا بد أن يعود إلى هناك في أسرع وقت ممكن.
قال هنري في الخطاب: «فيكتور، أنا مضطر أن أترك اسكتلندا اليوم. أعرف أنه كان من المفترض أن نلتقي في إدنبرة، لكن لم لا تسافر إلى لندن بدلا من إدنبرة؟»
لم يكن هناك ما يدعوني إلى البقاء في جزر أوركني الآن. لم يكن هناك سوى الألم والندم على اقتراف الكثير من الأخطاء. وكان هناك الكثير من الأمور التي علي أن أقوم بها قبل أن أعود إلى الوطن، وأولها هو تنظيف مكان تجربتي الأخيرة غير المكتملة.
بدأت في حزم أمتعتي في الصباح الباكر من اليوم التالي. وبحلول وقت ما بعد الظهيرة كان قد تبقى لي شيء واحد أفعله ألا وهو جمع أدوات المعمل. استجمعت كل شجاعتي وفتحت الباب، وكانت أجزاء عملي متناثرة في كل الأرجاء. وكان هذا هو الدليل على الوعد الذي أخلفته.
في بادئ الأمر نظفت معداتي وطرحتها جانبا، ثم أخذت الكائن المسكين للخارج، وتلوت عليه صلاة قصيرة ثم دفنته بجانب البيت. وفيما انتهيت من عملي كان الليل قد أرخى سدوله. من الآمن أن أنتظر حتى الصباح كي أعبر الماء بقاربي. لكنني كنت قد عقدت العزم على ترك الجزيرة في هذا اليوم، لذا شددت رحالي.
كانت الغيوم تغشي السماء المظلمة لذا لم أستطع أن أرى القمر، فكان الفرق بين البحر والسماء لا يذكر. كان الظلام مدلهما، والنجوم متوارية. للمرة الثانية في حياتي أخشى الظلام. نقلت أغراضي إلى القارب الصغير وأبحرت في المياه الغادرة. وسرعان ما هاجت الأمواج فكان من الصعب الإبحار، وعصفت الرياح بقوة في الاتجاه غير المواتي، ووجدت الأمواج تتقاذفني وسط البحر، ومرت ساعات عديدة على هذا النحو، وكلما حاولت أن أتحكم في القارب أبحر في الاتجاه الخاطئ.
ولما طلع النهار سكنت الريح. هبت نسمة خفيفة على الأشرعة الآن، وأخيرا تمكنت من أن أعيد القارب إلى المسار الصحيح. وبالتدريج شق القارب طريقه نحو الشاطئ، وسعدت لرؤيتي من بعيد بلدة صغيرة بها مرسى جيد.
كنت أربط القارب وأنزل الأشرعة حينما تجمهر حولي حشد من الناس يتهامسون ويشيرون نحوي مما أثار انزعاجي.
قلت في هدوء: «مرحبا، هل من الممكن أن يخبرني أحدكم أين أنا من فضلكم؟ ما اسم هذه البلدة؟»
أجاب رجل ذو صوت أجش وبنبرة متوعدة: «ستعلم سريعا! لعلك رسوت في مكان لن يروق لك. وبعد قليل سنريك أين ستمكث!»
ارتبكت بشدة من إجابته إذ لم تكن من عادة الغرباء أن يكونوا بهذه الدرجة من الوقاحة.
سألته: «ما الذي يحدث؟»
أجاب: «أنت مجرم! ونحن لا نرغب في وجودك هنا .»
قلت: «ما الذي تتحدث عنه؟ من فضلك لقد قضيت الليل كله وسط المياه أصارع الرياح العاتية. لا بد أنك خلطت بيني وبين شخص آخر.»
أجاب على نحو فظ: «سنتحقق من هذا! لا بد أن تقابل السيد كيروين القاضي. يمكنك أن تخبره بقصتك.»
قلت: «ولم أقابل قاضيا؟ أنا لم أقترف أي خطأ!»
قال: «كما قلت لك، أخبره بهذا! وجد أحدهم قتيلا الليلة المنصرمة. وأنت الشخص الوحيد الذي رأيناه يأتي إلى المدينة.»
قلت: «حسنا، إذن يسعدني أن ألتقي قاضيكم. أنا بريء تماما!»
