وما هي إلا أن يذهب المصريون مذهب أهل الكوفة، وإذا هم يرسلون في رجب من سنة خمس وثلاثين وفدا ضخما؛ خرجوا يظهرون أنهم يريدون العمرة، ولكنهم أقبلوا على المدينة وأظهروا أنهم يريدون أن يناظروا عثمان في سياسته وسياسة عماله. والرواة يختلفون؛ فيقول بعضهم: إنهم لقوا عثمان في قرية خارج المدينة، فناظروه وحكموا المصحف بينه وبينهم، فأقنعهم بأشياء حتى رضوا، وأقنعوه بأشياء حتى اعتذر ووعد بالنزول عنها. ويقول آخرون: إنه أرسل إليهم جماعة من المهاجرين والأنصار فيهم علي ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وأعطى على نفسه عهدا ليبلغن بالناس ما يرضون. فخرج السفراء ولقوا القوم فوعظوهم وأعطوهم الرضا، ثم جاءوا بوفد منهم إلى عثمان فأكد لهم العهد، ثم خرج فخطب الناس وأثنى على الوفد المصريين وأعطى التوبة واستغفر الله وبكى وبكى الناس ورقت القلوب للإمام الشيخ، وانصرف المصريون راضين. قال الرواة : إن عثمان قال في آخر خطبته تلك: «إذا نزلت فليأتني خياركم، فلا ترفع إلي ظلامة إلا كشفتها، ولا تعرض علي حاجة إلا قضيتها.» ولكنه لم يكد يعود إلى داره حتى حوله مروان عما وعد به، وخرج فرد الناس عن الدار ردا عنيفا. والشيء المحقق هو أن عثمان استطاع بما أعطى من العهد وما بذل من الرضا وما أعلن من التوبة، أن يتألف الناس ويجمعهم على طاعته ومحبته وانتظار الخير منه. ولكن الأيام مضت وتبعتها الأيام، ولم يعزل عثمان عاملا ولم يغير مما وعد بتغييره شيئا.
وما كاد يقبل شوال من هذه السنة حتى يخرج المصريون خرجتهم الثانية في عدد يقول المقللون إنه كان ستمائة، ويقول المكثرون إنه كان ألفا، ويخرج في الوقت نفسه ناس من الكوفة والبصرة، وقد تواعد القوم حين استيأسوا من وفاء الخليفة لهم بما أعطى على نفسه من العهد. ويبلغ القوم ضواحي المدينة، ويعلم عثمان بمقدمهم، فيريد أن يرسل إليهم عليا ومحمد بن مسلمة، فيأبى علي، ويقول محمد بن مسلمة: لا أكذب الله في سنة مرتين. ولكن أهل المدينة على ذلك يأبون أن تدخل المدينة عليهم عنوة، وينهضون لرد هؤلاء الطارئين. وتقبل وفود من المصريين والكوفيين والبصريين، فإذا هم يرون عليا وطلحة والزبير قد عسكروا ومع كل واحد منهم أصحابه، يريدون أن يحموا دار الهجرة من أن تقتحم عليهم عنوة، فيرتدون ويظهرون العودة إلى أمصارهم ويزولون عن معسكراتهم في الضواحي. ويستيقن أهل المدينة أن قد زال الخطر، وأن القوم قد رجعوا أدراجهم، فيستأنفون حياتهم على ما ألفوا من أمن ودعة وهدوء. ثم لا يروعهم إلا التكبير قد ملأ المدينة من حولهم، وينظرون فإذا القوم قد كادوهم حين أظهروا الرجوع إلى أمصارهم، حتى إذا آنسوا منهم أمنا ودعة عادوا فدخلوا المدينة واحتلوها بغير قتال، ونادى مناديهم: من لزم داره فهو آمن، ومن كف عنا أذاه فهو آمن. ثم يضرب الحصار حول دار عثمان.
وهنا تأتي قصة الكتاب الذي يقول الرواة إن المصريين قد أخذوه أثناء عودتهم إلى مصر فكروا راجعين. فهذه القصة فيما أرى ملفقة من أصلها. وليس أدل على ذلك مما يقول الرواة أنفسهم من أن أصحاب النبي لم يكادوا يجادلون القوم في كتابهم هذا ويسألونهم كيف علم أهل الكوفة وأهل البصرة بأنكم قد أخذتم هذا الكتاب وقد ذهب كل فريق منكم إلى وجه؟ حتى عجزوا ولم يعرفوا كيف يجيبون، وقالوا: ضعوا هذا الأمر كيف شئتم، فلا حاجة لنا بهذا الرجل. وليس بمعقول ولا بمقبول أن يكيد عثمان للمسلمين هذا الكيد، فيعطي فريقا منهم الرضا ثم يرسل إلى عامله سرا من يبلغه الأمر أن يبطش بهم ويرهقهم من أمرهم عسرا. وليس بمعقول ولا مقبول أن يجترئ مروان على الخليفة فيكتب هذا الكتاب ويمضيه بخاتمه ويرسله مع غلامه على جمل من إبله. كل هذا أشبه بأن يكون ملهاة سخيفة منه بأن يكون شيئا قد وقع. والأمر أيسر من هذا. تلقى أهل الأمصار وعدا من إمامهم فاطمأنوا إليه، ثم تبينوا أن الخليفة لم يصدق وعده، فأقبلوا ثائرين يريدون أن يفرغوا من هذا الأمر وألا يعودوا حتى يفرغوا منه، فلما بلغوا المدينة وجدوا أصحاب رسول الله قد تهيئوا لقتالهم، فكرهوا هذا القتال وانصرفوا كائدين، حتى إذا عرفوا أن هؤلاء الشيوخ قد ألقوا سلاحهم وأمنوا في دورهم، كروا راجعين فاحتلوا المدينة بغير قتال.