تبعت الرجال في طريقهم نحو المدينة بعيدا عن قاربي. وكان مكتب القاضي في بناية جميلة بوسط القرية. ولم نستغرق وقتا طويلا في الوصول إلى هناك، لكن السير كان شاقا، إذ كنت أشعر بالجوع الشديد وكان حلقي جافا. وقد أعيتني الليلة الطويلة التي قضيتها في المياه، فأردت أن أستلقي وأخلد إلى النوم. لكن جمع الناس الثائرة من حولي جعلني أقرر أنه من الأفضل أن أظل رابط الجأش وأواصل.
كان السيد كيروين رجلا كريما يتحلى بالفضائل الطيبة. دعا القاضي الجمع المحتشد في القاعة لالتزام النظام قبل أن يسأل: «من الذي أحضر هذا الرجل للمثول أمامي؟ ما الذي فعله؟»
أجاب الرجل الفظ الذي أحضرني إلى هناك: «أنا يا سيدي، نحن نظن أنه هو من فعلها.»
طلب القاضي منه أن يفسر الأمر. قال الرجل إنه خرج ليصطاد البارحة بصحبة شقيقه وابنه، وفي طريق عودته من قاربه تعثر في شيء ما، وعندما انحنى لينظر ما هذا الشيء وجد شابا مستلقيا على الشاطئ، وقد حاول أن يوقظه لكنه كان ميتا.
تكلم شقيق الرجل بعده وشهد أنه رأى رجلا في قارب في وقت مبكر من النهار، وأقسم للقاضي أنه نفس القارب الذي أبحرت أنا فيه نحو الشاطئ. وبعدها أخبرت امرأة القاضي أنها رأت هذا الرجل يدفع قاربه نحو البحر بالتحديد عند البقعة التي عثروا فيها على الشاب المسكين. وقال كثيرون آخرون إنه لا بد أن الرياح قد أعادتني إلى الشاطئ فيما حاولت أن أهرب.
قرر السيد كيروين أنه لا بد أن أرى الشاب، إذ أراد أن يرى ماذا سيكون رد فعلي. ولما كنت أعلم أنني بريء وافقت. سرنا باتجاه إحدى الغرف، ثم فتح الباب.
رأيت صديقي العزيز هنري كليرفال مستلقيا هناك باردا برود البحر الذي عبرته!
صرخت: «لا! هنري، أوه، هنري، ليس أنت أيضا! أنا المسئول عن كل هذا، هذا خطئي أنا ...»
لم يعد جسدي يتحمل الألم فسقطت على الأرض. وقضيت الشهرين التاليين في نوبة حمى شديدة، وقد مرضت بشدة حتى إن حياتي كانت في خطر معظم الأوقات. وعندما استيقظت وجدت نفسي في السجن. كنت أخرف وأهذي خلال مرضي حول تسببي في قتل أخي، وسجن جاستين، والآن مقتل هنري. تأوهت بصوت مرتفع حتى إنني أيقظت الممرضة التي كانت تجلس بجانب فراشي.
قالت وهي تبدو متعجبة: «سيد فرانكنشتاين، هل أنت مستيقظ؟!»
قلت في هدوء: «أجل، آمل أن ألا يكون هذا إلا كابوسا. يؤسفني أنني مستيقظ وفي هذا المكان الكريه بعد كل ما حدث. ليتني مت.»
قالت: «يجب أن أذهب وأخبر القاضي!» نهضت الممرضة وتركتني وحدي في زنزانتي. وحضر السيد كيروين بعد وقت قصير من ذهابها، ودار بيننا حوار طويل. عاملني القاضي معاملة مهذبة ونزيهة، فهو الذي رتب أمر العناية بي أثناء وجودي في سجنه، وحاول أن يوفر لي المزيد من سبل الراحة. وقد فتش أغراضي التي كانت في القارب بعد مرضي، ورأى خطابات هنري وأسرتي، وعلم أنني رجل مثقف ونبيل، وعلم أيضا أنني لا يمكن أن أكون مذنبا، لكنه لا يستطيع أن يطلق سراحي إلى أن تثبت براءتي.
شكرت القاضي من أجل كرم أخلاقه وسألته بسرعة هل تلقى أي أخبار عن أسرتي، فأنا أريد أن أعرف هل كل فرد فيهم بخير أم لا.
أجاب القاضي: «أجل، إنهم بخير، وهم حزانى لموت أعز أصدقائك، ويستبد بهم القلق على صحتك المعتلة، وهم يعرفون أنك بريء. والآن لا بد أن نثبت هذا لسائر المحكمة.» وتوقف القاضي عن الكلام لحظة ثم أردف: «ثمة شخص هنا يود مقابلتك.»
أول ما تبادر إلى ذهني هو أنه المسخ لذا صرخت: «لا! لا أريد أن أراه!»
قال القاضي في صرامة: «أيها الشاب، أرى أن صحبة والدك ستكون سارة لك في ظل هذه الظروف. لماذا هذا الهيجان؟»
قلت متعجبا: «والدي؟ والدي هنا؟ أوه، أجل! يسرني أن أراه. آسف يا سيدي، ظننتك تتحدث عن شخص آخر.»
اندهش السيد كيروين من التغير الذي طرأ على نبرتي وقال: «أرجو أن تكون هذه هي آخر أعراض الحمى أيها الشاب.»
وفي ظرف ثوان وقف والدي الرقيق إلى جانبي، فمددت يدي له وقلت: «كيف حال إليزابيث وإيرنست؟»
أجاب: «بخير يا ولدي، يؤسفني أن أعرف أنك مررت بهذا الوقت العصيب. كما أنا آسف لما حل بهنري المسكين!» - «أنا بريء يا أبي. لا بد أن تعرف هذا.»
قال: «أعرف يا ولدي أعرف.» وكان صوته مطمئنا للغاية. ثم أضاف: «عثرنا على شخص من جزر أوركني كي يشهد في المحاكمة، ولسوف يشهد بأنك كنت في الجزيرة عندما عثروا على عزيزنا هنري، فقد سلمك رزمة من الخطابات عندما كنت جالسا على الشاطئ!»
بحلول وقت المحاكمة كنت قد قضيت ثلاثة أشهر في السجن، وصدقت هيئة المحلفين الشاهد وأطلقوا سراحي. ضربني والدي على ظهري تعبيرا عن سعادته التي لم يستطع أن يخفيها. سرنا خارج جدران السجن واستنشقت نسمتي الأولى من الهواء الطلق.
قلت: «أبي، لا بد أن نذهب إلى المنزل في الحال.»
لم ير أبي أنني أتمتع بهذه الدرجة من الصحة التي تمكنني من السفر، لكنني أصررت على الرحيل في الحال. وغادرنا باكر الصباح التالي. استأجرنا سفينة كي تقلنا إلى جنيف مباشرة. وكنت سعيدا بالعودة إلى المنزل. جلست على متن السفينة برفقة والدي ونظرنا إلى البحر. لقد رحل هنري، ولا يمكن أن يعيده أي شيء. عاودت التفكير في تلك الليلة التي صنعت فيها المسخ. لقد تدمرت حياتي بسبب عملي، ولا يمكن أن يغير شيء من هذا الواقع الأليم الآن، فتقبلت مصيري في هدوء.
الفصل السابع عشر
العودة إلى جنيف
بعد مرور ستة أسابيع رحبت إليزابيث بنا ترحيبا حارا والدموع تملأ عينيها الزرقاوين الجميلتين. حاولت أن أكون سعيدا أيضا لرؤيتها، لكن ذكريات السنوات القليلة المنصرمة قهرتني، ولأيام لم أتحدث إلى أي أحد، وإنما جلست بلا حراك أنظر عبر النافذة.
وفي اليوم الثالث جلس والدي معي وقال: «أرجوك يا ولدي العزيز لقد منيت عائلتنا بالكثير من الخسائر. لا بد أن نتشبث بشدة بما تبقى منها، سنحظى بعالم صغير لكنه سعيد. لا بد أن تتزوج إليزابيث، لتدخل بعض البهجة إلى حياتك.»
عندئذ دوت كلمات المسخ في رأسي: «سأكون معك في ليلة زفافك.»
قلت: «أبي، أنا أحبها، لا بد أن تصدق أنني أحبها. لكن ربما لا تكون بالفكرة الصائبة أن أتزوجها. لا أظن أنني سأسعدها، فأنا في حالة نفسية سيئة.»
قال: «هذا هراء، أنت تحبها وهي تحبك. هذه خلاصة القول.»