وما كان هؤلاء الناس يريدون أن يقاتلوا أصحاب النبي ولا أن يقتلوهم، ولا أن يثيروا حول المدينة حربا تذكر بيوم أحد أو بيوم الأحزاب، إنما كانوا يريدون أن يحاصروا الإمام ويعاجلوه حتى يصلوا إلى خلعه أو إلى قتله. وقد بلغوا ما أرادوا، فدخلوا المدينة وحاصروا الإمام.
وأكاد أقطع بأن قد كان لهم من أهل المدينة أنفسهم أعوان وأنصار دعوهم وشجعوهم، ثم أعلموهم بما عزم عليه أصحاب النبي، ثم أعلموهم بعودة المدينة إلى الهدوء والدعة، ثم انضموا إليهم حين حاصروا عثمان. وقد كان الحصار في أول أمره يسيرا لا يكاد يتجاوز احتلال المدينة والإحاطة بدار عثمان، وكان الخليفة حرا يخرج من داره ويعود إليها ويصلي بالناس ويصلي خلفه الثائرون أنفسهم ، ويخطب الناس فيعظهم ويبصرهم، ويسعى السفراء في أثناء ذلك بينه وبين الثائرين، يريد الثائرون أن يخلع نفسه، ويأبى هو أن ينزع قميصا قد كساه الله عز وجل إياه. ولكن الأمور تتعقد فجاءة؛ فقد عرف الثائرون أن عثمان قد أرسل إلى العمال في الأمصار يأمرهم بأن يرسلوا إليه الجند لينصروه ويخرجوا من المدينة هؤلاء الطارئين. وما يكاد الثائرون يعرفون هذا النبأ حتى يتغير الحصار وتتغير معه سيرتهم مع عثمان.
الفصل الثامن والعشرون
فقد خرج عثمان ذات يوم كما كان يخرج من قبل، وصلى بالناس كما كان يصلي بهم من قبل، ثم جلس على المنبر فجعل يعظ الناس ويبصرهم كما تعود أن يعظهم ويبصرهم، وكان فيما قال: «يا هؤلاء العدى الله الله، فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد
صلى الله عليه وسلم . فامحوا الخطايا بالصواب؛ فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ إلا بالحسن.» قال المؤرخون: فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا أشهد بذلك. فقام إليه حكيم بن جبلة فأقعده. فقام زيد بن ثابت وقال: ابغني الكتاب. فثار إليه من ناحية أخرى محمد بن أبي قتيرة فأقعده. أراد محمد بن مسلمة أن يشهد بأن الله لا يذهب السيئ إلا بالحسن، وأراد زيد بن ثابت أن يثبت ذلك من المصحف، فيتلو على الناس قول الله عز وجل:
إن الحسنات يذهبن السيئات ، ولكن الناس أقعدوهما. وقام جبلة بن عمرو الساعدي (رجل من الأنصار) فقال: يا عثمان، انزل ندرعك عباءة ونحملك على شارف من الإبل إلى جبل الدخان كما سيرت خيار الناس. قال عثمان: قبحك الله وقبح ما جئت به! وكان جبلة هذا يعرض لعثمان وينذره بالقتل أو بأن يطرح في عنقه جامعة ويحمله على قلوص جرباء ويلقيه في جبل الدخان إن لم يترك بطانته، وكان يلومه في عماله وفي مروان وفي آل الحكم خاصة، وكان يقول إذا كلم في ذلك وحاول مكلموه أن يردوه إلى بعض الرفق: والله لا ألقى الله غدا فأقول إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل .
ولم يكد عثمان يرد على جبلة هذا حتى قام جهجاه بن سعيد الغفاري (رجل من رهط أبي ذر ومن أصحاب النبي الذين شهدوا بيعة الرضوان)، فوثب إلى المنبر فأخذ من عثمان العصا التي كان يخطب عليها، وهي التي خطب عليها النبي وصاحباه من بعده، فكسرها على ركبته. قال الرواة: فأصابت ركبته إكلة منذ ذلك اليوم، وأمر عثمان فيما بعد بشد العصا. ثم ثار الناس فتحاصبوا وحصب عثمان حتى صرع واحتمل مغشيا عليه، فأدخل إلى داره فلم يخرج منها إلا مقتولا.
Unknown page