خططنا لعرسنا وحددنا موعده، وعادة ما كانت طبيعة إليزابيث الرقيقة تهدئ من روعي. خرجنا للتمشي لمسافات طويلة وتعلمنا مرة أخرى أن ننعم بصحبة أحدنا للآخر. كنت شديد التوتر، فقد استبد بي القلق من أن يقع لها مكروه، وقد أقسمت بداخلي بأنني سأفعل كل ما بطاقتي لأضمن ألا يمسها أي أذى.
وكان يوم عرسنا رائعا، وقد رجع أخي إيرنست من العمل بالخارج، ولم يبد أبي فخورا في حياته كما كان في هذا اليوم. بدت إليزابيث جميلة، وتمكنت من أن أتظاهر بالسعادة من أجلها، وخططنا لقضاء شهر العسل فقررنا أن نذهب في رحلة إلى بحيرة كومو بإيطاليا، المكان الذي يحظى بمكانة خاصة لدى كل منا.
وفيما كانت تجهز ملابسنا اتخذت كل الاحتياطات اللازمة لحماية كلينا من المسخ. ولم تكن إليزابيث تدري أن ثمة خطبا ما، وكنت أعرف أنه ليس بمقدوري اطلاعها على الأمر، فقد تخيفها هذه القصة للغاية.
غادرنا في الصباح بعدما تزوجنا، فكانت هذه هي آخر لحظات في حياتي أشعر فيها بالسعادة من كل قلبي. استمتعنا بالمناظر الجميلة واجتزنا جبال الألب الرائعة، وانتقلنا عبر أنهار ساحرة، وعبرنا حقولا شديدة الخضرة واستمتعنا بهواء الصيف الدافئ.
الفصل الثامن عشر
انتقام المسخ
بدأ الليل يرخي سدوله عندما وصلنا إلى فندقنا، وخرجنا في جولة قصيرة ثم تناولنا وجبتنا الأولى كأسرة في غرفتنا. كان من المقرر أن أول شيء نفعله في الصباح التالي هو أن نسافر إلى إيطاليا.
وفجأة بدأت عاصفة مطرية، وكانت المياه تضرب النوافذ بقوة بدرجة شعرنا معها بشيء من الخوف. وما إن حل الظلام حتى تلاشى هدوئي وسعادتي. وبعدما خلدت إليزابيث إلى النوم تسارعت إلى ذهني مئات المخاوف. كنت متوترا ومنتبها، فكان كل صوت يرعبني لكنني لم أتحرك، وظللت أحرسها بكل طاقتي.
مسحت كل ممرات النزل بحثا عن المسخ، وتفقدت كل ركن وكل غرفة مفتوحة، فلم تكن هناك أي أمارات تشير إلى وجوده، فظننت للحظة أن كل شيء سيكون على ما يرام، وعندئذ سمعت صرخة.
ركضت عبر السلالم إلى غرفتنا، فوجدتها مستلقية على فراشنا. أوه، لقد أخذ المسخ بثأره! رحلت عزيزتي إليزابيث المحبوبة التي لم تؤذ أي شخص في حياتها. لقد نفذ الوحش وعيده ومنحني حياة مثل حياته، وحكم علي أن أقضي بقية حياتي بائسا وحيدا مثل المسخ المخيف الذي صنعته.
هرعت لأفتح النافذة لأرى هل بمقدوري الإمساك به. كان الهواء باردا واندفعت الأمطار إلى داخل الغرفة. رأيت المسخ يقف على الأرض خارج النافذة.
صرخت: «قف! أيها الوغد! لقد قتلت زوجتي!» حضر جمع من الناس إلى الغرفة لدى سماع صراخي، فصحت: «هذا الرجل قتل زوجتي! أسرعوا، لا بد أن نمسك به!»
ركض الرجال في الخارج ومكثت النساء للاعتناء بجسد إليزابيث. حاولنا اقتفاء آثار المسخ دون جدوى. لم نستطع العثور عليه. لم أستطع تحمل الأمر وغشي علي. حملني أناس المدينة الطيبون إلى الغرفة ووضعوني في الفراش. لكنني لم أستطع أن أرتاح وهو لا يزال بالخارج وقد دمر فرصتي الوحيدة في السعادة. نزعت عني الغطاء وذهبت إلى الغرفة المجاورة لألقي نظرة أخيرة على حبي الحقيقي.
قلت وأنا أبكي: «آه يا عزيزتي إليزابيث. أنا آسف للغاية. لقد أحببتك حبا جما يا محبوبتي.» ثم أخذتها بين ذراعي وقبلتها قبلة الوداع. أحسن كل من صاحب النزل وزوجته معاملتي للغاية، وقالا إنهما سيحرصان على وصول جسد إليزابيث إلى الوطن بالسلامة. سطرت في عجالة خطابا إلى أبي، وأخبرته أنني أنوي العثور على الرجل الذي تسبب في كل بلايانا.
وخرجت مهرولا في الليل للعثور على المسخ. لم أعرف إلى أين ذهب أو إلى أين سيذهب، ولكن لم يكن لذلك أهمية. الشيء الوحيد الذي كان يهمني هو العثور عليه.
أدركت أنني لن أعود إلى وطني مرة أخرى، فغمتني هذه الفكرة بشدة. وأدركت أن أبي سيكون شديد التعاسة أيضا، لكنني لم أشأ أن أسبب له مزيدا من الألم. سيشق عليه هو وإيرنست الحياة بعد موت إليزابيث، لكن الفعل الوحيد الحميد وسط كل أفعالي هو القضاء على ما جنته يداي.
أسرعت خارج الفندق، وكنت أسمع دوي صدى صوت من بعيد في الفضاء الفسيح. كان الصوت آتيا من البحيرة نفسها لضحكات عالية وشريرة.
صرخت: «هذا هو! إنه في البحيرة.»
قفزت إلى أحد القوارب وبدأت أجدف بكل ما أوتيت من قوة، وعندئذ بدأت الرحلة الطويلة. أطارده طيلة أشهر الآن؛ من شواطئ سويسرا إلى الحقول الجليدية الباردة في روسيا، هو يركض وأنا أركض وراءه.
كانت حياتي بائسة فقد خلت من الراحة التي يبعثها المنزل والأصدقاء الذين يجلبون البهجة على حياتي والأسرة التي أحبها. لكنني عرفت أنني لن أذوق طعما للراحة إلى أن أعثر عليه وأدمره.
وعندما وصلت سانت بطرسبرج ترك لي المسخ ورقة يقول فيها: «أنت لا تزال على قيد الحياة يا فرانكنشتاين، لكنني أعلم أنك تعيس. اتبعني الآن إلى مملكة القطب الشمالي الجليدية، فلسوف تشعر بألم البرد والجليد. إذا أردت أن تمسك بي لا بد أن تفعل ما أقوله.»
وما كنت لأتوقف عن البحث قط، لذا شرعت في رحلتي إلى القطب الشمالي باستخدام المزلاج واتجهت بي الكلاب التي تجر المزلاج شمالا. وكاد يتعذر علي احتمال البرد، وكان يترك لي خيوطا على طول الطريق في صورة تعليقات مفادها أنني أسير في الاتجاه الصحيح. وكلما ازدادت البرودة صعب علي الدفع، فكان الشيء الوحيد الذي يدفعني إلى التقدم هو أنني أخيرا سألتقي المسخ وأنهي الأمر برمته للأبد.
كانت الكلاب تقود المزلجة بسرعة كبيرة، من ثم مكنوني من اللحاق به أكثر من أي وقت مضى. وصلت إلى قرية صغيرة وسألت الناس هناك هل رأوا أي شيء يسترعي الانتباه.
أخبرني شخص ما أنه رأى رجلا قبيحا بدرجة مرعبة كان يسير بمزلاجه قبل وصولي بساعات. وكان المسخ قد سرق بعض الطعام وهرب بعد أن أفزع معظم سكان المدينة الصغيرة. وما هال أولئك الرجال والنساء أن المسخ اتجه نحو أرض مهجورة لا يسكنها أحد.
قال الرجل: «لا يمكن أن ينجو أحد هناك؛ إما أنه سيتجمد حتى الموت أو يعلق في الكتل الجليدية الطافية؛ في كلتا الحالتين لن ينجو قط.»
شكرته على المعلومات التي أمدني بها، ثم اشتريت بعض المؤن للرحلة الطويلة التي أمامي. اهتزت الأرض من تحتي، وتشقق الجليد وتسربت المياه منه. وبدأ البرد يضايقني في أنفي وأذني وأصابع يدي وقدمي. غير أنني لم أتراجع. وعندئذ أخيرا رأيته هناك! كان يبعد عني بمسافة ميل، لذا تقدمت بسرعة.
هبت الريح وهاج البحر، وفجأة حدثت هزة عنيفة كما الزلزال، فانشق الجليد محدثا فجوة واسعة. علقت فوق كتلة جليدية عائمة، وخابت كل آمالي في الإمساك بالمسخ، وطفوت على صفحة الماء. ما كنت لأتحمل بالطبع قضاء ليلة حبيس كتلة صغيرة من الثلج.
مضت ساعة تلو الأخرى، وأخذ الجليد يذوب بالتدريج أسفل مني. كدت أفقد كل أمل في النجاة. كانت حياتي ستنتهي في هذه الأرض الجليدية القاحلة، ولن أستطيع أن أنهي ما بدأته.
الفصل التاسع عشر
أيام فيكتور فرانكنشتاين الأخيرة
قال فرانكنشتاين: «كان هذا عندما رأيت سفينتك يا كابتن والتون. كان لا بد أن أتصرف سريعا، لذا كسرت مزلاجي إلى مجاديف وجدفت باتجاه سفينتك. وقررت أنه إذا كنت تنوي الإبحار جنوبا فسأواصل أنا تقدمي شمالا، إذ لم أشأ أن يهرب المسخ.»
قلت له: «من الجيد أنك صعدت على متن سفينتي، لقد أنقذنا حياتك يا صديقي.»
أجاب فرانكنشتاين: «أجل، وأنا أشكرك شكرا جزيلا من أجل هذا، لكن أريدك أن تعدني بأنك ستعثر على المسخ إذا لم أفلح أنا في هذا، وأنك ستقدمه للمحاكمة من أجل كل ما اقترفه، وكل ما مررت به بسببه.»
وعدته أن أفعل هذا. وعندئذ سقط فرانكنشتاين في فراشه في حالة مزرية، وراح في سبات عميق مضطرب.
مر أسبوع، وأردت أن أجعله يشعر بالتحسن كي أخفف عن عقله المضطرب، لكنني أدركت أنه ليس بمقدوري هذا. كانت صحة فرانكنشتاين واهنة للغاية. مكثنا بالداخل وقضينا الأيام نتسامر.
قال لي في صبيحة أحد الأيام: «عندما كنت صغيرا كنت أؤمن بأنني خلقت لأصير عظيما. وكان لهذه المشاعر أهمية كبيرة في حياتي حتى إنني لم أفكر في أي شيء آخر، فتخليت عن حياتي برمتها كي أتفرغ للعلم من أجل هذا الهدف الوحيد وهو أن أصنع حياة من العدم.»
وتوقف عن الكلام ثم مسح الدموع التي ملأت عينيه وقال: «لكنني فقدت كل شيء.»
ساورني القلق من أن تتدهور صحة فرانكنشتاين وأفقده، فبعدما رجوت كثيرا أن أجد صديقا صالحا لم أشأ أن أخسره. لقد قضينا أوقاتا كثيرة معا، ولا أستطيع أن أتخيل حياتي بدونه، لكنني أدركت أن لديه مخاوف أعظم.
قال فرانكنشتاين: «سأتعقبه حتى النهاية، فهذا هو السبيل الوحيد لإنهاء هذا الأمر.»
كنا مهددين في كل لحظة وكل يوم بأن تسحق جبال الجليد سفينتنا، وكان أفراد طاقمي مرتعدين، وحتى أنا كنت خائفا من ألا نعود إلى إنجلترا، وشعرت أنني خذلتهم؛ فلقد ائتمنني أولئك الرجال على حياتهم، وإن لم نستطع العودة فستقع المسئولية كاملة على عاتقي؛ فرغبتي الأنانية في رؤية أرض لم يرها إنسان ستكون السبب في موت أنفس كثيرة.
وفيما ساورتني المخاوف هدأ فرانكنشتاين من روعي، وحاول أن يخبرني بأن الجليد سينكسر ولسوف نرى سماء إنجلترا الزرقاء مرة أخرى. كان من الصعب علي أن أصدقه ولا سيما كلما نظرت إلى وجوه الرجال المضطربة يوما بعد يوم.
وأخيرا، جاء بضعة بحارة لرؤيتي في غرفتي، وأخبروني أن الطاقم لم يعد يرغب في المضي قدما في هذه الرحلة حتى لو انفتح الجليد، فهم يرغبون في العودة بالسفينة والإبحار نحو الوطن ، لأنهم يرغبون في رؤية أسرهم. وهل بمقدوري أن ألومهم على هذا؟
أخبرتهم بأننا سندير السفينة بالفعل فور انفتاح الجليد وتحرير السفينة.
وفي الصباح التالي مباشرة سمعت صيحات التهليل في كل الأرجاء عقب سماع الأصوات العالية الصادرة عن تشقق الجليد وانكساره. وعندما عرجت على فرانكنشتاين لأتفقده كعادتي كل يوم، سألني عن سبب هذه الجلبة المفاجئة؛ إذ تناهت إلى مسامعه صيحات التهليل من سطح السفينة، فأخبرته أن الجليد قد تحرك وأننا سنبحر إلى الوطن حالما نستطيع أن نحرر السفينة.
رد في عجالة: «لا، لا يمكنني أن أغادر هذا المكان قبل أن أعثر على المسخ. لا بد أن أغادر سفينتك، لن أعود معك.»
حاول أن ينهض، لكن عسر عليه ذلك في ظل حالته الصحية المتدهورة، فسقط وغاب عن الوعي على الفراش. استدعيت طبيب السفينة الذي جاء لتوه.
قال الطبيب لي وفرانكنشتاين راقد: «يؤسفني أنه في حالة مزرية للغاية، سيكون محظوظا إذا تمكن من العيش حتى الليل.»
أجبته: «أشكرك أيها الطبيب.» وعندئذ عدت إلى جانب فراشه لأرافقه خلال هذه الساعات الأخيرة.
استفضنا في الحديث حول حياته وما حدث. وأخبرني أن قرار العودة إلى الوطن هو قرار صائب. قال لي: «إن حياة أولئك الرجال أهم بكثير من أهدافنا الأنانية.»
وأردف فرانكنشتاين: «لا بد أن تعي جيدا هذا الدرس يا صديقي العزيز. أنت محظوظ لأنني علمتك إياه، وانتبه جيدا إلى أخطائي.» ثم ضغط على يدي بقوة وعندئذ أغلق عينيه للأبد، وابتسامة رقيقة تداعب شفتيه.
انهمرت الدموع من عيني، فمسحتها سريعا وخرجت من غرفته لأستنشق نسمات من الهواء المنعش. ولم تمر لحظات على صعودي إلى سطح السفينة حتى سمعت ضوضاء غريبة تأتي من غرفة فرانكنشتاين. هرعت إلى هناك فوجدت المسخ يقف إلى جانب الفراش!
كان ضخما للغاية؛ أضخم من أي رجل رأيته في حياتي، وقد توارى وجهه وراء خصلات شعره الطويلة المنسدلة، وقد وضع يده الضخمة على كتف فرانكنشتاين. سمعني وأنا أفتح الباب فاستدار. وعندما رآني أقف بالباب قفز نحو النافذة.
أوه! ما هذا الوجه! لقد كان أكثر شيء مخيف رأيته في حياتي. أغمضت عيني لاإراديا، لكنني بعدئذ ناديته لكي ينتظر.
قلت: «انتظر!»
توقف لحظة ثم قال: «هذا ما جنيته أنا! لقد فعلت به هذا؛ لقد انتزعت منه كل شيء أحبه. والآن رحل صانعي! آه يا فرانكنشتاين، أنا آسف بشدة. أنا آسف من أجل كل ما حدث.»
بكى المسخ متألما وقال: «الوداع يا فرانكنشتاين، الوداع! يمكنك أن تصدقني الآن: سأحفظ وعدي هذه المرة؛ سأترك عالم الأحياء إلى الأبد. لن أرى الشمس ولا النجوم بعد الآن، ولن أسبب لأسرتك أي ألم بعد الآن. آه يا صانعي الحبيب، أعلم أنك لا تستطيع أن تسامحني، لكنك تستطيع الآن على الأقل أن ترقد في سلام.»
كانت هذه آخر كلمات نطق بها المسخ قبل أن يقفز من نافذة الغرفة. ركضت وراءه فيما قفز للخارج وهبط على كتلة جليدية، وسرعان ما اختفى وسط الأمواج، وتوارى عن نظري وسط الظلام والفضاء. أخيرا انتهى الأمر كما أراد فرانكنشتاين. لسوف أتذكره هو والمسخ وقصتهما المروعة ما حييت. وكما تمنى فرانكنشتاين وضعت أخطاءه نصب عيني واستدرت بسفينتي وعدت أدراجي إلى الوطن.
Unknown page